القراءات الشاذة: أحكامها وآثارها
د. إدريس حامد محمد
المصدر: جامعة الملك سعود، عمادة البحث العلمي، مركز بحوث كلية التربية، رقم (201)، 1424هـ-2003م.
-------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمدلله على جزيل نعمائه والصلاة والسلام على أشرف رسله وأنبيائه وعلى آله وأصحابه الذين حفظوا القرآن وحافظوا عليه من التبديل والتحريف فكانوا بحق أعلامًا يهتدى بهديهم ومنارات يقتفى آثارهم اللهم ارحم الأسلاف ووفق أتباعهم ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد
لا شك أن القراءات القرآنية من أهم الموضوعات التي يتناولها الدارسون لتعلقها بكتاب الله تفسيرًا وبيانًا لذا أحببت أن أكتب حول (القراءات الشاذة أحكامها وآثارها) رغبة مني في خدمة كتاب الله، ولجدة الموضوع حيث لم يفرده أحد بالدراسة التي تتناول جل أحكام هذه القراءة وكذا الآثار التي تنتج عن هذا النوع من القراءات في العلوم الشرعية وذلك حسب علمي المتواضع.
فجمعت ما يتعلق بهذا الموضوع ليكون دراسة مستقلة.
هذه الدراسة:
بينت هذه الدراسة مفهوم القراءات، ومفهوم الشذوذ.
ثم تعرضت لجل الأحكام التي تتعلق بالقراءات الشاذة.
من حيث نشأتها، مصدرها، أهميتها، أنواعها، وتبيين التناقض بينها وبين القراءات المتواترة إن وجد.
كما تعرضت إلى بيان فوائدها، والاحتجاج لها.
كما بينت آراء العلماء في الاحتجاج بها في مجال العلوم الأربعة: التفسير والفقه، واللغة، والتاريخ.
كما استعرضت أقوال علماء المذاهب في بيان حكم القراءة بها في الصلاة وخارجها وذكرت آراء العلماء واختلافاتهم في هذا الشأن ثم خرجت ببيان الرأي الراجح من ذلك.
وأخيرًا تناولت آثار القراءات الشاذة في علم التفسير والأحكام الفقهية وكذا علوم اللغة.
تمهيد:
لقد عرف علم شواذ القراءات وتحددت معالمه في زمن ابن مجاهد المتوفى (324)هـ وإن كان موجودًا قبله، فقد ألف كتابه السبعة في القراءات المتواترة، وكذا كتابًا آخر سماه الشواذ، وبه تنوعت القراءات القرآنية إلى أكثر من نوع:
أعظم أنواعها القراءات المتواترة، والتي يقابلها القراءات الشاذة.
وبينهما أنواع منها: كالصحيح، والمستفيض.
إن ما نقل بطريق التواتر يفيد القطع لأن نقتله جمع عن جمع تحيل العادة اتفاقهم على الكذب.
أما ما نقل بطريق الآحاد وهو ما يسمى بالشاذة فهو محل اختلاف بين العلماء وسيكون مجال البحث بمشيئة الله بيان ما يخص أحكام القراءات الشاذة وآثارها على العلوم الشرعية.
مفهوم القراءات الشاذة
القراءات في اللغة والاصطلاح:
القراءات جمع مفرده قراءة، وأصل مادتها تعود إلى (ق ر ى) وهو أصل صحيح يدل على جمع واجتماع... ومنه القرآن كأنه سمي بذلك لجمعه ما فيه من الأحكام والقصص وغير ذلك. [1، ج5 ص ص78-79].
فالقراءة مأخوذة من قرأ يقرأ قراءة وقرآنًا فهي مصدر من قولك قرأت الشيء إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض [2، ج1 ص101].
وفي اللسان جاء معنى قرأت القرآن: لفظت به مجموعا [3، ج1 228].
وفي الاصطلاح:
ذكر علماء القراءات تعريفات متعددة لها بعضها قريب من المقصود والبعض الآخر يبعد قليلاً وهناك تعريفات متداخلة لكن أبرز هذه التعريفات هي:
1- تعريف ابن الجزري حيث قال (القراءات علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها بعزو الناقلة) [4، ص3].
2- تعريف القسطلاني إنه (علم يعرف به اتفاق الناقلين لكتاب الله واختلافهم في اللغة والإعراب والحذف والإثبات والتحريك والإسكان والفصل والاتصال) [5، ج1 ص170].
3- وأخيرًا تعريف عبدالفتاح القاضي قال عنها (علم يعرف به كيفية النطق بالكلمات القرآنية وطريق أدائها اتفاقًا واختلافًا مع عزو كل وجه لناقله) [6، ص7].
الشذوذ في اللغة والاصطلاح:
مشتق من مادة (ش ذ ذ)، وهو مصدر من شذ يشذ شذوذًا، تقول شذ الرجل إذا انفرد عن القوم واعتزل جماعتهم [7، ص332].
فالشذوذ يدل على الانفراد والندرة [8، ج1 ص96]، والتفرق والخروج على القاعدة والأصول فكل شئ منفرد فهو شاذ [3، ج5 ص28-29].
والشاذ في الاصطلاح يختلف مفهومه حسب كل علم، فهو عند النحاة غيره عند علماء السنة، ويختلف عنهما لدى علماء القراءات.
فالقراءات الشاذة هي التي تقابل القراءات المتواترة.
وعرفت بأنها (من فقدت ركنًا أو أكثر من أركان القراءة المقبولة [9، ج1 ص129].
كما عرفت بأنها كل قراءة بقيت وراء مقياس ابن الجزري الذي قال (... ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم [10، ج1 ص9].
فالقراءة الشاذة هي: التي لم يصح سندها وخالفت الرسم ولا وجه لها في العربية [9، ج1 ص242].
كما عرفت بأنها كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً ولم يتواتر سندها [10، ج1 ص9].
إن التعريف الذي تطمئن إليه النفس في تعريف القراءة الشاذة هو: القراءة التي صح سندها ووافقت اللغة العربية ولو بوجه وخالفت المصحف.
وهذا التعريف هو الذي اعتمده ابن تيمية [12، ج13 ص393-394] وابن الجزري [4، ص16-17] كما اعتمده قبلهما مكي القيسي [13، ص10، 103] وأبو شامة المقدسي [15، ص145،171].
وبهذا يعلم أن القراءة الشاذة عند الجمهور هي ما لم يثبت بطريق التواتر [11، ص10].
ولعل السبب في تسميتها بالقراءة الشاذة يعود إلى أنها شذت عن الطريق الذي نقل به القرآن حيث نقل بجميع حروفه نقلاً متواترًا.
قال ابن الجزري: شذت عن رسم المصحف المجمع عليه وإن كان إسنادها صحيحًا [4، ص16-17].
نشأة القراءات الشاذة
كانت القراءات في العهد النبوي وعهد الشيخين نبعًا يلبي حاجة ماسة عند القبائل ويقع منهم مواقع حسنة ويوقفهم على أساليب القرآن الكريم، ولكن تنوع هذه القراءات خاصة في عهد الخليفة الثالث أخذ يسير في منحى يناقض مسوغ وجودها الذي هو التيسير على الأمة.
وأصبح يثير من المخاوف على ضياع شئ من القرآن بقراءاته المتعددة وكذا الخوف على وحدة المسلمين ما استنهض الخليفة عثمان لدرء هذه الفتنة وذلك بتوحيد المصاحف على القراءات المجمع عليها [15، ص31].
ومن هنا بدأ يظهر الشذوذ على كل قراءة لم تحظ بالإجماع فقد ذكرت الروايات أن عثمان أبعد عن قرآن المسلمين عددًا من الروايات التي لم يستفض نقلها عن النبي عليه الصلاة والسلام وإعلان بطلان العمل بها وإرساله لكل مصر قارئًا تتفق قراءته والنسخة التي أرسلت إليه، حتى أصبح من ذلك الحين رسم المصحف العثماني شرطًا أساسيًا من شروط صحة القراءة لا توافقه اعتبرت من الشاذ.
وبقى خارج حدود الرسم عدد من الحروف كما جاءت مصاحف كل من أبي وابن مسعود وغيرهما، وقد ذكر المتتبعون لشأن القراءات أن معظم الحروف التي اشتملت عليها هذه المصاحف لم تشهد العرضة الأخيرة التي عرضها الرسول عليه الصلاة والسلام على جبريل وإن كان أصحاب هذه المصاحف تمسكوا ببعض القراءات ولم يتخلوا عنها لأنهم سمعوها بأنفسهم من النبي عليه الصلاة والسلام على جبريل وإن كان أصحاب هذه المصاحف تمسكوا ببعض القراءات ولم يتخلوا عنها لأنهم سمعوها بأنفسهم من النبي عليه الصلاة والسلام [16، ص20].
وإن كانت بعض هذه القراءات عبارة عن تفسير لألفاظ أو أحكام القرآن التي جعلها بعض الصحابة بجوار الآية مثل قراءة سعد بن أبي وقاص (وله أخ أو أخت) (من أم) [النساء: 12] فإنها تبين المراد بالأخوة هنا هو الأخوة للأم [10، ج1 ص29].
مما يفيد أن قرآنيتها ينسب إلى الآحاد [15، ص25] وبالتالي شذت عن الإجماع وشذت عن التواتر فليست من الأحرف السبعة، ولذلك كان يبدي الإمام الطبري حذره الشديد في قبول مثل هذه القراءة وأمثالها كما يتضح ذلك من قوله (لا نعلم ذلك صحيحًا من الوجه الذي تصح به الأخبار) [17، ج2 ص267].
ومع شذوذ هذه القراءات وخروجها عن الإجماع في الوقت المبكر إلا أن القراءة بها لم تتوقف عند عدد من القراء بل تمسكوا بها مقتنعين بأن ما صح عن النبي لا يمكن تجاهله، كما أشار إلى ذلك مكي القيسي بقوله (ولذلك تمادى بعض الناس على القراءة بما يخالف خط المصحف مما ثبت نقله [13، ص31].
وهكذا استمر الوضع ثلاثة قرون متتالية [15، ص38] إلى أن جاءت عوامل قوية أدت بها إلى الفصل التام عن المتواتر وتحديد معالمها وإطلاق الشذوذ عليها فقد كره كثير من علماء المسلمين حَمَلَتها وأطلقوا عليهم عبارات منفرة كقول ابن أبي عبلة (من حمل شاذ العلماء حمل شرًا كبيرًا) [18، ج1 ص19]، وتعرض بعضهم للضرب من قبل ولاة الأمر كما حصل لابن شنبوذ، إضافة لموتهم واحدًا تلو الآخر. وكان أول من أطلق عليها مصطلح الشذوذ هو الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره في مطلع القرن الرابع عندما تعرض لقراءة ابن مسعود في سورة إبراهيم (وإن كاد مكرهم) [آية 46] بالدال بدلاً من النون (بأنها شاذة لا تجوز القراءة بها لخلافها مصاحف المسلمين) [17، ج13 ص247].
وهكذا نشأت القراءات الشاذة وانحسرت دائرتها مع مرور الزمن وتحددت معالمها فأصبحت عِلما من العلوم الّتي لها أهميتها وأثرها الواضح في إثراء اللغة العربية والأحكام الشرعية، وكذلك إثراء علم التفسير.
مصدر القراءة الشاذة
لا شك أن مصدر القراءات القرآنية هو التلقي والسماع عن النبي عليه الصلاة والسلام كما تقرر ذلك بالأدلة القاطعة التي منها قوله تعالى: "وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً" [الإسراء: 106] وقوله "لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ" [القيامة: 16-18].
كما يتضح من حديث عمر وهشام وإقرار النبي عليه الصلاة والسلام لكل منهم بقوله (هكذا أنزلت) ما يؤكد أن القراءات مبنية على التلقي والرواية لا على الرأي والدراية ولا يمكن أن تثبت القراءات إلا بالتوقيف والتلقين والتلقي والأخذ والمشافهة والنقل والسماع [19، ج1 ص96].
وبهذا يعلم أن القراءات منزلة من عند الله تعالى وموحى بها إلى رسوله عليه الصلاة والسلام كما قال: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه"[1]، [وانظر 20، رقم 4992].
فالقراءات القرآنية المتواترة هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن الكريم وبالتالي مصدرها هو الوحي، وبالتالي القراءات سنة متبعة يأخذها المتأخر عن المتقدم عن النبي عليه الصلاة والسلام.
فما مصدر القراءات الشاذة؟ وهل هي من الأحرف السبعة؟ لم يقل بهذا أحد فيما وقفت عليه من المراجع، فلم يقل أحد أنها من الأحرف السبعة كما لم ينف أحد وجود شئ فيها من ذلك بل كان هناك توقف في هذا الشأن وسبب التوقف لأنّ بعض القراءات الشاذة قد تكون متواترة وشذوذها آت من جهة غير السند، لكن لا يمكن القطع بأن كثيرًا من الصحابة قرءوا القرآن بما يخالف رسم المصحف الذي جمع عليه الخليفة عثمان رضي الله عنه الناس وأمرهم به وذلك لأن الغرض من الجمع لم يكن لإلغاء القراءات الشفوية التي تلقوها من النبي عليه الصلاة والسلام، بل ترك الأمر لكل من أكد على قراءة معينة أنه سمعها من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقرأ بها كما سمعها [19، ج1 ص116].
ولذا يمكن القول بأن من القراءات التي أصطلح على تسميتها بالشاذ ما قرأه الرسول دون القطع بأفراد ذلك وأعيانه لعدم إجماع الصحابة عليه كما ذهب إلى ذلك ابن دقيق العيد بقوله (الشواذ نقلت نقل آحاد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلم ضرورة أنه صلى الله عليه وسلم قرأ بشاذ منها وإن لم يعين، قال فتلك القراءات تواترت وإن لم تتعين بالشخص فكيف يسمى شاذًا والشاذ لا يكون متواترًا [4، ص20-21] و[10، ج1 ص15].
ولا أحد يقطع بقرآنية هذه القراءات الشاذة خاصة بعد وصول القراءات المتواترة مقطوعًا بها، وبعد تحرير أقوال العلماء يتضح (أن القراءة الشاذة ولو كانت صحيحة في نفس الأمر فإنها مما كان أذن في قراءته. . . ثم أجمعت الأمة على تركها للمصلحة وليس في ذلك خطر ولا إشكال لأن الأمة معصومة من أن تجمع على خطأ) [4، ص23-24].
وبهذا يمكن القول بأن مصادر القراءة الشاذة تعتمد على ذاكرة الحفظة الذين سمعوها ممن قبلهم، ولم تحظ بالإجماع ولا النقل المتواتر فبقيت شاذة يفاد منها في إثراء اللغة والتفسير والأحكام الشرعية.
وحتى لا يتبادر إلى الذهن ذهاب شئ من القرآن دون حفظ فقد تكفل بحفظ كتابه بنفسه وهيأ له من الرجال الأفذاذ من يقومون بهذا الدور تصديقًا لقوله تعالى: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"، (سورة الحجر: 9) ولهذا يقول ابن الجزري (ولما خص الله تعالى بحفظه من شاء من أهله أقام له أئمة ثقات تجردوا لتصحيحه وبذلوا أنفسهم في إتقانه وتلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم حرفًا حرفًا لم يهملوا منه حركة ولا سكونًا ولا إثباتًا ولا حذفًا، ولا دخل عليهم في شئ منه شك ولا وهم وكان منهم من حفظه كله، ومنهم من حفظ أكثره، ومنهم من حفظ بعضه، كل ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم) [10، ج1 ص6].
أهمية القراءات الشاذة
القراءة الشاذة هي التي فقدت عنصرًا هامًا من عناصر الصحة والسلامة ولكن هذا لم يبعدها كثيرًا عن الإفادة منها مع القراءات المتواترة بل كانت رافدًا من روافد علوم اللغة العربية وعلوم الشريعة، فأهميتها تظهر في المؤلفات العلمية على اختلاف تخصصاتها: فكتب التفسير تعنى بالشواذ وتنقل الكثير منه وتوجهه وتفيد في شرح المعاني وترجيح الآراء، وكتب معاني القرآن وإعرابه تهتم كثيرًا بالشواذ [21، ص468].
كما أن كتب الفقهاء مليئة بها حيث أن وجودها أدى إلى اختلافهم في الاحتجاج بها، وإن لم يقبلوها على أنها قرآن، وإنما قبلوها على أنها أخبار أو تفسير للقراءة [22، ص3،4].
أما كتب اللغة والنحو فاهتمامها بالقراءات الشاذة لا يخفى على أحد يقول محمد عضيمة (القرآن الكريم حجة في العربية بقراءاته المتواترة وغير المتواترة، كما هو حجة في الشريعة، فالقراءة الشاذة التي فقدت شرط التواتر لا تقل شأنًا عن أوثق ما نقل إلينا من ألفاظ اللغة وأساليبها، وقد أجمع العلماء على أن نقل اللغة يكتفى فيه برواية الآحاد) [23، ق1 ج1 ص2].
ثم إن هذه الأهمية للقراءات الشاذة تكمن في النقاط الآتية:
1- عناية المفسرين بها جنبًا إلى جنب مع القراءات المتواترة في كتبهم.
2- أنها تدل على معنى صحيح لا تدل عليه القراءة المتواترة.
3- قد توضح أحيانًا المقصود من القراءة المتواترة[2].
4- ثم إفرادها في مؤلفات خاصة جمعت الشواذ من أول القرآن إلى آخره[3].
5- العناية بتوجيهها التوجيه النحوي وبيان كثير من آثارها على اللغة [15،24].
6- الاهتمام بالقراءات الشاذة وبيان آثارها على الأحكام في الفقه الإسلامي [انظر مرجع 22].
أنواع القراءات الشاذة
من خلال التتبع والاستقراء في المصادر الخاصة لشواذ القراءات وكذلك بالمصادر التي اهتمت ببيان أنواع القراءات المردودة يتبين أنها تنقسم إلى أربعة أنواع.
النوع الأول: القراءات الشاذة المشهورة: وهي التي وافقت العربية والرسم العثماني وصح سندها إلا أنها لم تبلغ درجة التواتر ومن أمثلتها قراءة ابن عباس في آخر سورة التوبة قوله تعالى: "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ" القراءة المتواترة بضم الفاء، والقراءة الشاذة بفتح الفاء (أنفسكم) [التوبة: 128].
النوع الثاني: القراءات التي جاءت بطريق الآحاد وتنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: كل قراءة لم يصح سندها وإن وافقت العربية والرسم العثماني، يمثل لها بقراءة ابن السميفع في قوله تعالى: "فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً" [يونس: 92].
قرئت شاذة (ننحيك) بالحاء المهملة، وخلفك بفتح اللام [10، ج1 ص16. فهذه وصفت بأنها ضعيفة مردودة، وسمى هذا النوع السيوطي بأنه موضوع [9، ج1 ص216].
القسم الثاني: كل قراءة صح سندها في الآحاد ولها وجه في العربية وخالفت رسم المصحف، ويمثل لها بأمثلة منها قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء في سورة الليل "وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُْنْثَى" [آية: 3] بحذف لفظ (ما خلق)[4] [10، ج1 ص14] وكذلك قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي ابن كعب وابن عمر وابن الزبير وغيرهم (فامضوا إلى ذكر الله) بدلاً من (فاسعوا) [الجمعة: 9].
قال أبو الفتح في هذه القراءة تفسير للقراءة العامة، أي اقصدها وتوجهوا، وليس نية دليل على الإسراع [26، ج2 ص322].
وكقراءة ابن عباس ((وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا، وأما الغلام فكان كافرًا)) [الكهف 79 - 80] [20، رقم 4725،4726].
وفي بيان هذا النوع من القراءات قال ابن الجزري (فهذه القراءة تسمى اليوم شاذة لكونها شذت عن رسم المصحف المجمع عليه وإن كان إسنادها صحيحًا فلا تجوز القراءة بها لا في الصلاة ولا في غيرها) [4، ص16-17].
قلت والسبب في عدم جواز القراءة بها مع صحة السند لأنها لم تبلغ درجة التواتر إن كل قراءة وافقت العربية وخالفت الرسم، صح سندها أم لم يصح فهي شاذة. أما القراءة التي تخالف العربية بكل لهجاتها فلا توصف بأنها قراءة بل تعتبر ضربًا من ضروب الوضع والاختلاق [27، ص31].
وفيه يقول ابن الجزري (ولا يصدر مثل هذا إلا على وجه السهو والغلط وعدم الضبط، ويعرفه الأئمة المحققون والحفاظ الضابطون وهو قليل جدًا بل لا يكاد يوجد وقد جعل بعضهم منه رواية خارجة عن نافع (وجعلنا لكم فيها معائش) بالهمز [الأعراف: 10] [10، ص16]، وقد حكم ابن مجاهد بغلط هذه الرواية فقال (هو بالياء من غير همز ولا مد لكل القراء وشذ خارجة فرواة عن نافع بالهمز وهو ضعيف جدًا بل جعله بعضهم لحنًا) [28، ص278].
النوع الثالث: القراءات المدرجة:
المقصود بالإدراج، الإدخال والتضمني، مشتق من مادة (د ر ج) تقول أدرجت الشيء في الشيء بمعنى أدخلته فيه [1، ج2، ص275] و[3، ج1، ص962].
أما معناه في اصطلاح القراء: أن يزاد في الكلمات القرآنية على وجه التفسير [9، ج1 ص243]، فيزاد في الآية كلمة أو أكثر، ويسمى تساهلاً بأنه قراءات، ومن أمثلته:
• قراءة ابن مسعود ((فصيام ثلاثة أيام متتابعات)) [المائدة: 89] بزيادة ((لفظ متتابعات)) [29، ج1 ص47].
• قراءة سعد ابن أبي وقاص ((وإن كان رجل يورث كلالة وله أخ أو أخت – من أمه)) [النساء: 12 بزيادة (من أمه [9، ج1 ص364].
• وكقراءة ابن الزبير (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر – ويستعينون بالله على ما أصابهم – وأولئك هم المفلحون) [آل عمران: 104] بزيادة ((ويستعينون بالله على ما أصابهم)) [27، ص31].
ولعل هذا النوع لا يوصف بأنه قراءة بل هو ضرب من التفسير والبيان للآيات.
النوع الرابع:
هو ما وافق العربية والرسم ولم ينقل البتة، وهذا النوع أضافه ابن الجزري ورده بشدة فقال: (فهذا رده أحق، ومنعه أشد ومرتكبه مرتكب العظيم من الكبائر. . . إلى أن قال: ومن ثم امتنعت القراءة بالقياس المطلق وهو الذي ليس له أصل في القراءة يرجع إليه، ولا ركن وثيق في الأداء يعتمد عليه [10، ج1 ص17].
يتبين من خلال عرض هذه الأنواع، أن القراءات الشاذة منها ما هو مشهور لصحة سنده وموافقته للغة ورسم المصحف يقبل في التفسير وبيان الأحكام الشرعية، واللغوية، ولا يقرأ به قرآنًا لنقصان رتبته عن درجة التواتر.
ومنها ما نقل نقل آحاد لكنه صحيح السند مقبول مثل سابقه، ومنها ماهو ضعيف السند، ولا وجه له في العربية فلا يلتفت إليه، يقول ابن الجزري مبينًا هذه المعاني في أنواع شواذ القراءات (والقسم الثاني: ما صح نقله عن الآحاد وصح وجهه في العربية وخالف لفظ خط المصحف، فهذا يقبل ولا يقرأ به لعلتين: إحداهما أنه لم يؤخذ بإجماع، وإنما أخذ أخبار الآحاد ولا يثبت قرآن يقرأ به بخبر واحد، والعلة الثانية: أنه مخالف لما قد أجمع عليه فلا يقطع على مغيبه وصحته، وما لم يقطع على صحته لا يجوز القراءة به ولا يكفر من جحده، ولبئس ما صنع إذ جحده، قال (والقسم الثالث) هو ما نقله غير ثقة، أو نقله ثقة ولا وجه له في العربية فهذا لا يقبل، وإن وافق خط المصحف [10، ج1 ص14].
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل يوجد تناقض بين القراءات المتواترة والشاذة؟
وقد أجاب الباحثون عن القراءات بما مفاده: أنه في الغالب الأعم لا يوجد تناقض بين القراءات المتواترة والشاذة حيث إن مفهوم التناقض هو اختلاف القضيتين إيجابًا وسلبًا، مع وحدة الزمان والمكان، يكون إحداهما صادقة والأخرى كاذبة، وإنما الذي يوجد بين القراءات المتواترة والشاذة هو التعدد:
تارة في الصور اللفظية كقوله تعالى: "فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ" المتواترة.
(فول وجهك تلقاء المسجد الحرام) الشاذة.
وتارة في وجوه المعاني كقوله تعالى "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً" المتواترة بالفاء.
(إني جاعل في الأرض خليقة) الشاذة بالقاف.
وتارة في الوقائع التاريخية كما في قوله تعالى "غُلِبَتِ الرُّومُ" المتواترة بضم الغين وكسر اللام.
(غلبت الروم) الشاذة بفتح الغين واللام.
فليس بين القراءتين: المتواترة والشاذة تضاد وسيأتي مزيد من البيان عند الحديث عن آثار القراءات الشاذة في التفسير والأحكام [30، ص101].