منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور Empty
مُساهمةموضوع: مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور   مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور Emptyالإثنين 02 مايو 2016, 5:33 am

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور 2Q==

مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور
المؤلف: عادل بن محمد أبو العلاء
الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
--------------------------------------
تقديم
الحمد لله الذي أنزل الكتاب متناسبةً سوره وآياتُه، متشابهة فواصله وغاياتُه.
وأشهد ألا إله إلا الله الذي تمت كلماتُه، وعمَّت مكرماتُه، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله... الذي ختمت به نبواته، وكملت برسالته رسالاتُه... توالت عليه -وعلى آله وأصحابه- صلواتُه ، وتواتر تسليمُه وبركاتُه.

وبعد..
فإن القرآن الكريم بلغ من ترابط أجزائه، وتماسك كلماته وجمله وآياته وسوره مبلغاً فريداً، لا يدانيه فيه أي كلام آخر، فألفاظ القرآن وآياته وسوره متعانقة متماسكة، آخذ بعضُها بأعناق بعض، فتراها سَلِسَةً رقيقة عذبةً متجانسة، أو فخمةً جزلةً متآلفة، وعلى الرغم من أنه كثرة متنوعة، إلا أن كلماته متآخية متجاوبة.. جرساً وإيقاعاً ونغماً.

وهذا كله مما جعله كتاباً سوياً، يأخذ بالأبصار، ويستحوذ على العقول والأفكار: {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الزمر: 28)..

يعرف هذا الإحكام والترابط في القرآن كل مَنْ تمعَّن في التناسب الواضح فيه، فلا تفكُّك ولا تخاذل ولاانحلال ولا تنافر، بينما الموضوعات مختلفة متنوعة، فمن تشريع، إلى عقائد إلى قصص، إلى جدل، إلى وصف… إلخ.

وهذا التناسب هو سر من الأسرار الدقيقة التي تتجلى بها عظمة القرآن الكريم وإعجازه، كيف لا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من الأنبياء نبي إلا أُعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليَ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" (1).

ومن هنا كان اهتمام علمائنا -عبر القرون- بإبراز هذا الإعجاز والبحث عن السبل المؤدية إليه.. وقد بدأ اهتمامي بموضوع التناسب والترابط في القرآن الكريم -باعتباره من أبرز مناحي الإعجاز القرآني- منذ فترة مبكرة من حياتي العلمية.

فمنذ مرحلة الماجستير، وكان موضوع بحثي هو: (خصائص السور والآيات المدنية ومقاصدها) (2), وأنا أتتبع هذا المعنى في كلام المفسِّرين والمصنفين في علوم القرآن... ثم كانت مرحلة الدكتوراه، حيث اهتممت به أيضاً في أثناء عرضى لموضوع (الصراع بين الحق والباطل كما جاء في سورة الأعراف) -وهو عنوان الرسالة (3)-، حيث تلمست الوحدة الموضوعية في سورة الأعراف، والتي تشد موضوعاتها إلى ذلك العنوان الرئيس.. ثم تعرضت لنفس الموضوع كذلك عند تفسيري لسورة الحجرات (4)، والذي حاولت فيه تطبيق هذا اللون من التناسب والترابط بين آياتها الكريمة.
____________
(1) رواه الشيخان - بألفاظ متقاربة - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ..

البخاري: كتاب فضائل القرآن ، باب كيف نزل الوحي وأول ما نزل. وكتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب قول النبي ( بعثت بحوامع الكلم ، حديث (4981) ، حديث (7274) ، ط . دار السلام للنشر والتوزيع ، ومسلم: كتاب الإيمان ، باب وجوب الإيمان برسالة النبي ( . حديث 239 (1/134) . ط . دار إحياء التراث العربي ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي .
(2) صدرت طبعتها الأولى (عام1406?) عن دار القبلة للثقافة الإسلامية بجدة ، ومؤسسة علوم القرآن ببيروت.
(3) طبعت للمرة الأولى عام 1416? - 1995م ، وصدرت ضمن مطبوعات مكتبة الملك عبد العزيز العامة بالرياض ، ويجرى الآن إعادة طبعها للمرة الثانية .
(4) طبع ضمن: المنهج القويم في تفسير القرآن الكريم ، مؤسسة الرسالة - بيروت ، ط 1/1419? - 1998م .
________________________________________

وها أنا ذا، أعود -بتوفيقٍ من الله سبحانه وتعالى- إلى هذا الموضوع المهم، فأخصه بهذه الدراسة، التي يمكن أن تُعدَّ مدخلاً لمزيد من العناية بعلم المناسبة (نظرياً وتطبيقاً).

وقد سميت هذه الدراسة المتواضعة بـ (مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور).

وقد جاءت دراستي هذه في ستة مباحث، حاولت فيها أن أَلُمَّ شتات الموضوع، من حيث التعريف بعلم المناسبة، وتحديد موقعه بالنسبة إلى علوم القرآن، والتاريخ المجمل له، والعرض لأهم وأبرز أعلامه (من القدماء والمعاصرين)، وتفصيل القول قليلاً في أنواعه الرئيسة.. ثم الاهتمام بإيراد نماذج تطبيقية على هذا العلم الشريف في أنواعه الثلاثة الرئيسة.

وقد عُنيت عنايةً بالغة بنسبة كل قول إلى قائله، وتحديد مصدر النقولات عن أهل العلم، والتعليق عليها بالتوضيح، أو الإضافة أو النقد (1).. بما يخدم نطاق البحث.

هذا.. وأسأل الله تعالى أن يوفقني دوماً إلى خدمة كتابه العزيز، وأن يجعلني من أهله -الذين هم أهل الله وخاصتُه-، وأن ينفع كلَّ قارئٍ بهذا الجهد المقلِّ في هذا الباب، وأن يتقبله مني بقبولٍ حسن، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم، ومقرباً إلى جواره في جنات النعيم.. إنه هو السميع المجيب.

والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
____________
(1) أحب أن أشير هنا إلى طريقتي في النقل عن العلماء، فأنا ألتزم -غالباً- بنص كلامهم ، وأشير في الهامش إلى المصدر (ببياناته الموثقة كاملةً في أول موضعٍ يذكر فيه)، وإذا حدث أن اختصرت منه شيئاً فإني أضع ثلاث نقاط بين قوسين كبيرين هكذا (…) إشارة إلى أن هنا ما تجاوزته.. وإذا حدث أن تصرفت في بعض العبارات، فإنني أشير إلى ذلك في الحاشية بقولى: انظر. وما كان من تعليق لي على نص فإنني أجعله في الهامش مشاراً إليه بنجمة صغيرة، وما كان من إضافة يسيرة إلى الكلام في النص، فإنني أجعله بين قوسين كبيرين.

________________________________________

أولاً: المبادئ العشرة
كتاب الله -تعالى- بين آياته وسوره.

2- حدُّه: في اللغة:
المناسبة مأخوذة من النسبة والنسب، بمعنى القرابة والنسيب المناسب، وتتضمن معنى المقاربة والمشاكلة (1).

وأما في الاصطلاح:
فيمكن تعريف علم المناسبة بأنه: علمٌ يبحث في المعاني الرابطة بين الآيات بعضها ببعض ، وبين السور بعضها ببعض، حتى تُعرف عللُ ترتيب أجزاء القرآن الكريم.

3- موضوعه:
موضوع كل علمٍ ما يُبحث فيه عن عوارضه الذاتية، كجسم الإنسان بالنسبة لعلم الطب، واللفظ العربي بالنسبة لعلم النحو.

ومن هنا؛ فإننا ندرك أن موضوع علم المناسبة هو آياتُ القرآن الكريم وسوره، من حيث بيان اتصالها وتلاحمها، بما يظهر أجزاء الكلام متصلةً، آخذاً بعضها بأعناق بعض، مما يقوى بإدراكه إدراك الارتباط العام بين أجزاء الكتاب الكريم، ويصير حال التأليف الإلهي كحال البناء المحكم المتناسق الأجزاء.

4- حكم دراسته والاشتغال به:
لا ريب أن إدراك إعجاز القرآن المجيد واجب على المسلمين؛ ليقيموا الحجة على حقِّية كتابهم، وكونه تنْزيلاً من حكيم حميد.

ولما كان النفاذُ إلى أسرار الإعجاز الغامضة، ومعاني المناسبة العميقة، لا يتأتى لكل أحدٍ.. فقد صار واجباً على الأمة أن تنتدب إلى إدراك ذلك طائفة منها، يقومون عنها بالواجب الكفائي، فإذا قاموا به سقط الإثم عن الأمة كلها ، وإلا أصاب الإثمُ كلَّ قادرٍ ولم ينهض إليه ؛ قال تعالى : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } (التوبة /122).
____________
(1) أشار إلى هذه الأبيات شارح متن الأجرومية العلامة السيد أحمد زيني دحلان، ص 1، ط. مكتبة المشهد الحسيني.

(2) القاموس المحيط، الفيروز آبادي، مادة (نسب).
________________________________________

5- نسبته:

نسبة هذا العلم إلى علوم القرآن الأخرى كنسبة النتيجة إلى المقدمات، والثمرة إلى أجزاء الشجرة.. أو -كما يقول البقاعى- كنسبة علم المعاني والبيان من النحو(1)، ولو قال: من اللغة، لكان أدق، فهو خلاصة ما تنتهي إليه أبحاث القرآن المجيد، التي تتعرض لبيان نزوله، وأسبابه ومحكمه ومتشابهه، وعامِّه وخاصِّه، وغريبه.. إلى آخر هذه المباحث الضافية.

ولذلك، فإنه يتطلب قبل الكلام فيه هضماً محكماً لجميع هذه المباحث الجزئية، حتى يصل الباحث إلى استخلاص القضايا الكلية من بين جزئياتها، والمقاصد العامة من بين تفصيلاتها.. ومن ثمَّ، يصل إلى استكناه إعجاز القرآن في سوره وجملته، بحيث ينظر إليه كالكلمة الواحدة.

6- استمداده:
مادة هذا العلم -كما سبق آنفاً- هي جميع ما يتعلق بالقرآن الكريم من بحوث جزئية مما تعرض له الكاتبون في علوم القرآن، إلا أن أكثر هذه البحوث لصوقاً به ما تعلق منها بعلوم البلاغة العربية والتذوق الأدبي، نظراً لأنها الركيزة الأساسية في تذوق كلام الله -تعالى- ومحاولة إدراك إعجازه، ولذلك وجدتُ أغلب من كتب فيه من المتأخرين من المهتمين بهذه الجوانب الفنية والأدبية؛ لكونها أداة إدراك الإعجاز الأولى.

7- مسائله:
لعلم المناسبة مسألتان رئيستان:
الأولى: النظر في التناسب بين السورة الواحدة.
والثانية: النظر في التناسب فيما بين السور بعضها وبعض.

وتتفرع عن هاتين المسألتين مسائل أخرى جزئية:
ففيما يتعلق بالأولى منهما، يُنظر في عدة مسائل، منها:
مناسبة آيات السورة بعضها لبعض، ومناسبة خاتمتها لفاتحتها، ومناسبة تسميتها لموضوعها، ومناسبة موضوعاتها المتنوعة لمحورها العام وغرضها الرئيس.
____________
(1) مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور ، برهان الدين البقاعي ، تحقيق د . عبد السميع محمد أحمد حسنين ، مكتبة المعارف - الرياض ، ط1/1408? - 1987م ، 1/142.

________________________________________

وفيما يتعلق بثانيتها، ينظر في عدة مسائل أيضاً، منها:
المناسبة اللفظية بين السور، والمناسبة الموضوعية، ومناسبة الفواتح والخواتم فيما بينها.

8- واضعه:
ثمة إشارات قوية في تراثنا تشير إلى أن السابقين من أهل الصدر الأول من الصحابة وكبار التابعين كانوا يعرفون أمر المناسبة، ويهتمون بها في كتاب الله -تعالى-، بما في سليقتهم من أفانين العربية، ودقة إدراكهم لمرامي الكتاب العزيز.. وقد نقل البقاعي -رحمه الله- بعض الآثار الدالة على ذلك(1)..

فمنها ما روى عبد الرزاق بإسناده عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: ((إذا سأل أحدكم صاحبه كيف يقرأ آية كذا وكذا، فليسله عما قبلها)) (2)، في إشارة منه إلى أن ما قبلها يدلُّه على تحديد لفظها، بما تدعو إليه المناسبة.

ومنها ما رُوي عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنه حدَّث أن قوماً يدخلون النار ثم يخرجون منها، فقالوا له: أوليس الله تعالى يقول: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ } (المائدة /37)-؟ فقال لهم أبو سعيد: اقرؤوا ما فوقها: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (المائدة /36) (3).. وفيه تنبيه لهم إلى مراعاة السياق، حتى لا يضلوا في فهم القرآن المجيد، ويضربوا بعض آياته ببعض.
____________
(1) انظرها في: مصاعد النظر، 1/ 154 ، 155.

(2) مصنف عبد الرزاق (5988).
(3) أخرجه ابن مردويه وابن أبي حاتم فيما ذكر ابن كثير في (تفسيره) عند تفسير الآيتين (36) و (37) من سورة المائدة ، ولكن من حديث جابر بن عبد الله .
(4) أخرجه ابن أبي شيبة 7/ 231 ، وأبو نعيم في الحلية 2/ 292.
________________________________________

ومنها ما رُوي عن مسلم بن يسار -التابعي الجليل، رحمه الله- أنه قال: ((إذا حدَّثت عن الله حديثاً، فقِفْ حتى تنظر ما قبله وما بعده)) (4). ولكن الكلام في التناسب والترابط لم يظهر كعلمٍ مستقل إلا مع الإمام الجليل أبي بكر النيسابوري (1) (ت 324?)، وكان غزير العلم في الشريعة والأدب، فإنه أول من أظهر علم المناسبة، إذ كان يهتم به في درسه، ويقول إذا قُرئت عليه آيةٌ: ((لم جُعِلَتْ هذه الآية إلى جنب هذه؛ وما الحكمة في جَعْلِ هذه السورة إلى جنب هذه؟)).. وكان يُزري على علماء بغداد، لعدم علمهم بتلك المعاني (2).

وقد ظل هذا العلم زمناً طويلاً لا يتجاوز أن يكون مجرد إشارات ولفتات بين ثنايا كتب التفسير، ولا سيما عند فخر الدين الرازي (ت606?) في كتابه (مفاتيح الغيب).. إلى أن أفرده بالتأليف أبو جعفر بن الزبير الأندلسي الغرناطي (ت 708?)، وذلك في كتابٍ سماه (البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن).
____________
(1) هو عبدالله بن محمد بن زياد ، الأموي ، الشافعي ، إمام الشافعيين في عصره ببغداد سمع بنيسابور والعراق والشام ومصر والحجاز ، جالس الربيع والمزني وتفقه بهما ، وهما من أصحاب الشافعي ، توفي سنة 324? . سير أعلام النبلاء 15/65-67.

(2) انظر : البرهان في علوم القرآن ، بدر الدين الزركشي ، تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم ، الحلبى ، ط2 / 1972 ، 1/36 ، وكذلك : الإتقان في علوم القرآن ، جلال الدين السيوطي ، تحقيق : د . مصطفى ديب البُغا ، دار ابن كثير - بيروت ، ط 3/1996م ، 2/108.
________________________________________

ثم جاء بعد ذلك برهان الدين البقاعي (ت 885?)، فأفرد له كتابين كاملين، أعظمهما: (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور)، والثاني: (مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور)، وهما أهم ما كتب في هذا الباب، وهما عمدة كل من كتب فيه حتى يوم الناس هذا.

وسوف يأتي لذلك مزيد بيان عن الكلام عن تاريخ علم المناسبة وأبرز أعلامه، وهذا كلُّه فيما يتعلق بتطبيقات علم المناسبة، أما التنظير له، والتقعيد لمسائله، فثمة كلام حوله متناثر في بطون كتب علوم القرآن، إلا أن المساهمة الأعظم -في تقديرنا- في هذا الباب، هي تلك التي قدمها الأستاذ الجليل الشيخ عبد الحميد الفراهي (ت 1349 - 1930م) في كتابه المهم (دلائل النظام). وسوف يأتي تفصيل كل ذلك فيما يلي من مطالب هذه الدراسة ، بإذن الله تعالى.

9- فضلُه:
من المقرر أن فضل كل علمٍ يُقاس بفضل موضوعه، وموضوع علم المناسبة هو كلام الله العزيز، ومن هنا؛ فإنه من أجلِّ العلوم التي ينبغي صرف الهمم إليها، باعتباره علماً دقيقاً جليلاً، يتطلَّب فهماً ثاقباً لمقاصد القرآن، وتذوقاً رفيعاً لنظمه وإعجازه.

10- ثمرتُه:
بيان وجهٍ مهمٍّ من وجوه إعجاز القرآن المجيد، وإثبات كونه من عند الله العليِّ الحكيم، فقد جعل الله -سبحانه- هنا الاتساق والتلاؤم بين آياته من دلائل حقِّيته وكونه من لدنه -سبحانه-، فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82).. إذن فنفي التنافر والاختلاف عن القرآن المجيد (سورٍ وآياتٍ) مما يثبت إلهية مصدره، وحقِّية تنْزيله، ولمثل هذه الغاية توجَّه الهمم ، وتشحذ العزائم.

فبهذا العلم يظهر -كما ذكرتُ من قبل- أن أجزاء الكلام بعضها آخذٌ بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط ويصير حالُ التأليف حالَ البناء المحكم المتلائم الأجزاء (1).

* ثانياً: تعريف السورة والآية:
لما كانت مسائل علم المناسبة دائرةً على آيات القرآن وسوره -من الجهات التي أشرتُ إليها من قبل- كان من المستحسن أن أُلقيَ ضوءاً كاشفاً على تعريف كلٍّ من الآية والسورة، وأن أشير -بإيجاز بالغ- إلى بعض المهمات المتعلقة بهما، وعمدتي في هذا المقدمة الثامنة من مقدِّمات تفسير الأستاذ الشيخ الجليل محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393هـ- 1973م) التي صدَّر بها تفسيره العظيم: (التحرير والتنوير)، فقد أحسن -رحمة الله عليه- تحرير مسائلها، وضبط حدودها (2).

قال:(1) تعريف الآية:
هي مقدارٌ مركَّبٌ من القرآن، ولو تقديراً أو إلحاقاً.

فقولي:
((ولو تقديراً) ) لإدخال قوله تعالى: {مُدْهَامَّتَانِ} (الرحمن: 64)؛ إذ التقدير: هما مدهامتان، ونحو: {وَالْفَجْرِ} (الفجر: 1)؛ إذ التقدير: أُقسم بالفجر.

وقولي:
((أو إلحاقاً)) لإدخال بعض فواتح السور من الحروف المقطعة، فقد عُدَّ أكثرها في المصاحف آياتٍ، ما عدا: (الر)، و(المر)، و(طس)، و(ص)، و(ق)، و(ن).

- وتسمية هذه الأجزاء من الكلام آيات من مبتكرات القرآن.
____________
(1) انظر: الإتقان ، 2/978 .

(2) انظر هذه المقدمة في: التحرير والتنوير ، محمد الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر ، تونس 1984م ، 1/74: 120.
________________________________________

- وإنما سُمِّيتْ بذلك؛ لأنها دليلٌ على أنها موحًى بها من عند الله إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)؛ لاشتمالها على ما هو الحدُّ الأعلى في بلاغة نظم الكلام، ولوقوعها -مع غيرها من الآيات- دليلاً على أن القرآن الكريم ليس من تأليف البشر؛ إذ قد تحدى النبي (صلى الله عليه وسلم) به أهل الفصاحة والبلاغة من أهل اللسان، فعجزوا عن تأليف مثل سورةٍ من سوره؛ ولذا لا يحقُّ لجمل التوراة والإنجيل أن تسمَّى آيات، إذ ليست فيها هذه الخصوصية في اللغة العبرانية والآرامية.
يتبع إن شاء الله...



مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الثلاثاء 04 مايو 2021, 1:03 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور Empty
مُساهمةموضوع: رد: مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور   مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور Emptyالإثنين 02 مايو 2016, 6:17 am

مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور IWtREaw11SXsNkk3bKz8QA_Sr8a5_y5_Z-mUUEahk1Q7aiEJARtvwkr8ihCfiWqB9Lo=w300
- ترتيب الآيات:

الإجماع على أن اتساق الحروف والآيات كلَّه بالتوقيف عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، والذي تلقاه عن جبريل -عليه السلام-، عن ربِّ العزة -سبحانه وتعالى- وليس في ذلك خلاف بين أحدٍ من أهل القبلة، ولكن لما كان تعيينُ الآيات التي أمر النبي (بوضعها في موضع معين غير مروى إلا في البعض منها، كان حقاً على المفسِّر أن يتطلب مناسبات لمواقع الآيات، ما وجد إلى ذلك سبيلاً موصلاً، وإلا فليُعرضْ عنه، ولا يكن من المتكلفين، فالإجماع على صحة الترتيب يكفينا عن التكلف في إظهار أسبابه.

(2) تعريف السورة:
هي قطعة من القرآن معينة بمبدأ ونهاية لا يتغيران، مسماةٌ باسمٍ مخصوص، تشتمل على ثلاث آيات فأكثر، في غرضٍ تام ترتكز عليه معاني آياتها، ناشيءٍ عن أسباب النّزول أو مقتضيات ما تشتمل عليه من المعاني المتناسبة.

ومناسبة هذه التسمية للقطعة من القرآن أنها مأخوذة من السُّور، وهو الجدار المحيط بالمدينة أو بمحلَّة قومٍ، وزادوه هاء تأنيث في آخره مراعاةً لمعنى القطعة من الكلام.

وقيل:
مأخوذ من السُّؤر، وهو البقية مما يشرب الشارب، بمناسبة أن السؤر جزء مما يشرب، ثم خففوا الهمزة الساكنة بعد الضمة فصارت واواً، وهذه التسمية من مبتكرات القرآن أيضاً.

وفائدة التسوير:
كما يقول صاحب الكشاف، أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع، كان أحسن وأنبل من أن يكون شيئاً واحداً، وأن القارئ إذا ختم سورةً ثم أخذ في أُخرى كان أنشط له وأهزَّ لعِطْفه، كالمسافر إذا علم أنه قطع ميلاً أو طوى فرسخاً (1).

- وتسوير القرآن:
من السنة في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقد كان القرآن يومئذٍ مقسماً إلى مئة وأربع عشرة سورة بأسمائها، ولم يُحفَظْ عن جمهور الصحابة حين جمعوا القرآن أنهم ترددوا ولا اختلفوا في عددها، إلا ما روي من آثار لا تصح عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- من إنكاره المعوذتين، وإثباته دعاء القنوت في مصحفه.. وقد نهض علماؤنا من قديم لدحض هذه المرويات السقيمة -سنداً ومتناً-، وبقى الأمر على الإجماع على سور القرآن العظيم التي بين دفتي المصحف (2).
____________
(1) انظر: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، الزمخشري، تصوير دار الفكر - بيروت ، 1/ 240 ، 241.

(2) انظر في براءة هذا الصحابي الجليل مما نسب إليه من إنكار السورتين، وأنه لا خلاف في شيء من كتاب الله تعالى: الانتصار للقرآن، أبوبكر الباقلاني، منشورات معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية بألمانيا، 1986م، (وهي نسخة مصورة عن مخطوطة الكتاب الوحيدة في استانبول، بعناية الأستاذ فؤاد سزكين).
و: إعجاز القرآن، للباقلاني أيضاً، تحقيق: السيد أحمد صقر، دار المعارف - القاهرة، ص 441، 445 ومقدمتان في علوم القرآن، نشرهما: آرثر جفري، الخانجي، ط2، 1972م، ولاسيما الفصل الرابع من المقدمة الأولى ص 78 : 117.
وانظر كذلك: مصاعد النظر، للبقاعي، 3/311 : 316.. وسوى ذلك كثير جداً، لا سبيل إلى استقصائه في هذا المقام.
-----------------------------

- وأما ترتيب السور:
فالجمهور على أنه بتوقيف كذلك عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، غير أن بعض العلماء نازع في ذلك، ومنهم الإمام القاضي أبوبكر الباقلاني في كتابه العظيم (الانتصار للقرآن)، غير أنه نفى أن يكون لذلك مدخل للطعن فيه، بل ما أداه إلى القول بهذا إلا الردّ على مطاعن الملحدة والمتشككين في أمر القرآن الكريم (1)، غير أن الصحيح هو ما ذهب إليه الجمهور، وأما ما تعلق به المتشككون فله أجوبة شافية، ولكن لا مجال هنا لتفصيل القول فيها(2).

- وأما أسماء السور:

فقد جعلت لها كذلك من عهد نزول الوحي، ولبعضها أكثر من تسمية، والمقصود من التسمية على كلٍّ تيسير المراجعة والمذاكرة، وفائدتها أن تتميز كلُّ سورةٍ بخصائصها عن غيرها - كما سيأتي بإذن الله.

* ثالثاً: ما بين علم التناسب والتفسير الموضوعي:
يُطلق التفسير الموضوعي ويُراد به أحد معنيين:
الأول: بيان اتحاد سورة من القرآن الكريم في موضوع رئيس تُردُّ إليه سائر الموضوعات الجزئية التي قد تتناولها -لاسيما إذا كانت من الطوال- بحيث تبدو السورة كلها وحدةً واحدة، يُردُّ عجزها إلى صدرها، وتتفق مقدمتها ومؤخرتها، وهذا اللون من التفسير حديثٌ نسبياً، إذ لم يسبق إليه - في صورته الأقرب للكمال -حسب علمي- إلا الشيخ الدكتور محمد عبد الله دراز (ت 1377هـ- 1958م) وذلك فيما تكلم به حول سورة البقرة في كتابه المهم (النبأ العظيم)، والدكتور محمد محمود حجازي في اطروحته لنيل الدكتوراه من جامعة الأزهر، بعنوان الوحدة (الموضوعية في القرآن الكريم) (ت 1389هـ- 1969م).
____________
(1) انظر تفصيل ذلك في كتابه (الانتصار للقرآن) ص 165: 183.

(2) انظر في ذلك كتاب أستاذنا وشيخنا الدكتور محمد أحمد يوسف قاسم، الإعجاز البياني في ترتيب آيات القرآن الكريم وسوره، ط 1/1979م، ص 257 : 286؛ ففيه تفصيل كافٍ، وبيان شافٍ للمسألة كلها.
--------------------------------

والمعنى الثاني لما ينصرف إليه مصطلح (التفسير الموضوعي) هو أن يعمد الناظر إلى موضوع معين (كالصبر، والأخلاق، والجهاد … مثلاً)، ويجمع ما يتعلق به من القرآن الكريم ، ليردَّ متشابهه إلى محكمه، ومنسوخه إلى ناسخه، ويبين الخصوص والعموم، والإطلاق والتقييد.. وغير ذلك ، حتى يستوي الموضوع على سُوقه: متكاملاً، مرعيَّ الجوانب كلها، ولهذا اللون نماذج قديمة، غير أنه لم يُتوسَّع فيه توسعاً كبيراً إلا في القرون الأخيرة كذلك.

وفي الحقيقة أن ثمة علاقةً وثيقةً بين علم المناسبة وبين التفسير الموضوعي بمعناه الأول؛ إذ إنهما يجتمعان في بيان مناسبة آيات السورة الواحدة، وتلاحم فقراتها، وترابط أجزائها.. حتى تظهر السورة ذات شخصيةٍ مستقلة، وذات موضوعٍ رئيسٍ تدور حوله، وذات نظامٍ يردُّ إليه مختلف موضوعاتها. وسيظهر مصداق ذلك، بما لا يدع مجالاً للشك، فيما سيأتي -بإذن الله- عند التمثيل لأنواع المناسبات.

المبحث الثاني: موقع علم المناسبة من علوم القرآن:
سبق معنا أن نسبة علم المناسبة إلى بقية علوم القرآن كنسبة النتيجة إلى المقدمات، والثمرة إلى أجزاء الشجرة، أو كنسبة علم البيان والمعاني من علوم اللغة.. وذلك أن علوم القرآن المساعدة أشبه بالمقدِّمات التي تمهد له، فهي تتعرض لما يتعلق بالقرآن المجيد من أمورٍ متصلة بذات النص كالوجوه والنظائر، والناسخ والمنسوخ، والفواصل، والقراءات، والمتشابه والغريب.. إلى آخر هذه المباحث التي تتعلق ببنية النص ذاتها، وكذلك تتعرض لما يتعلق بالقرآن من أمورٍ خارجة عنه، كأسباب النّزول، والمكى والمدني، ومعرفة جمعه وحفظه.. وما إلى ذلك.

أما النظر في التناسب:
فهو باب من إعجاز القرآن، الذى هو لُبابُ هذه العلوم كلها، ومنتهاها جميعها، إذ إنَّ جميعها يفضي في النهاية إلى إثبات حقية كونه من عند الله أولاً، ثم عجز الخليقة كلِّها عن الإتيان بشي من مثله، ومن ثَمَّ تقوم الحجة النبوية التي أخبر النبي -صلوات الله عليه- أنَّ كل نبيٍّ أُوتي ما مثله آمن عليه البشر، وأن الذي أوتيه (إنما هو هذا الكتاب العزيز؛ لذا فقد رجا -صلوات الله عليه- أن يكون أكثر الأنبياء تابعاً يوم القيامة، لما لهذا الكتاب من مزية استمرار حجته على العالمين حتى قيام الساعة.

وفي ذلك يقول الإمام البقاعي -رحمه الله- في كتابه الجامع (نظم الدرر):
((.. وبهذا العلم يرسخ الإيمان في القلب، ويتمكن من اللب، وذلك أنه يكشف أن للإعجاز طريقين: أحدهما: نَظْمُ كل جملة على حيالها بحسب التركيب.

والثاني:
نظمها مع أختها بالنظر إلى الترتيب، والأول أقرب تناولاً، وأسهل ذوقاً، فإن كل من سمع القرآن -من ذكيٍّ أو غبيٍّ- يهتز لمعانيه، وتحصل له عند سماعه رَوْعةٌ بنشاط، ورهبةٌ مع انبساط، لا تحصل عند سماع غيره، وكلما دقق النظر في المعنى عظُم عنده موقع الإعجاز، ثم إذا عَبَر الفطنُ من ذلك إلى تأمُّل ربط كل جملة بما تلته وما تلاها، خفيَ عليه وجهُ ذلك، ورأى أن الجمل متباعدة الأغراض، متنائية المقاصد، فظن أنها متنافرة، فحصل له من القبض والكرب بأضعاف ما كان حصل له من الهز والبسط، وربما شككه ذلك، وزلزل إيمانه، وزحزح يقينه.

وربما وقف كيِّسٌ (1) من أذكياء المخالفين عن الدخول في هذا الدين -بعد ما وضحت لديه دلائله، وبرزت له من حِجالها دقائقه وجلائلُه- لحكمةٍ أرادها منزِّله، وأحكمها مجمله ومفصَّله، فإذا استعان بالله (2)، وأدام الطرق لباب الفرج، بإنعام التأمل، وإظهار العجز، والوثوق بأنه في الذروة من إحكام الربط، كما كان في الأوج من حسن المعنى واللفظ، لكونه كلام من جلَّ عن شوائب النقص، وحاز صفات الكمال (…) انفتح (3) له ذلك الباب، ولاحت له من ورائه بوارق أنوار تلك الأسرار …)) (4).
____________
(1) في القاموس مادة (مكس) : تماسكا في البيع ، تشاحّا ، وماكسه : ساحّة فالمراد : اختلفا وتشاكسا في الرأي .

(2) أي هذا المكيس المذكور سابقاً .
(3) هذا جواب قوله : ((فإذا استعان بالله ) ) .
(4) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ، برهان الدين البقاعي ، مطبوعات دائرة المعارف العثمانية بالهند ، ط 1/1969 ، 1/11 ، 12 .
------------------------------

وعلى الرغم مما يظهر من هذه الأهمية البالغة لهذا العلم في باب إثبات إعجاز القرآن، وجدنا بعض أجلة العلماء يقلِّلون من شأنه، وينتقدون المهتمين به، لحجةٍ واهيةٍ جداً، ولعل أبرز هؤلاء -وهم قلة على أية حال- شيخُ الإسلام وسلطان العلماء الإمام الجليل عزُّ الدين ابنُ عبد السلام (ت 660هـ)، وهذا نصُّ كلامه في هذا الموضع، حيث قال -رحمه الله-: ((واعلم أن من الفوائد أن من محاسن الكلام أن يرتبط بعضه ببعض ؛ ويتشبث بعضه ببعض، لئلا يكون مقطَّعاً متبَّراً، وهذا بشرط أن يقع الكلام في أمرٍ متحد، فيرتبط أوله بآخره.

فإن وقع على أسباب مختلفة، لم يشترط فيه ارتباط أحد الكلامين بالآخر ومن ربط ذلك، فهو متكلف لما لم يقدر عليه إلا بربطٍ ركيك، يُصان عن مثله حَسَنُ الحديث، فضلاً عن أحسنه، فإن القرآن نزل على الرسول -عليه السلام- في نيفٍ وعشرين سنة، في أحكام مختلفة، شرعت لأسباب مختلفة غير مؤتلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربطُ بعضه ببعض؛ إذ ليس يحسن أن يرتبط تصُّرف الإله في خلقه وأحكامه بعضه ببعض مع اختلاف العلل والأسباب.

ولذلك أمثلة: أحدها:
أن الملوك يتصرفون في مدة ملكهم بتصرفات مختلفة، وأحكام متضادة ، وليس لأحدٍ أن يربط بعض ذلك ببعض.

المثال الثاني:
الحاكم يحكم في يومه بوقائع مختلفة متضادة، وليس لأحدٍ أن يلتمس ربط بعض أحكامه ببعض.

المثال الثالث:
أن المفتي يُفتي مدة عمره، أو في يومٍ من أيامه، أو في مجلسٍ من مجالسه -بأحكام مختلفة- وليس لأحدٍ أن يلتمس ربط بعض فتاويه ببعض.

المثال الرابع:
أن الإنسان يتصرف في خاصته بطلب أمور موافقة ومختلفة
ومتضادة، وليس لأحدٍ أن يطلب ربط تلك التصرفات ببعض.
والله أعلم، والحمد لله وحده)) (1).


وواضح من هذا النقل الحرفي لكلام سلطان العلماء أن حجته الوحيدة هي أن القرآن نزل منجَّماً، بحسب الوقائع والمناسبات، على امتداد نيف وعشرين سنة.. فكيف تُطلب مناسبة بعض أجزائه لبعض مع هذا التفاوت الزمني والمناسبي المصاحب لنُزوله؟!

وهي ذاتُ الحجة التي اعتمد عليها غير العز، ولعلَّ أبرزهم هو الشيخ محمد بن علي الشوكاني (ت 1250هـ)، الذي لم يكتف عند تعرضه لهذه المسألة في تفسيره بهذه الحجة، بل إنه ذكر أن هذا العلم متكلَّف، وأن من تكلموا فيه خاضوا في بحر لم يكلَّفوا سباحته، واستغرقوا أوقاتهم في فن لا يعود عليهم بفائدة، بل أوقعوا أنفسهم في التكلم بمحض الرأي المنهيِّ عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه، وأنهم تعسَّفوا في هذا الباب، وتكلفوا بما يتبرَّأ منه الإنصاف، ويتنَزَّه عنه كلام البلغاء، فضلاً عن كلام الله سبحانه، ثم قال بعد كلام طويلِ وقاسٍ، ولا يخرج في محتواه عما ذكره سلطان العلماء: ((.. وما أقلَّ نفعَ مثل هذا، وأنزرَ ثمرتهَ، وأحقرَ فائدتَه!)).

غير أنه أضاف وجهاً آخر ظنّ أنه قد يعضد رأيه، وهو مقارنته بين من يطلب المناسبة في آيات القرآن وسوره، وبين من يعمد إلى طلب ذلك فيما قاله رجل من البلغاء في خطبه ورسائله وإنشاءاته، وما قاله شاعر من الشعراء في أغراض القول المتخالفة غالباً، فلو تصدَّى أحد لذلك ((فعمد إلى ذلك المجموع، فناسب بين فِقَره ومقاطعه، ثم تكلف تكلفاً آخر فناسب بين الخطبة التي خطبها في الحج، والخطبة التي خطبها في النكاح.. ونحو ذلك، وناسب بين الإنشاء الكائن في العزاء، والإنشاء الكائن في الهناء.. وما يشابه ذلك - لعُدَّ هذا المتصدي لمثل هذا مصاباً في عقله، متلاعباً بأوقاته، عابثاً بعمره الذي هو رأس ماله))..
____________
(1) الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز، العز بن عبد السلام ، المكتبة العلمية بالمدينة المنورة، ص 278.

-------------------

ثم يقول: ((وإذا كان مثل هذا بهذه المنْزلة -وهو ركوب الأحموقة في كلام البشر-، فكيف تراه في كلام الله سبحانه، الذي أعجزت بلاغتُه بلغاء العرب، وأبكمت فصاحتُه فصحاء عدنان وقحطان؟)) (1).

والحقُّ.. أن كلاً من هاتين الحجتين واهٍ، لا يصلح لمثل هذا الاستدلال!
أما عن الحجة الأولى -وهي نزول القرآن منجماً، بما يخالف في بادئ الرأي حكمة التناسب- فدحضُها من أيسر ما يكون، وحسبنا في هذا المقام أن ننقل ما قاله الزركشي بعد تلخيصه لكلام العز السالف ذكره حيث قال: ((قال بعض مشايخنا المحققين*: قد وهم من قال: لا يُطلب للآي الكريمة مناسبةٌ؛ لأنها على حسب الوقائع متفرقة، وفصلُ الخطاب أنها على حسب الوقائع تنْزيلاً، وعلى حسب الحكمة ترتيباً، فالمصحف الذي بين أيدينا كالصحف الكريمة، على وِفْق ما في الكتاب المكنون، مرتبة سورُه كلها وآياته بالتوقيف.
____________
(1) انظر: فتح القدير الجامع بين فنَّي الرواية والدراية من علم التفسير، محمد بن علي الشوكاني، تصوير دار المعرفة - بيروت، 1/72 ، 73.

* قال البقاعي في نظم الدرر (1/ 8 ، 9): والشيخ المشار إليه هو العارف وليُّ الله محمد بن أحمد الملوي المنفلوطي الشافعي، ذكر ذلك في كلامٍ مفردٍ على قوله -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ} و: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ}.
------------------------

وحافظ القرآن العظيم لو استفتي في أحكامٍ متعددة، أو ناظر فيها، أو أملاها، لذكر آية كلِّ حكم على ما سُئل، وإذا رجع إلى التلاوة، لم يتلُ كما أفتى، ولا كما نزل مفرقاً.. بل كما أُنزل جملةً إلى بيت العزة..)).. ثم قال الزركشي معقباً: ((وهو مبنيٌّ على أن ترتيب السور توقيفي، وهذا الراجحُ كما سيأتي)) (1).

وهذا أمر واضح جداً، ولا أدري كيف خفَي على مثل الإمام العظيم -وهو مَنْ هو: علماً وتحقيقاً، وعقلاً وذكاءً-؟! كيف غاب عنه أن القرآن المجيد كلامُ الله، وأنه قديمٌ قدمَه -سبحانه-، لأنه صفة من صفاته.. فكيف يصح ألاَّ يكون على غاية التنسيق، وإحكام الاتصال؟!.

إن القرآن الكريم هو الجملة الواحدة التي سبق بها علم الله سبحانه، وأنزلها جملةً واحدةً من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم ابتدأ نزوله منجماً بحسب الوقائع والأسباب، والحوادث والدواعي، على النبي الخاتم، في ليلة القدر، أولَ مبعثه -صلوات الله عليه وسلامه-..

ولعل من أدقِّ ما قيل في هذا -بالإضافة إلى كلمة الشيخ ولي الله الملوى: ((إنها على حسب الوقائع تنْزيلاً، وعلى حسب الحكمة ترتيباً))- كلمةَ الأستاذ الجليل الدكتور محمد عبدالله دراز -رحمة الله عليه- حيث قال في إيجاز مكثَّف: ((.. إن كانت بعد تنْزيلها (أي الآيات والسور) قد جُمعت عن تفريق؛ فلقد كانت في تنْزيلها مفرَّقة عن جمع)) (2).

وكذلك كلمة الزركشي الجامعة المانعة في هذا الباب: ((.. بل عند التأمل يظهر أن القرآن كلَّه كالكلمة الواحدة)) (3).
____________
(1) البرهان، 1/37، 38.

(2) النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن، د. محمد عبدالله دراز، دار الفكر - الكويت، ط3/1988م، ص 154، 155.
(3) البرهان، 1/39.
-----------------------

أما عن ثانية الحجتين، وهى ما تتعلق بالمقارنة التي عقدها الشيخ الشوكاني بين من يطلب المناسبة في الآيات والسور، وبين من يطلبها في كلام أحدِ من الشعراء أو البلغاء -وهي أيضاً مأخوذة من كلام العز في أمثلته الأربعة التي ذكرها في سياق حديثة-؛ فهي أضعف من الأولى!

فهذا، أولاً:
قياس مع الفارق -كما يقول الأصوليون-.. بل مع عظيم الفارق! فإن ثمة حداً فاصلاً لا يحدُّ -ولا يكفي أن نقول فيه إنه كما بين السماء والأرض!- ما بين كلام الله وكلام خلقه . فكلامه -عز وجل- صفة من صفاته القديمة؛ فهو كامل كمالَه -سبحانه-.

وأما كلام خلقه؛ فعليه سمةُ عجزهم وضعفهم وضآلتهم إذا ما قيس بكلام أنبيائه -عليهم الصلاة والسلام-.. فكيف إذا ما قيس بكلامه هو -سبحانه وتعالى-؟!

وأما ثانياً:
فلأننا لا نسلِّم بما قاله الشوكاني من أن تطلُّب المناسبة في كلام شاعر أو بليغ عبث من العبث، أو محال من المحال.. فثمة دراسات مستفيضة في علم النقد الأدبي تقدِّر أهمية التماس مثل هذه المناسبة -على نحو ما-، فيما سماه أهل النقد (الوَحْدة العضوية).

وثمة دراسات تطبيقية متكاثرة على عيون من أدبنا العربي -والآداب العالمية عموماً- تثبت، بما لا يدع مجالاً للشك، أن هناك روحاً خاصةً تسرى فى كلام كل واحدٍ من فحول الشعراء الموهوبين، وفطاحل البلغاء المطبوعين.. وأن هناك مسحةً خاصة لكل واحد منهم، تظهر في تضاعيف كلامه، وبين سطور إبداعه، وتتيح لذوى الحساسية العالية في التذوق تمييز كلام أحدهم عن الآخر.. ولكن لايدرك هذا إلا غوَّاصٌ خبير، وليس كل من قرأ بيتاً أو بيتين، ولا ديواناً أو ديوانين!

ولعل التعمق في دراسة مثل (دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة) للشيخ الإمام عبد القاهر الجرجاني -وكذلك الوقوف على مثل منهج الأستاذ الجليل محمود محمد شاكر في تذوق البيان عموماً- توقف طالب الحق على هذه الحقيقة العالية، التي تقصُر دونها همم المتعجلين! ولولا أن المقام لا يسمح بمزيد من القول في هذا؛ لألقيتُ عليه ضوءاً كاشفاً (1).
____________
(1) ولعل من تتمة الكلام في هذه المسألة أن نذكر أن الصواب قد جانب الأستاذ الجليل الشيخ عبد الحميد الفراهي -رحمه الله- في جوابه عن هذا الإشكال الأخير.. فقد رده بأن قلَّل من قيمة الشعر نفسه! حيث قال: ((زعم بعض العلماء أن الكلام المنظم الذي يجري إلى عمودٍ خاص ليس من عادة العرب؛ فإنك ترى في شعرهم اقتضاباً بينا، فلو جاء القرآن على غير أسلوبهم ثقل عليهم. وهذا زعم باطل. فإن العرب كانوا يتلهَّون بالشعر، ولا يعدونه من المعالى، وإنما كانوا يعظّمون الحكماء، ويحبون الخطب الحكيمة. ولذلك كان الأشراف يأنفون عن قول الشعر وأن يعرفوا به، وإنما يستعملونه نزراً على وجه الحكمة وضرب المثل. ومحضُ الوزن والنظم لا يعد شعراً. إن للشعر مواضع من فنون الهزل والإطراب، فهو على كل حالٍ من لهو الحديث..)) ثم قال -رحمه الله-: ((.. فإذا تبين لك هذا الفرق بين الشعر والبيان، وأن العرب لم يكن أكثر كلامهم الجزل شعراً.. فهل لك بعد ذلك أن تجعل القرآن على أسلوب الشعر وأنه مقتضب البيان كمثلة؟! ألا ترى كيف جعل الله ذلك من ذمائم الشعراء؟ وقدَّمه على الكذب- مع ظهور شناعة الكذب! ؛ فنبَّه على أن القول من غير غاية وعمود ونظام أدلُّ على سخافة القائل ، فقال - تعالى - في ذم هؤلاء الشعراء : { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} (الشعراء /225، 226).. هل الهيمان في كل وادٍ إلا الجريان في القول من غير مقصد ونظام؟!)) (دلائل النظام، عبد الحميد الفراهي، ط. الدائرة الحميدية ومكتبتها، الهند، 1388هـ، ص 20، 21).

قلتُ: وهذا كلامٌ خطير- فوق أنه غير صحيح!-، يشبه ما قام به الإمام الجليل الباقلاني في كتابه العظيم (إعجاز القرآن) من نسفٍ لمعلقة امرئ القيس (( قفا نبكِ ..)) حتى يثبت إعجاز القرآن، وكأن إعجاز القرآن لا يثبت إلا بهلهلة منقبة العرب العقلية الأولى!.. وهو الأمر الذي نقده نقداً صارماً، ودلَّ على خطورته البالغة شيخ العربية الراحل الأستاذ الجليل محمود محمد شاكر - عليه رحمة الله - في مقدمته النفيسة لكتاب الأستاذ مالك بن نبى ( الظاهرة القرآنية) ..
ولولا أن يتسع بنا الكلام حتى يخرج عن مجاله لشفيتُ القول في هذا .. ولكن أكتفي بأن أقول إن الشعر هو أعلى وأغلى ما تعلق به العرب ، وأنفس ما أثر عنهم وأنهم كانوا يعظمونه لدرجة أن علقوا نفائسه على جدران الكعبة - وهي أقدس ما كانوا يعظمون ! - .. وذلك أمر متواتر عنهم ، لا مجال لإنكاره ، وطلب الدليل عليه يشبه طلب الدليل على النهار ! وهل كانت تستقيم معجزة القرآن الباهرة على أولئك العرب الأقحاح لو كان شعرهم ومبلغُ علمهم على مثل هذه الركاكة والمكانة المهينة؟! .. إن هذا لشيء عجيب حقاً!
ويمكن أن أضيف هنا أن من المقرر لدى علماء الأمة الأثبات أنه لا يستقلُّ أحد بفهم القرآن حتى يستقل بفهم هذا الشعر الجاهلي ، وإلى ذلك يشير قول الشافعي - وكان ، رضي الله عنه ، من أبصر الناس بهذا الأمر - : ((لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلٌ عارف بكتاب الله .. بناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، وتأويله وتنْزيله ، ومكيه ومدنيه ، وما أريد به . ويكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله ( (…) ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف عن القرآن . ويكون بصيراً بالشعر ، وما يحتاج إليه للسنة والقرآن) ) .. فليس يكفي أن يكون عارفاً بالشعر ، بل- وكما يقول الشيخ محمود شاكر- أن يكون بصيراً به أشدَّ البصر!. انظر: فصلٌ في إعجاز القرآن ، مقدمة محمود شاكر لكتاب (الظاهرة القرآنية) لمالك بن نبي ، دار الفكر- دمشق ، 1981 م - 1402هـ، ص 41.
--------------------------------

ولكن الإنصاف يقتضينا أن نذكر أن لمثل هذا الرأي الذي اعتنقه الإمام الجليل عز الدين ابن عبد السلام -رضي الله عنه-، ثم قلده فيه من بعدُ من قلده - أسباباً دافعة، بعضها صحيح، وإن كان لا يؤدى إلى النتيجة التي انتهوا إليها.. وقد أحسن جداً الأستاذ الجليل الشيخ عبد الحميد الفراهى في رصد هذه الأسباب، ثم الإجابة عنها بما يكفي ويشفى..

فقال -رحمه الله- في كتابه العظيم (دلائل النظام):
((.. لا شك أن الذين ذهبوا إلى نفي النظام * لم يذهبوا إليه إلا لأسباب اضطرتهم إليه فلنذكر بعض تلك الأسباب، لتعرف عذرهم، وتبقى على حسن ظنك بهم، ولتخرج من محض التقليد إلى مطمئن الحق، فإن الأذكياء والحكماء لايذهبون إلى رأي نُكْرٍ، إلا فراراً مما هو أشد نكارةً. فمن لم يعرف ذلك، إما أساء بهم الظن، وسدَّ على نفسه الانتفاع بهم. أو قلدهم في أمرٍ ظاهر الفساد؛ فعمى وتصامم عن الاستماع لكل دليل واضح؛ فإن إساءة الظن إلى دلائلك، أهون عليه (أي مثل هذا المقلِّد) من إساءة الظن بأولئك الأكابر! وإن نقلت عن بعض الأكابر ما يوافق الحق؛ اشتبه عليه الأمر، وربما اتبع ما عليه الأكثرون. فلذلك؛ احتجنا إلى ذكر بعض الأسباب المانعة عن الإيقان بالنظام، مع وضوح دلائله..

فنقول، وبالله التوفيق:
الأول، وهو أقوى الأسباب،: تبرئة كلام الله عن كل عيب وشين. ولا شك أنه ظاهر النظام والترتيب في كثير من المواضع، ولكنهم (أي منكري النظام) لو ادَّعوا أنه كلَّه منظم، والنظم مرعيُّ فيه؛ لاضطروا في مواضع إلى القول بعدمه، وذلك لغموضه ودقته.. فتركوا هذا المسلك ولم يحولوه إلى قصور أفهامهم. (…)

*للفراهي نظرية خاصة في إدراك التناسب والترابط بين آيات الكتاب العزيز وسوره سَّماها (النظام)، وقد عُني فيها بإثبات النسب والروابط بين آيات القرآن وسوره، عن طريق تحديد ما سماه (عمود) كل سورة، وهو يقرِّر أنه شيء فوق مجرد إدراك التناسب كما كتب فيه الكاتبون من قبل.. وعلى كلٍّ ؛ فكلامه في ذلك نفيس لم يسبق إليه، وسوف نعرض له بالتفصيل لاحقاً بمشيئة الله تعالى.

والثاني -وليس بأدونَ من الأول، ولكن الأول يتعلق بالمصنفين، والثاني يتعلق بالناظرين في كلامهم-: هو أن أكثر من ذهب إلى وجود النظم -كالإمام الرازي، رحمه الله- قنع في هذا الأمر الصعب بما هو أهون من نسج العنكبوت، مع سبقه الظاهر في العلوم النظرية والذكاء؛ فمن نظر في كلامه تيقن بأن النظم لو كان كما يدعيه هذا الإمام المتبحِّر وأمثاله لما خفي عليه مع خوضه فيه، وإذ لا يأتي فيه، هو ولا غيره، إلا بكل ضعيف ؛ فلا مطمع فيه لأحد بعد هؤلاء.

فإما بقي على قوله بوجود النظم، ولكن يئس من علمه وأغلق بابه، فإن سمع أحداً يدعوه إليه لم يسمعه، وإما صار إلى الرأي الذي ظنه أسلم، وهو أن القرآن إنما نزل منجَّماً مفرقاً، فلا يطلب فيه نظام*.
____________
* جاء هنا في حاشية الكتاب:
((اعلم -هداك الله- أن من أساء الظن بهم، أولى بالخطأ ممن قصّر فيه، فإن سوء الظن منهم مبنيٌّ على قلة مسامحتهم لهؤلاء الأذكياء، وقلة قدرهم لهذا العلم الشريف، فإنهم لو أنصفوا؛ لشكروا سعيهم.
فإن من يخوض على الدرِّ في بحر عميق لا تثريب عليه إن لم يفز بالفرائد، بل يستحق المدح، ولما فتح باباً لمن يتبعهم.. فكم ترك الأول للآخر‍! ولا شكَّ أن من بين طرفاً من النظم له منَّةٌ على الخلف، فإن هذا العلم لا مطمع في بلوغ نهايته.
وأيُّ علم استقصوه؟‍! فما بالك بما هو بحر لا تنقضي عجائبه؟‍! ومحاسن نظم الكلام لا تُعرف كلها إلا بعد استقصاء معانيه، وذلك يُبقي أكثرها مكنوناً.
فالذين أنكروا وجود النظام في كتاب الله، بما وجدوا من الضعف في كلام القائلين بالنظم البليغ فيه، وإن كانوا أقرب إلى الخطأ ممن أساء بهم ظنه - فإنهم أيضاً معذورون في إنكارهم، لأن غرضهم ليس إلا نفي ضعف النظام.
فإن عدم القصد لشيء ربما يكون صحيحاً، ولكن سوء التدبير لذلك الغرض منقصة ظاهرة.
ولا شك أن الكلام الذي ليس على نمط متسق، بل يحتوي على عدة مطالب مقتضبة بعضها عن بعض، مبنية على أسباب جامعة خارجة عن معنى الكلام، كما ذهب إليه كثير من أكابر العلماء - لأبعدُ عن النقص من كلام قُصد فيه الوحْدة من جهة النظام، ثم كان مختلَّ النظم، أو ضعيف الرباط فلا شك أن هؤلاء المذكورين لم يقصدوا إلا تبرئة القرآن عن كل منقصة)).
------------------------------------

يتبع إن شاء الله...



مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الثلاثاء 04 مايو 2021, 1:09 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور Empty
مُساهمةموضوع: رد: مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور   مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور Emptyالإثنين 02 مايو 2016, 7:02 am

مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور Z

والثالث:
إكثار الوجود في التأويل، وإكثار الجدل وقال وقيل، وذلك بأن النظم إنما يجري على وَحْدةٍ، فبحسب ما تكثّرت الوجوه تعذَّر استنباط النظام.

فمن نظر في هذه الوجوه المتناقضة والأقاويل المتشاكسة؛ تحيَّر.. لا يدري ماذا يختار منها، وأصبح في حُجُبٍ عن النظم الذي يجري من كل جملةٍ في وجه واحد، كمن سلك طريقاً.. يصادف في كل غَلوةٍ منه طرقاً شتى!

ولما كان ذلك -ولأسبابٍ أُخر- شرطنا أن نقنع بوجه واحدٍ صحيح ظاهر، ينتظم به الكلام، ولم نجده إلا أحسنَها تأويلاً، وأبلغها بياناً.. وهذا مبسوط في موضعه**.

وإنما ذكرناه هاهنا من جهة أن إكثار الوجوه من أكبر الحُجُب على فهم النظام، بل عدم التمسُّك بالنظام هو أكبر سبب للولوع بكثرة التأويل، فإن النظم هو الذي يوجهك إلى الوجه الصحيح.

والسلف -رحمهم الله- لم يجمعوا وجوهاً، بل كلٌّ منهم ذهب إلى أمرٍ واحد، وإنما شاع إكثارُ الوجوه في الخلف.

وكذا يكون الأمر في كل علم إذا كثرت الكتب، ودوِّن العلم، وسهل الطريق، فيحرصون على التبحُّر، ويرفضون الرسوخ والتحقيق في فنٍّ واحد.
____________
** في كتاب الفراهي النفيس هذا كثير من الإشارات المهمة في هذا الصدد، وهو يدعو إلى أن يتخفف طالب الهداية من القرآن المجيد من ثقَل هذه المرويات ما استطاع، حتى يخلُصَ إلى الحكمة المستكنَّة في آيات الله البينات، التي هي -وحدها، لا تأويلات الناس واحتمالاتهم!- الهدايةُ والنور.
---------------------

فيحسبون تكثير الأقاويل والمذاهب علماً، وهم خِلْوٌ عنه، كما قيل: ((طلبُ الكل ؛ فوتُ الكل))‍، فمن اشتغل بالتفسير وجده بحراً متلاطماً من الأقوال، وحفظه هذه الأقاويل يمنعه عن مسلك النظام من جهة نفاد فرصته ومُنَّته، ومن جهة أن النظام قد خفي وضلّ عنه في شتات الوجوه الكثيرة.

بل لو رفض هذه الكتب كلَّها، وأخذ طريق السلف -رحمهم الله-؛ فتدبَّر القرآن، والتمس المطابقة بينه وبين السنة الثابتة - لكان أقرب إلى معرفة النظام وصحيح التأويل.

والرابع -وهو قريب من الثالث-:
تحزُّب الأمة في فرقٍ وشيعٍ قد ألجأهم إلى التمسُّك بما يؤيدهم من الكتاب، فراق لهم تأويله الخاص، سواء كان بظاهر القول، أو بإحدى طرق حمل الكلام على بعض المحتملات، ولا يخفى أن غلبة رأيٍ وتوهُّم يجعل البعيد قريباً، والضعيف قوياً، وكذلك يفعل كل فريق.. فلكل حزبٍ تأويل حسب مذهبه! وحينئذٍ لا يمكن مراعاة النظام؛ فإن الكلام لا بد له من سياق، ولا بد لأجزائه من موقع يخصه.

فلو راعوا النظام ، ظهر ضعف ما يمليه ويجذبه إلى غير مساقه، كما أن الكلمة الواحدة ربما تكون مشتركة بين المعاني المتعددة، ولكن إذا وضعت في كلامٍ منع موقعها وقرائنها من كثرة الاحتمالات، وتعين منها ما وافق معنى الجملة والتأم به.

ومع ذلك؛ فليس كل نظامٍ جديراً بالأخذ، بل ما هو أحسن تأويلاً، فربما يلتئم الكلام ويتسق النظام بتأويل ركيك ساقط؛ فهذا مما يفتح باباً لدخول الأباطيل والهوى، ويخالف النظام الصحيح العالي، الذي يظهر به رفيع مكان التنْزيل، كما وصف الله به كتابه في مواضع لا تُحصى كقوله تعالى …)) (1).
____________
(1) هنا انتهى، مع الأسف البالغ ، ما بالمطبوعة (ص22 : 26)؛ إذ كُتب بعد هذه النقاط: ((بياض بالأصل)). وذلك أن هذا الكتاب إنما جمع من أوراق الشيخ الفراهي بعد وفاته، وقام على طباعته تلميذه المخلص بدرالدين الإصلاحي (مدير الدائرة الحميدية)، وكان أميناً على الأصل، فلم يغير فيه شيئاً، ولم يكمل ما به من نقص -كما ذكر مقدمته-.. وأحسب أن الشيخ كان سيذكر في هذا الموضع قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود: 1)، أو ما شابهها من الآيات الكريمة، التي وصفت دقة إحكام القرآن المجيد، ومتانة نظمه، وعلوَّ أسلوبه.

---------------------------

وفي موضع آخر من كتابه هذا يقول الشيخ الفراهي:
((المنكر للنظم لا محيص له من أحد ثلاثة أقوال:
فإما أن يقول بأن السورة ليست إلا آيات جُمعتْ بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) من غير رعاية ترتيبٍ كما وُجِدتْ في أيدي الناس.

وإما أن يقول بأنها اختلَّ نظمها، لما أن الآيات التي أدخلت بين الكلام المربوط قطعت النظم.

فكلا القولين ظاهر البطلان، ومبنيٌّ على الجهل الفاحش بجمع القرآن وترتيبه، ومواقع الآيات المبيِّنة والمفصَّلة بعد النّزول الأول.

أما الأول:
فلأن السور كانت متلوَّةً في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم)، وأمر الله النبي (صلى الله عليه وسلم) بالتلاوة حسب تلاوة جبريل -كما صرَّح به القرآن-، وقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يُعلِّم الناس السورة بالتمام، ويسمع منهم، فهذا القرآن المجموع في المصاحف ليس إلا على نسقٍ، جاء به جبريل -عليه السلام-، وقرأه على النبي (صلى الله عليه وسلم) في تلاوته الأخيرة.

ولو صحَّ ما زُعم، فَلِمَ أمر اللهُ نبيه باتباع قراءة جبريل؟! وَلِمَ كان يأمر بوضع الآيات بمواقعها الخاصة؟!.

وأما الثاني:
فلأن الآية المدخولة لا تقطع النظم إذا أدخلت في موضع يليق بها، والآيات المدخولة كلها معلومة الربط بما قبلها أو بعدها، وقد قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}.

وإما أن يقول ** بأن الله تعالى لم يُرِدْ أن ينزِّل كلامه منظماً، كما لم يُرِدْ أن يجعله شعراً أو سجعاً، أو غير ذلك مما يراعي فيه المتكلم من البدائع والتكلف، إنما هو كلامٌ أُريد به الهداية والحكمة، فأنزل حسب ما اقتضت الأحوال من الدلائل والشرائع، وربما اجتمعت المقتضيات من وجوهٍ مختلفة، فأنزل مراعياً لتلك الوجوه المتباينة سورةً جامعةً لمطالب مختلفة، احتيج إليها في زمان نزولها، والأحوال والحوادث واقتضاءاتها تُجمع من عللٍ متباعدةٍ في زمانٍ واحد، فالسورة تجمع جملاً، كلها تكون على حِدتَها في غاية الحسن والنظام، وأما مجموع هذه الجمل فلا معنى لالتماس النظام فيه، وقد بين ذلك بعض أكابر العلماء.

فأقول:
لولا رعاية النظم فيه لما وجدنا الكلام الطويل مبنياً على أسلوب جامع، أو كلمة ناظرة إلى كلمة سابقة بعيدة عنها.

مثلاً:

{هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} (الآية: 2) سيق في أول البقرة، ثم جرى الكلام إلى ذكر أهل التقوى، فجاء قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (الآية 177) ناظراً إلى ما سبق، والتأمل في نظم ما بينهما، وفيما بعد ذلك، يبين أن ذلك ليس بمحض الاتفاق، ولذلك أمثلة كثيرة أوضح مما ذكرنا)) (1).

انتهى كلام الشيخ الفراهي -رحمة الله عليه-.. وقد رأيتُ أن أنقله كاملاً -على طوله- لنفاسته من جهة، ولاستيعابه من جهة ثانية، ولما فيه من حُسن الأدب ونور البصيرة من جهة ثالثة.. لاسيما وأن من بين المعترضين على التركيز على مثل هذا اللون من التناسب في الآيات والسور من تنعقد لذكرهم الخناصر! لا سيما الإمام الجليل سلطان العلماء وشيخ الإسلام العز بن عبد السلام -رضي الله عنه-.. ولكن الإنصاف يقتضي أن نعرف الرجال بالحق، وألاَّ نتهيب مقام أحدٍ -خلا رسولَ الله، صلوات الله عليه- في أن نمحِّص أقواله، ونزنها بميزان التحقيق القائم على الكتاب والسنة.. فذلك دأبُ العلم، وتلك سُنتُه!
____________
* بالمطبوعة: عليم. وهو خطأ طباعي.
** هذا هو القول الثالث الذي أشار إليه الفراهى في بداية كلامه.
(1) دلائل النظام، ص 40.

--------------------------

وبعد..
فثمة ما يجدر التنويه به من هذا البيان المستفيض من كلام الشيخ الفراهي -رحمة الله عليه-.. وهو ربطُه الغفلةَ عن قضية النظام والترابط في كتاب الله بحال المسلمين الذي صاروا إليه، من التشيُّع والتحزُّب وتعصب كل فريق لما يعتقد أنه الحق..

فالشيخ الفراهي يرى أن المسلمين لو فهموا (النظام) لفهموا روح القرآن، ومن ثَمَّ؛ لحاولوا إزالة ما بينهم من خلافات، ورأب ما بينهم من صدوع، وذلك أن جُلَّ اختلاف الآراء في التأويل راجع -كما يقول- إلى عدم التزام رباط الآيات، فإنه لو ظهر النظام، واستبان لنا عمودُ الكلام، لجُمعنا تحت راية واحدة، وكلمةٍ سواء.

فبالنظام وإدراك الترابط الوثيق بين كلام الله العزيز.. تُنفى عن آيات الله أهواءُ المبتدعين، وانتحالاتُ المبطلين، وزيعُ المنحرفين (1).

ولعل الأستاذ الشيخ محمد الغزالي -رحمة الله عليه- (ت 1996م) كان من أبصر الناس بهذا الملمح -الذي لا ينتبه إليه إلا مَنْ أوتي قدراً مِنْ الحكمة-، ومِنْ أصدق مَنْ تكلم فيه..
____________
(1) سوف يأتي بسط الكلام في هذا الجانب عند الفراهي عند الحديث الخاص عنه بإذن الله.

----------------------

فقد كان يرى -رحمه الله- أن مشكلة العجز عن النظرة الشاملة للرؤية القرآنية أدت إلى لون من تقطيع الصورة وتمزيقها، أو إلى التبعيض المورِث للخزي الواقع في حياتنا اليوم، وكأنه صدى لقوله تعالى ناعياً على بنى إسرائيل: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (البقرة: 85)..

وكان -رحمه الله- يقول:
((نخشى أن تكون علل الأمم السابقة قد انتقلت إلينا.. على الأقل من الناحية النظرية، وأخذ بعض مقاصد الآية أو السورة وترك ما وراءها للتبرك والتلاوة! نخشى أن نكون قد وقعنا في هذا فعلاً.. نحن نعيش الآن مرحلة التبعيض والتفاريق!)) (1)..

ومن ثَمَّ؛ كان الشيخ الغزالي يُركّز على أن القرآن يتقدم إلينا برسالة حياة شاملة، لا تدع جزءاً منها إلا وتمتد إليه، وأن الوحي الإلهي يجري خلال هذا النسق القرآني كما تجري الدماء في العروق..

ومن أقواله الحكيمة في ذلك:
((إن الرؤية القرآنية لا يمكن إلا أن تكون حضارة كاملة.. تعاليم القرآن كلُّها متماسكة في عُصارة واحدة تجمعها من أولها إلى آخرها)).

ولذلك كان -رحمه الله- يرى أن إنشاء تفسير موضوعي -بناءً على هذه الرؤية المتكاملة، التي تلحظ النظام والتناسب والترابط في آيات القرآن وسوره- ربما تشكِّل منطلقاً ثقافياً جاداً لرؤية قرآنية شاملة (2).
____________
(1) انظر: كيف نتعامل مع القرآن، محمد الغزالي (مدارسةٌ أجراها معه عمر عبيد حسنة)، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط 3 / 1992، ص 7 : 73.

(2) كيف نتعامل مع القرآن، ص 73.
----------------------------

ولعله، لذلك أيضاً، كان يرى أن المستقبل لمثل هذا اللون من التفسير، على حساب التفاسير الجزئية التي تنطلق من الرؤية الموضعية (التي يتعلق بها التفسير التجزيئي -بحسب السيد محمد باقر الصدر)، ويذهل عن الرؤية الموضوعية المتكاملة (التوحيدية، بحسب السيد الصدر أيضاً) (1).

أرأيت، إذن، أهمية هذا العلم الجليل من علوم القرآن، وأدركت موقعه من بينها.
____________
(1) انظر مقدمة الغزالي لتفسيره: نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم، دار الشروق، ط 4/2000، ص 6. وانظر كذلك في أهمية هذه النظرة الموضوعية (التوحيدية) للقرآن الكريم: المدرسة القرآنية، السيد محمد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات - بيروت، ط 2، 1401?- 1981م.. ففية كلام نفيس في هذا السياق.

---------------------------

المبْحثُ الثَّالث: تاريخ علم المناسبة
تنبَّه الشيخ أبو الفضل عبد الله بن الصديق الغُماري -رحمه الله- إلى التمييز بين نوعي علم المناسبة، وهو تمييزٌ جيد، يفيد في مجال التأريخ لكتابته، ورصد المهتمين به.. قال -رحمه الله-: ((المناسبة علم شريف عزيز، قلَّ اعتناء المفسرين به لدقته، واحتياجه إلى مزيد فكر وتأمل.

وهو نوعان:
أحدهما: مناسبة الآي بعضها لبعض ، بحيث يظهر ارتباطها وتناسقها كأنها جملة واحدة. (…) وثانيهما: مناسبة السور بعضها لبعض) ) (1).

ولعل أول مَنْ تكلم في علم المناسبة -على وجه العموم- هو الشيخ أبوبكر النيسابوري، كما مرَّ معنا عند كلامنا عن المبادئ العشرة لهذا العلم.

وأما بالنظر إلى نوعيه.. فلعل الحافظ برهان الدين البقاعي هو أهم -إن لم يكن أول- مَنْ صنَّف في نوعه الأول بشكل مستقل، وذلك في كتابه المشهور (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور)..

ونظراً لأهمية البقاعي في هذا الباب، فسوف أفرده بالكلام عند الحديث عن أبرز أعلام هذا العلم.

ثم جاء الحافظ السيوطي فصنف (قطف الأزهار في كشف الأسرار)، ووصفه بأنه ((كتاب في أسرار التنْزيل، وبأنه جامع لمناسبات السور والآيات، مع ما تضمنه من بيان وجوه الإعجاز وأساليب البلاغة)).
____________
(1) جواهر البيان في تناسب سور القرآن، السيد عبدالله بن الصديق الغماري، مكتبة القاهرة، ص 14، 16.

-----------------------

وثمة كلام لابن العربي في كتابه (سراج المريدين) -نقله عنه الزركشي في برهانه (1)- يشير إلى أن أحد العلماء السابقين شرع في تصنيف كتابٍ فيه ثم لم يكمله، وأنه هو نفسه -أي ابن العربي- كانت تساوره الرغبة في التصنيف فيه..

يقول ابن العربي:
((ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة، متسقة المعاني، منتظمة المباني -علم عظيم، لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة، ثم فتح الله عز وجل لنا فيه.. فلما لم نجد له حَمَلة، ورأينا الخلق بأوصاف البطلة- ختمنا عليه، وجعلناه بيننا وبين الله، ورددناه إليه)).

وهذا عن الكتب المفردة فيه، وإلا؛ فقد تناثر الكلام في التناسب في أثناء كلام المفسِّرين والمصنفين في إعجاز القرآن..

فقد أشار الزمخشري -مثلاً- إلى هذه الوحدة الفنية في سور القرآن، وذلك عند تعداده فوائد تفصيل القرآن وتقطيعه سوراً حيث قال: ((.. ومنها: أن التفصيل سبب تلاحق الأشكال والنظائر، وملاءمة بعضها لبعض، وبذلك تتلاحظ المعاني، ويتجاوب النظم)) (2).

ولئن كان الزمخشري دلَّ بمثل قوله هذا على إدراكه لهذه الوحدة الفنية في كتاب الله -وهو ما لا يخفى على مثله-؛ إلا أنه لم يسلك الطريق العمليَّ التطبيقي -الذي ينبغي لمثله- لبيان هذه الوحدة على سبيل الاستيعاب وشفاء النفس منها..
____________
(1) البرهان 1 /36، وعنه نقله البقاعي في نظم الدرر 1 /7، والسيوطي في إتقانه 2/ 976.

(2) الكشاف، 1 / 241.
47 | 136
(1/47)
----------------------
أما أبوبكر الباقلاني، فقد سبق إلى إثبات ذلك عملياً في كتابه العظيم (إعجاز القرآن).. فقد استعرض -في الفصل الذي عقده في إثبات أن نبوة النبي (صلى الله عليه وسلم) معجزتها القرآن- كلاً من سورتي (غافر) و(فصلت)، وبين الترابط الوثيق بين معاني كل منهما، وأوضح أن كلاً منهما قد بنيت من أولها إلى آخرها على بيان لزوم حجة القرآن، والتنبيه على وجه معجزته، شأنها في ذلك شأن كل السور التي افتتحت بذكرالحروف المقطعة (1)..

كما أن الباقلاني سبق إلى مسِّ تلك الوحدة الفنية التي لمحها الزمخشري، والتي اصطُلح على تسميتها فيما بعد في النقد الحديث بـ(الوحدة العضوية).. وقد تلمسها الباقلاني في أجزاء السورة الواحدة حتى تظهر كأنها خلقٌ متكامل يُمسك بعضه برقاب بعض..

فهو من أوائل من عُنوا بإبراز هذه الوحدة في الصورة الفنية، على النحو الذي تناول به سور القرآن حيث بيَّن ترابط أجزائها، ترابطاً يتضح فيه اتصال المتأخر بالمتقدم، واللاحق بالسابق، واستدعاء آياتها بعضها بعضاً، بحيث يدخل عليها الخلل إذا غُيّرت عن مواضعها بتقديم أو تأخير، أو إسقاط لبعض عباراتها.

وله في ذلك وقفات جيدة في كتابه (إعجاز القرآن) تؤكد عنايته بإظهار الوحدة بين أجزاء النص، ودلالة ذلك على فنيةٍ مبدعة.. كالذي نراه في تحليله الرائع لآيات سورة النمل مثلاً (2).

وفي العصر الحديث ظهرت دراسات مستفيضة تركز على هذا اللون من التناسب والترابط بين آيات الذكر الحكيم، انطلاقاً من وجهة نظر بيانية وفنية في المقام الأول..
____________
(1) انظره في كتابه هذا، ص 10 : 18. وانظره كذلك في كتاب: النظم القرآني في كشاف الزمخشري، د. درويش الجندي، دار نهضة مصر، 1969م، ص 221، 222.

(2) انظرها في إعجاز القرآن، ص 287 : 289.. وانظر كذلك: الباقلاني وكتابه (إعجاز القرآن).. دراسة تحليلية نقدية، د. عبد الرؤوف مخلوف، مكتبة الحياة - بيروت، 1973، ص 437، 438.
-----------------------------------

يتبع إن شاء الله...



مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الثلاثاء 04 مايو 2021, 1:11 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور Empty
مُساهمةموضوع: رد: مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور   مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور Emptyالإثنين 02 مايو 2016, 6:08 pm

ولعل من أهم هذه الدراسات ما قام به الأستاذ أمين الخولي -رحمه الله- (ت 1966م) وتلامذته من أبناء (مدرسة الأمناء)، الذين كانوا أوفياء لمنهجه في دراسة علوم البلاغة والأدب والنقد في قراءة القرآن المجيد.. وأبرز أبناء هذه (المدرسة) السيدة الجليلة الدكتوره عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) -عليها رحمة الله- (ت 1998م)، والتي كانت وفية لشيخها وزوجها الأستاذ أمين الخولي، وحريصة على حمل لواء منهجه، تأصيلاً وتطبيقاً في آنٍ.. وفي ذلك تقول: ((.. والأصل في منهج التفسير الأدبي -كما تلقيته عن شيخي- هو التناول الموضوعي، الذي يفرغ لدراسة الموضوع الواحد فيه، ليجمع كل ما في القرآن عنه، ويهتدي بمألوف استعماله للألفاظ والأساليب، بعد تحديد الدلالة اللغوية لكل ذاك.

وهو منهج يختلف تماماً عن الطريقة المعروفة في تفسير القرآن سورةً سورةً، حيث يؤخذ اللفظ أو الآية فيه مقتطعاً من سياقه العام في القرآن كله، مما لا سبيل معه إلى الاهتداء إلى الدلالة القرآنية لألفاظه، أو استجلاء ظواهره الأسلوبية وخصائصه البيانية.

وقد طبق بعض الزملاء هذا المنهج تطبيقاً ناجحاً في موضوعات قرآنية اختاروها لرسائل الدكتوراه والماجستير، وأتجه بمحاولتي اليوم إلى تطبيق المنهج في تفسير بعض سورٍ قصار*، ملحوظ فيها وحدة الموضوع، فضلاً عن كونها جميعاً من السور المكية، حيث العناية بالأصول الكبرى للدعوة الإسلامية وقصدتُ بهذا الاتجاه إلى توضيح الفرق بين الطريقة المعهودة في التفسير، وبين
____________
*هي سور الضحى، والشرح، والزلزلة، والنازعات، والعاديات، والبلد، والكوثر، وقد أتبعت بنت الشاطئ هذه المجموعة من السور القصار بمجموعتين أخريين في كتابين (أو جزئين) مستقلين، صدرا لاحقاً بعد طبعة الجزء الأول (1962م).
------------------------
منهجنا الحديث الذي يتناول النصَّ القرآني في جوِّه الإعجازي، ويلتزم -في دقة بالغة- قولة السلف الصالح: ((القرآن يفسِّر بعضُه بعضاً)) -وقد قالها المفسرون، ثم لم يبلغوا منها مبلغاً!-، ويحرر مفهومه من كل العناصر الدخيلة، والشوائب المقحمة على أصالته البيانية)) (1).

وتقول في موضع آخر، في معرض بيان ملامح هذا المنهج البياني في قراءة القرآن ودرسه:
((.. ويأخذنا هذا المنهج بضوابط صارمة، لا تجيز لنا أن نفسِّر لفظاً قرآنياً دون استقراء كامل لكل مواضع وروده، بمختلف صيغه، في الكتاب المحكم.

كما لا يبيح لنا أن نتناول أيَّ موضوع قرآني دون تتبُّع دقيق لكل آياته في المصحف، وتدبُّر سياقها الخاص في الآية والسورة، وسياقها العام في الكتاب كله)) (2).

وواضح من كلام بنت الشاطئ -عليها رحمة الله- التمازج بين موضوع المناسبة في القرآن وبين التفسير الموضوعي له، وقد علمت في المبحث الأول ما بينهما من اتصالٍ وثيق.

وعلى هذا النمط كتبت دراسات كثيرة في تناول آيات القرآن وسوره وفق هذه المنهج البياني، ولعل من أبرزها مساهمات الدكتور شوقي ضيف، والدكتور تمام حسَّان - بالإضافة إلى بنت الشاطئ!.
____________
(1) التفسير البياني للقرآن الكريم، عائشة عبد الرحمن ، دار المعارف - القاهرة، 1962، ص10.

(2) كتابنا الأكبر، عائشة عبد الرحمن، (محاضرة ألقتها في 8/ 2 / 1967م في الموسم الثقافي لجامعة أم درمان الإسلامية بالسودان، وطبعت في سلسلة محاضرات الموسم الثقافي للجامعة لعام، (66/1967م)، ص 5.
----------------------

في العصر الحديث أيضاً ثمة كتابات كثيرة تعرضت لموضوع التناسب والترابط، وإن لم تلتزم هذا المنهج بالذات، ومن غير أن تكون محسوبة على (مدرسة الأمناء).. وإن كانت (الرؤية البيانية) ذات أثرٍ واضح فيها، وإن لم تكن متفردة تماماً.

وأهم هذه الأعمال على الإطلاق وأكملها

تفسير الأستاذ سيد قطب -عليه رحمة الله- (ت 1966م) والذي سماه (في ظلال القرآن)، وسنفرده بالكلام في المبحث التالي بإذن الله.

ومنها

محاولة الشيخ عبدالمتعال الصعيدي -رحمه الله- (ت1958م) في كتابه (النظم الفني في القرآن) والذي استوعب فيه الكلام عن سور القرآن سورةً سورةً، محاولاً خدمة هذا الجانب البياني- أو الفني، بحسب تعبيره-، بعد أن نعى على المفسرين قلة اهتمامهم به على ما يليق، فغاية ما يفعله بعضهم -كما يقول-: ((أن يُعنى بإظهار المناسبة بين آية وآية؛ فلا يأتي في ذلك بالغرض المطلوب، ولا ينظر في كل سورة نظرة عامة، يعرف بها الغرض المقصود منها، ثم يقسمها إلى أقسام، يدخل كل قسم منها تحت ذلك الغرض العام، ولا يخرج عنه إلى أغراض أخرى لا تدخل فيه.

ولهذا وضعت كتابي (النظم الفني في القرآن) في هذا الموضوع الخطير، ليقوم بهذه الخدمة العظمى للقرآن الكريم، مستعيناً في ذلك بهداية الله وتوفيقه، ومستمداً من عونه وإرشاده)) (1).

ومنها:

(التفسير الحديث) للأستاذ محمد عِزَّة دَرْوَزة -رحمه الله- (ت1404هـ)، والذي سلك فيه طريقة تفسير القرآن الكريم بعد ترتيب سوره على حسب النّزول.
____________
(1) النظم الفني في القرآن، عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب - القاهرة، من دون تاريخ نشر، ص 4.

----------------------

وقد ذكر في مقدمته منهجه الذي سار عليه، وقد جاء فيه: ((8- الاهتمام لبيان ما بين آيات وفصول السور من ترابط، وعطف الجمل القرآنية على بعضها: سياقاً، و موضوعاً -كلما كان ذلك مفهوم الدلالة-، لتجلية النظم والترابط الموضوعي فيه، لأن هناك من يتوهم أن آيات السور وفصولها مجموعة إلى بعضها بدون ارتباط وانسجام، في حين أن إمعاننا فيها جعلنا على يقين تام بأن أكثرها مترابط منسجم)) (1).

ومنها: (نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم)، للأستاذ الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله-، والذي كان همُّه الأساس فيه أن يعمد إلى محاولة رسم (صورة شمسية) لكل سورة -بحسب تعبيره *-، لتتبين روحها الخاصة.. وفي ذلك يقول: ((.. والهدف الذي سعيت إليه أن أقدم تفسيراً موضوعياً لكل سورة من الكتاب العزيز.

والتفسير الموضوعي غير التفسير الموضعي، الأخير يتناول الآية أو الطائفة من الآيات؛ فيشرح الألفاظ والتراكيب والأحكام، أما الأول؛ فهو يتناول السورة كلَّها، ويحاول رسم صورة شمسية لها، تتناول أولها وآخرها، وتتعرف على الروابط الخفية التي تشدُّها كلَّها، وتجعل أولها تمهيداً لآخرها، وآخرها تصديقاً لأولها ..)) (2).
____________
(1) التفسير الحديث، محمد عزة دروزة، دار إحياء الكتب العربية (عيسى الحلبي)، ط 1، 1962م، 1/ 7.

* لم يذكر الغزالي -رحمه الله- أن الأستاذ سيد قطب هو أول من استخدم هذا التعبير الموحى في الكلام عن سور القرآن، وذلك في كتابه العظيم (في ظلال القرآن): وقد كان الإنصاف يقتضيه ذلك، كما صنع في الإشارة إلى ريادة الشيخ الدكتور محمد عبد الله دراز في مجال التفسير الموضوعي.. رحمة الله على الجميع!
(2) نحو تفسير موضوعي …، ص 5.
---------------------------

وحول طريقته في ذلك يقول:
((..إنني أختار من الآيات ما يُبرز ملامح الصورة، وأترك غيرها للقارئ.. يضمها إلى السياق المشابه، وذلك حتى لا يطول العرض ويتشتت.. والإيجاز مقصودٌ لدىَّ)) (1)،.. ((يجب أن أغوص في أعماق الآية، لأدرك رباطها بما قبلها وما بعدها، وأن أتعرَّف على السور كلها.. متماسكة، متساوقةً..)) (2).

وثمة جهد آخر في هذا المجال لما يكتمل صدوره بعد، وهو ذلك التفسير الذي يتابع إصداره الشيخ عبد الرحمن حسن حَبنَّكة الميداني (من علماء دمشق الكبار)، الذي يسير فيه على وفق ترتيب نزول السور -كمثل ما صنع عزة دروزة-.. وقد سماه (معارج التفُّكر، ودقائق التدبُّر: تفسير تدبرى للقرآن الكريم)، وذكر أنه محاولة تطبيقية منه على كتابه (قواعد التدبُّر الأمثل لكتاب الله عز وجل) (3).

وفي مقدمة التفسير يقول الشيخ الميداني -حفظه الله وعافاه-:

((وقد رأيت بالتدبر الميداني للسور ان ما ذكره المختصون بعلوم القرآن الكريم من ترتيب نزول، هو -في معظمه- حق، أخذاً من تسلسل التكامل التربوي.

واكتشفت في هذا التدبُّر أموراً جليلة تتعلق بحركة البناء المعرفي لأمور الدين، وحركة المعالجات التربوية الربانية الشاملة للرسول (وللذين آمنوا به، وللذين لم يستجيبوا لدعوة الرسول، متريثين، أو مكذبين كافرين)) (4).
____________
(1) السابق، ص 6.

(2) السابق، ص 5.
(3) صدرت طبعته الأولى الموجزة عن دار القلم بدمشق سنة 1400هـ- 1980م، وعنها أيضاً صدرت الطبعة الثانية الموسَّعة سنة 1409هـ- 1989م.
(4) معارج التفكر ودقائق التدبُّر…، عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، دار القلم -دمشق  ط 1 / 1420هـ- 2000 م، 1 /6.. وتجدر الإشارة إلى أن الصادر منه الآن هو الأجزاء الستة الأولى فقط (انتهت إلى سورة الفرقان)، وأن دار القلم توالي إصداره، وينتظر أن تبلغ أجزاؤه خمسة عشر جزءاً بإذن الله.
-----------------------
والشيخ
الميداني في تفسيره هذا طويلُ النَّفَس.. يسلك في شعاب المعاني طرقاً شتى، ولكنه في النهاية يرجع إلى تلخيص موضوع السورة الأساس، ومحورها الرئيس، فيما سماه (شجرة موضوع السورة).

وأحب أن أنوِّه في ختام هذا العرض السريع لما اختره من الإسهامات الحديثة في هذا المجال- إلى أنه ليس على سبيل الحصر والاستيعاب، ولا على سبيل التفضيل لما ذكرته على حساب ما لم أذكره.. بل هو على سبيل التمثيل فقط..

ولا ريب أن ثمة جهوداً أخرى، يستحق كثير منها التنويه والدرس.. ولكنني أكتفي الآن بهذا المقدار، الذي أعتقد أنه كافٍ -بإذن الله- إلى حين!

وأعود الآن إلى ثاني نوعي علم المناسبة.. وهو المناسبة بين السور، والمصنفات المستقلة فيه قليلة حتى الآن..

وفي ذلك يقول الشيخ الغماري -نقلاً عن الإمام البقاعي-:
((.. وأول مَنْ أفرد هذا النوع بالتأليف -فيما أعلم- العلامة أبو جعفر ابن الزبير الأندلسي شيخ العلامة أبي حيان، ألف كتاباً سماه (البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن)*.
____________
* ذكره البقاعي في نظم الدرر (1/6) باسم (المعلم بالبرهان في ترتيب سور القرآن) ، وذكره السيوطي في الإتقان (2/976) بالاسم الذي أورده الغماري ، وقد طبعته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1408?- 1988م بتقديم وتحقيق دكتور سعيد الفلاح المدرس بالجامعة الزيتونية بتونس بعنوان البرهان في تناسب سور القرآن .كما طبعته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب عام 1410هـ- 1990م بدراسة وتحقيق الأستاذ محمد شعباني .

** طبع ، غير مرة ، تحت عنوان : (تناسق الدرر في تناسب السور) ، وهو مأخوذ من أصله (قطف الأزهار في كشف الأسرار) والذي جمع فيه السيوطي الكلام على نوعى علم المناسبة (الآيات والسور).
-------------------------------

ثم كتب الحافظ السيوطي كتابه (تناسق السور) ** لخَّصه من كتابه (قطف الأزهار)، وكتابي هذا ثالث كتابٍ في هذا العلم الشريف، ألهمنيه الله، وله الحمد والمنة)) (1).

ثم قال الشيخ -رحمه الله-:
((وهو (أي هذا النوع الثاني من نوعي علم المناسبة) أنواع ثلاثة:
أولها: تناسب بين السورتين في موضوعهما، وهو الأصل والأساس.

ثانيها: تناسب بين فاتحة السورة والتي قبلها، كالحواميم.

ثالثها: مناسبة فاتحة السورة لخاتمة ما قبلها، مثل: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ}.. {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} و: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}.. { لِإِيلافِ قُرَيْشٍ}.

ويوجد نوع رابع من المناسبة، وهو مناسبة فاتحة السورة لخاتمتها، أفرده السيوطي بالتأليف، وكتب فيه جزءاً صغيراً سماه (مراصد المطالع في تناسب المقاطع والمطالع).

ويدخل في هذا النوع:
ردُّ العَجُز على الصدر، وهو من المحسِّنات البديعية، وسننبه على شيء من ذلك في محله من هذا الكتاب، والله الموفق إلى الصواب)) (2).

قلتُ:
هذا كلامٌ حسن، لولا أن ما ذكره الشيخ في النوع الرابع -وهو مناسبة فاتحة السورة لخاتمتها- أقرب إلى أن يدخل في النوع الأول من نوعى علم التناسب الرئيسيين، وهو مناسبة آي السورة الواحدة بعضها لبعض، حتى تبدو كالبناء المتكامل -كما سبق معنا-.. فالكلام فيه -أي في النوع الرابع من النوع الثاني- في صميم بِنْية السورة الواحدة، من غير نظر إلى علاقتها بما قبلها أو ما بعدها… والله أعلم.
____________
(1) جواهر البيان، ص 16.

(2) السابق، ص 16، 17.
------------------------

ومهما يكن من أمر.. فلبعض العلماء اعتراضٌ على هذا النوع الثاني برُمَّته، وسوف أعرض لهذا الرأي، وأبين وجه الصواب فيه عند الكلام الموسَّع عن أنواع التناسب.. والله الموفق والمعين.

وهذا الكلام السابق كلُّه يتعلق بتاريخ التطبيق العملي لهذا الفن، وأما على مستوى (التنظير) و (التقعيد) له، ومحاولة ضبط معالمه الفنية، وقواعده المنهجية، التي يمكن أن يترسَّمها من يريد المساهمة فيه بوجه.. فثمة كلامٌ قديم حوله في كتب علوم القرآن، ولا سيما (البرهان) للزركشي، الذي خصص له النوع الثاني بعد (معرفة أسباب النّزول) مباشرة (1)..

وقد استفاد منه السيوطي -وزاد عليه بعض الشيء- في (الإتقان)، حيث خصص له النوع الثاني والستين (2).. وكل من كتب في هذا الفن بعدهما عالةٌ عليهما في أصل المادة، وإن لم يخل الأمر، أحياناً، من إضافة هنا أو هناك!

ولا يتسع المقام هنا لتعداد مَنْ كتبوا فيه من المعاصرين؛ إذ إن الكتابة فيه (تنظيراً وتطبيقاً) قد اتسعت جداً؛ فلا يكاد يخلو كتاب في علوم القرآن من فصلٍ عنه.. ولكن الإضافة الحقيقية فيه قليلة -مع الأسف-.

ولعل من أبرز ما يمكن أن يرصد في هذا السياق، كتابة الأستاذ الجليل الدكتور الشيخ محمد عبد الله دراز -رحمة الله عليه-، في كتابه المهم (النبأ العظيم)، والذي عرض فيه لقضية التناسب عرضاً فائق الجودة، وحاول تطبيقها على سورة البقرة -أطول سور القرآن الكريم على الإطلاق-، فوفِّق في ذلك توفيقاً عظيماً.. كما سلفت الإشارة إلى ذلك غير مرة.. فجزاه الله عن كتابه ودينه خير الجزاء.
____________
(1) انظر: البرهان، 1/ 35 : 52.

(2) انظر: الإتقان، 2 / 976، 991.
---------------------

ولكن المساهمة الأعظم في تقديري في هذا السياق، هي -كما سلف أيضاً- تلك التي قدَّمها الأستاذ الجليل الشيخ عبد الحميد الفراهي -رحمة الله عليه-، ولاسيما في كتابه فائق الأهمية -على صغر حجمه- (دلائل النظام)، والذي هدف فيه إلى تطوير علم المناسبة، والمساهمة في (إنضاجه) فيما سماه (علم النظام).. وهو ما سأعرض له بالتفصيل المناسب بإذن الله تعالى.
يتبع إن شاء الله...



مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: كتابات في القرآن-
انتقل الى: