يا عبدَ الله، يا أمةَ الله: هل يأتي عليكما رمضان وأنتما في قوةٍ وعافيةٍ؟ فكم من إنسان صام رمضان الفائت في عافيةٍ وصحة وقوة يأتي عليه رمضان القابل وهو قعيدُ الفراش أسيرُ المرضِ، هل يأتي عليك رمضان وأنت في أمن وأمان على نفسك واهلك ومالك.
يا عبد الله يا من تعيش آمناً مستقراً تتلذذ بخيرات الله خِل نفسك واحداً من هؤلاء الذين يصومون وهم أُسارى أو يتسحرون ويفطرون على الحدود وفي الملاجئ، خِل نفسك واحداً من أولئك الذين يحتاجون إلى الفطر دفاعاً عن الملة والدين، خِل نفسك جائعاً مطرداً شريداً كما يحصل للمسلمين الفلسطينين وغيرهم من المسلمين في غير ما مكان الذين يعانون آلآم الحصار والتشرذم والشتات وتسلطَ الكفار والفجار.
رمضان شهر الشعور بإخوانك المسلمين فأي رمضان رمضانك:
هل شعرت بإخوانك في أقاصي الأرض ومغاربها لابد للمسلم الصائم أن يشعر بآلام المسلمين، وأن يستشعر حال إخوانه في كل مكان، فإذا جاع تذكر أن آلاف البطون جوعى تنتظر لقمةً فهل من مطعم، وهو إذا عطش تذكر أن آلاف الأكباد عطشى تنتظر قطرةً من الماء فهل من ساقي، وهو إذا لبس تذكر أن آلاف الأجساد قد لحقها العري فهل من كاسي، يشعر بنعمة الله جلا وعلا عليه أن أعطاه السحور والإفطار وغيره محروم، أن ألبسه وغيره عارٍ، فالحمد لله على نعمائه.
رمضان شهر العبادة فأيُ رمضان رمضانك هل اتخذت منه فرصة لتربية نفسك على العبادة:
فالصيام يربينا على العبادة فلئن كان المسلم يعبد ربه جلا وعلا في سائر شهوره وأيامه إلا أنه يأخذ في رمضان دورةً عباديةً يزيد فيها من جرعات الطاعة ونكهاتِ الإيمان والإخلاص حتى يقوى على ما تبقى من الشهور ويجعل هذه الفرصة منطلقاً إلى فعل الخيرات تقول عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره" أخرجه مسلم.
وليالي رمضان تاج ليالي العام، ودجاها ثمينة بظلمائها، فيها تصفو الأوقات وتحلو المناجاة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أفضلُ الصلاة بعد الفريضة صلاةُ الليل", ورمضانُ شهر القيام يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه" متفق عليه.
وقيام رمضان أمر مشروع فعلى المسلم أن يحرص على أداء صلاة التراويح وأن يكملها مع الإمام حتى ينصرف، قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قام مع إمامه حتى ينصرف كتب له قيام ليلة"، رواه أهل السنن وهو صحيح، فلله الحمد والمنة يقومُ المصلي ساعةً من الليل مع الإمام فكأنما قام الليل كله.
ولا ننسى أيها الإخوة الاهتمام بالفرائض أولاً والمواظبة عليها في المساجد جماعة، فالله عز وجل يحب التقرب إليه بالفرائض، فلا ننسى الفرض ونهتم بالنوافل والمستحبات.
رمضان شهر النفحات والبركات:
فلماذا لا نقوم رمضان، لماذا لا نجرب لذة القران، ولذة المناجاة والدعاء، لماذا لا نجرب وقت الأسحار وهجيع الليل لماذا لا ننطرح بين يدي مولانا، فربنا ينزل في ثلث الليل الأخير نزولاً يليق بجلاله وعظمته يعرض نفحاته ورحماته فلماذا لا نتعرض لرحمات الله!!
قم في الدجى واتل الكتاب * ولا تنم إلا كنومة حائر ولهان
فلربما تأتى المنية بغتة * فتساق من فرش إلى أكفان
يا حبذا عينان في غسق الدجى * من خشية الرحمن باكيتان
فالله ينزل كُلَ آخر ليلة * لسمائه الدنيا بلا نكران
فيقولُ هل من سائلٍ فأجيبَه * فأنا القريبُ أجيبُ منْ ناداني
ولكن يا حسرةً على المحرومين، ويا حسرةً على المفتونين الذين يجعلون وقت السحر ووقت الاستغفار وقت نزول الإلهي فرصةً للعب واللهو ومشاهدة القنوات وتقليب الأبصار في الغانياتِ والمومساتِ يا حسرةً على العباد!!.
رمضان شهر التقوى فأي رمضان يكون رمضانك:
هل دربنا نفوسنا ووطنَّاها على هجر المعاصي فرمضان فرصة لترك الذنوب: فالمعنى السَّامي للصيام أنه يجمع بين التقوى الحسية والتقوى المعنوية فمَنْ أخلَّ بواحدةٍ منهما فما استكمل الصيام، ولذا قال جلا وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183).
يؤكد هذا المعنى أيها الصُّوام قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" رواه البخاري، قال بعض السلف: "أهون الصيام: ترك الطعام والشراب".
فيا أهل اللهو والعبث ويا أهل البرامج والفوازير والمسابقات نبيكم -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث" رواه ابن حبان، هذا هو الصيام فإذا تحقق فيه ذلك كان جنةً من المعاصي، الصيام الذي لا يمنعك من النظر إلى الحرام والسب والشتم والتلاحي والخصام والغيبة والنميمة والقيل والقال والولوغ في الأعراض فليس بصيام.
إنما الصيام من اللغو والرفث إذا تحقق هذا كان جنةً من المعاصي وبالتالي جنةً ووقايةً من النار قال -صلى الله عليه وسلم-: "الصيام جُنَّةٌ يستجن بها العبد من النار" رواه أحمد وحسنه الألباني، وقال أيضاً: "الصيام جُنَّة فإذا كان يومُ صوم أحدكم فلا يرفثْ ولا يفسقْ ولا يجهلْ فان سابَّهُ أحدٌ فليقُل إني صائم" رواه الشيخان.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ورُبَّ قائم ليس له من قيامه إلا السَّهر" رواه ابن ماجة وصححه الألباني.
وقال الصحابيُ الجليلُ جابرُ بنُ عبد الله -رضي الله عنه-: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ودع عنك أذى الجار وليكن عليك وقارٌ وسكينةٌ ولا يكنْ يومُ صومِك ويومُ فطرِك سواءً".
ويقول الإمام أحمد -رحمه الله-: "ينبغي للصائم أن يتعاهد صومَه من لسانه، ولا يُماريَ في كلامه، كانوا إذا صاموا قعدوا في المساجد وقالوا: نحفظُ صومنا ولا نغتابُ أحداً".
إذا لم يكن في السمع مني تصاون * وفي بصري غض وفي منطقي صمت
فحظي إذن من صومي الجوع والظما * فإن قلت إني صمت يومي فما صمت
أيها الأحبة:
وإذا كان سلفَ الأمة يستعدون لرمضان بهممٍ عالية وعزائمَ قويةٍ وإراداتٍ ماضية ليستغلوا رمضان في طاعة الله ليجعلوه منطلقاً للخيرات ومنطلقاً إلى التوبة وإصلاح النفس والحال.
ومع ذلك فإننا نجد عجباً من بعض الناس يستعدون لرمضان، ولكن بما يُفسد على الناس صومهم ويهدم أخلاقهم ويبعدهم عن تحسس واستشعار معاني الصيام والقيام، فيستعدون باللهو والعبث وبما يفسد حرمة هذا الشهر الكريم.. يستعدون لنا بالمسرحيات وبالمسلسلات وبالأفلام التي وإن لم تكن هابطة أو خالعة أو عارية -كما يقولون- فلا تعدوا عن كونها مبعدةً للناس عن صومهم وقيامهم وعباداتهم!!
إنها مسلسلات جعلت هدفها الاستهزاء بسنة سيد المرسلين والسخرية بعباد الله الصالحين ومحاربة ثوابت الدين فمرةً يغمزون اللحية والغيرة وتارة يحتجون على المحرم للمرأة الخ..
ناهيك عن تصويرهم للمستقيم على دينه المتمسك بسنة نبيه بصورة الأبلة والموسوس والمتناقض!! أما ظهور الفاتنات من النساء فحدث ولا حرج..
يسبون دين الله في شهر صومهم * فعن دينهم صاموا وبالكفر أفطروا
وبعض المفتونين يدير الريموت على أجساد العرايا ففي الليلة الواحدة يدور الواحد منهم على العالم شرقاً وغرباً يفسد صيامه بالنظر الحرام وباللهو الحرام وبالفعل الحرام.
إنني أقول لمن ابتلوا بهذه القنوات أو المجلات أو بتضيع أوقاتهم فيما لا يفيد ولا ينفع لماذا لا نفكر أن نبدل السيئة بالحسنة، لماذا لا نغتسل بماء التوبة النصوح من حمأة الخطايا، لماذا لا نجعل هذا الشهر الكريم بداية لأن نهجر هذه القاذورات سيما ونفوسنا مهيئةٌ للخيرات.
لعلها أيها الأحبة في الله أن تكون بداية النهاية -إن شاء الله- لكل شيء يبعد عن الله ويسخطه، ولعلها أن تكون بداية الانطلاقة الحقيقية في المسارعة إلى الخيرات وإرضاء رب الأرض والسماوات.
رمضان شهر التوبة فأي رمضان يكون رمضانك:
صعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المنبر فقال: "آمين، آمين، آمين" فقيلُ: يا رسول الله، إنك صعدت المنبر فقلت: آمين، آمين، آمين!! فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن جبريل عليه السلام أتاني فقال: مَنْ أدرك شهرَ رمضانَ فلم يُغفر له فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، قلت: آمين" أخرجه ابنُ خزيمة وابنُ حبان انظر صحيح الترغيب والترهيب (2/ 625).
فالوحَى الوحَى قبل أن لا توبة تُنال، ولا عثرةَ تُقال، ولا يُفدى أحد بمال، فحُثوا حزم جزمكم، وشدوا لبَد عزمكم، وأروا الله خيراً من أنفسكم، فبالجد فاز من فاز، وبالعزم جاز من جاز، واعلموا أن من دام كسله خابَ أمله، وتحقَّق فشله.
يا عبد الله:
هذا أوان الجد إن كنت مجداً، هذا زمان التعبّد إن كنت مستعداً، هذا نسيم القبول هبّ، هذا سيل الخير صبّ، هذا الشيطان كبّ، هذا باب الخير مفتوح لمن أحب، هذا زمان الإياب، هذا مغتسلٌ بارد وشراب، رحمة من الكريم الوهاب، فأسرعوا بالمتاب، قبل إغلاق الباب.
فبادر الفرصة، وحاذر الفوتة، ولا تكن ممن أبى، وخرج رمضان ولم ينل فيه الغفران والمنى.
هاهو موسم التوبة والإنابة، فباب التوبة مفتوح، وعطاء ربك ممنوح، فمتى يتوب من أسرف في الخطايا وأكثرَ من المعاصي إن لم يتب في شهر رمضان؟! ومتى يعود إن لم يعد في شهر الرحمة والغفران؟! فبادر بالعودة إلى الله، واطرق بابَه، وأكثر من استغفاره، واغتنم زمنَ الأرباح، فأيام المواسم معدودة، وأوقات الفضائل مشهودة، وفي رمضان كنوز غالية، فلا تضيِّعها باللهو واللعب وما لا فائدة فيه، فإنكم لا تدرون متى ترجعون إلى الله، وهل تدركون رمضان الآخر أو لا تدركونه؟ وإن اللبيب العاقل من نظر في حاله، وفكَّر في عيوبه، وأصلح نفسه قبل أن يفجأه الموت، فينقطع عمله، وينتقل إلى دار البرزخ ثم إلى دار الحساب.
جعل الله صيامنا صياماً حقيقياً مقبولاً وجعله إيماناً واحتساباً إيماناً بما عنده، واحتساباً لثوابه، كما أسأله تعالى أن يجعلنا وإياكم وسائر المسلمين مِمَّنْ صام الشهر، واستكمل الأجر، وفاز بليلة القدر، كما أسأله أن يجعلنا مِمَّنْ يصومونه ويقومونه إيماناً واحتساباً.
اللهم اكتب صيامنا في عداد الصائمين وقيامنا في عداد القائمين.
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
-----------------------------
* إمام وخطيب جامع الأميرة موضي السديري بالعريجاء بالرياض
ص. ب 150063 الرياض 11745
ناسوخ: 014365191
البريد الالكتروني: alsaber111@hotmail.com