وقال ابن القيم في فوائد غزوة تبوك:
(.. ومنـها أنـه أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة، ولم يقل للأمة: لا يقصر الرجل الصلاة إذا أقام أكثر من ذلك، ولكن اتفقت إقامته هذه المدة، وهذه الإقامة في حال السفر لا تخرج عن حكم السفر، سواء طالت أو قصرت إذا كان غير مستوطن، ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع) ([54]).
وسيأتـي مزيد بسط لفقه هذه الأحاديث والآثار في صحيفة (62).
معه في أسفاره فلا ينتقض به هذا وأما وجود زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- التعليل؛ وذلك لأن التأهل الذي يُعتبر به المرء مقيماً عرفاً هو كون الزوجة مقيمة في المكان الذي ينـزله المسافر.
أما إذا كانت هي مسافرة فلا تأثير لها في حال زوجها، بل قال كثير من العلماء: إن المرأة هي التي تتبع زوجها في حكم سفره وإقامته ([55]).
وزوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يَكُنَّ معه إلا مسافرات؛ فلا يعتبر وجودهن معه مفسداً لهذه العلة، ولا مانعاً من دورانها.
الأسباب العرفية للسفر
حيث ظهر أن الراجح هو اعتبار العرف في هذه المسألة فإن من مكملاتـها ذكر بعض أسباب وتطبيقات السفر والإقامة ؛ لأن فقه الأخبار الواردة في الترخص لا يُتصورُ تصوراً تاماً إلا بعد تأمل هذه الأسباب والتطبيقات العرفية.
ونظراً إلى أن وصفي السفر والإقامة العرفيين نقيضان لا يجتمعان معاً، ولا يرتفعان معاً؛ فثبوت أحدهما نفي للآخر، وأننا قد نحتاج إلى استبقاء أو نفي وصف الإقامة فلا بد من معرفة حدود السفر عند أهل العرف.
لهذا السبب ذكرت هنا الأسباب العرفية للسفر ([56]):
السبب الأول:
البروز من دار الإقامة ومفارقة عمرانـها.
فمكان ابتداء السفر هو الأرض الفضاء التي لا عمران فيها، ومفارقة العمران مسألة عرفية ([57])؛ فلا يدخل في ذلك الضياع والمزارع ([58])، ولو كان الناس يقيمون فيها بعض الفصول ([59])، ومثل ذلك المعارض والمستودعات ومحطات الوقود ، وإن كانت مزدهرة ، وإذا جرت عادة أهل البلد بسكنى مزارعهم دوماً -كبعض أهل الأرياف- فلابد من مجاوزتـها ([60]).
السبب الثاني:
الطريق وطبيعة المركب.
فالطرق الوعرة التي تمر في الحرار والجبال والغابات تختلف في حكمها العرفـي عن الطرق السهلة المعبدة ؛ فخمسة عشر كِيلاً مثلاً في جَوَادِّ جبال تـهامة التي لا تُقطع إلا بالمشي أو الدواب قد تُعَدُّ سفراً ، بينما لا تُعَدُّ كذلك مع سهولة الطريق أو وجود المراكب السريعة ، هذا في حال المسافة القصيرة ، أما الشاسعة عرفاً فلا تأثير لنوع المركب ؛ فتُعتبرُ سفراً مهما كان المركب وطريقة السير ؛ كما سيأتـي في السبب التالي.
قال ابن تيمية عن اختلاف أحوال المسافرين بحسب اختلاف الحال:
(.. وقد يكون في المسافة صعود ، وقد يطول سفر بعضهم لبطء حركته ، ويقصر سفر بعضهم لسرعة حركته، والسبب الموجب هو نفس السفر، لا نفس مساحة الأرض) اهـ ([61]).
وقال: (فالسفر حال من أحوال السير لا يُحَدُّ بمسافة ولا زمان) ([62]).
وقال عن حد السفر بالمسافة:
(ولا يمكن أن يُحدَّ ذلك بحد صحيح ؛ فإن الأرض لا تُذرع بذرع مضبوط في عامة الأسفار، وحركة المسافر تختلف، ويُقيَّد ما قيَّده ؛ فيقصر والواجب أن يُطلق ما أطلقه صاحب الشرع -صلى الله عليه وسلم- المسافر الصلاة في كل سفر..) ([63]).
وقال: (.. وقد يركب الرجل فرساً يخرج به لكشف أمر، وتكون المسافة أميالاً ويرجع في ساعة أو ساعتين، ولا يُسمى مسافراً، وقد يكون غيره في مثل تلك المسافة مسافراً، بأن يسير على الإبل والأقدام ..) ([64]).
السبب الثالث:
مسافة السفر ونية قطعها.
لا يكون الشاخص مسافراً إلا بوجود مسافة السفر مع نية قطعها، وهذا وصف رئيس من أوصاف السفر عند الناس؛ فأول ما يتبادر إليهم عند ذكر السفر هو طول المسافة؛ فتراهم عند طولها يقولون: إن هذا سفر.
وأهل اللغة يُعَرِّفون السفر بأنه "قطع المسافة" ([65]).
وإذا أردت تصور تأثير المسافة في السفر العرفي فانظر هذا في شخصين كل منهما جاوز بنيان بلده سائراً؛ فأحدهما أراد قطع مسافة ألف كيل، والآخر أراد قطع خمسة عشر كيلاً، وكل منهما يرجع من مسيره هذا إلى بلده دون تزود أو مبيت؛ فالناس يقطعون في صاحب الألف كيل بأنه مسافر، وأن الآخر غيرُ مسافر؛ فلم يُفرِّقِ الناسُ بين الحالين إلا بالمسافة.
وكان كثير من السلف يَعتبرون طول المسافة دون جعلها حداً مشتركاً؛ فعن معاذ وعقبة بن عامر وابن مسعود قالوا: (لا تغرنكم مواشيكم يطأ أحدكم بماشيته أحداب الجبال، أو بطون الأودية ، وتزعمون بأنكم سَفْرٌ، لا ولا كرامة، إنما التقصير في السفر البات من الأفق إلى الأفق) ([66]).
وقيل لإبراهيم:
أتـُقْصَرُ الصلاة إلى المدائن؟ قال: إن المدائن قريب، ولكن إلى الأهواز، ونحوها ([67]).
وتقدير أدنـى المسافة المعتبرة لقيام وصف السفر، وكذلك الشاسع منها هو من المسائل العرفية التي تختلف باختلاف الأحوال.
وأدنـى مسافة السفر قد لا تستقل بقيام وصفه؛ فقد تحتاج هذه المسافة القليلة إلى أوصاف أخرى ؛ كنوع المراكب في ذلك الزمان أو المكان، وكذلك وعورة الطريق والتزود والمبيت والانقطاع والغيبة.
وقد قرر ابن تيمية أن المسافة ليست سبب السفر الوحيد بل لابد من مبيت وتزود أو أحدهما ؛ كالبريد إذا ذهب بلا تزود ورجع من يومه من غير نزول؛ فلا يُسمى مسافراً، وغيره في تلك المسافة قد يُسمى مسافراً ([68]).
وقال رحمه الله في موضع آخر: (.. فالمسافة القريبة في المدة الطويلة تكون سفراً، والمسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفراً) اهـ ([69]).
وقال: (.. وكلام الصحابة.. يدل على أنـهم لم يجعلوا قطع مسافة محدودة، أو زمان محدود: يشترك فيه جميع الناس، بل كانوا يجيبون بحسب حال السائل؛ فمن رأوه مسافراً أثبتوا لـه حكم السفر، وإلا فلا) اهـ ([70]).
ترخص من لا نية له أو كانت نيته مترددة:
ومن شخص عن بلده ولا نية لـه في مسافة السفر العرفي فهو مقيم لا رخصة لـه؛ كالهائم ومتتبع الكلأ ومن خرج لرد ضالة، إلا أن يبلغ مكاناً يكون رجوعه منه إلى بلده سفراً عرفاً؛ فحينئذ يُشرع لـه الترخص ([71]).
ومن علَّق سفره بلحاق القافلة بضاحية البلد ؛ فإن حصل لـه ذلك سافر وإلا أقام ، ولم يغلب على ظنه حصول مراده فهو باق على حكم الإقامة ؛ وذلك لعدم النية العازمة على السفر ([72]).
ونظير هذا في الوقت الحاضر ما يُسمى "بحجز الانتظار"، و"الحجز المؤكد" في الطائرات والقطارات والسفن:
فإذا كان المطار خارج بنيان البلدة أو في بلدة أخرى، ولم تكن مسافته سفراً، وكان الحجز مؤكداً، أي يغلب على ظنه أن يسافر فهو في المطار وفي الطريق إليه مسافر، وإن كان غير مؤكد، وهو ما يُسمى بالانتظار فلا رخصة لـه؛ لأن الأصل بقاء الإقامة فلا نخرج منها إلا بيقين أو غلبة ظن.
وهل نية السفر للذي تجب عليه طاعة متبوعه معلقة بنية ذلك المتبوع؛ كالزوجة مع زوجها والجندي ذي الرزق مع قائده والرقيق مع سيده والابن مع أبيه ونحوهم؟ فإذا ترخص ترخصوا؟ فيها قولان مشهوران لأهل العلم، أصحهما عدم مشروعية الترخص لهؤلاء؛ لأن طاعة البشر لا يصح أن تكون سبباً لاستباحة الرخصة بمجرد التبعية؛ فالأصل إذاً هو أن على هؤلاء الأخذ بالعزيمة حتى يثبت عندهم سبب الرخصة، ولا تكفي رؤيتهم متبوعهم يترخص، ولا بأس هنا بالعمل بالأمارات وقرائن الأحوال.
وسؤالُ التابعِ متبوعَه عن مقصده لا ينافي كمال الطاعة والتعظيم.
إذا طالت المسافة فصاحبها مسافر ولو عاد من يومه دون مبيت:
ومن قطع مسافة شاسعة كمائة كيل ونحوها فهو مسافر وإن رجع من يومه؛ وذلك لأن أهل العرف يرونه كذلك.
وقد صحَّ عن علي أنه خرج إلى "النخيلة"؛ فصلى بـها الظهر والعصر ركعتين ثم رجع من يومه ؛ فقال: أردت أن أعلمكم سنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- ([73]).
فقد ترخص رغم أنه رجع من يومه.
ومن احتج بكلام الإمام ابن تيمية هذا من أن المسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفراً، حتى في الشاسع منها؛ فاعتبروا أن من قطع ثلاثمائة كيل مثلاً دون مبيت أو تزود أنه غير مسافر فهو محل نظر وتأمل؛ لأمرين:
الأول:
أن ابن تيمية لم يتعرض للمسافات الشاسعة التي يَعتبرها أهل العرف سفراً حتى وإن رجع من ساعته ويومه؛ كالمائتي كيل ونحوها؛ فالناس لا يكادون يختلفون في اعتباره مسافراً، ومثال ابن تيمية رحمه الله في كلامه هذا إنما كان بالمسافة القصيرة جداً.
ومما يؤكد ذلك أنه ذكر هذه القاعدة في مواضع عدة ([74])، ومثَّل لها بمسافات قصيرة، وهي البريد والفرسخ، وبالمسافة بين مكة وعرفة، وبالمسافة بين المدينة وقباء، وبمسير الساعة والساعتين، ولم يذكر مع هذه القاعدة مسافات شاسعة.
الثاني:
على تسليم أن ابن تيمية يرى عموم تلك القاعدة لجميع المسافات فإنه إنما يتكلم في تقدير ذلك بصفته من أهل العرف لا بصفته مجتهداً مستدلاً من الشريعة؛ فإذا كان الأمر كذلك فإن الأعراف قد تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال، هذا من وجه، ومن وجه آخر: قد يختلف أهل العرف أنفسهم في التقدير والحكم، وإن اتحد المكان والزمان والحال.
ويلزم من طرد هذه القاعدة وهي عدم اعتبار المسافة الطويلة في المدة القليلة يلزم من ذلك أن نقول: إن من سافر بالطائرة مسافة ثلاثة آلاف كيل، أو بالسيارة ألف كيل مثلاً، ثم عاد من فوره أنه غير مسافر؛ لأنه يعود من نـهاره ولا يبيت، وهذا مخالف للمقطوع به عرفاً.
تنبيه حول كلام لابن تيمية في المسافة:
قول ابن تيمية رحمه الله: (.. فالتحديد بالمسافة لا أصل لـه في شرع ولا لغة ولا عرف ولا عقل ..) ([75]) لا يُعتبر معارضاً لاعتبار المسافة العرفية في بعض أحوال السفر.
وذلك لما ظهر خلال كلامه من أن نكيره إنما هو على من جعل ضبط السفر بالمسافة حداً عاماً يشترك فيه جميع الناس في كل أحوالهم ؛ كأن يقال مثلاً: إن من قصد دون أربعة بُرُدٍ فليس بمسافر في جميع الأمكنة والأزمنة والطرق والمراكب.
يوضح ذلك ويجليه حكايتُه -رحمه الله- أقوال بعض الصحابة التي تضمنت تحديداً بمسافة، وهذا يدل على أنه لا يعترض على اعتبار المسافة مطلقاً، وإنما على جعلها حداً مشتركاً.
كما أن ابن تيمية يَعتبر المسافة القليلة والمدة الكثيرة في ثبوت وصف السفر العرفي، حيث قال هنا: (فالمسافة القريبة في المدة الطويلة تكون سفراً، والمسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفراً) ([76])؛ فهل تمكن معرفة المسافات القريبة والبعيدة والمدة الطويلة والقصيرة إلا بتقدير تقريبي؟ وهل يمكن ذلك إلا بالعرف؟
وقد حكى رحمه الله أقوال بعض الصحابة الذين مثَّلوا للسفر بمسافات ثم قال: (وكلام الصحابة يدل على أنـهم لم يجعلوا قطع مسافة محدودة أو زمان محدود يشترك فيه جميع الناس، بل كانوا يجيبون بحسب حال السائل؛ فمن رأوه مسافراً أثبتوا لـه حكم السفر، وإلا فلا) ([77]).
السبب الرابع: حمل الزاد والمزاد.
وهذا الوصف وإن كان قليلاً في زماننا بسبب انتشار مراكز التسويق على طول الطريق، وفي أماكن النـزول، إلا أن أهل العرف يستدلون بـه مع أوصاف أخرى على تحقق وصف السفر.
قال ابن سيرين: (كانوا يقولون: السفر الذي تُقصَرُ فيه الصلاة الذي يُحْمَل فيه الزاد والمزاد) ([78]).
وهذا الوصف من الأوصاف المؤكدة لوجود السفر، ولكنها لا تستقل بنفيه ولا إثباته؛ فقد يُعتبر مسافراً دون تزود، وقد يُعتبر مقيماً مع تزوده.
السبب الخامس: الانقطاع والغيـبة.
وهي سمة من سمات السفر عند أهل العرف إذا كان سببـها بعد الطريق أو وعورته أو غلاء قيمة وسائل النقل أو بطؤها أو اضطراره إلى المبيت هناك ليلةً أو ليالي بسبب تشعب حاجاته أو طول وقت معالجتها حتى مع قرب مقصده كأربعين كِيلاً أو خمسين.
هذا كله مع شرط البروز وقطع أدنـى مسافة يعرفها أهل العرف من مسافة السفر.
قال رجل لابن عباس: أقصر إلى الأُبلة؟ قال: تذهب وتجيء في يوم؟ قلت: نعم، قال: لا إلا في يوم متاّح ([79]).
وعن ابن عمر قال: (لا تُقصر الصلاة إلا في يوم تام) ([80]).
فلعل ابن عمر أراد تأثير الغيبة ، ولو أراد المسافة لقال: مسيرة يوم تام ، ومما يؤكد إرادة تأثير الغيبة أنه ترخص في مسافات قصيرة تُقطع في نصف نهار أنه قصر الصلاة إلى "ريم" ([81]).؛ فقد صح عنه وقد تقدم في صحيفة (34) كلام ابن تيمية في أثر المبيت والغيبة في وصف السفر.
واعتبار هذا السبب مع بقية الأسباب هو أصح ما يُوجَّه بـه قصر أهل مكة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في عرفة ؛ فلم يكن ترخصهم لأجل النسك ، وإنما لكونـهم من المسافرين ([82]) ؛ فإن من يذهب إلى عرفة من أهل مكة -في ذلك الوقت- لغرض ويرجع من ساعته أو يومه لا يُعتبر مسافراً ، ولكنه إذا برز وقطع تلك المسافة وتزود وبات وغاب اعتُبر مسافراً.
هل التوديع والاستقبال وصفان لازمان للسفر؟
درج الناس في القديـم على توديع المسافر واستقباله، ولا زال عمل بعضهم على ذلك إلى الآن ، لاسيما مع طول الغيبة ؛ فهما مؤكدان لوجود السفر ، ولكنهما ليسا لازمين لقيام وصفه.
ومثل ذلك حمل الزاد والمزاد ، حيث قد يُعتبر المرء مسافراً دون حملٍ لزاد أو مزاد ؛ فهذه الأوصاف وأمثالها لا تُعتبر من شروط السفر ؛ لأنه لا يلزم من عدمِها عدمُه.
وذلك بخلاف سبـب المسافة مثلاً فإنه يلزم من عدمه عدمُ السفر ؛ فلا يكون الشاخص مسافراً إلا بـه.
الأسباب العرفية للإقامة:
إن حقيقة الإقامة هي: وجود أسباب التعلق بمكان النـزول ؛ فمتى اكتملت هذه الأسباب أو كثرت أو قويت عُدَّ النازل من المقيمين في ذلك المكان ، ومتى عُدمت هذه الأسباب كلها أو قلَّت أو ضعفت -وكان قد أحدث سفراً- فصاحبها مسافرٌ ، أو في حكم المسافرين.
وهذا عرض لأسباب الإقامة عند أهل العرف:
السبب الأول: نية الإقامة المستقرة ومدتـها.
إن للنية تأثيراً كبيراً في ثبوت وصف الإقامة ، أو نفيه:
فقد أجمع العلماء في السفر والإقامة على حالين مبناهما على نية النازل:
الأولى: الاستيطان ، وهو نية الإقامة على التأبيد ؛ فمن نوى المكث في المكان على التأبيد فهو مقيم بإجماع أهل العلم.
والثانية: التردد كل يوم في السفر والإقامة ، وهو حال من يقول: اليوم أخرج.. غداً أخرج؛ فقد أجمعوا أن مَنْ هذه حاله فهو مسافر.
فالحال الأولى نية ومدة مؤبدة وحال عليا من الطمأنينة والاستقرار، والثانية مدة أيضاً، وهي اليوم الواحد، ونية مترددة ، وحال عليا من الاضطراب والتردد.
ويوجد بين هذين الحالين المجمع عليهما أحوال متفاوتة تؤثر في ثبوت الوصف أو نفيه كلها تُبنى على نية النازل ، مع حاله أو عمله.
إرادة المدة أول أسباب الإقامة:
إن قصد المدة الطويلة عرفاً هو أول أسباب الإقامة عند الناس ؛ فالغالب أن المرء لا يتخذ أسباب الإقامة العملية من سكن المثل أو متاعه ، وقد لا يتأهل إلا حين يريد المدة الطويلة ، أما إذا كان ينوي مدة قصيرة ، أو كان متردداً مضطرباً فإنه لا يتخذ هذه الأسباب.
وتأثير المدة في الإقامة عند أهل العرف واضح بيِّن ؛ فالمرء إذا نزل بلداً أياماً معدودة -كعشرة أيام أو عشرين- لم يُعتبر قاطعاً لسفره بذلك، ولا يُوصف عندهم بأنه مقيم في هذا البلد، ولا أنها صارت من دور إقامته ، حتى مع حصول بعض أسباب الإقامة الأخرى ؛ كوجود أهله معه في نزوله ذاك ، أو كون البيت مملوكاً أو مستأجراً ، بيد أنه باجتماع هذه الصفات ، مع قصد المكث مدةً طويلةً بنية مستقرة فإنه يُعتبر مقيماً.
أثر المدة في وصف الإقامة العرفي عند الهيتمي:
وقد سُئِل العلامة ابن حجر الهيتمي رحمه الله عمن أوقف على الفقراء المقيمين ببلد.. ما المراد بالإقامة هل هو الإقامة الشرعية أربعة أيام، أو المجاورة سنة أو سنتين، أو الاستيطان؟ فكان من إجابته أن المقيم هو من: (مكث مدة ثَمَّ، بحيث صار أهل العرف يعدونه مقيماً بذلك المحل) ([83]).
فلم يَعْتَبِرْ فـي ضبط الإقامة ما يراه في مذهب الشافعية فيما تُقْصرُ فيه الصلاة، وهي الأربعة الأيام ، وإنما اعتبر مراد الناس من لفظ الإقامة عند إطلاقه وهو المعنى العرفـي ؛ كما أنه اعتبر لقيام هذا المعنى وجود المدة.
وتنزيل لفظ الإقامة في الشريعة على المعنى العرفي عند إطلاقه لا يختلف عن هذه الطريقة، لاسيما مع عدم وجود حد في الشريعة أو اللغة.
لا إقامة مع نية مضطربة:
الاضطراب والتردد في نية الإقامة، أو عدم وجود هذه النية منافٍ للإقامة بمعناها المعروف عند الناس، وهذه بعض أحوال الاضطراب التي تمنع من قيام وصف الإقامة:
حال الحرب:
وحال الحرب والخوف من أعظم أسباب الاضطراب المنافـي للإقامة، لذلك ذهب جماهير علماء المذاهب الأربعة وغيرهم إلى أن حكم المدة التي تُقصر فيها الصلاة في كل مذهب لا يجري في حال الحرب أو في داره ؛ فيجوز الترخص وإن جاوزت نية المكث خمسة عشر يوماً ([84]).
وقد قرر ابن نجيم أن حكم الترخص يشمل حرب الكفار والبغاة في دار الإسلام أو دار الحرب ، وعلَّل ذلك بأن حال المقاتلين يخالف عزيمتهم ([85]).
وقال الشرنبلالي: (ولا تصح نية الإقامة ببلدتين لم يعين المبيت
بإحداهما ، ولا في مفازة لغير أهل الأخبية ، ولا لعسكرنا بدار الحرب ، ولا بدارنا في محاصرة أهل البغي ) ([86].
وقال ابن مفلح: (إن إقامة الجيش للغزو لا يمنع الترخص، وإن طال؛ لفعله) ([87]).
نزول المسافر لحاجة ينتظر نجاحها:
ومن أحوال عدم الاستقرار حالُ من نزل لحاجة ؛ كإدارة تجارة عاجلة أو شراء حوائج ، أو منتظراً رفقة ، وهو لا ينوي الإقامة ، بل متى انقضت حاجته عاد إلى بلده فهو مسافر ، ولو اجتمع لـه بعد ذلك مدة طويلة.
وذلك لأن الإقامة مبناها على الاستقرار والطمأنينة ، ومَنْ هذه حاله ففيه انزعاج المسافرين ؛ فلم تتحقق لـه الإقامة مع بقاء هذه الحال ؛ فهو إذاً باقٍ على سفره ، أو في حكم ذلك السفر.
ولكن إذا كانت هذه الحاجة لا تُقضي عادة إلا في وقت طويل كسنة مثلاً ، وقد قام بأعمال الإقامة ؛ كسكن المثل واتخاذ المتاع فهو مقيم.
وعلى هذا مذهب أبـي حنفية وأحمد في قوله الآخر ، وهو أن من أقام لحاجة ينتظر نجاحها بلا نية إقامة فهو مسافر ، ولو نوى أكثر من مدة الإقامة في المذهبين ، ما دام يحتمل قضاء حاجته قبل المدة ([88]).
وهو مذهبُ الشافعي رحمه الله في المحارب في أحد أقواله ، وحكاه بعض أصحابه في غير المحارب ؛ كالتاجر والمتفقه ، وغلَّطهم آخرون ([89]).
وإذا كان سبب الترخص بعد الأربعة -حالَ القتال- هو اضطراب النية فإن طرد هذا السبب يقتضي أن مَنْ وُجدت فيه تلك الحال يُعتبر مسافراً وإن لم يكن في قتال ؛ فإنه لا فرق بين المقاتل وغيره في حكم القياس ([90]).
وقد جاء عن مورق أنه سأل ابن عمر فقال: إنـي تاجر أتنقل في قرى الأهواز؛ فأقيم في القرية الشهر وأكثر، قال: تنوي الإقامة؟ قلت: لا ! قال: لا أراك إلا مسافراً، صل صلاة مسافر! ([91]).
من نزل مضطراً لعائق لا يدري متى يزول؟:
وذلك كمن حبسه مرض ، أو حصره عدو ، أو منعته ريح ، أو عاقه ثلج أو واد يسيل ، وكمن سُجن وهو لا يدري متى يُخلى سبيله.
فقد ذهب كثير من الفقهاء الذين يحددون الإقامة بمدة معينة إلى أن حكم المدة لا يجري في أمثال هؤلاء ؛ فيعتبرونـهم في حكم السفر ([92]) ؛ وذلك لتخلف نية الإقامة.
وهو كذلك عند الناس؛ وذلك لأن أكثر أصحاب هذه الأحوال لا ينوون الإقامة فضلاً عن إرادة مدة طويلة ، وغالب حالـهم أنـهم ينتظرون زوال العائق في مدة يسيرة ؛ لذلك فهم باقون على حكم السفر السابق ، بسبب عدم النية أو اضطرابـها.
النية المستقرة إذا كانت مدتـها قليلة:
وإذا نزل المسافر بلداً في مدة قليلة لا يقوم بـها وصف الإقامة عرفاً ؛ كخمسة عشر يوماً أو عشرين ، ونحو ذلك ، ولا أهل لـه فيها ؛ فهو باق على حكم سفره ، ولو كان جازماً بمكثها ؛ لأن الناس لا يعتبرون النازل في مثل هذه المدد مقيماً ، ولا يعتبرون مكان نزوله هذا من دور إقامته.
سبيل العلم بالمدة:
وضابط ذلك هو غلبة الظن أو القطع في نية مقدار الإقامة ؛ فمتى غلب على ظن النازل أنه يريد مدة طويلة صار مقيماً مع تحقق الأسباب الأخرى ، ومتى ظن قِصَر المدة ؛ فهو مسافر أو في حكمه ، ومن شك في ذلك فهو باقٍ على حكم حاله السابقة وهي السفر.
ومن المعلوم أن الشريعة تبني كثيراً من أحكامها على غلبة الظن.
مدة الإقامة ليست حداً مشتركاً لجميع الأحوال:
ليس لمدة الإقامة حداً معيناً مشتركاً لضبط جميع الأحوال ، بل يختلف تأثير المدة باختلاف هذه الأحوال ، وليست المدة أيضاً وصفاً يستقل بثبوت وصف الإقامة ولا نفيه ؛ فهي لا تؤثر إلا بمشاركة غيرها من الأسباب.
فمن نزل مكاناً غير صالح لإقامة مثله ؛ كنـزول الحضري في صحراء من الأرض، أو نزول جميع الناس في حال من الاضطراب أو الخوف فهم مسافرون ، مهما اجتمعت لهم مدة كثيرة في نزولهم هذا.
وفي المقابل قد تقل المدة ومع ذلك يظل وصف الإقامة عند الناس ثابتاً ؛ كمن نزل مكان المثل وسكنه وله فيه زوجة مقيمة ؛ فلا تأثير للمدة في هذه الحال ، حيث يُعتبر مقيماً مهما قلَّ وقت نزوله.
وبـهذا يُعلم أن اعتبار المدة سبباً من أسباب الإقامة العرفية لا يُعارض اعتبار أقوال من حدها بأيام بـها أقوالاً مرجوحة.
ووجه ذلك أن المدة عند القائلين بالحدود الزمنية تُعتبر حداً مشتركاً ثابتاً لا يختلف باختلاف الأحوال، مصدره دلالة الشريعة؛ كمدة المسح على الخفين وعِدَدِ النساء، بيد أنـها هنا ليست حداً مشتركاً ، بل تختلف باختلاف الأحوال ، ومصدرها هو العرف.
إيراد وجوابه:
قد يقال: لا فرق بين مدد الإقامة في الشريعة؛ فلماذا يُفَرَّقُ بينها؟
فالجواب هو:
أنه قد ترجح في هذا البحث أن سبيل ضبط هذه المسألة هو العرف ؛ فيكون التفريق بين أحوال الإقامة راجع إلى أهله ؛ فلم يُنسب هذا التفريق إلى الشريعة ، ونظائر اعتبار المدد والمسافات في فقهها كثير:
ففي المدد:
طول الفصل بين أعضاء الوضوء، وطول الفصل بين الصلاة وما نُسي منها، ومقدار خطبة الجمعة، وعدد مرات تعريف اللقطة في الحول، وقدر ما بين المرة والتي تليها، وكذلك التراخي في الجمع بين الصلاتين، والتراخي في الشفعة عند من يقول بشرطية الفور فيهما.
وفي المسافات:
مسافة السفر، وما يُعتبر به الصف متصلاً بالآخَر، وما يُعتبر به المرء مصلياً إلى القبر، وقدر ما بين المصلي وسترته ، وما يُعتبر به تفرق البيِّعين مسقطاً لخيار المجلس في الصحاري.
وقد تقدمت هذه الأمثلة العرفية وغيرها في صحيفة (25).
ويقال لمن يعتبر العرف في ثبوت السفر:
إن كل إيراد على الإقامة العرفية لإبطال تأثيرها في حكم الرخصة وارد على السفر العرفي ولا فرق:
فالاعتراض على سببـي المكان والمسكن في الإقامة يُعترض بمثله على اشتراط البروز ومفارقة العمران في السفر.
والاعتراض على المدة في الإقامة يُعترض بمثله على المسافة في السفر.
وتأمل هذا في شخصين كل منهما قد برز عن بنيان بلده وفارق ما يُنسب إليه ثم رجعا إليه من نـهارهما بلا تزود ، وقد سارا على طريق واحدة ووسيلتي نقل متماثلتين ، ولكن أحدهما قطع ألف كيل والآخر عشرين كيلاً ؛ فالأول -عند الناس- مسافر، والثاني عندهم مقيم ؛ فلا فرق بين حاليهما إلا المسافة.
والمدة في الإقامة لا تَخْرُجُ عن هذا المسرب؛ فإذا نزل اثنان سكنَ مثليهما ، وأراد أحدهما النـزول خمسة عشر يوماً بنية مستقرة لم يكن عند الناس مقيماً بمجرد نزوله هذه المدة ، بل يعتبرونه مسافراً ، ولو أراد الآخر سنـتين مثلاً بنية مستقرة اعتبروه مقيماً.
ولو قالوا بأن السفر العرفي هو مجموع أسباب لا تُجعل فيها المسافة حداً مشتركاً لجميع الأحوال! يقال: والإقامة العرفية هي أيضاً مجموع أسباب لا تُجعل فيها المدة حداً مشتركاً لجميع الأحوال.
إيراد آخر وجوابه:
لو قيل:
لا نجد فرقاً بين من نزل بلداً لعلاج أو زيارة أو سؤال أو تجارة في مدة يسيرة -ممن اُعتبر هنا مسافراً- وبين من نزل البلد للدراسة، إذْ كلٌ من الفريقين ينتظر انتهاء مهمته، ولو حصل لكل منهما الرجوع إلى بلده فوراً لفعل ؛ فيكون حكم الحالين واحداً ، وهو مشروعية الترخص.
فالجواب أن يقال:
لو كان تعليق السفر بتنجيز الحاجة هو علة الرخصة لاعتُبر هؤلاء المغتربون من المسافرين بلا ريب ، بيد أن هذا الوصف -كما تقدم- لا يصلح أن يكون سبباً للرخصة، وإنما سببها الصحيح هو وجود السفر العرفي ، أو ما يُلحق به من أحوال الاضطراب وسبب العزيمة هو وجود الإقامة العرفية بحدودها المعلومة عند الناس.
فمن أقام في مدة قليلة -أو في مدة كثيرة ولكنه يتوقع قضاء حاجته كل وقت في مدة قليلة- فليس مقيماً عند الناس؛ لاضطراب حاله؛ فهو باق على حكم سفره ، بخلاف من غلب على ظنه طول المكث في مكان المثل وسكنه بنية مستقرة ؛ فهو عندهم مقيم.
فسبب التفريق بين الحالين -إذاً- هو رأي الناس العرفـي فقط.
السبب الثاني: صلاحية المكان للإقامة.
فالإقامة لا تكون إلا في مكانـها المعتبر المعتاد ، وإلا فالنازل مضطرب منـزعج ؛ فالمكان المعتاد للحضر -مثلاً- هو القرى والمدن ، ومتى ما تحول هذا الحضري عن عادته في مكان الإقامة لم يره الناس مقيماً.
وإذا كنا لا نتصور ابتداء السفر إلا في المكان المعتبر وهو الصحاري والفضاء فإن الإقامة لا تُتصور أيضاً إلا في مكانـها المعتاد ، وهو المدن والقرى لأهلها.
فمن نزل مكاناً غير صالح للإقامة عادةً فهو مسافر مهما طال مكثه ؛ وذلك لأن المدة ليست معيار الإقامة الوحيد.
والذي يعوِّل على المدة في إثبات الإقامة دون اعتبارات أخرى هو كالذي يعول على غرس الفسائل في إثبات الإحياء العرفـي دون أن يشترط صلاحية الأرض أو مناسبة الهواء لغرس مثل هذا الشجر ؛ فإن الناس لا يَعتبرون مثل هذا محيياً ؛ لأن هذه الفسائل لا تثمر في الحالين.
والإقامة بمعناها العرفي لا تخرج عن هذه الحدود والاعتبارات.
وعلى اشتراط صلاحية المكان لصحة الإقامة قولُ كثير من أهل العلم:
فقد ذكر الكاساني شروط الإقامة المعتبرة عند أبي حنيفة وعدَّ منها المكان الصالح للإقامة، ثم قال: (فهو موضع اللبث والقرار في العادة نحو الأمصار والقرى، وأما المفازة والجزيرة والسفينة فليست موضع الإقامة، حتى لو نوى الإقامة في هذه المواضع خـمسة عشر يوماً لا يصير مقيماً..) ([93]).
وقال ابن الهمام:
(.. أما من ليس من أهل البادية -بل هو مسافر- فلا يصير مقيماً بنـية الإقامة في مرعى أو جزيرة) ([94]).
وهذا هو أحد قولي الشافعي ، واختاره الغزالي ؛ فقد عدَّ من شروط جريان حكم المدة عند الشافعية المكانَ الذي تُتصور فيه الإقامة، ثم قال: (.. فإن كان لا يُتصور فالأصح أنه يترخص؛ لأن العزم فاسد) ([95]).
وكذلك الأمر في مذهب أحمد؛ فقد قال في "المبدع": (.. إذا نوى الإقامة بموضع يتعذر فيه الإقامة كالبرية لا يقصر ؛ لأنـه نوى الإقامة ، والمذهب: بلى ؛ لأنه لا يمكنه الوفاء بـهذه النية فلغت .. ) ([96]).
وقال: (يشترط في الإقامة التي تقطع السفر -إذا نواها- الإمكان ، بأن يكون موضع لبث وقرار في العادة ) ([97]).
بل جاء في الرواية الثانية عن أحـمد أنه لا يلزم المرء ترك الرخصة إلا في بلد تُقام فيه الجمعة ([98]).
وهو قول مالك في دار الحرب للعسكر ؛ فلا يجري فيها عنده حكم المدة ([99]).
والمكان وإن كان وطَناً فلا تأثير لـه عند بعض أهل العلم إذا مرَّ به صاحبه عابراً ؛ كما جاء ذلك في الرواية الثانية عن أحمد ([100]).
السبب الثالث: المسكن.
فالمسكن سبب من أسباب التعلق بمكان النـزول ، سواء كان ذلك بشرائه أو استئجاره ، بيد أنه لا يستقل بإثبات الإقامة.
والناس يختلفون في المسكن بداوةً وتحضراً وغنىً وفقراً؛ فالبدوي يسكن عادةً خيامَ الشعر، في بطون الأودية ومنابت الكلأ ويحتمل شعث ذلك وجَهْده ؛ فهي مكان وسكن مثله ، ولغيره قد تُعتبر مكان وسكن مسافر.
وقد ذكر الكاسانـي أن بعض العلماء يقول في الأعراب الذين يسكنون بيوت الشعر بأنـهم لا يكونون مقيمين أبداً ؛ لأنـهم في مفازة ، وهي ليست موضع الإقامة عادة ، هكذا حكاه عنهم ، ثم عَقَّبَ على ذلك بقوله: (والأصح أنـهم مقيمون؛ لأن عادتـهم الإقامة في المفاوز دون الأمصار والقرى) ([101]) اهـ.
ووجود الدور والعقارات مملوكة أو مستأجرة في بلد ليست دليل الإقامة مطلقاً ، بل لا بد من أوصاف وأحوال أخرى ؛ كالمدة ، أو إقامة زوجة فيها ؛ فبعض الأثرياء يوجد لـه في كل حاضرة أو مدينة كبيرة بيت أو قصر ؛ فلا يُعتبر عند الناس مقيماً إذا نزلها في إجازة أو نحوها مدةً يسيرة.
قال الإمام الشافعي: (قد قصر أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- معه عام الفتح وفي حجة أبـي بكر ولعدد منـهم بمكة دار أو أكثر وقرابات) ([102]) اهـ.
وفي انقطاع السفر بوجود الدور قولان في مذهب أبي حنـيفة ([103]).
ووجود الدار قد يكون هو المؤثر في ثبوت وصف الإقامة إذا لم يكن لـه مأوى سواه ، وإن كان لا ينـزله إلا أياماً معدودة في السنة ؛ كربابنة السفن وسائقي الشاحنات وأمثالهم ؛ وذلك لأن هذه هي دور إقامتهم ([104]).
السبب الرابع: التأهل.
والإتمام بالتأهل هو قول الجمهور ([105]).
وله عند أهل العرف أحوال:
فإذا وُجِدَ مكان المثل وسكنه ولـه فيه زوجة مقيمة فلا اعتبار للمدة مطلقاً ؛ فمهما نزل هذا البلد فهو مقيم ، وإن كان نزوله ساعات.
فقد ظهر هنا أثر التأهل ، وهو إلغاء تأثير المدة.
ويسقط عند أهل العرف تأثير التأهل إذا كانت الزوجة تقيم وتظعن مع زوجها ؛ وذلك لأنه يتبعها في حكم الإقامة إذا كانت مقيمة ؛ فإذا كانت هي مسافرةً انقطع تأثيرها في حال زوجها.
قال ابن القيم:
(.. والمسافر إذا تزوج في طريقه لم يثبت لـه حكم الإقامة بمجرد التزوج، ما لم يزمع الإقامة وقطع السفر) ([106]).
كما أن التأهل لا يُعتبر مؤثراً إذا كان لا يأوي إلى بيت الزوجية المعتاد؛ كأن يكون نزوله عند والدها مدة يسيرة، وله مكان إقامة آخر.
يتبع إن شاء الله...