أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: الخــــــاتمة الجمعة 26 فبراير - 2:29 | |
|
الخــــــاتمة: بعد هذه الجولة العلميَّة مع شيخ القُرَّاء شمس الدّين محمّد بن الجزري في عصره وحياته وجهوده في علم القراءات إقراءً وتأليفاً وأراءً.
نخلُصُ إلى جملةٍ من النَّتائج التاليَّة: 1- إنَّ العصر الذي احتضن ابن الجزري فعاش فيه وتأثَّر بكل ظروفه وأحـواله، هو عصر دولة المماليك التـي قامـت في مصر والشام وهي دولة قد سادها تدهور سياسي كبير نتيجة لضـعف مَنْ جلس على عرش الحكم، هذا بالإضافة إلى ما فعله التتار في تلـك الديار من بطش واحتلال وتشريد لأهلها.
وقد ساعد هذا الضعف السياسي في تدهور الناحية الاجتماعية فكثر فيه أهل الفساد وعز فيه أهل الصَّلاح، وغزت المُجتمع مظاهر لم تُعرف في مجتمع إسلامي سابق.
وبالرَّغم من تدنّي الحالتين السياسيَّة والاجتماعيَّة إلاَّ أنه ثمَّة ازدهار نسبي للحالة الثقافيَّة العلميَّة حيث أوجدت تلك الفترة كماً هائلاً من العلماء الأفذاذ والأئمة الذين عزَّ وجودهم في فترات أخرى، كابن تيمية، وابن القيم، وابن السبكي، وابن حجر العسقلاني، وغيرهم.
2- إنَّ الإمام ابن الجزري لم يكن أحد أعلام القراءات فحسب بل هو أيضاً أحد أعلام الحديث وأحد أعلام التاريخ وظهر ذلك من خلال مؤلفاته وإسماعاته الحديثية ومن خلال كتاباته التاريخية، غير أن كثرة إسهاماته في علم القراءات وقيمة جهوده فيه جعلته يبرز في سماء القُرَّاء لا في سماء غيرهم، وكيف لا؟ وهو الذي تفرَّد بعلو الإسناد ومعرفة الرُّواة المُتقدمين والمُتأخرين من القُرَّاء، وهو الذي آلت إليه رئاسة القراءات في زمانه. 3- لقد تأثر ابن الجزري كثيـراً بأغلب شيوخ القراءات غير أن تأثره بالإمامين: أبي عمرو الداني والقاسم الشاطبي كان أكثر ولذا فقد عمل على أن تكون جهوده في إتمام وإكمال أعمالهما، كما تأثر أيضاً كثيراً بالإمام أبي عبد الله الذهبي الذي آلت إليه معرفة أحوال رواة القراءات في الشرق الإسلامي.
هذا ونجد أن كل مَنْ جاء بعد ابن الجزري من أصحاب القراءات كانوا متأثرين به آراءً ومنهجاً وكيف لا؟ وكل أسانيد القراءات لا تعلو -من بعده- إلا إذا أسندت من طريقه.
4 - لقد اتَّسمَت مؤلفات ابن الجزري في علم القراءات بالتَّنوع والشُّمول في موضوعات علم القراءات، فقد تناولت مؤلفاته القراءات بأنواعها: السبع والعشر والثلاث المتممة للعشر والشاذة، كما تناولت مواضيع أخرى ذات علاقة وطيدة بالقراءات، فقد كان منها في علم التجويد ومنها ما هو في علم الرسم العثماني ومنها ما هو في تاريخ القراء وأسانيدهم.
واتَّسمَت مؤلفاته أيضاً بالتنوع في طريقة التأليف، فكان منها المنظوم كما كان منها المأثور، وكان منها المؤلف الجديد، كما كان منها الشروح والمختصرات لمؤلفات غيره.
واتَّصفَ ابن الجزري بغزارة الإنتاج والتأليف في ميدان القراءات وما يتعلق بها، فقد بلغت مؤلفاته في ذلك إجمالاً ثمان وأربعين مؤلفاً منها ستاً وثلاثين في القراءات بأنواعه وتسعة في علم التجويد وأربعة في تراجم القُرَّاء وأسانيد القراءات واثنان في الرَّسم القُرآني.
وبالرغم من أهميَّة ما ألّف ابن الجزري في علم القراءات وقيمته العلميَّة فإنه لم يلق العناية اللازمة والاهتمام الكافي فتحقق مؤلفاته؛ حيث بقي أزيد من عشرين مؤلفاً في القراءات مركوماً في مكتبات التراث، ينتظر مَنْ يُحققه.
هذا في الحين الذي نجد ما حُقّق من كتبه لم يكن بذلك التَّحقيق العلمي إذ لا يعدو أن يكون ذلك إلا إخراجاً للنَّص دون مقابلات النُّصوص بعضها ببعض، ودون ملءٍ لفراغاتها ودون تصحيح ما صحَّفه النُّسَّاخ ووهموا فيه.
5- تظهر قيمة مؤلفاته في قيمة موارده وكثرتها وتنوعها ودقة التوثيق منها، فابن الجزري لا يعتمد مؤلفاً في القراءات إلا بعدما يرويه بالسند الصحيح المتصل عن مؤلفه، ولا يكتفي بهذا فحسب بل لابد من قراءة القرآن بمضمونه على شيوخه مشافهة إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وهذا أبرز ما يميز موارد ابن الجزري في القراءات.
وتظهر كذلك قيمة مؤلفاته في تاريخ القُرَّاء في اعتماده على مصدر مُشاهدة الأحداث والمُشاركة فيها، وأيضاً المُساءلة والمُشافهة والخُطوط والوجادة.
وهذا ما جعل ابن الجزري متفرداً فيما ينقله من أخبار عن أحوال القراء خاصة أولئك الذين عاصرهم ولقيهم.
هذا بالإضافة إلى اعتماده على مؤلفات سابقيه التاريخية والقرآنية واللغوية.
ونظراً لدقة نقل ابن الجزري عن سابقيه، وتحليه بالأمانة العلمية عند إيراده أقوال غيره والاستشهاد بها فإنه يمكن اعتماد نقول ابن الجزري كمصادر للآراء والأقوال التي تضمنتها تلك المؤلفات المفقودة الغابرة.
6 - يعتبر تقسيم ابن الجزري للقراءات الصحيحة إلى قراءات صحيحة مستفيضة متلقاة بالقبول وقراءة صحيحة غير مستفيضة من أهم تقسيمات القراءات إذ به يميز بين نوعين من أنواع القراءة، إحداهما تعد ضمن القراءات المقبولة وهي ما استفاضت وتُلقيت بالقبول والأخرى تُعد في عداد القراءات المردودة وهو ما وقعت فيه التسوية بينهما في تقسيمات غيره.
7- تعتبر جملة ضوابط ابن الجزري لأركان القراءة الصحيحة تطوراً أفسح المجال لقبول قراءات جاءت على لغات غير فصيحة، أو على مذهب غير شائع ولا مشهور أو متكلف في تأويله وتقديره عند النحاة.
كما أفسح المجال لقبول قراءات ليست متواترة حيث عد القراءة الصحيحة السند المستفيضة المتلقاة بالقبول عند الأئمة قراءة مقبولة وليس لأحد إنكارها أو ردها.
وأيضا كان ابن الجزري بضبطه لركن الموافقة للرسم العثماني قد فصل فيما يمكن أن يغتفر من مخالفة الرسم من حذف أو زيادة أو إبدال، وهو ما وقع في مُسمَّى الموافقة الاحتمالية.
8 - يعتبر ابن الجزري حين قرر أن القراءات العشر قراءات متواترة عن الأئمة القراء وعن النبي (صلى الله عليه وسلم) وليس يتواتر غيرها، وأن تواترها واقع أصولاً وفرشاً حال اجتماع القراء وحال افتراقهم، يعتبر بهذا القرار قد حسم الخلاف الدائر في المتواتر من القراءات وذلك بناء على محاجته للأئمة المخالفين وتفنيد أقوالهم وإقامة الدَّليل على صحة ما ذهب إليه.
9- إنَّ رأي ابن الجزري في المُراد بالأحرف السبعة هو أنها سبعة أوجه يقع بها التَّغاير والاختلاف وأن المصاحف العثمانية لم تشتمل إلا على بعضها كما أن قراءات الأئمة العشرة لا تمثل إلا جزءاً منها خلافاً للطبري والباقلاني ومَنْ وافقهما. والذي يميَّز رأي ابن الجزري في الأحرف السَّبعة هو مجال استنباطها حيث استنبط أوجه الخلاف بين الأحـرف من خـلال استقرائـه للقراءات جميعها، المتواترة والصحيحة والشاذة، وهو على خلاف ما ذهب إليه أبو حاتم وابن قتيبة اللذين اعتبرا اللغات العربية أصلاً لاستنباط أوجه الخلاف بين الأحرف السبعة.
10- ومن أهم الجهود التي قام بها ابن الجزري حسم الخلاف وفض النزاع الحاصل في تواتر القراءات الثلاث، حيث قدم الدليل الواقعي على تواترها بأن عرض جملة مَنْ قرأ بها في كل طبقة من طبقات أسانيدها، وبذلك تهاوت أدلة القائلين بعدم تواترها.
11- لقد تميَّزت طُرق القراءات عند ابن الجزري بالجمع والاستقراء حيث بلغت نحو الألف طريق، واتَّسمَت أيضاً بكونها أصح الطرق وأعلاها سنداً ولم ترو إلا عن ثقةٍ عاصرَ شيخهُ الذي رواها عنه ولقيه، وهذا على خلاف مَنْ سبق ابن الجزري حيث كانوا إما جامعين لطرق كثيرة دون اشتراط الصحة فيها، وإما مشترطين الصحة دون جمع لكل الصحيح منها.
12- لقد توسط ابن الجزري في مسألة جمع القراءات حيث ذهب إلى القول بالجواز حال التلقي لا غير، وقيد ذلك بألا يجمع القراءات إلا مَنْ كان قد أفردها واحدة واحدة، وهو قول وجيه إذ سلم من اعتراضات المانعين وأفاد من دواعي المجيزين بإطلاق.
13- يُعتبر مذهب ابن الجزري في كيفية الجمع بين القراءات أحسن مذاهب الجمع إذ جمع مزايا المذهبين الآخرين وطرح ما يعاب فيهما، فكان غاية في الاختصار المؤدي إلى كسب الوقف أثناء الجمع، ومحافظا على حسن التلاوة وفهم الآيات حيث لا يقف إلا على محاسن المعاني، ولذلك فإنه المذهب المعتمد اليوم في مدارس الإقراء وكليات القرآن الكريم في العالم الإسلامي.
14- يذهب ابن الجزري إلى مـنع تخليط القراءات والتلفيق بينها إذا تعلقت الأحرف بعضها ببعض أو كانت القراءة على سبيل النقل والرواية، والى جوازه في غير ذلك، وهو مذهب في غـاية الوجاهة، إذ بـذلك لا تخرج القراءة عما تجيزه قواعد العربية، ولا يقع به ما يكون كـذباً في الرواية وتخليط على أهل الدراية.
15- ومن خلال جملة جهود ابن الجزري في علم القراءات سواء كانت مؤلفاته أو أراؤه ومباحثه، ومن خلال وجاهتها وقيمتها العلمية التي جعلتها محل قبول لدى كل من جاء بعده، بل جعلت أغلب مسائل هذا العلم تستقر عليها ومن خلال جمعه لكل طرق القراءات الصحيحة، من خلال كل هذا يمكننا أن نعتبر ابن الجزري أحد الأقطاب المُجددين للقراءات من بعد فتور اعترى همم أهلها وإهمال أصاب الكثير من مسائلها وتخلِي الناس عن أغلب طُرقها ورواياتها.
توصيات ومقترحات بعـد هـذه الدراسة الموجزة لـجـهـود ابـن الـجـزري في علم القراءات رأيت أن أقـدم جملــة من التوصيات والمقترحات التي من شأنها أن تقدم خدمة لعلم القراءات في الجزائر خاصة وفي العالم الإسلامي عامة، والتي من شأنها أن تذلل صعاب هذا العلم وتجعله في متناول مَنْ يريد ذلك.
وجملة هذه التوصيات والمقترحات نوجزها فيما يلي: 1- العمل على تحقيق مخطوطات ابن الجزري التي لا تزال مركومة في مكتبات التراث العالمية.
2- العمل على إعادة تحقيق ما طُبع من مؤلفاته تحقيقاً علمياً يعمل على مقابلات نُسخها، وملأ فراغاتها، وتصحيح أخطاء النُّسَّاخ فيها.
3- إنشاء مخبر بحـث يتنـاول دراسـة ابـن الجـزري: مُقرئاً ومحدثاً ومؤرخاً وفقيهاً، ويعمل على تحقيق أثاره في كل هذه الفنون.
4- العمل على إنشاء طبقات للقراء الذين وجدوا بعد ابن الجزري على غرار ما فعله في طبقاته واعتماداً على منهجه.
5- العمل على خدمة مؤلفات ابن الجزري بالشرح والبيان والتعليق ككتاب الإدغام، والتذكار في قراءة أبان العطار والنهاية الخيرة.
6- إفراد بحث يتناول دراسة طرق القراءات التفصيلية عند ابن الجزري واحدة واحدة من حيث صحة متنها واتصال سندها وثقة رواتها.
7- إفراد بحث يتناول جهود ابن الجزري الحديثية، وآخر لجهوده التاريخية وآخر لآرائه الفقهية.
8- العمل على إنشاء مقارئ للإقراء تتخصص في نشر القراءات العشر والتعريف بها، وجعل الإسناد بها متصلاً إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وهذا على غرار ما كان يفعله الأئمة السابقون كابن الجزري.
9- تسجيل القراءات العشر برواياتها العشرين تسجيلاً صوتياً بضمن أصح كتب القراءات النشر في القراءات العشر لابن الجزري.
10- العمل على إدخال القراءات الصحيحة والشاذة بأسانيدها وطرقها في أقراص الإعلام الآلي، كما أدخلت كتب الحديث، تسهيلاً على الباحثين ونشراً للقراءات وتذليلاً لصعوبة الحصول والاطلاع عليها.
هذا ما وفقنا الله لدراسته واقتراحه، ولا أزعم أني قد وفيت ابن الجزري حقه في دراسة جهوده، ولا أعتبر ما قدمته إلا إسهاماً قابلاً للنقد في إبراز جهود شخصية علمية فذة قدمت الكثير لعلم القراءات.
وأخـيراً الله أسأل أن أكون موفقاً فيما كـتبت وأن يكـون هذا البحث مِمَّا يُنتفع به، والحمد لله رب العالمين. |
|