منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 المجلد الرابع

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المجلد الرابع Empty
مُساهمةموضوع: المجلد الرابع   المجلد الرابع Emptyالسبت 14 نوفمبر 2015, 11:05 pm

المجلد الرابع
طُبِعَ عَلَى نَفَقَةِ مَنْ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وجْهَ اللهِ وَالدَار الآخرةَ فجَزاهُ اللهُ عن الإسلام والمسلمينَ خيرًا وغَفَر له ولوالديه ولمَنْ يُعيدُ طِبَاعَتَه أو يُعِيْنُ عليها أو يَتَسبَب لها أو يُشِيرُ على مَنْ يُؤمِلُ فيه الخيرَ أن يَطبَعَه وقفًا للهِ تعالى يُوزَّع على إخوانِهِ المسلمين... اللهم صل على محمد وعلى آله وسلم.
-------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
تعريف البيع وحكمه
س1: عرّف البيع لغةً وشرعًا، وما حكمه؟ وما الأصل فيه؟ وما الحكمة فيه؟ وما وجه تقديمه على الأنكحة؟ واذكر الأدلة.


ج: البيع لغةً: مقابلة شيء بشيء.

قال الشاعر:
ما بتعْتكُمْ مُهْجتي إلا بوصلِكْم ... ولا أسلمها إلا يدًا بيدِ

ويقال: باع الشيء، إذا أخرجه من ملكه، وباعه: إذا اشتراه وأدخله ملكه، وهو من الأضداد، وكذا شري: إذا أخذ، وشري: إذا باع، قال الله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20]، أي باعوه، وقال: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ} [البقرة: 102]، أي باعوا به، وذلك لأن كل واحد من المتبايعين يأخذ عوضًا، ويعطي عوضًا، فهو بائع لما أعطى، ومشترٍ لما أخذ، فصلح الاسمان لهما جميعًا. ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا».

وأنشد أبو عبيدة:
وباع بنيه بعضهمُ بخسارةً ... وبعتُ لذبيانَ العلاء بمالكِ
أي: شريت.
وشرعًا: مبادلة عين مالية أو منفعة مباحة بمثل إحداهما، أو بمال في الذمة للملك على التأييد غير ربا وفرض، وهو جائز بالكتاب والسُّنة والإجماع؛ أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، وقوله: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء: 29]، وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: 198].
وروى البخاري عن ابن عباس قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية، فلما كان الإسلام، تأثموا فيه، فأنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: 198]، يعني: في مواسم الحج، وعن الزبير ونحوه، وقال تعالى: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ } [الجمعة: 10].
وأما السُّنة: فعن ابن عمر -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكان جميعًا، أو يخير أحدهما الآخر» الحديث متفق عليه، وعن عمار بن خزيمة أن عمه حدثه، وكان من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ابتاع فرسًا من أعرابي، فاستتبعه النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقضيه ممن فرسه، فأسرع النبي -صلى الله عليه وسلم- المشي، وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس، لا يشعرون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ابتاعه، فنادى الأعرابي النبي - صلى الله عليه وسلم-، وقال: إن كنت مبتاعًا هذا الفرس فابتَعْه، وإلا بعتُه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- حين سمع نداء الأعرابي: «أو ليس قد ابتَعتُه منك؟» قال الأعرابي: لا، والله ما بعتك! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «بلى، قد ابتعتُه!» فطفق الأعرابي يقول: هلمَّ شهيدًا! قال خزيمة: أنا أشهد أنك قد ابتعته، فأقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- على خزيمة، قال: «بِم تَشهد؟» فقال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل شهادة خزيمة شهادة رجلين. رواه أحمد والنسائي، وأبو داود.
وروى رفاعة أنه خرج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المصلى، فرأى الناس يتبايعون، فقال: «يا معشر التجار» فاستجابوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورفعوا أعناقهم وأبصارهم فيه، فقال: «إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارًا إلا من برَّ وصدق» قال الترمذي: حديث حسن.
وروى أبو سعيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء». قال الترمذي: هذا حديث حسن.
وأجمع المسلمون على جواز البيع في الجملة، وقدم على الأنكحة وما بعدها لشدة الحاجة إليه؛ لأنه لا غنى للإنسان عن مأكول ومشروب ولباس، وهو ما ينبغي أن يهتم به لعموم البلوى، إذ لا يخلو المكلف غالبًا من بيع وشراء، فيجب معرفة الحكم في ذلك قبل التلبس به، وقد حكى بعضهم الإجماع على أنه لا يجوز لمكلف أن يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه، وبعث عمر -رضي الله عنه- من يقيم من الأسواق من ليس بفقيه.

والحكمة فيه هي ما ذكره الناظم، بقوله:
وصححه شرعًا على مقتضى النُهى ... تَوصُّلُ ذي فَقرٍ إلى كل مقصدِ

صور تعريف البيع وأركانه
س2: تكلم بوضوح عن الصور التي يتضمنها التعريف للبيع شرعًا، وما هي أركان البيع إن لم يكن ضمنيًا؟


ج: صوره: 1- عين بعين. 2- عين بدين. 3- عين بمنفعة. 4- دين بعين. 5- دين بدين، بشرط الحلول والتقابض قبل التفرق. 6- دين بمنفعة. 7- منفعة بعين. 8- منفعة بدين. 9- منفعة بمنفعة.
وأركانه: إن لم يكن ضمنيًا أربعة: متعاقدان، ومعقود عليه، وصيغة، أو معاطاة.
وصورة الضمني كـ: أعتق عبدك عني، فإذا أعتقه صح العتق عن السائل، ولزمه الثمن مع أنه لم توجد هنا الأركان كلها.
والصيغة لها صورتان:
إحداهما: الصيغة القولية، وهي غير منحصرة في لفظ معين، بل هي كل ما أدى معنى البيع؛ لأن الشارع لم يخصه بصيغة معينة، فتتناول كل ما أدى معناه.
فمن الصيغة القولية: الإيجاب، وهو ما يصدر من بائع، فيقول: بعتك كذا، أو ملكتك هذا، ونحوهما كوليتك، أو شركتك فيه أو وهبتكه بكذا أو نحوه، كأعطيتكه بكذا، أو رضيت به عوضًا عن هذا، والقبول بعد الإيجاب: ما يصدر من مشتر بلفظ دال على الرضا، فيقول المشتري: ابتعت، أو قبلت، أو رضيت، وما في معنى ما ذكر كتملكته، أو اشتريته، أو أخذته ونحوه.
ويشترط لانعقاد البيع أن يكون القبول على وفق الإيجاب في القدر، فلو خالف كأن يقول: بعتك بعشرة، فيقول: اشتريته بثمانية، لم ينعقد، وأن يكون على وفقه في النقد وصفته، والحلول والأجل، فلو قال: بعتك بألف صحيحة، فقال: اشتريته بألف مكسرة ونحوه، لم يصح البيع في ذلك؛ لأنه رد للإيجاب لا قبوله له؛ فإن تقدم القبول على الإيجاب، صح بلفظ أمر، أو ماض مجرد عن استفهام ونحوه.
وإن تراخى القبول عن الإيجاب، أو عكسه، صح ما دل في المجلس، ولم يتشاغلا بما يقطعه عرفًا؛ لأن حالة المجلس كحالة العقد.
الصورة الثانية لعقد البيع: الدلالة الحالية، وهي المعاطاة، تصح في القليل والكثير؛ لعموم الأدلة؛ ولأن البيع موجود قبل الشرع، وإنما علق الشرع عليه أحكامًا، ولم يعين له لفظًا، فوجب رده إلى العرف كالقبض والحرز، ولم يزل المسلمون في أسواقهم وبياعاتهم على ذلك، ولم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من أصحابه استعمال إيجاب وقبول في بيعهم، وكذلك في الهبة والهدية والصدقة، فإنه لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه استعمال ذلك فيه.
ومن صور بيع المعاطاة قول المشتري: أعطني بهذا الدرهم خبزًا، فيعطيه البائع ما يرضيه وهو ساكت، أو يقول البائع للمشتري: خذ هذا بدرهم، فيأخذ وهو ساكت. ومنها: لو ساومه سلعةَ بثمن، فيقول: خذها، أو هي لك، أو: أعطيتكها، أو يقول: كيف تبيع الخبز؟ فيقول: كذا بدرهم، فيقول: خذ درهمًا، أو: زنه، أو وضعَه -أي: المشتري- ثمنه عادة وأخذه، ونحو ذلك مما يدل على بيع أو شراء.
ويعتبر في المعاطاة معاقبة القبض أو الإقباض للطلب؛ لأنه إذا اعتبر عدم التأخير في الإيجاب والقبول اللفظي، ففي المعاطاة أولى. قال في «الإنصاف»: قال الشيخ تقي الدين: عبارة أصحابنا وغيرهم تقتضي أن المعاطاة ونحوها ليست من الإيجاب والقبول، وهو تخصيص عرفي. قال: والصواب أن الإيجاب والقبول اسم لكل تعاقد، فكل ما انعقد به البيع من الطرفين سمي إثباته وإيجابًا، والتزامه قبولاً. قال: واختار الشيخ تقي الدين صحة البيع بكل ما عده الناس بيعًا من متعاقب ومتراخ من قول وفعل، انتهى. وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس. والله أعلم.
ولا ينعقد البيع هزلاً بلا قصد الحقيقة؛ لعدم الرضا، ولا إن وقع تلجئة وأمانة، بأن يظهر بيعًا لم يريداه باطنًا، بل خوفًا من ظالم ونحوه، فباطل وإن لم يقولا في العقد: هذا تلجئة؛ لأن القصد منه التقية فقط؛ لحديث: «وإنما لكل امرئ ما نوى».

من النظم مما يتعلق بالبيع
وأشرْعُ بعدَ الحمد لله وحده ... وأزكى صلاةً أهديَت لمحمدِ
بذكر كتابِ الحكم في البيع والشرا ... وما قد حواه من صحيح ومفسد
وصححه شرعًا على مقتضى النُّهى ... تَوصُّل ذي فقر إلى كلِ مقصدِ
مبادلة الأموالِ قصدَ تملكٍ ... بغير ربًا أعيانها في التَحدّدِ
يصحُ بإيجابٍ كبعت ونحوهِا ... وبايعتُه أو نحوها اقبلهُ واعقدِ
وينفذُ من كلٍ امرئ بلسانهِ ... وغير لغاتِ المرء مع فهمهما قدِ
وتقدم مبتاعٍ قبولاً أَجزهُ في الـ ... أَصحِ بماضي الفعل كابتعت تسْعدِ
وإن قال بعني قال بعتك فالشرا ... صحيح وعنه البيع لم يتعقد
وما الخلف في ظنيّ سوى في الذي خلا ... من العقد عن بيع المعاطاة قيدِ
ومستفهمًا إن قال مثلَ أبِعتَني ... فليس لهذا صحةٌ عند نُقّدِ
وليس التراخي في القبول بمبطلٍ ... بمجلسه من غير شغلِ بمبعدِ
كذا في النكاح احكم ولو بعد مجلسٍ ... بثانٍ وإن قُدم قبولٌ فأفسدِ
وبيع معاطاة صحيحٌ بأوكدٍ ... وخصصه القاضي بشيء مزهدِ
وصورتها إعطاء شيء وبذله ... فيأخذه من غير لفظ مقيدِ
كذلك لا تشرطه في الصدقاتِ ... والهدياتِ والإعطا كفعل محمدِ


شروط البيع، وحكم بيع المكره
س3: كم الشروط في البيع؟ وما هي؟


ج: شروط سبعة:
أحدها: الرضى؛ لقوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ}، وحديث: «إنما البيع عن تراض» رواه ابن حبان.
الثاني: الرشد.
الثالث: كون مبيع مالاً.
الرابع: أن يكون المبيع مملوكًا للبائع، أو مأذونًا له فيه وقت العقد.
الخامس: أن يكون مقدورًا على تسليمه.
السادس: معرفة الثمن والمثمن.
السابع: أن يكون الثمن معلومًا حال العقد. واختار الشيخ تقي الدين صحة البيع وإن لم يسم الثمن، وله ثمن المثل كالنكاح.

س4: تكلم بوضوح عن بيع المكره، وما الذي قاله الشيخ تقي الدين على بيع الأمانة؟ إذا قال إنسان لآخر: اشترني من زيد فإني عنده، فاشتراه المقول له، فما الحكم؟ وتكلم عما إذا كان القائل أثنى، فاشتراه ووطئها، وأتت بولد منه، واذكر ما تستحضره من دليل أو تعليل أو خلاف.

ج: لا يصح بيع المكره بلا حق؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - :«إنما البيع عن تراض» رواه ابن حبان. فإن أكرهه الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه، صح؛ لأنه حمل عليه بحق، وإن أكره على مقدار من المال، فباع ملكه في ذلك، صح البيع؛ لأنه غير مكره عليه؛ وأما الشراء منه، فقيل: يكره، وهو بيع المضطرين.
قال في«المنتخب»: لبيعه بدون ثمنه، واختار الشيخ تقي الدين الصحة من غير كراهة، وهذا القول هو الذي يترجح عندي. والله أعلم. قال الشيخ: بيع الأمانة هو الذي مضمونه اتفاقهما على أن البائع إذا جاء بالثمن أعاد إليه ملك ذلك، ينتفع به المشتري بالإجارة والسكنى ونحو ذلك، وهو عقد باطل بكل حال، ومقصودهما إنما هو الربا بإعطاء دراهم إلى أجل، ومنفعة الدار هي الربح.
والواجب رد المبيع إلى البائع، وأن يرد المشتري ما قبضه منه، لكن يحسب له منه ما قبضه المشتري من المال الذي سموه أجرة. قال الشيخ: ومن استولى على ملك رجل بلا حق، فجحده أو منعه إياه حتى يبيعه على هذا الوجه؛ فهذا مكره بغير حق، انتهى. وإن باع إنسان ماله خوفًا من ظالم، أو خاف إنسان ضيعته، أو نهبه أو سرقته أو غصب، فباعه من غير تواطؤ مع المشتري على أن البيع تلجئة وأمانة، صح بيعه؛ لأنه صدر من أهله في محله من غير إكراه.
ومن قال: اشترني من زيد، فإني عبده ، فاشتراه المقول له فبان حرًا؛ لم يلزمه العهدة، حضر البائع أو غاب، لأنه إنما وجد منه الإقرار دون الضمان، كقول إنسان لآخر: اشتر منه عبده هذا، فاشتراه، فتبين حرًا؛ فلا تلزم القائل العهدة، ويؤدب هو وبائعه لما صدر منهما من التغرير، ويرد كل منهما ما أخذه لأنه قبضه بغير حق.
وعن الإمام رواية؛ يؤخذ البائع والمقز بالثمن، فإن مات أحدهما أو غاب، أخذ الآخر بالثمن، واختاره الشيخ تقي الدين، قال في «الإنصاف»: وهو الصواب، قال في «الفروع»: ويتوجه هذا في كل غار. قال في «الإنصاف»: وما هو يعيد، ولو كان الغار أنثى، فقالت لآخر: اشترني من هذا فإني أمته، فاشتراها ووطئها؛ حدَّتْ دونه ولا مهرَ لها؛ لأنها زانية مطاوعة، ويلحقه الولد للشبهة، ولو أقر شخص لآخر أنه عبده فرهنه، فكبيع فلا تلزم العهدة القائل.

تعريف جائز التصرف ومن لا يصح منه البيع
س5: من هو جائز التصرف الذي يصح بيعه؟ وما حكم بيع المميز والسفيه والقن؟, وما حكم قبول المميز والسفيه للوصية؟ ومن الذي لا يصح منه البيع؟


ج: هو الحر المكلف الرشيد، فلا يصح من صغير ومجنون ونائم ومبرسم وسفيه وسكران؛ لأنه قول يعتبر له الرضا، فاعتبر فيه الرشد كالإقرار، إلا في شيء يسير، كرغيف أو حزمة بقل أو كبريت أو قطعة حلوى ونحو ذلك، فيصح من قِنٍ وصغير ولو غير مميز وسفيه؛ لأن الحجر عليهم لخوف ضياع المال، وهو مفقود في اليسير، وإذا أذن لمميز وسفيه وليهما، صح ولو في الكثير؛ لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا اليَتَامَى} [النساء: 6] أي: اختبروهم وإن يتحقق بتفويض البيع والشراء، وحرم على وليهما الإذن لهما بالتصرف في مالهما بلا مصلحة؛ لأنه إضاعة، ولا يصح من المميز والسفيه قبول هبة ووصية بلا إذن ولي لهما كالبيع، واختار الموفق وجمع صحته من مميز بلا إذن ولي، كما يصح من العبد قبول الهبة والوصية بلا إذن سيده ويكونان لسيده، وهذا القول عندي أرجح. والله أعلم. وشراء رقيق بلا إذن سيده في ذمته لا يصح للحجر عليه، وكذا شراؤه بعين المال بغير إذن السيد؛ لأنه فضولي، وتُقبل من مميز هدية أرسل بها، ويُقبل منه إذن في دخول الدار ونحوها، عملاً بالعرف.

ذكر أشياء يصح بيعها وأشياء لا يجوز بيعها
س6: تكلم بوضوح عن معاني وأحكام ما يلي: كون مبيع مالاً، بيع البغل والحمار، ودود القز وبزره، والنحل والطير، والهر والفيل، وسباع البهائم، وسباع الطير، والقرد والجاني والمريض، ومنذور عتقه، ومصحف، وكتب زندقة، وسرجين وميتة، بيع الكلب واقتناؤه.


ج: المال شرعًا: ما يباح نفعه مطلقًا في كل الأحوال، أو: يباح اقتناؤه بلا حاجة، فخرج ما لا نفع فيه كالحشرات، وما فيه محرم كخمر، وما لا يباح إلا عند الاضطرار كالميتة، وما لا يباح اقتناؤه إلا لحاجةَ كالكلب، فيجوز بيع بغل وحمار وعقار ومأكول ومشروب وملبوس ومركوب ودقيق؛ لأن الناس يتبايعون ذلك وينتفعون به في كل عصر من غير نكير، وقياسًا لما يرد به النص على ما ورد.
ويصح بيع دود قز وبزرة قبل أن يدب؛ لأنه يخرج من الحرير الذي هو أفخر الملابس، بخلاف الحشرات التي لا نفع فيها.
ويصح بيع طير لقصد صوته، كبلبل وكهزار وببغاء؛ لأن فيها نفعًا مباحًا.
ويصح بيع نحل منفردًا عن كوراته؛ لأنه حيوان طاهر يخرج من بطونه شراب فيه منافع للناس، فهو كبهيمة الأنعام، وكذا يصح بيعه خارجًا عنها معها، بشرط كونه مقدورًا عليه، وإلا لم يصح بيعه للغرر، ويصح بيعه فيها معها إذا شوهد داخلاً إليها، ويصح بيعه في كوراته بدونها إذا شوهد داخلاً إليها، ولا يصح بيع الكوارة بما فيها من عمل ونحل للجهالة، ولا يصح بيع ما كان مستورًا من النحل بأقراصه، ولم يفرق للجهالة.
ويجوز بيع سباع بهائم كالفهد، وبيع فيل وجوارح طير كصقر وباز يصلحان لصيد بأن تكون معلمة أو تقبل التعليم؛ لأن فيها نفعًا مباحًا.
ويجوز بيع هرٍ؛ لما في الصحيح: «أن امرأة دخلت النار في هرة لها حبستها» والأصل في اللام الملك؛ ولأنه حيوان يباح نفعه واقتناؤه مطلقًا أشبه البغل، والقول الثاني: لا يجوز بيعه، اختاره في «الهداية» و«الفائق» وصححه في «القواعد الفقهية»؛ لحديث مسلم عن جابر أنه سُئل عن ثمن السنور، فقال: زجر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك.
وفي لفظ: «إن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن ثمن السنور» رواه أبو داود. وهذا القول عندي أنه أرجح. والله سبحانه أعلم.
ويصح بيع قرد لحفظ؛ لأن الحفظ من المنافع المباحة، ولا يصح بيع قرد العب.
ويصح بيع قن مرتد وجانٍ عمدًا أو خطأ على نفس أو ما دونها ذكرًا أو أنثى، ويصحُ بيع مريضٍ، وقاتل في محاربة متحتم قتله بعد القدرة عليه؛ لأنه ينتفع به إلى قتله، ويعتقه، فيجر ولاء ولده.
ويصح بيع أمة لمن به عيب يفسخ به النكاح كجذام وبرص؛ لأن البيع يُراد للوطء وغيره، بخلاف النكاح.
ويصح بيع لبن آدمية انفصل منها؛ لأنه طاهر ينتفع به كلبن الشاة؛ ولأنه يجوز أخذ العوض عنه في إجارة الظئر، فيضمنه متلفه، ويكره للمرأة بيع لبنها، قال في «الإنصاف»: والوجه الثاني لا يصح مطلقًا، قال المصنف والشارح: ذهب جماعة من أصحابنا إلى تحريم بيعه، وجزم به في «المنور» وقدمه في «المحرر» فعليه، لو أتلفه متلف ضمنه على الصحيح من المذهب، ويحتمل أن لا يضمنه، كالدمع والعرق، قال القاضي: ونقله في شرح «المحرر» للشيخ تقي الدين. اهـ. وعندي أن القول الأول أرجح. والله أعلم.
ولا يجوز بيع الكلب؛ لما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ثمن الكلب، وقال: إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابًا. رواه أحمد وأبو داود، وعن جابر -رضي الله عنه-: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن ثمن الكلب والسنور» رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو، قال: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن» رواه الجماعة. ولأنه حيوان نهى عن اقتنائه في غير حال الحاجة، فأشبه الخنزير.
قال في «الإنصاف»، وقال الحارثي في شرحه في كتاب «الوقف» عند قول المصنف: «ولا يصح وقف الكلب»: والصحيح اختصاص النهي عن البيع بما عدا كل الصيد، بدليل رواية حماد بن سلمة عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ثمن الكلب، والسنور، إلا كلب صيد».
والإسناد جيد، قال: فيصح وقف المعلم؛ لأن بيعه جائز. انتهى.
والذي يترجح عندي القول الأول؛ لأنه أحوط. والله أعلم.
وأما حديث جابر، فقال في «الشرح الكبير»: وأما حديثهم، فقال الترمذي: لا يصح إسناد هذا الحديث، وقال الدارقطني: الصحيح أنه موقوف على جابر، وفي «نيل الأوطار»: قال في «الفتح»: ورجال إسناده ثقات، إلا أن طعن في صحته.
ومن قتل كلبًا يباح اقتناؤه أساء؛ لأنه فعل محرمًا، ولا غرم عليه؛ لأن الكلب لا يملك، ولا قيمة له، ويحرم اقتناء كلب، كما يحرم اقتناء خنزير، ولو لحفظ في البيوت ونحوها، إلا كلب ماشية أو صيد أو حرث؛ لحديث أبي هريرة مرفوعًا: «من اتخذ كلبًا، إلا كلب ماشية، أو صيد، أو زرع، نَقَصَ من أجره كل يوم قيراط» متفق عليه.
وإنما يجوز اقتناء الكلب للماشية والصيد والحرث إن لم يكن أسود بهيمًا أو عقورًا، ولا يصح بيع منذور عتقه نذر تبرر؛ لأنه عتقه وجب بالنذر، فلا يجوز إبطاله ببيعه.
ولا يجوز بيع ميتة، ولا شيء منها ولو طاهرة، كميتة الآدمي، إلا سمكًا وجرادًا ونحوهما.
ولا يصح بيع دم وخنزير وصنم؛ لما ورد عن جابر أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام»، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: «لا، هو حرام» الحديث رواه الجماة.
ولا يصح بيع سرجين نجس، ولا بيع أدهان نجسة العين من شحوم الميتة وغيرها؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه» ولا يحل الإنتفاع بها في استصباح ولا غيره؛ لحديث جابر: قيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنه يدهن بها الجلود، وتطلى بها السفن، ويستصبح بها الناس؟ فقال: «لا، هو حرام» متفق عليه.
ولا يصح بيع أذهان متنجسة، قياسًا على شحم الميتة؛ لحديث: «إن الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه» رواه الشيخان مختصرًا، ويجوز الاستصباح بها على وجه لا تتعدى نجاسته في غيْرِ مسجد؛ لأنه يؤدي إلى تنجسه.
ولا يجوز بيع سم قاتل.
وأما بيع المصحف، فقيل: يحرم بيعه، قال أحمد: لا نعلم في بيع المصحف رخصة، قال ابن عمر: وَددْتُ أن الأيدي تقطع في بيعها؛ ولأن تعظيمه واجب، وفي بيعه ابتذال له، وترك لتعظيمه.
قال في «الشرح»: وممن كره بيعه: ابن عمر، وابن عباس، وأبو موسى، وسعيد بن جبير، وإسحاق, انتهى.
والقول الثاني: يجوز بيع المصاحف؛ لما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه سُئل عن بيع المصاحف، فقال: لا بأس، يأخذون أجور أيديهم.
وروي عن الحسن والحكم؛ ولأنه ينتفع به، أشبه كتب العلم؛ ولأن الحاجة داعية إلى ذلك، وقول ابن عمر: وددت أن الأيدي تقطع في بيعها، يحمل على مَن يمتهنها ولا يحترمها، وهذا القول عندي أرجح. والله أعلم.
ولا يكره شراء المصحف ولا يكره إبداله لمسلم بمصحف آخر؛ لأنه لا يدل على الرغبة عنه. ويجوز نسخه بأجرة، ويجوز وقفه وهبته والوصية به، ويلزم لمن احتاج إلى القراءة فيه ولم يجد مصحفًا.
ولا يصح بيع المصحف لكافر، وإن ملكه بإرث أو غيره ألزم بإزالة يده عنه، لئلا يمتهنه، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن السفر بالمصحف لأرض العدو مخافة أن تناله أيديهم، فأولى أن لا يبقى بيد كافر.
ويدخل المصحف في ملك الكافر ابتداء بالإرث وبالرد عليه لنحو عيب وبالقهر. ذكره ابن رجب.
ويصح شراء كتب الزندقة ليتلفها، وكذلك كتب المبتدعة، ولا يصح بيع آلة لهو، ولا يصح بيع الحر؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة...» وذكر منهم: «رجلاً باع حرًا أكل ثمنه» متفق عليه.
ولا بيع ما ليس بمملوك، ككلأ وماء ومعدن قبل حيازتها وتملكها؛ لفقد الشرط.
ويصح بيع نجس يمكن تطهيره، ولو باع أمة حاملاً بِحُرِّ قبل وضعه، صح البيع فيها؛ لأنها معلومة، وجهالة الحمل لا تضر.

من نظم ابن عبد القوي فيما يتعلق ببعض شروط البيع
بسبعة أشراط يصح فعن رضى ... سوى مكره من حاكم ذي تقلد
ومن باعَا في مال لإكراه ظالم ... فصحح على كره شراه بأوكد
وثانيه كون العقد من جائز له ... عقول مليك بالغ مترشد
وعقد سفيه والمميز جائز ... بإذن ولي في الأصح كمزهد
وجوز شرا الأعمى بوصف وبيعه ... وبيع مريض وارثٍ غير مسعد
وثالثها مالية العين وهي ما ... حوت حل نفع لاضطرار المظهد
كبغل وحمر دود قز وبزره ... ومعلوم نحل في المحل ومفرد
وهو وقيل الحرب مع كل صائد ... في الأولى سوى كلب وبع ذاالتعدد
هزارًا وقمريًا وقال أبو الوفا ... كراهة بيع القرد في نص أحمد
لمن كان لَعَابًا به وهو جائز ... لمن رَامَ حفِظًا للمتاع المنضَد
وما صح فيه البيع بيعت صغاره ... كبيض حرام للفراخ بأوطد
وبع قاتلاً عمدًا ولو في حرابة ... وألبان أمٍ بل نساء بأجود
وحرم وعنه كره إجارة مصحف ... كبيع وفي الأبدال قولان أسند
أيكره أم لا هكذا في اشترائه ... متى ما كرهت البيع غير مشدد
وإيجاره حرم كبيع لكافر ... بغير خلافٍ وانتزعه وهدد
ويحرم بيع الحر والوقف غير ما ... تعطا والأصنام دون تقيد
ويحرم إيجار الكلاب وبيعها ... بغير خلاف عند ذا لم يقيد
وقنيتها للصيد والمنع من أذى ... أَجز واقتنا جرو لهذا بأجود
وقتل المباح الإقتنا احظره مطلقًا ... وحلل له قتل العقور وأسود
وليس على مُرِدي الكلاب ضمانها ... وضمن مجاز البيع حتمًا كأفهد
ويحرم بيع العبد مع نذر عتقه ... وقيل قبيل الشرط بعه إن تقيد
وبزرة قز في وجيه وميتة ... حرام وأجزاها وسِرْ جِيْنَة الردي
كذا حشرات مع دم وبهائم ... وطير سوى المأكول والمتعدد
كذا نجس الأدهان يحرم بيعه ... ولو الكفور مستبيح بأوطد
فخرج على القولين في الاستضا بها ... أو الغسل حل البيع عن كل أصدُد



المجلد الرابع 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 6:21 pm عدل 2 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المجلد الرابع Empty
مُساهمةموضوع: رد: المجلد الرابع   المجلد الرابع Emptyالسبت 14 نوفمبر 2015, 11:56 pm

شرط البيع الرابع وما يتعلق به من أحكام
س7: تكلم بوضوح عن أحكم ومعاني ما يلي: الرابع أن يكون مملوكًا له من باع ملك غيره، أو اشترى لغيره، بيع ما لا يملكه، بيع الأرض الموقوفة مما فتح عنوة وإجارتها، ماء عد. ما في معدن جار، بيع ما نبت من كلأ وشوك، الدخول لأخذه بغير إذن رب الأرض، منع مستأذن لذلك، ومثل لما لا يتضح إلا بالتمثيل، واذكر المحترزات والأدلة.


ج: معناه: أن يكون المبيع مملوكًا لبائعه ووقت العقد ملكًا تامًا؛ لما ورد عن حكيم بن حزام، قال: قلت: يا رسول الله، يأتيني الرجل يسألني البيع، ليس عندي أبيعه منه، ثم أبتاعه من السوق، فقال: «لا تبع ما ليس عندك» رواه الخمسة. حتى الأسير يصح بيعه لملكه إذ الأسر لا يزيل ملكه، أو يكون البائع مأذونًا له في البيع من مالكه أو من الشارع، كالوكيل وولي الصغير وناظر الوقف ونحوه وقت العقد، ولو ظن المالك والمأذون له عدم الملك أو الإذن في بيعه كأن باع ما ورثه غَيْرَ عَالم بانتقاله إليه، أو وكل في بيعه ولم يعلم فباعه؛ لأن الاعتبار في المعاملات بما في نفس الأمر لا بما في ظن المكلف، فلا يصح تصرف فضولي ببيع أو شراء أو غيرهما، ولو أجيز تصرفه بعد وقوعه إلا إن اشترى في ذمته، ونوى الشراء لشخص لم يسمه، فيصح، سواء نقد الثمن من مال الغير أم لا؛ لأن ذمته قابلة للتصرف؛ فإن سماه، أو اشترى للغير بعين ماله، لم يصح الشراء. والرواية الأخرى عن الإمام أحمد أن بيع الفضولي وشراءه صحيح إذا أجازه من تصرف له، وهو قول مالك وقول أبي حنيفة في البيع. وهذا القول عندي أنه أرجح، وذلك لما روي عن عروة بن الجعد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطاه دينارًا ليشتري به شاة، فاشترى به شاتين، ثم باع إحداهما بدينار في الطريق، قال: فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- بالدينار وبالشاة، فأخبرته، فقال: «بارك الله لك في صفقة يمينك» رواه الإمام أحمد والأثرم؛ ولأنه عقد له مُجِيز حالَ وقوعه؛ ولأن تعليل المنع يزول في هذه الحالة، والله أعلم.
ثم إن أجاز المشتّري لَهُ مَلَكَهُ من حين اشترى له، وإلا يجزه مَن اشترى له وَقَع الشِّراء لمشترٍ، ولزمه حُكمُهُ، كما لو لم ينوِ غَيْرَهُ، ولَيْس له التصرُّف فيه قبل عرضِهِ على من اشترى له، ولا يصحُّ بيعُ مالاً يملكُه البائع، ولا إذن له؛ لحديث حكيم بن حزام مرفوعًا: «لا تبع ما ليس عندك» رواه ابن ماجه والترمذي، إلا موصوفًا لم يعين إذا قبض، أو قبض ثمنه بمجلس عقد؛ فإن لم يقبض أحدهما فيه لم يصح؛ لأنه بيع دين بدين، وقد نهى عنه.
ولا يصح بلفظ: «سَلَمَ» أو «سلف» ولو قبض ثمنه بمجلس عقد؛ لأنه سلم. ولا يصح حالاً والموصوف المعين، كـ: «بعتك عبدي فلانًا»، ويستقصي صفته فيصح، ويجوز التصرف فيه قبل قبض له، أو ثمنه كبيع حاضر بالمجلس، وينفسخ عقد عليه برده، فقد صفة من الصفات المشروطة فيه، لوقوع العقد على عينه، بخلاف الموصوف في الذمة فله رده وطلب بدله.
وينفسخ العقد على موصوف معين تلف قبل قبض، لفوات محل العقد، ولا يصح بيع أرض موقوفة مما فتح ولم يقسم، كمزارع مصر والشام، وكذا العراق؛ لأنها موقوفة أقرت بأيدي أهلها بالخراج، غير الحيرة –مدينة قرب الكوفة- وَغْيرَ ألَّليْسَ - مدينة بالجزية.

قال أبو النجم:
لم تُرْعَ ألَّيْس ولا عضاها ... ولا الجزيرات ولا قُراها
وغير بانقيا –ناحية بالنجف دون الكوفة-

قال الأعشى:
قد طُفْتُ ما بين نِقْيَا إلى عَدَنٍ ... وطال في العجم ترحالي وتسياري

وغير أرض بني صلوبا كلها أماكِنُ معروفة بالعراق؛ لأن عمر رضي الله عنه وقفها على المسلمين، وأقرها في أيدي أربابها بالخراج الذي ضربه أجرة لها في كل عام، ولم يُقَدر عمر مدتها لعموم المصلحة فيها.
ويصح بيع المساكن الموجودة حال الفتح أو حدثت بعده، وآلتها منها أو من غيرها؛ لأن الصحابة اقتطعوا الخطط في الكوفة والبصرة في زمن عمر، وبنوها مساكن وتبايعوها من غير نكير، فكان كالإجماع.
ويصح بيع إمام للأراضي الموقوفة مما فتح عنوة لمصلحة رآها، كاحتياجها للعمارة، ولا يعمرها إلا من يشتريها كصحة وقفه لها، وإقطاعه إياها تمليكًا، ويصح بيعها إذا كان البائع غير الإمام، وحكم به من يرى صحته.
وتصح إجارة الأرض الموقوفة مما فتح عنوة مدة معلومة بأجر معلوم، لما تقدم من إقرارها بأيديهم، وضرب عمر الخراج عليها وجعله أجرة لها، والمستأجر له أن يؤجر، وقيل: يجوز البيع والإجارة، وهو رواية عن أحمد، اختاره الموفق والشارح، وفاقًا للشافعي، وفي «الاختيارات»: يصح بيع ما فتح عنوة ولم يقسم من أرض الشام ومصر والعراق، ويكون في يد مشتريه بخراجه، قال: ومعنى وقفها: إقرارها على حالها، وضرب الخراج عليها مستمرًا في رقبتها، وليس معناه الوقف الذي يمنع من الملك في الرقبة، بل يجوز بيعها كما هو عمل الأمة، ومن اشتراها صارت عنده خراجية، وذكر أنها تنقل في أصح قولي العلماء، ولا يجوز بيع وباع مكة، وهي المنازل ودار الإقامة، ولا الحرم كله، وكذا بقاع المناسك، كالمسعى والمرمى والموقف ونحوها، ولا تصح إجارة ذلك، وقيل: يجوز بيع رباعها وإجارة لها. قال في «الشرح الكبير»: اختلفت رواية في رباع مكة وإجارة دورها، فروي أن ذلك غير جائز، وهو قول أبي حنيفة ومالك والثوري وأبي عبيد، وكرهه إسحاق؛ لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مكة: «لا تباع رباعها ولا تكري بيوتها» رواه الأثرم، وعن مجاهد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «مكة حرام بيع رباعها، حرام إجارتها» رواه سعد بن منصور في «سننه».
وروي أنها كانت تدعى السوائب على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ذكر مسدد في «مسنده»: ولأنها فتحت عنوة ولا تقسم، فصارت موقوفة، فلم يجز بيعها كسائر الأرض التي فتحها المسلمون عنوة ولم يقسموها، ودليل أنها فتحت عنوة قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما حلت لي ساعة من نهار» متفق عليه. وروت أم هانئ أنها قالت: أجَرْتُ حَمَوَيْن لي،
فأرادَ عَلي قتلهما، فأتيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: يا رسول الله، إني أجرت حموين لي، فزعم ابن أمي علي أنه قاتلهما، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «قد أجرنا مَن أجَرْتِ، وأمَّنَّا مَن أمَّنْتِ» متفق عليه.
وكذلك أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتل أربعة، فقتل منهم: ابن خطل ومَقِيْس بن ضُبابة، فدل على أنها فتحت عنوة. والرواية الثانية: أنه يجوز ذلك، روي ذلك عن طاووس وعمر بن دينار، وهو قول الشافعي وابن المنذر، وهو أظهر في الحجة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لما قيل له: أين تنزل غدًا؟ قال: «وهل ترك لنا عقيل من رباع!؟» متفق عليه.
يعني أن عقيلاً باع رباع أبي طالب؛ لأنه ورثه دون إخوته، لكونه كان على دينه دونهما، ولو كانت غير مملوكة، لما أثر بيع عقيل شيئًا؛ ولأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم دور بمكة لأبي بكر والزبير وحكيم ابن حزم وأبي سفيان وسائر أهل مكة، فمنهم من باع، ومنهم من نزل داره، فهي في يد أعقابهم، وقد باع حكيم بن حزام دار الندوة، فقال له ابن الزبير: بعث مكرمة قريش، فقال: يا ابن أخي، ذهبت المكارم إلا التقوى، أو كما قال. واشترى معاوية منه دارين، واشترى عمر -رضي الله عنه- دار السجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف، ولم يزل أهل مكة يتصرفون في درهم تصرف الملاك بالبيع وغيره، ولم ينكره منكر، فكان إجماعًا، وقد قرره النبي -صلى الله عليه وسلم-، بنسبة دورهم إليه، فقال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن» وأقرهم في دورهم رباعهم، ولم ينقل أحدًا عن داره، ولا وُجد منه ما يدل عل زوال أملاكهم، وكذلك من بعده من الخلفاء، حتى أن عمر مع شدته في الحق؛ لما احتاج إلى دار للسجن لم يأخذها إلا بالبيع؛ ولأنها أرض حية لم يرد عليها صدقة محرمة، فجاز بيعها كسائر الأرض، وما روي من الأحاديث في خلاف هذا فهو ضعيف؛ وأما كونها فتحت عنوة فهو صحيح لا يمكن دفعه، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر أهلها فيها على أملاكهم ورباعهم، فيدل ذلك على أنه تركها كما ترك لهوازن نساءهم وأبناءهم.
وعلى القول الأول: من كان ساكن دار أو منزل فهو أحق به، يسكنه ويسكنه، وليس له بَيْعُه ولا أخذ أجرته، ومن احتاج إلى مسكن فله بذل الأجرة فيه، وإن احتاج إلى الشراء فله ذلك، كما فعل عمر - رضي الله عنه - ، وكان أبو عبد الله إذا سكن أعطاهم أجرتها؛ فإن سكن بأجرة جاز أن لا يدفع الأجرة إن أمكنه؛ لأنهم لا يستحقونها، وقد روي أن سفيان سكن في بعض رباع مكة، وهرب ولم يعطيهم أجرة، فأدركوه منه، وذكر لأحمد فعل سفيان فتَبَسَّمَ، فظاهر هذا أنه أعجبه.
قال ابن عقيل: وهذا الخلاف في غير مواضع المناسك؛ أما بقاع المناسك كموضع المسعى والرمي فحكمه حكم المساجد بغير خلاف. اهـ (4/ 22-23).
وفي «الاختيارات الفقهية»: ومكة المشرفة فتحت عنوة، ويجوز بيعها لا إجارتها؛ فإن استأجرها فالأجرة ساقطة يحرم بذلها. اهـ. والذي تميل إليه النفس جواز بيع رباع مكة؛ لأنه إنما يستحق التقدم على غيره بهذه المنفعة، واختص بها لسبقه وحاجته، وجواز البيع لوروده على المحل الذي كان البائع اختص به عن غيره وهو البناء، فلو زال لم يكن له أن يبيع الأرض، كما أنه ليس له أن يؤجرها، وله أن يَبْنيها ويُعيدها كما كانت، وهو أحق بها يَسكنُهْا ويُسكنُها من شاء، وكذا تجوز إجارَةُ بُيوتِ مكة، والآثار الواردة في المنع من ذلك يُقابلها مثلُها، ولم يَزل عمل أهل مكة على ذلك قبل الإسلام وبعده، الحاجة تدعو إلى ذلك، وفي المنع من ذلك ضيق وحرج، وقد رفع الله عن هذه الأمة الحرج. والله أعلم.
ولا يصح بيع ماء عدّ، كماء عين ونقع بئر؛ لقوله –عليه الصلاة والسلام-: «المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار» رواه أبو داود وابن ماجه.
ولا يصح بيع ما في معدن جار إذا أخذ منه شيء خلفه غيره، كقار ونفط.
ولا يصحُ بيع نابت من كلأ وشوك ونحو ذلك، ما لم يجزه، فلا يدخل في بيع أرض؛ لأنه مشترك بين المسلمين حتى يحاز، ومشتري الأرض أحق به، ومن أخذه ملكه بحوزه، ويحرم دخول لأجل أخذ ذلك بغير إذن رب الأرض إن حوطت، وإن لم تحوط جاز دخوله لأخذه، لدلالة الحال على الإذن فيه إذا لم يتضرب رب الأرض؛ فإن تضرر بالدخول حرم، وحرم على رب الأرض منع مستأذن في دُخول إن لم يحصَل منه ضرر بدخوله.
وطلول بأرض تجني منه النحل ككلأ في الحكم، وأولى بالإباحَةِ، ونحل رب الأرض أحق بِطَلّ في أرضه؛ لأنه في ملكه.
والمصانع المعدة لمياه الأمطار يملك ربها ما يحصل فيها منها، والمصانع المعدة لها إذا جرى إليها ماء نهر غير مملوك يملك ماؤها الحاصل فيها بحصوله فيها؛ لأن ذلك حيازة لها، ويجوز لمالكه بيعه إذا كان معلومًا، وهبته والتصرف فيه بما شاء؛ لعدم المانع، ولا يحل لأحد أخذ شيء منه بغير إذن مالكه؛ لجريان ملكه عليه كسائر أملاكه.

من النظم مما يتعلق بالشرط الرابع من شروط البيع
ويشرط في تصحيح بيعك ملكك ... الْمبيع وملك المشتري الثمن اشهدِ
وإن بعت أو تشري بمال بلا رضى ... الْمليك فأبطله وعنه إن رضي طدِ
وإن بات بعد العقد أنك مالك الْمبيع ... أو التوكيل فيه تردد
وإن تشتري في ذمة لامرئ بلا ... رضى إن يجز يملك وأبطل بأوكدِ
وإن لم يجز يلزمك مع جهل بائع ... ومع علمه أفسد وللحلِّ جِدَدِ
وحَظِّر تْعاطي كل عَقْدٍ مُفَسْدٍ ... أضح مقتضى شرعًا وإن لم تعددِ
وإن يَبع الإنسان ما ليس عنده ... ليبتاعه ثمت يسأل فأوردِ
وليس صحيحًا بيع مفتوح عنوة ... لوقف الإمام العَبْقَرِيّ بأوكدِ
كذا كل مفتوح بها إن وقفته ... بمطلقها أو باختيار المقلدِ
وإن يتصل حكم بما بيع أو يرى الإمام ... صلاحًا بيع شيء فأطد
وعن أحمد يروي كراهة بيعها ... وتجويز أن يبتاع فافهم وذا اعْضِدِ
وإيجارها في النص جوزه مطلقًا ... كما جوَّز وابيع المساكن تهتدي
وقولان في بيع الرباع بمكة ... وقولان أيضًا في إجارتِها امْهَدِ
وما بَيْعُ جارِ الماء في الملك جائز ... ولا معدن جار وبع ذا التَّجَمُدِ
وكل مباح لا تبع قبل حوزه ... وعنه إن يكن في الملكِ بعه بأبعدِ
ومِن غير إذنِ المالك احظر دخوله ... ويملك ما يحتاز مع فعل معتد
وما حزت من مال وجمعت من كلاً ... فملكك بعه إن تشأ لم تفند
وكره بلا حظر مبايعة امرئٍ ... تمول من حل وحظر منكد
فمعلوم حظر منه حظر وحله ... مباح وفي الشبهات مُبْهَمَهُ اعدد
ويزداد طورًا أو يقل اشتباهه ... ولكن دعوى المشتري الحظر فاردد
وليس بمحظور عطايا ملوكنا ... فقد قبلوا منهم صحابة أحمد


شروط البيع الخامس وما يتعلق به من أحكام
س8: تكلم بوضوح عن الشرط الخامس من شروط البيع، مبينًا حكم بيع السمك بالماء، والطير في الهواء، والمغصوب لغاصبه.

ج: الخامس: القدرة على تسليم المبيع، وكذا الثمن المعين؛ لأن غير المقدور على تسليمه كالمعدوم، فلا يصح بيع آبق، ولا جعله ثمنًا، علِم الآخذُ له مكانه أو جهله؛ لما روى أحمد عن أبي سعيد «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن شراء العبد وهو آبق» رواه أحمد وابن ماجه، ولا نحو جمل شارد، علم مكانه أو لا؛ لما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر» رواه الجماعة إلا البخاري.
ولا يصح بيع سمك في ماء؛ لأنه غرر، إلا سمكًا مرئيًا لصفاء الماء بماء محُوْز يَسْهُل أخذه منه كحوض، فيصح لأنه معلوم يمكن تسليمه؛ فإن لم يَسهل بحيثُ يَعجز عن تسليمه، لم يصح بيعه، وكذا إذا لم يكن مرئيًا، أو لم يكن محوزًا، كمتصل بنهر.
ولا يصح بيع طائر يصعب أخذه، إلا إذا كان بمكان مغلق ولو طال زمن الأخذ؛ لأنه مقدور على تسليمه.
ولا يصح بيع مغصوب إلا لغاصبه؛ لانتفاء الغرر، أو لقادر على أخذ المغصوب من غاصبه، فيصح البيع لعدم الغرر وإمكان قبضه؛ فإن عجز عن تحصله، فله الفسخ لتأخر التسليم.

مما يتعلق بالشرط الخامس من شروط البيع من النظم
وإمكان تسليم المبيع اشتراط فلا ... تبع في الهوا طيرًا وحوتًا بمزبد
ولا آبق مع شارد وغصيبه ... سوى لمطيق القبض أو غاصب قد
فإن يعجز المبتاع عن قبضه إذًا ... فخيره في إمضائه أو ليردد
وينفذ تزويج الإما مع غصبها ... لفقد ضمان النفع بالبضع باليد

الشرط السادس وما يتلق به من أحكام
س9: تكلم بوضوح عن الشرط السادس من شروط البيع مبينًا بأي شيء حصل معرفة مبيع، وإذا سبق العقد ما تحصل به المعرفة، فما الحكم؟ وإذا تغير المبيع، فهل لمشتري الخيار؟ وما يسمى هذا الخيار؟ وما حكم بيع الحمل في البطن، والصوف على الظهر، والنوى في التمر، وعسب الفحل؟ وما حكم بيع اللفت قبل القلع؟ والفجل والجزر، والمسك في فأرته، والعطاء والمعدن وحجارته، والثوب المطوي، والمنسوج بعضه؟ واذكر الدليل والتعليل والترجيح.


ج: الشرط السادس: معرفة مبيع؛ لأن الجبالة غرر، فيشمله النهي عن بيع الغرر؛ ولأنه بيع فلم يصح مع الجهل بالمبيع كالسلم، والعلم به يحصل برؤوية متعاقدين مقارنة لجميعه، أو بِرؤْية ٍ لبعضٍ يدل على بقيته، كرؤية أحد وجهي ثوب غير منقوش، وظاهر الصبرة المتساوية، ووجه الرقيق، وما في ظروف وأعدال من جنس واحد متساوي الأجزاء ونحوها؛ لحصول العلم بالمبيع بذلك.
وما عُرِفَ بلمسِهِ أو شمِّه أو ذَوْقِهِ فكرؤيته، ولا يصح البيع إن قال: بعتك هذا البغل، فبان فرسًا، أو هذه الناقة فبانت جملاً، للجهل بالمبيع؛ وإما بوصف ما يصح سلم فيه بوصف يكفي في السلم، بأن يذكر ما يختلف به الثمن غالبًا؛ فإن اشترى ما لم يره، أو رآه جهله، أو وصف له بما لا يكفي سلمًا لم يصح، وقيل: يصح.
وللمشتري خيار الرؤية، قال في «الشرح»: اختلفت الرواية عن أحمد -رحمه الله- في بيع الغائب الذي لم يوصف، ولم تتقدم رؤيته؛ فالمشهور عنه أنه لا يصح بيعه، وبهذا قال الشعبي والنخعي والحسن والأوزاعي ومالك وإسحاق، وهذا أحد قولي الشافعي، وفي رواية أخرى أنه يصح، وهو مذهب أبي حنيفة، والقول الثاني للشافعي، واحتج من أجازه بعموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ} [البقرة: 275].
وبما روي عن عثمان وطلحة أنهما تبايعا داريهما، إحداهما بالكوفة، والأخرى بالمدينة، فقيل لعثمان: إنك قد غُبِنْتَ! فقال: ما أُبالي، إني بعتث ما لم أره! وقيل لطلحة، فقال: لي الخيار؛ لأنّني اشتريت ما لم أره، فتحاكما إلى جبير، فجعل الخيار لطلحة، وهذا اتفاق منهم على صحة البيع؛ ولأنه عقد معاوضة، فلم تفتقر صحته إلى رؤية المعقود عليه كالنكاح؛ ولنا ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- «أنه نهى عن بيع الغَرر» رواه مسلم. ولأنه بيع، فلم يصح مع الجهل بصفة المبيع كالسلم، والآية مخصوصة بما ذكرنا من الأصل؛ وأما حديث عثمان وطلحة، فيحتمل أنهما تبايعا بالصفة، ومع ذلك فهو قول صحابي، وقد اختلف في كونه حجة، ولا يعارض به حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
والنكاح لا يقصد منه المعاوضة، ولا يفسد بفساد العوض ولا بترك ذكره، ولا يدخله شيء من الخيارات، وفي اشتراط الرؤية مشقة على المخدرات وإضرار بهن؛ ولأن الصفات التي تعلم بالرؤية ليست هي المقصودة بالنكاح، فلا يضر الجهل بها بخلاف البيع؛ فإن قيل: فقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من اشترى ما لم يره فهو بالخيار إذا رآه» والخيار لا يثبت إلا في عقد صحيح، قلنا: هذا يرويه عمر بن إبراهيم الكردي، وهو متروك الحديث. ويحتمل أنه بالخيار بين العقد وتركه، فعلى هذا يشترط رؤية ما هو مقصود بالبيع، كداخل الثوب وشعر الجارية ونحوهما. اهـ (4/28، 29).
والذي تميل إليه النفس القول بالصحة لما تقدم، وهو الذي اختاره الشيخ تقي الدين -رحمه الله-.
ولا يصح البيع إن سبقت الرؤية العقد بزمن يتغير فيه المبيع ظاهرًا.
ويصح بيع الأعمى وشراؤه فيما يعرف بلمس أو شم أو ذَوق أو وصف بعد إتيانه بما يعتبر في ذلك، كما يصح توكيله في بيع وشراء مطلقًا، ثم إن وجد مُشتر ما وصِفَ له، أو تقدَّمتْ رؤيتُه العقد، مُتغيرًا بزمنٍ لا يتغير فيه المبيع تغيرًا ظاهرًا، فلمشترٍ الفسخ؛ لأن ذلك بمنزلة عيبه، ويحلف مُشْتَرٍ إن اختلفا في نقصه صفة أو تغيره عما كان رآه عليه؛ لأن الأصل براءته من الثمن، وهو على التراخي، فلا يسقط خياره إلا بما يدل على الرضا من مشتر، ينقص صفته أو تغيره أو سوم ونحوه. ولا يسقط خياره بركوب دابة مبيعة بطريقة ردِّها؛ لأنه لا يدل على الرضا بالنقص أو التغير، ويُسمى هذا الخيار خيار الخلف في الصفة.
وإن أسقط مشتر حقه من الرد ينقص صفة شرطت، أو تغير بعد رؤيته، فلا أرش له؛ لأن الصفة لا يعتاض عنها، ويجوز تقديم الوصف في بيع الأعيان على العقد، كما يجوز تقديم الرؤية، ذكره القاضي محل وفاق.
ولا يصح بيع حمل في بطن مفردًا عن أمه إجماعًا؛ لما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع المضامين والملاقيح» رواه البزار، وفي إسناده ضعف. وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع» الحديث رواه ابن ماجه، والبزار، والدارقطني بإسناد ضعيف. قال أبو عبيد: الملاقيح: ما في البطون، وهي الأجنة، والمضامين: ما في أصلاب الفحول؛ فكانوا يبيعون الجنين في بطن الناقة، وما يضرب الفحل في عامه أو في أعوام. وروى ابن عمر «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن المَجْر»، والمَجْر: اشتراء ما في الأرحام؛ ولأن الحمل غير مقدور على تسليمه، ولا تعلم صفاته ولا حياته.
ولا يصح بيع الحمل أيضًا مع أمه بأن يعقد عليه معها؛ لعموم ما سبق، ومطلق البيع يشمله تبعًا لأمه كالبيض واللبن، قياسًا على أسِ الحائط، ويغتفر في التبعية ما لا يغتفر في الاستقلال.
ولا يصح بيع حَبَلِ الحَبَلة؛ لما ورد عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، قال: «نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بيع حَبَلِ الحبلة» رواه أحمد ومسلم والترمذي، وفي رواية: نهى عن بيع حبل الحَبَلة، وحَبْل الحبلة: أن تنتج الناقة ما في بطنها، ثم تحمل التي نتجت، رواه أبو داود.
وفي لفظ: كان أهل الجاهلية يتبايعون لحوم الجزور إلى حَبَلِ الحبلة، وحبل الحبلة: أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم تحم لالتي نَتَجَت، فنهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، متفق عليه. قال أحمد والترمذي وأكثر أهل اللغة: هو بيع ولد الناقة الحامل، قال: والعمل عليه عند أهل العلم؛ لكونه مَعْدُومًا ومجهولاً وغير مقدور على تسليمه، فهو من بيع الغرر.
ولا يصح بيع لبن في ضرع؛ لما ورد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعن بيع ما في ضروعها» الحديث رواه ابن ماجه، والبزار، والدارقطني بإسناد ضعيف. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تباع ثمرة حتى تطعم، ولا يباع صوف على ظهر ولا لبن في ضرع» رواه الطبراني في «الأوسط»، والدارقطني، وأخرجه أبو داود في المراسيل لعكرمة، وأخرجه أيضًا موقوفًا على ابن عباس بإسناد قوي، ورجحه البيهقي، ولجهل صفته وقدره أشبه الحمل.
ولا يصح بيع نوى بتمر، قال في «الشرح»: ولا يجوز بيع النوى في التمر، والبيض في الدجاجة للجهل بهما، ولا نعلم في هذا اختلافًا، ولا يصح بيع صوف على ظهر؛ لحديث ابن عباس السابق؛ ولأنه متصل بالحيوان، فلم يجز إفراده بالبيع كأعضائه، إلا إذا بيع الحمل أو النوى أو اللبن أو الصوف تبعًا للحامل وذات اللبن والتمر وذوات الصوف، فيصح بيع شاة ذات لبن وصوف وتمر فيه نوى؛ لأنه يغتفر في التبعية ما لا يغتفر في الاستقلال، وكذا بيع دار يدخل فيما أساسات وحيطان، وقال الشيخ تقي الدين: إن باعه موصوفًا في الذمة، واشترط كونه من هذه الشاة أو البقرة جاز.
ولا يصح بيع عسب الفحل؛ لما روى ابن عمر، قال: «نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ثمن عسب الفحل» رواه أحمد، والبخاري، والنسائي، وأبو داود، وعن جابر «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع ضراب الفحل» رواه مسلم والنسائي، وعن أنس أن رجلاً من كلاب سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عسب الفحل، فَنَهاه، فقال: يا رسول الله، إنا نطرق الفحل فنكْرَمُ، «فرخَّص له في الكرامة» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب.
ولا يصح بيع مسك في فأرته، وهو الوعاء الذي يكون فيه.

قال الشاعر:
إذا التاجِرُ الهِنْديُّ راحَ بفأرَةٍ ... من المِسْكِ راحتْ فيَ مفارقِهم تجْري

وتسمى: النافجة، وهي جلدة يكون فيها المسك، وأصله دمَ يجتمع في بَجْرة، أي: كيس في سرة الظبية، ثم يتقور ويسقط، وقد يَبِسَ الدم فصار كالفُتات.

وقد ذكره المتنبي، فقال:
فإن تَفُقِ الأنامَ وأنْتَ منهم ... فإنَّ المِسْكَ بعضُ دمِ الغَزالِ

فإن فتح وشاهد ما فيه جاز بيعه، وإن لم يشاهد لم يجز بيعه للجهالة، كلؤلؤ في صدف.
قال في «الشرح»: وقال بعض الشافعية: يجوز لأن في بقاءه في فأرته مصلحة له؛ فإنه يحفظ رطوبته وذكاء رائحته أشبه ما مأكوله في جوفه، ولنا أنه يبقى خارج وعائه من غير ضرورة، وتبقى رائحته، فلم يجز بيعه مستورًا كالدر في الصدف، وما مأكوله في جوفه إخراجه يفضي إلى تلفه، وفي «الفروع»: ويتوجه تخريج يجوز؛ لأنه وعاء له يصونه ويحفظه. انتهى. واختار الشيخ وابن القيم جواز بيع المسك في فأرته، والذي يترجح عندي القول الأول لما تقدم. والله أعلم.
ولا يصح بيع لفت وفجل وجزر ونحوه قبل قلع، لجهالة ما يُراد منه، واختار الشيخ الصحة، واختاره في «الفائق» وهو مذهب مالك. اهـ. قال الطوفي في «شرح الخرقي»: والاستحسان جوازه؛ لأن الحاجة داعية إليه، والغرر يندفع باجتهاد أهل الخبرة والدراية به.
ولا يصح بيع ثوب مطوي، أو ثوب نُسِجَ بعضُه، على أن ينسج بقيته للجهالة. قال في «شرح المنتهى»: حيث لم ير منه ما يدل على بقيته؛ فإن الناس لم يزالوا في جميع الأمصار والأعصار يتبايعون الثياب المطوية، ويكتفون بتقليبهم منها ما يدل على بقيتها. اهـ. فإن أحضر البائع ما نسجه من الثوب، وبقية السُدى واللُّحمة، وباعها مع الثوب، وشرط على البائع نسجها؛ صح البيع والشرط.
ولا يصح بيع العطاء قبل قبضه؛ لأن العطاء مْغَيَّب، فيكون من بيع الغرر، والعطاء: قسطه من الديوان، ولا يصح بيع رقعة به؛ لأن المقصود بيع العطاء.
ولا يصح بيع معدن وحجارته قبل حوزه إن كان جاريًا، لما تقدم، وكذا إن كان جامدًا وجهل.

بيع الملامسة والمنابذة والحصاة والغرر
س10: تكلم عن معاني وأحكام ما يلي: الملامسة، المنابذة، بيع الحَصَاة، وما مثاله؟ بيع ما لم يعين، وما مثاله؟ بيع ما شوهد، الاستثناء في البيع، بيع أمة حامل بحرٍ، بيع ما مأكوله في جوفه، بيع الحب المشتد في سنبله، بيع قفيز من هذه الصبرة، بيعها جزافًا، بيع رطل من دَنَّ زيت، أو من زبرت حديد ونحوه، إذا تلفت الصبرة أو ما في الدن، إذا فوق قفزانًا وباع واحدًا منها، بيع ثمرة شجرة إلا صاعًا، من باع ثمرة بستان واستثنى، بيع جريب من أرض أو ذراع من ثوب، استثناء ذلك، استثناء حمل مبيع أو شحمه أو رطل لحم، وما الذي لا يصح استثناؤه إذا أبى مشتر ذبح المأكول المستثنى منه؟ اذكر بقية ما يتعلق بهذا الشرط من مسائل، وأدلة، وتعليلات، وخلاف، وترجيح.


ج: الملامسة: مفاعلة من لَمِس يَلْمُسُ إذا أجرى يده على الشيء.
ولا يصح بيع الملامسة كبعتك ثوبي هذا على أنك متى لمسته فعليك بكذا، أو على أنك إن لمسته فعليك بكذا، أو أيَّ ثوب لمَسْتَهُ فهو عليك بكذا.
والمنابذة: مُفاعَلة من نَبَذَ الشيء ينبذه: إذا ألقاه.
ولا يصح بيع المنابذة، كقوله: متى نَبَذْتُ هذا الثوب فلك بكذا، أوْ: إن نبذت هذا الثوب ونحوه فلك بكذا، أو: أي ثوب نبذته فلك بكذا. عن أبي سعيد قال: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الملامسة والمنابذة في البيع» والملامسة: لمُس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار، ولا يُقلبه. والمنابذة: أن يَنْبُذَ الرجل إلى الرجل بثوبه، ويَنْبُذ الآخر بثوبه، ويكون ذلك ببيعهما من غير نظر ولا تراض، متفق عليه.
وعن أنس، قال: «نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المحاقلة والمخاطرة، والمنابذة، والملامسة، والمزابنة» رواه البخاري.
وأما بيع الحصاة فاختلف في تفسيره، فقيل: هو أن يقول إرم هذه الحصاة، فعلى أيّ ثوب وقعت، فهو لك بدرهم، وقيل: هو أن يقول: بعتك من هذه الأرض مقدار ما تبلغ هذه الحصاة إذا رميتها بكذا، وقيل: هو أن يقول: بعتك هذا بكذا، على أني متى رميت هذه الحصاة وجب البيع، وكل هذه البيوع فاسدة لا تصح؛ لما فيها من الغرر والجهل. عن أبي هريرة: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر» رواه الجماعة إلا البخاري، وقال الوزير: اتفقوا على أن بيع الحصاة والملامسة والمنابذة باطل.
ولا يصح بيع ما لم يُعَيُّن، كعبد من عبيد، وكشاة من قطيع، وكشجرة من بستان، لما فيْه من الجهالة والغرر، وقد «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر».
ولا يصح: بعتك هؤلاء العبيد إلا واحدًا غير معين، ولا بعتك هذا القطيع إلا شاة غير معينة، ولا هذا البستان إلا شجرة مبهمة؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- «نهى عن الثُّنيا إلا أن تُعلم». قال الترمذي: حديث صحيح. -الثَّنيا: هي أن يستثنى في عقد البيع شيء مجهول.- ولأن ذلك غرر ويفضي إلى التنازع، وإن استثنى معينًا من ذلك يعرفه جاز وصح البيع والاستثناء؛ لأن المبيع معلوم بالمشاهدة، لكون المستثنى معلومًا، فانتفى المفسد.
ويصح بيع ما شوهد من حيوان كقطيع يشاهده كله.
ويصح بيع ما شوهد من ثياب معلقة أو لا ونحوها، وإن جهل المتعاقدان عدد المبيع المشاهد بالرؤية؛ لأن الشرط معرفته لا معرفة عدده.
ويصح بيع أمة حامل بحرٍ؛ لأنها معلومة، وجَهالة الحمل لا تضرُّ.
وقد يستثنى بالشرع ما يستثنى باللفظ، كبيع أمة مزوجة؛ فإن منفعة البضع مستثناة بالشرع، ولا يصح استثناؤها باللفظ.
ويصح بيع ما مأكوله في جوفه كبيض ورمان، لدعاء الحاجة إلى بيعه، ولكنه من مصلحته ويفسد بإزالته.
ويصح بيع الباقلاء واللوز والجوز ونحوه، كالحمص والفستق في قشره؛ لأن ساتره من أصل الخلقة، أشبه البيض.
ويصح بيع حب مشتد في سنبله، لما تقدم؛ ولأنه - صلى الله عليه وسلم - جعل الاشتداد غاية للمنع، وما بعد الغاية مخالف لما قبلها، فوجب زوال المنع، ويدخل الساتر لنحو جوز وحب مشتد من قشر وتبن تبعًا، كنوى تمر؛ فإن استثنى القشر أو التبن بطل البيع؛ لأنه يصير كبيع النوى في التمر.
ويصح بيع تبن بدون حبة قبل تصفيته منه؛ لأنه معدوم بالمشاهدة.
ويصح بيع قفيز من هذه الصبرة إن تساوت أجزاؤها وزادت على القفيز؛ لأن المبيع حينئذ مقدر معلوم من جملة متساوية الأجزاء.
ويصح بيع رطل من دن نحو عسل أو زيت أو من زبرت حديد ونحوه، وإن تلفت الصبرة أو الدن أو الزبرة إلا قفيزًا أو رطلاً واحدًا فهو المبيع، فيأخذه المشتري، ولو فرق قفزانًا من صبرة متساوية الأجزاء، وباع منها واحدًا مبهمًا أو اثنين فأكثر، صح البيع كما لم يفرقها؛ لأنه لا يفضي على التنازع.
ويصح بيع صبرة جزافًا؛ لما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كانوا يتبايعون الطعام جزافًا بأعلى السوق، فنهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبيعوه حتى ينقلوه. رواه الجماعة إلا الترمذي وابن ماجه.
ويجوز بيعها جزافًا مع جهلهما أو علمهما بقدرها، لعدم التغرير، ومع علم بائع وحده قدرها يحرم عليه بيعها جزافًا؛ لما روي عن الأوزاعي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من عرف مبلغ شيء، فلا يبعه جزافًا حتى يعينه» ولأنه لا يعدل على البيع جزافًا مع علمه بقدر الكيل إلا للتغرير ظاهرًا.
ويصح البيع مع التحريم، لعلم المبيع بالمشاهدة، ولمشْترٍ الرد؛ لأن كتمه ذلك غش وغرر، وكذا مع علم مشتر وحده بقدر الصبرة، فيحرم عليه شراؤها جزافًا مع جهل بائع به، ولبائع الفسخ به لتغرير المشتري له.
ويحرم على بائع جعل صبرة على نحو حجر أو ربوة مما ينقصها، ويثبت به لمشتر لم يعلمه الخيار؛ لأنه عيب، وإن بان تحتها حفرة لم يعلمها البائع فله الفسخ، ويصح بيع صبرة علم قفزانها على قفيزًا؛ لأنه –عليه السلام- نهى عن الثنيا إلا أن تعلم، وهذه معلومة.
ولا يصح بيع ثمرة شجرة إلا صاعًا، لجهاله آصعها، فتؤدي على جهالة ما يبقى بعد الصاع، قال في «الشرح الكبير»: إذا باع صرة واستثنى منها قفيزًا، أو أقفزة، أو باع ثمرة بستان، واستثنى منها صاعًا، أو آصعًا، لم يصح في ظاهر المذهب.
روي ذلك عن سعيد ابن المسيب، والحسن والشافعي والأوزاعي وإسحاق وأبي ثور، وأصحاب الرأي، وفيه رواية أخرى أنه يجوز، وهو قول ابن سيرين وسالم بن عبد الله ومالك؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الثنيا إلا أن تعلم، وهذه معلومة؛ ولأنه معلوم أشبه إذا استثنى منه جزءًا مشاعًا، ووجه الأولى ما روى البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الثنيا؛ ولأن البيع إنما علم بالمشاهدة لا بالقدر، والاستثناء بغير حكم المشاهدة؛ لأنه لا يدري كم يبقى في حكم المشاهدة، فلم يجز، ويخالف الجزء؛ فإنه لا يعتبر حكم المشاهدة، ولا يمنع المعرفة بها، وكذلك إذا باع ثمرة شجرة، واستثنى أرطالاً، فالحكم فيه على ما ذكرنا (4/ 34)، وإن استثْنى من الحائط شجرة بعينها جاز؛ لأن المستثنى معلوم، ولا يؤدي إلى الجهالة في المستثنى منه.
ولا يصح بيع جريب من أرض مبهمًا، أو ذراع من ثوب مبهمًا؛ لأنه ليس معينًا أو مشاعًا، إلا إن علما ذرع الأرض والثوب، فيصح البيع، ويكون الجريب أو الذراع مشاعًا؛ لأنه إذا كان الثوب أو الأرض مثلاً عشرة، وباعه واحد منها، فهو بمنزلة بيع العشر.
ويصح استثناء جريب من أرض، وذراعٍ من ثوبٍ، إذا كان المستثنى مُعينًا بابتداء وانتهاء معًا؛ لأنها ثنيا معلومة؛ فإن عين أحدهما دون الآخر لم يصح. وفي كتاب «المهذب»: وإن قال بعتك عشرة أذرع ابتداؤها من هذا المكان، ولم يبين المنتهى، ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأن أجزاء الأرض مختلفة، وقد ينتهي إلى موضع يخالف موضع الابتداء، والثاني: أنه يصح؛ لأنه يشاهد السمت. اهـ. قلت: والوجه الثاني عندي أنه قوي، وإن قال: بعتك من هذا الثوب من هذا الموضع، صح البيع للعلم بالمبيع؛ فإن كان القطع لا ينقصه قطعاه، أو كان شَرَطَه البائعُ للمشتري قطعاه، ولو نقَّصَهُ إذًا وفاءَ بالشرط. وإن كان القطع ينقص الثوب ولم يشترطاه، وتشاحا في القطع، صح البيع، ولم يجبر البائع على قطع الثوب، وكانا شريكين فيه؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر؛ فإن تنازعا بيع، وقسط الثمن على قدر ما لكل واحد منهما،وكذا خشبة في سقف وفصّ في خاتم بيعًا، ونقص السقف أو الخاتم بالقلع، فيباع السقف بالخشبة، والخاتم بفصِّه، ويقسم الثمن بالمحاصة.
ولا يصح استثناء حَمِلٍ مبيع من أمَةٍ، أو بهيمة مأكولة أو لا، ولا يصح استثناء شحم البيع المأكول لأنهما مجهولان، وقد نهى عن الثنيا إلا أن تُعلم، ولا يصح استثناء رطل لحم أو شحم من مأكول، لجهالة ما يبقى. وقال أبو الوفاء: المذهب صحة استثناء رطل من لحم.
وإن باع حيوانًا أكولاً، واستثنى رأسه، أو جلده، أو أطرافه، صح. وقال مالك: يصح في السفر دون الحضر؛ لأن المسافر لا يمكنه الانتفاع بالجلد والسواقط، فجَّوز له شراء اللحم دونها. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجوز؛ لأنه لا يجوز إفراده بالبيع، فلم يجز استثناؤه كالحَمَلِ، ودليل الأول: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الثنيا إلا أن تعُلم»، وهذه معلومة، وروي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما هاجر إلى المدينة، ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة، مروا براعي غنم، فذهب أبو بكر وعامر، فاشتريا منه شاة، واشترطا له سلبها.
وروى أبو بكر في «الشافي» بإسناده عن جابر عن الشعبي، قال: قضى زيد بن ثابت وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بقرة باعها رجل، واشترط رأسها، فقضى بالشروى، يعني: أن يعطي مثل رأس؛ ولأن المستثنى، والمستثنى منه معلومان، فصح، كما لو باع حائطًا، واستثنى منه نخلة معينة, وكونه لا يجوز إفراده بالبيع لا يمنع صحة استثنائه، كما أن الثمرة قبل التأبير لا يجوز إفرادها بالبيع بشرط كشرط التبقية. انتهى (من: ش ك ج (ص36) بتصرف).
ولا يصح استثناء ما لا يصح بيعه مفردًا إلا في هذه الصورة للخبر.
وصح الاستثناء في هذه دون البيع؛ لأن الاستثناء استبقاء، وهو يخالف ابتداء العقد، بدليل عدم صحة نكاح المعتدة من غيره، وعدم انفساخ نكاح زوجة وطئت بِنَحْو شُبْهة، ولو أبى مشتر ذبح المأكول المستثنى رأسُه وجلدهُ وأطرافه، ولم يشترط البائع عليه ذبْحَه في العقد، لم يجبر مشتر على ذبحه، لتمام ملكه عليه، ويلزم المشتري قيمة ذلك على التقريب؛ لما روي عن علي -رضي الله عنه- أنه قضى في رجل اشترى ناقة، وشرط ثنياها، فقال: اذهبوا إلى السوق، فإذا بلغت أقصى ثمنها، فأعطوه بحساب ثنياها من ثمنها؛ فإن اشترط بائع على مشتر ذَبْحَه، لزمه ذبحه، ودفع المستثنى لبائع؛ لأنه دخل على ذلك، فالتسليم مستحق عليه؛ فإن باع لمشتر ما استثناه صح، كبيع الثمرة لمالك الأصل.
وللمشتري الفسخ بعيب يخص المستثنى، كعيب برأسه أو جلده؛ لأن الجسد شيء واحد يتألم كله بتألم بعضه.
ويصح بيع حيوان مذبوح، وبيع لحمه قبل سلخه، وبيع جلده وحده، وبيع رؤوس وأكارع وسموط، وبيعه مع جلده جميعًا، كما قبل الذبح.

من نظم ابن عبد القوي مما يتعلق بالشرط السادس
ومن شرطه علمُ المبيع برؤيةٍ ... أو الوصف إن يحصلْ به علمُ مقصدِ
فمعْ صفَة تكفيك في سلمٍ أجِزْ ... وعقد أتى عن رؤية غير مبعدِ
فإن فقِدا فالبيعُ يا صاح باطل ... وعنه صحيحٌ خَيِّرن عند مشهدِ
فإن كن مثل الوصف فالبيعُ لازم ... وإن يتغيَّر فاختر إن شئت فارددِ
ومن يرَ عيبًا جاهلاً قدرَه فذا ... كجاهلها أصلاً عُمومًا مَزَغَّدِ
ودَرّ بضرع والنوى في تموره ... ومسك بفأر والجنين المعدَّدِ
وبيْضٌ ولم يلق وصوف بظهره ... وعنه إن شرطت الجزَّفي الحال فاعضد
ويحرم بيع الكفر عبدًا موحدًا ... وعنه إن يكن يعتق عليهم اجز قد
ويحرم أيضًا أن يوكل مسلمًا ... ليبتاعه والعكس فيه ترددِ
وقولهم اعتقه عنا بقيمة ... على أحد الوجهين جوز فشردِ
وإن أسلم المملوك في يد كافر ... بإخراجه عن مُلكه اجبره واظهد
وفي أحد الوجهين فامنع كتابة ... الكفور له إذ لم يزل من تعبدِ
وقولان في التفريق بين محارم الرقيق ... ببيع مَعْ بُلوغ مرشدِ
وليس بمكروهِ فداء أسيرنا ... بكافرهم كالعتق للمتفردِ
وما بيع شيء مطلقًا بمجوز ... ولا مبهم في ذي اختلاف معددِ
كذلك إستثناء غير معين ... وإن بعت إلا ذا فجوز وجودِ
بيعُ قفْيزِ البُر مِن صبرة أجز ... ومَن باع رطل البر من صَبرة هديِ
وإن باعها إلا قفيزًا ونحو ذا ... فألغ على الأولى وقيل بل اعهدِ
وثلثًا متى تشري من صبرة يجز ... مشاعًا على الأقوى لدى صحب أحمدِ
وإن بعت أو تبقى من الأرض أذرعًا ... وأذرعها مجهولة فليفسدَ
وإن تعلم الجريان صحت مشاعة ... وفي سنبل قد جاز بيع المحصّدِ
بجنس سواه ثم إن بمكيل ... تبعه ففي ذا العقد قولين أسندِ
كذلك في القشرين بع باقلاهم ... وجوزًا ولوزًا ثم بيضًا وعددِ
وإن باع شخص سمسمًا غير كسبة ... وشاة سوى حمل وشحم مسرهد
وقطنًا سوى حب فذاك فأفسدن ... وبيع شياه غير روس وأجلُدِ
وأطرافه صحِّحْ ولا تَذْبَحَنَّ إن ... أبى المشتري بل قدر ثنياك فاليدِ
وبيع إماء حاملات تحريًا ... أجاز سوى القاضي الإمام محمدِ



المجلد الرابع 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 6:21 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المجلد الرابع Empty
مُساهمةموضوع: رد: المجلد الرابع   المجلد الرابع Emptyالأحد 15 نوفمبر 2015, 12:04 am

شرط البيع السابع وما يتعلق به من أحكام
س11: تكلم بوضوح عن الشرط السابع من شروط البيع، وما حكم البيع والإجارة إذا عقدا على ثمن وأجرة بوزن صنجة وبملء كيل مجهولين؟ وما حكم البيع بصبرة، وبنفقة عبده مدة؟ وإلى أي شيء يرجع عند تعذر معرفة ثمن؟ وإذا أسرا ثمنًا بلا عقد، ثم عقداه بثمن آخر، فأيهما الثمن؟ وما حكم البيع بالرقم، وبما باع به زيد، وبألف درهم ذهبًا وفضة، وبثمن معلوم، ورطل خمر، وكما يبيع الناس، وبدرهم أو دينار مطلق. وإذا قال: بعتك بعشرة صحاحًا، أو إحدى عشرة مكسرة، أو بعشرة نقدًا، أو عشرين نسيئة، فما حكم ذلك؟ وما حكم البيع بدينار إلا درهمًا، أو بمائة درهم إلا دينارًا، أو نحوه، أو بمائة على أن أرهن بها، وبالمائة التي لك غيرها هذا؟

ج: الشرط السابع: معرفة المتعاقدين لثمن حال عقد البيع؛ لأن جهالته غرر، فيشمله النهي عن بيع الغرر، ومعرفة الثمن تحصل إما بالوصف، أو بالمشاهدة حال العقد. واختار الشيخ تقي الدين –رحمه الله- صحة البيع، وإن لم يُسَمَّ الثمن، وله ثمن المثل كالنكاح، وكالثمن أجرة، فيشترط معرفة العاقدين لها ولو بمشاهدة، فيصح البيع والإجارة إذا عقدا على ثمن، وأجرة بوزن صنجة، وبملء كيل مجهولين عرفا وعرفهما المتعاقدان بالمشاهدة، كبعتك، أو أجرتك هذه الدار بوزن هذا الحجر فضة، أو بملء هذا الوعاء أو الكيس دراهم.
ويصح بيع وإجارة بصبرة مشاهدة من بر أو ذهب أو فضة أو نحوها، ولو لم يعلما عددها، ولا وزنها، ولا كيلها، ويصح بيع وإجارة بنفقة عبده فلان، أو أمته فلانة، أو نفسه أو زوجته أو ولده ونحوه، شهرًا أو سنة أو يومًا ونحوه؛ لأن لها عرفًا يرجع إليه عند التنازع، ويرجع مشتر على بائع مع تعذر معرفة قدر ثمن في فسخ بيع لنحو عيب بقيمة مبيع، ولو أسَّر ثمنًا بلا عقد بأن اتفقا سرًا أن الثمن مائة مثلاً، ثم عقداه بثمن آخر كمائتين مثلاً، فالثمن الأول وهو المائة؛ لأن المشتري إنما دخل عليه فقط، فلم يلزمه الزائد. وإن عَقَداهُ سِرًا بثمن كعشرة، وعقداه علانية بثمن آخر أكثر منه كاثني عشر، أخذ المشتري بالثمن الأول دون الزائد كالتي قبلها وأولى؛ لأنه إذا أخذ بالأول فيما إذا اتفقا عليه بلا عقد، فأولى أن يؤخذ به فيما عقداه، وإن باعه السلعة برقمها المكتوب عليها، ولم يعلماه أو أحدهما، لم يصح للجهالة.واختار الشيخ تقي الدين صحة بيع السلع برقمها، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس. والله أعلم. وإذا باع السلعة بما باع به فلان، ولم يعلماه أو أحدهما، لم يصح للجهالة، وكذا لو قال: كما يبيع الناس، أي: بما يقف عليه من غير زيادة، لم يصح للجهالة. واختار الشيخ تقي الدين الصحة، وقال: هو أحد القولين في مذهب أحمد. وهو طيب أطيب لنفس المشتري من المساومة، وصوبه ابن القيم، وذكر أنه عمل الناس، وليس في الشرع ما يحرمه؛ وإذا باعه السلعة بما يَنْقَطِعُ به السعر، وهو ما يقف عليه من غير زيادة، لم يصح للجهالة.
واختار الشيخ تقي الدين الصحة، وقال ابن القيم: وهو الصواب المقطوع به، والله أعلم.
وإذا باعه السلعة بألف درهم ذهبًا وفضة لم يصح، وَوَجَّهَ في الفروع الصحة، ويلزمه النصف ذهبًا، والنصف فضة، بناء على اختيار ابن عقيل فيما إذا أقر بمائة ذهبًا وفضة؛ فإنه صَحَّحَ إقراره بذلك مناصفة.
قال في «الإنصاف»: ولا يصح بيع شيء بثمن معلوم، ورطل خمر أو كلب؛ لأن هذه لا قيمة لها، فلا ينقسم عليها البدل، أشبه ما لو كان الثمن كله كذلك، وإن باعه السلعة بدينار مطلق، وفي البلد نقود مختلفة من الدنانير كلها رائجة، لم يصح البيع؛ لأن الثمن غير معلوم حال العقد، وإن كان في البلد نقد واحد، صح البيع، وانصرف إليه؛ لأنه تعين بانفراد وعدم مشاركة غيره له، فلا جهالة، أو كان في البلد نقوده وأحُدهَا الغالب رواجًا، صح البيع، وانصرف إليه؛ لدلالة القرينة الحالية على إرادته، فكأنه مُعَيَّن.
وإن قال بعتك بِعَشرة صحاحًا، أو إحدى عشر مكسرة، أو بعشرة نقدًا، أو عشرين نسيئة، لم يصح؛ لما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيعتين في بيعة» رواه أحمد والنسائي، والترمذي، وصححه. ولأبي داود: «من باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما أو الربا»، وعن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: «نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن صفقتي في صفقة». قال سماك: هو الرجل يبيع البيع، فيقول: هو بنسأ بكذا، وهو بنقد بكذا وكذا، رواه أحمد، وكذلك فسره مالك والثوري وإسحاق، وهذا قول أكثر أهل العلم؛ لأنه لم يجزم له ببيع واحد، أشبه ما لو قال: بعتك أحد هذين؛ ولأن الثمن مجهول، فلم يصح كالبيع بالرقم المجهول. انتهى.
ومحله ما لم يفترقا على أحدهما، ذكره في «الفروع»، وقال الوزير: اتفقوا على أنه لا يجوز بيعتان في بيعة واحدة، وقال ابن القيم: قيل: أن يقول: بعتك بعشرة نقدًا، أو عشرين نسيئة. وهذا التفسير ضعيف، فإنه لا يدخل في الربا في هذه الصورة، ولا صفقتين هنا، وإنما هي صفقة واجدة بأحد الثمنين، والتفسير الثاني: أن يقول: أبيعَكها بمائة إلى سنة، على أن أشتريها منك بثمانين حالة، وهذا معنى الحديث الذي لا معنى له غيره، وهو مطابق لقوله: «فله أوكسهما أو الربا»، وقال: وقيل: البيعتان في بيعة، هو الشرط في البيعة؛ فإنه إذا باعه السلعة بمائة مؤجلة، ثم اشتراها منه بثمانين حالة، فقد باع بيعتين في بيعة؛ فإن أخذ بالثمن الزائد أخذ بالربا، وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما، وهذا من أعظم الذرائع إلى الربا، بخلاف بمائة مؤجلة، أو خمسين حالة، فليس هنا ربًا ولا جهالة، ولا غرر ولا ضرر، وإنما خيره بين أيّ الثمنين شاء. اهـ. وفسره أحمد وغيره بأن يبيعه سلعة، ويقرضه قرضًا، والذي يترجح عندي ما اختاره الإمام ابن القيم. والله أعلم.
ولا يصح البيع بدينار إلا درهمًا؛ لأنه استثنى قيمة الدرهم من الدينار وهي غير معلومة، واستثناء المجهول من المعلوم يصير مجهولاً، ولا يصح بمائة درهم إلا دينارًا، أو قفيزًا أو نحوه، بما فيه المستثنى من غير جنس المستثنى منه لما تقدم.
وقيل: يصح إذا استثنى عينًا من ورق، أوراقًا من عين، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، ولا جهالة فيه، وهو معروف قدر أحد النقدين من الآخر.
ولا يصح البيع إن قال: بعني هذا بمائة مثلاً، على أن أرهن بالمائة التي هي الثمن وبالمائة التي لك غيرها من قرض أو غيره هذا الشيء، لجهالة الثمن؛ لأن المائة ومنفعة هي وثيقة بالمائة الأولى، وهي مجهولة؛ ولأنه شرط عقد الرهن بالمائة الأولى، فلم يصح، كما لو أفرده، وكما لو باعه داره بشرط أن يبيعه الآخر داره، وكذا لو أقرضه شيئًا على أن يرهنه به، وبدين آخر كذا، فلا يصح؛ لأنه قرض يجر نفعًا، فيبطل هو والرهن.

س12: تكلم بوضوح عمّا يلي: البيع من الصبرة، أو من الثوب، أو القطيع، كل قفيز أو ذراع أو شاة بدرهم، بيع الصبرة أو الثوب، أو القطيع كل واحد مما ذكر بدرهم، بيع ما في وعائه معه موازنة كل رطل بكذا، ودون وعائه وجزافًا مع ظرفه أو دونه، يبعه موازنة كل رطل بكذا، على أن يسقط منه وزن الظرف، من اشترى زيتًا أو نحوه في ظرف فوجد فيه ربًا.

ج: إذا باع من الصبرة، أو الثوب، أو القطيع، كل ذراع أو قفيز أو شاة بدرهم، فقيل: لا يصح؛ لأن «من» للتبعيض، و«كل» للعدد، فيكون مجهولاً، والقول الثاني: يصح، قال ابن عقيل: هو الأشبه، كما إذا آجره كل شهر بدرهم.واختاره في «الفائق»، وهذا هو الذي يترجح عندي، ولا جهالة في ذلك؛ لأنهما تراضيا أن كل قفيز من الصبرة، وكل ذراع من الثوب، وكل قطيع من الغنم يقابله درهم، وسواء أخذ ذلك كله أو بعضه، وإن باعه الصبرة كل قفيز بدرهم، والقطيع كل شاة بدرهم، وإن باعه الصبرة كل قفيز بدرهم، والقطيع كل شاة بدرهم، والثوب كل ذراع بدرهم، صح البيع؛ لأن المبيع معلوم المشاهدة، والثمن يعرف بجهة لا تعلق بالمتعاقدين، وهو كيل الصبرة، أو ذرع الثوب أو عد القطيع.
ويصح بيع ما بوعائه كسمن مائع، أو جامد مع وعائه موازنة كل رطل بكذا، سواء علما مبلغ الوعاء أو لا، لرضاه بشراء الظرف كل رطل بكذا كالذي فيه، أشبه ما لو اشترى ظرفين في أحدهما زيت، وفي الآخر شيرج كل رطل بدرهم.
ويصح بيع ما بوعائه دونه مع الاحتساب بزنته على مشتر إن علما مبلغ كل منهما وزنًا، ويصح بيع ما في وعاء جزافًا مع ظرفه أو دونه أو بيعه موازنة كل رطل بكذا، على أن يسقط منه وزن الظرف.
ومن اشترى زيتًا أو نحوه في ظرف، فوجد فيه ربًا أو غيره؛ صح البيع في الباقي من الزيت ونحوه بقسطه من الثمن، وللمشتري الخيار لتبعض الصفقة عليه، ولم يلزم البائع بدلُ الرُّب أو نحوه لمشتر، سواء كان عنده من جنس المبيع أو لم يكن؛ فإن تراضيا على إعطاء البدل جاز.

من نظم ابن عبد القوي مما يتعلق بالشرط السابع من شروط البيع
ومن شرطه علم بأثمان مشتر ... فإن جهلا أو واحد منهما ارددِ
فبالرقم بيع السلعة أن ينس باطل ... وبيع بنقد مطلقًا في معددِ
وإن كان نقدًا واحدًا فهو مرجع ... كذا غالب استعمال أهل التعاقدِ
وبيع بدينار سوى درهم وما ... تبيع بألف من لجين وعسجدِ
وبيع بفرد نقدًا أو صفقة نَسا ... وباثنين صحّا أو بضعف بمثردِ
وقيل صحيح ما حوى ذا كبيعهم ... بصنجة جهل في وجيه مجودِ
وإن بعت ثوبيك الذراع بدرهم ... يصح وإن منهم تبع لم يوطدِ
وثنياك دينارًا من الورق جائز ... لدى الخرقي وامنع لدى ذا المجرد
ومن باع شيئًا صبرة بمعينٍ ... بغير ربًا إن يجهلا قدرها طدِ
كذا بيعه نصفًا مشاعًا إذا استوت ... وإن تختلف أجزاؤها فبمبعد
ومَعْ عِلْمِهَ قَدر الذي باع صبرة ... يصح نكره ليس لغوًا بأوكد
ومَن شاهد المكيال فيما اشترى أن تشا ... في الأولى يجز من دون كيل مجددِ
وشاهد كيل الشيء يجزي اشتراؤه ... في الأولى به من دون كيل مجدد
ومن باع شيئًا مائعًا بظروفه ... ولم تخلف أجزاؤه أن يرى طد
وللمشتري إن بان عيبًا خيارُه ... من الردّ أو أرش لنقص فقيّد
ولو باعه ظرفًا وسمنًا بوزنه ... ولم يعلما وزنا الوعا طدْ بأجود
وإن لم يبعه الظرف لكن يرده ... بنسبته في العقد إن يجهل افسد


تفريق الصفقة وصورها وأحكامها
س13: ما المراد بتفريق الصفقة؟ ولِمَ سميت الصفقة صفقة؟ وما هي صور تفريق الصفقة؟ وكم عددها؟ واذكر ما يتعلق بذلك، ومثل لما يحتاج إلى تمثيل.

ج: الصفقة: المرة من صفق له بالبيعة والبيع، ضرب بيده على يده، والصفقة: عقد البيع؛ لأن المتبايعين يفعلان ذلك، فقولهم: تفريق الصفقة، معناه: تفريق ما اشتراه في عقد واحد، والصفقة المفرقة: أن يجمع بين ما يصح وما لا يصح بيعه صفقةً واحدةً بثمن واحد، أي: جمع فيه ذلك.
وله ثلاث صور: الأولى: من باع معلومًا ومجهولاً لم يتعذر علمه، كهذا العبد، وثوب غير معين؛ صح البيع في المعلوم بقسطه من الثمن، وبطل في المجهول؛ لأن المعلوم صدر فيه من أهله بشرطه، ومعرفته ممكنة بتقسيط الثمن على كل منهما وهو ممكن؛ فإن تعذر علم المجهول، ولم يبين ثمن المعلوم، كبعتك هذه الفرس وما في بطن الفرس الأخرى بكذا، لم يصح؛ لأن المجهول لا يصح بيعه لجهالته، والمعلوم مجهول الثمن ولا سبيل إلى معرفته؛ لأنها إنما تكون بتقسيط الثمن عليهما والمجهول لا يمكن تقويمه؛ فإن بين ثمن كل منهما صح في المعلوم بثمنه.
الصورة الثانية لتفريق الصفقة: مَن بَاعَ جميع ما يملك بعضه، صح البيع في ملكه بقسطه، وبطل في ملك غيره؛ لأن كلاً من الملكين له حكم لو انفرد، فإذا جمع بينهما ثبت لكل واحد حكمه، كما لو باع شقصًا وسيفًا، ولمشتر الخيار بين رد وإمساك إنْ لم يعلم الحال، لتبعض الصفقة عليه، وله الأرش إن أمسك فيما ينقصه التفريق كزوجي خف، ومصراعي باب إحداهما ملك البائع، والآخر لغيره وقيمة كل منفردًا درهمان، ومجتمعين ثمانية، واشتراهما المشتري بهما، ولم يعلم؛ فله إمساك ملك البائع بالقسط من الثمن، وهو أربعة، وله أرش نقص التفريق وهو درهمان، فيستقر له بدرهمين.
الصورة الثالثة لتفريق الصفقة: من باع قنه مع قن غيره بلا إذنه، أو باع قنه مع حر، أو باع خلاً وخمرًا صح البيع في قنه المبيع مع قن غيره، أو مع حر بقسطه، وصح البيع في الخل بقسطه من الثمن، ويقدر خمر خلاً، وحر عبدًا، ليقوّم وليتقسط الثمن، ولمشترٍ ليعلم الحال الخيار بين إمساك ما صح فيه البيع بقسطه، وبين رده لتبعض الصفقة عليه.
وإن باع عبده وعبد غيره بإذنه، أو باع عبديه لاثنين بثمن واحد، أو اشترى عبدين من اثنين أو من وكيلهما بثمن واحد، صح العقد؛ لأن جملة الثمن معلومة، وقسط الثمن على قيمتهما.
وكبيع إجارة فيما سبق تفصيله؛ لأنها بيع المنافع، وكذا حكم باقي العقود، وإذا جمع في عقد بين بيع وإجارة، بأن باع عبده وأجره داره بعوض واحد صحا، أو جمع بين بيع وصرف، بأن باعه عبده، وصارفه دينارًا بمائة درهم مثلاً، صحا، أو جمع بين بيع ونكاح بعوض واحد، صحا؛ لأن اختلاف البيعين لا يمنع الصحة، كما لو جمع بين ما فيه شفعة، وما لا شفعة فيه، وقسط العوض على المبيع وما جمع إليه بالقيم.
قال الشيخ تقي الدين –رحمه الله-: يجوز الجمع بين البيع والإجارة في عقد واحد في أظهر قولهم، وقدمه في «المغني» و«المحرر» و«الشرح» و«الفروع» و«الفائق». اهـ. «إنصاف».
وفي «الاختيارات الفقهية»: وإذا جمع البائع بين عقدين مختلفي الحكم بعوضين متميزين، ولم يكن للمشتري أن يقبل أحدهما بعوضه. وإن جمع بين بيع وكتابة، بأن كاتب عبده، وباعه داره بمائة، لكل شهر عشرة مثلاً، بطل البيع؛ لأنه باع ماله لماله، أشبه ما لو باعه قبل الكتابة، وصحت الكتابة بقسطها؛ لعدم المانع، ومتى اعتبر قبض في المجلس لأحد العقدين المجموع بينهما، كالصرف فيما إذا باع عبدًا وحُليَّ ذهب بدراهم صفقة، وافترقا قبل التقابض، وبطل العقد في الحليّ يقسطه من الدراهم، ولم يبطل العقد الآخر الذي لا يعتبر فيه القبض بتأخره؛ لأنه ليس شرطًا فيه، كما لو انفرد، فيأخذ المشتري العبد بقسطه من الثمن.

من النظم مما يتعلق بتفريق الصفقة
وبيعك معلومًا وما قد جهلته ... فذلك بيع باطل ذو تفسّدِ
وبيعك عبدًا أو قفيزًا مشركًا ... يصح بقسط ملكه في المؤكد
وللمشتري التخيير إن كان جاهلاً ... لعبدٍ وُحرٍ أَو لعبد المُعَبَّدِ
وَخلٌ وخمرٌ بعت غير مبيَّن ... لحصة كل ألغ كلاً بأوكد
وإن قال: كّلا بعته بكذا وقد ... توحّد عقدًا طِدْ حلالاً بأوكدِ
كذا الحكم في صرف وفي سلَم إذا ... تفرقتهما عن قبض بعض المعدّد
وعن أحمدَ المقبوضُ صحَّ وجائزٌ ... في الأولى بقسط من مسمّى معدد
ومَنْ يشتري شيئين يشرُط فيهما ... التَّقابض فيتلف واحد قبله قد
فَخَيَّرْه في الباقي وإن ينوِ بعض ما ... له القبض شرط قيل بالقسط أطّد
كذا بيع دور كل دار لمالك ... بإذن بعقد واحد وبمعقد
وإن يجتمع بيع وصرف أو الكرا ... بعقد بقدر لم يوزعه مفرد
فَصَحّحه في الأقوى وقد قيل: لا، وإن ... تَجَمَّعَ بَيعٌ مع نكاحٍ مؤكد
على مائة إن النكاح لثابت ... وفي البيع وجهان استبانًا لأرشد
ومن باع شيئًا عبده مع كتابة ... بألفٍ لغا بيع وفيها ترددِ


فصل في موانع صحة البيع
س14: تكلم عما لا يجوز بيعه، وما يجوز في يوم الجُمُعَة بعد ندائها، ولِمَ خص البيع وإلى متى يستمر الحكم؟ وما المراد بالنداء المذكور؟ وهل يلحق بالجمعة غيرها؟وما حكم إِمضاء بيع خيار، وبقية العقود العقود والمساومة، وبيع العصير والعنب لمتخذه خمرًا، والسلاح ونحوه في الفتنة، والمأكول والمشروب لمن يشرب عليه مسكرًا، والإناء لمن يشرب به مسكرًا، والجوز والبيض ونحوهما للقمار، وبيع غلام وأمة لمن عرف بوطء في دبر، أو للغناء، ومَاذا يُعملُ معَ مَن اتّهمَ بِغُلامِهِ فَدَّبرَهُ؟ واذكر الأدلة، والتعليلات، والخلاف.

ج: ويحرم، ولا يصح بيع ولا شراء ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها، والمراد به الذي عند المنبر؛ لأنه الذي كان على عهده - صلى الله عليه وسلم - فاختص الحكم به؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ} [الجمعة: 9]، والنهي يقتضي الفساد؛ وأمَّا النداء الأول فزاده عثمان - رضي الله عنه -، لما كثر الناس، وخص البيع؛ لأنه من أهم ما يَشتغل به المرء من أسباب المعاش، وكذا يحرم البيع لمن منزله بعيد في وقت وجوب السعي عليه، وهو الوقت الذي يمكنه إدراكها فيه، ويستمر التحريم إلى انقضاء الصلاة، وكذا يحرم البيع والشراء لو تضايق وقت مكتوبة غير الجمعة قبل فعلها؛ لأن ذلك الوقت تعين للمكتوبة؛ فإن كان الوقت متسعًا لم يحرم البيع. قال في «الإنصاف»: قلت: ويحتمل أن يحرم إذا فاتته الجماعة بذلك، وتعذر عليه جماعة أخرى، حيث قلنا بوجوبها. اهـ. فإن لم يؤذن للجمعة، حرم البيع إذا تضايق وقتها.
ومحل تحريم البيع والشراء إن لم تكن ضرورة أو حاجة؛ فإن كانت لم يحرم، كمضطر إلى طعام أو شراب يباع، فله شراؤه لحاجته، وكذا عريان وجد سترة، فله شراؤها، وكفن، ومؤنة تجهيز لميت خيف فساده بتأخير تجهيزه، وكوجود أبيه أو نحوه، يُباع مع من لو تركه حتى يصلي لذهب به، وكشراء مركوب لعاجز عن مشي إلى الجمعة، أو شراء ضرير عَدِمَ قائدًا ونحوه.
ويصح إمضاء بيع خيار، وبقية العقود من إجارة، وصلح، وقرض، ورهن، وغيرها بعد نداء الجمعة؛ لأن النهي عن البيع، وغيره لا يساويه في التشاغل المؤدي لفواتها، وتحرم مساومة ومناداة بعد نداء جمعة ثان؛ لأنهما وسيلة إلى البيع المحرم إذن.
ولا يصح بيع عصير، أو عنب، أو زبيب ممن يتخذ خمرًا، عن أنس -رضي الله عنه-، قال: «لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الخمر عشرة: عاصرها، ومعصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له». وعن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لعنت الخمرة على عشرة وجوه: لعنت الخمرة بعينها، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها» رواه أحمد وابن ماجه وأبو داود بنحوه؛ لكنه لم يذكر: «وآكل ثمنها»، ولم يقل: عشرة. وعن جابر أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الفتح وهو بمكة يقول: «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر...» الحديث متفق عليه. وروت عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «حُرِمَتِ التجارة في الخمر».
ولا يصح بيعُ سلاح في فتنة، أو لأهل الحرب أو لقطاع طريق إذا علم البائع بذلك من مشتريه؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
ولا يصح بيع مأكول، أو مشروب، أو مشموم لمن يشرب عليه مسكرًا، ولا بيع قدح لمن يشرب به مسكرًا.
ولا يصح بيع غلام، أو أمة لمن عرف بوطء دبر، أو لغناء؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}؛ ولأنه عقد على عين لمعصية الله بها، فلم يصح، كإجارة الأمة للزنا والغناء.
ومن اتهم بغلامه فَدَبَّرهُ، والمتهم فاجِرٌ مُعْلِنٌ لفجوره، أحيل بينهما خوفًا من إتيانه له، كَمجُوْسِي تسلم أخته ونحوها، ويخاف أن يأتيها، فيحال بينهما؛ فإن لم يكن فاجرًا معلنًا، لم يحل بينهما إن لم تثبت التهمة.

س15: ما حكم بيع القنّ المسلم لكافر؟ وإذا أسلم في يد كافر، فما الحكم؟ واذكر الدليل والتعليل، ومثل لما يحتاج إلى تمثيل، وما هي المسائل التي يدخل فيها العبد المسلم في ملك الكافر ابتداء؟ وما حكم بيع المسلم على بيع أخيه المسلم، والشراء والسوم، والاتهاب، والاستقراض، والاستئجار؟

ج: لا يصح بيع عبد مسلم لكافر، إلا أن يعتق العبد المسلم على الكافر المشتري له بملكه إياه؛ فإن كان يعتق عليه كأبيه وأخيه وابنه، صح شراؤه له؛ لأن ملكه لا يستقر عليه، بل يعتق في الحال، وإن أسلم قنٌ في يد الكافر، أو ملكه بنحو إرث، أجبر على إزالة ملكه عنه؛ لقوله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] ولا تكفي كتاب القن المسلم بيد الكافر؛ لأن الكتابة لا تزيل ملك السيد عنه، بل يبقى إلى الأداء، ولا يكفي بيعه بخيار لعدم انقطاع علقه عنه.
ويدخل العبد المسلم في ملك الكافر ابتداء من: 1- الإرث، 2- استرجاعه بإفلاس المشتري. 3- إذا رجع الكافر في هبته لولده. 4- إذا رد عليه بعيب. 5- إذا اشترى مَن يعتق عليه كما تقدم. 6- إذا باعه بشرط الخيار مدة معلومة وأسلم فيها. 7- وإذا وجد البائع الثمن المعين معيبًا، فرد الثمن واسترجع العبد، وكان قد أسلم العبد. 8- باستيلاء حربي على رقيق مسلم قهرًا. 9- فيما إذا قال الكافر لشخص: «أعتق عبدك المسلم عني، وعليّ ثمنه» ففعل. 10- إذا استولد الكافر أمة مسلمة لولده؛ فهذه عشرة صور.
ويحرم، ولا يصح بيع المسلم على بيع أخيه زمن الخيارين، وهو أن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة: «أنا أعطيك خيرًا منها بثمنها، أو مثلها بتسعة» أو يعرض عليه سلعة يرغب فيها المشتري ليفسخ
البيع، ويعقد معه؛ لحديث ابن عمر يرفعه: «لا يبع الرجل على بيع أخيه» متفق عليه.
ويحرم، ولا يصح شراء المسلم على شراء أخيه، وهو أن يقول لمن باع سلعة بتسعة: عندي فيها عشرة، ليفسخ البيع، ويعقد معه؛ لما ورد عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: «لا يبع الرجل على بيع أخيه، حتى يبتاع أو يذر» رواه النسائي، وفيه: أنه أراد بالبيع والشراء؛ ولما فيه من الإضرار بالمسلم، والإفساد عليه، وذلك محرم؛ ولأن الشراء يُسمى بيعًا، فيدخل في عموم النهي.
ومحل ذلك إذا وقع في زمن الخيارين عند بعض أهل العلم، وقال الشيخ: ولو بعده؛ لأنه ربما أشغله، واحتج عليه بشيء. وقال ابن رجب: يحرم مطلقًا، وهو ظاهر النص، واتفق أهل العلم على كراهته، وأبطله مالك، وقال الحافظ: لا خلاف في التحريم، قال الشيخ: يحرم الشراء على شراء أخيه؛ فإن فعل، كان للمشتري الأول مطالبة البائع بالسلعة، وأخذ الزيادة أو عوضها، ودليل بطلان البيع: قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أيما رجل باع بيعًا من رجلين، فهو للأول منهما» رواه الخمسة. وهو عام في مدة الخيارين وبعده.
ويحرم سومه على سوم أخيه المسلم مع رضا البائع صريحًا؛ لحديث أبي هريرة مرفوعًا: «لا يسم الرجل على سوم أخيه» رواه مسلم؛ فإن لم يصرح بالرضى لم يحرم؛ لأن المسلمين لم يزالوا ويتبايعون في أسواقهم بالمزايدة.
ولا يحرم بيع ولا شراء بعد رد السلعة المبتاعة، أو رد السائم في مسألة السوم؛ لأن العقد أو الرضى بعد الرد غير موجود، وصفة ذلك: أن يقول للمستام: رده، لأبيعك خيرًا منه بثمنه، أو مثله بأرخص، أو يقول للمالك: استرده، لأشتريته منك بأكثر، وإن كان تصريحًا. فقال الحافظ: لا خلاف في التحريم، والجهور على أنه يصح البيع؛ لأن النهي إنما ورد عن السوم من الثاني أن يتساوما في غير المناداة؛ فأما المزايدة في المناداة فجائزة إجماعًا؛ لما في «السنن»: «من يزيد على درهم»، وفي «الصحيحين» في خبر المدبر: «مَن يشتريه مني» عَرَضه للزيادة، ولم يزل المسلمون يتبايعون في أسواقهم بالمزايدة.
ويحرم سوم إجارة بعد سوم أخيه، والرضا صريحًا، وكذا استئجاره على استئجار أخيه في مدة خيار مجلس أو شرط إذا كانت المدة لا تلي العقد، كذا افتراضه على اقتراضه، بأن يعقد معه القرض، فيقول له آخر: اقرضني ذلك قبل تقبيضه للأول، فيفسحه ويدفعه للثاني.
وكذا اتهابه على اتهابه، وكذا اقتراضه بالدِيّوان على اقتراضه، وكذا طلبه العمل من الولايات بعد طلب أخيه المسلم، ونحو ذلك. وكذا المساقاة، والمزارعة، والجعالة، ونحو ذلك كلها كالبيع، فتحرم ولا تصح إذا سبقت للغير قياسًا على البيع؛ لما في ذلك من الإيذاء، ولأنه وسيلة إلى التباغض، والتعادي، والتقاطع، والتهاجر.

س16: ما حكم بيع الحاضر للبادي، وشراؤه له؟ وإذا أشار على باد، أو استشاره باد، فما الحكم؟ وما الدليل؟ واذكر ما يوضح من أمثلة وشروط.

ج: يحرم بيع الحاضر للبادي، ويبطل بخمسة شروط:
أولاً: أن يحضر البادي، وهو من يدخل البلد من غير أهلها لبيع سلعته.
ثانيًا: أن يريدها ببيعها بسعر يومها.
ثالثًا: أن يكون جاهلاً بالسعر.
رابعًا: أن يقصده حاضر عارف بالسعر.
خامسًا: أن يكون بالناس حاجة إليها؛ لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: قال: «نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبيع حاضر لباد» رواه البخاري، والنسائي، وعن جابر -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» رواه الجماعة إلا البخاري.
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: نهينا أن يبيع حاضر لباد، وإن كان أخاه لأبيه وأمه. متفق عليه. ولأبي داود والنسائي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبيع حاضر لباد، وإن كان أباه وأخاه. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تلَقَّوا الركبان، ولا يبيع حاضر لباد»، فقيل لابن عباس: ما قوله: حاضر لباد؟ قال: لا يكون له سمسارًا. رواه الجماة إلا الترمذي، والسمسرة: البيع والشراء، ويقال للمتوسط بين البائع والمشتري: سمسار.

قال الأعشى:
فعشنا زمانًا وما بيننا ... رسول يحدث أخبارها
فأصبحت لا أستطيع الجواب ... سوى أن أراجع سمْسَارَها

يريد: السفير بينهما.

ويصح شراء الحاضر للبادي؛ لأن النهي إنما ورد عن البيع لمعنى يختص بهن وهو الوفق بأهل الحضر، وهذا غير موجود في الشراء للبادي، وقيل: لا يجوز أن يشتري له؛ لأن قوله: «لا يبع» كلمة جامعة تطلق على الشراء.
وفي رواية: «أن تبيعوا، وتبتاعوا» ويقوي ذلك العلة التي نبّه عليها -صلى الله عليه وسلم-، بقوله: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» فإن ذلك يحصل بشراء من لا خبرة له بالأثمان، كما يحصل ببيعه، وهذا القول عندي أنه أرجح من الأول. والله أعلم.

صورة مسألة العينة وحكمها وعكسها
س17: ما هي صورة مسألة العينة، وما حكمها؟ وما صورة عكسها؟ وما حكمها؟ وما شروط مسألة العينة؟ ولِمَ سميت بالعينة؟ وما هي مسألة التورّق؟ ولِمَ سميت بذلك، وما حكمها؟ وما هي أدلة ما ذكر؟

ج: مسألة العينة: هي أن يبيع سلعة بنسيئة، ثم يشتريها بأقل مما باعها به نقدًا؛ لما روى غندر عن شعبة، عن أبي إسحاق السبيعي، عن امرأته العالية، قالت: دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم على عائشة، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: إني بعت غلامًا من زيد بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بستمائة درهم نقدًا، فقالت لها: بئس ما اشتريت وبئس ما اشتريت! أبلغي زيدًا أن جهاده مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بطل، إلا أن يتوب. رواه أحمد وسعيد.
ولا تقول مثل ذلك إلا توقيفًا؛ ولأنه ذريعة إلى الربا، ليَسْتَبيْحَ بيع ألف بنحو خمسمائة إلى أجل، والذرائع معتبرة في الشرع، بدليل منع القاتل من الميراث، والحكم أنه يحرم، ولا يصح العقد الثاني، وكذا العقد الأول، حيث كان وسيلة إلى الثاني، فيحرم ويبطل للتوسل به إلى محرم.
قال الشيخ تقي الدين: هو قول الإمام أحمد والإمام أبي حنيفة والإمام مالك، قال في «الفروع»: ويتوجه أنه مراد من أطلقه؛ لأن العلة التي لأجلها بطل الثاني، وهي كونه ذريعة إلى الربا، موجودة إذن في الأول، وتسمى هذه المسألة مسألة العينة؛ لأن مشتري السلعة إلى أجل يأخذ بدلها عينًا.

قال الشاعر:
أنَدّانُ أمْ نعْتَانُ أمّ يَنْبري لَنَا ... فَتىً مِثْلُ نَصْل السَّيفِ مِيْزَت مضَارِبهُ
ومعنى نعتانُ: نشتري عينة.

وروى أبو داود عن ابن عمر: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالبرذع، وتركتم الجهاد، سلم الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم».

ويشترط في مسألة العينة ستة أمور:
أولاً: أن يكون العقد قبل قبض الأول. والثاني: أن يكون المشتري هو البائع أو وكيله. والثالث: أن يشتريها من المشتري أو وكيله. والرابع: أن يكون الثمن نقدًا من جنس الأول. والخامس: أن يكون الثمن أقل من الأول. والسادس: أن لا يتغير المبيع بنحو مرض أو عيب؛ فإن فقد شيء مما ذكر لم تحرم.
وعكس مسألة العينة؛ بأن يبيع شيئًا بنقد حاضر، ثم يشتريه من مشتريه أو وكيله بنقد أكثر من الأول من حبسه، غير مقبوض، ولم تزد قيمة المبيع بنحو سِمَنٍ، أو تعلّم صنعة. والحكم فيها أنها مثلها في الحكم، نقله حرب؛ لأنه يتخذ وسيلة إلى الربا. ونقل أبو داود: لا يجوز بلا حيلة.
واستدل ابن القيم على عدم جواز العينة بما روى الأوزاعي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع» قال: وهذا الحديث وإن كان مرسلاً، فإنه صالح للاعتقاد به بالاتفاق، وله من المستندات ما يشهد له، وهي الأحاديث الدالة على تحريم العينة، فإنه من المعلوم أن العينة عند من يستعملها إنما يسميها بيعًا، وقد اتفقا على حقيقة الربا الصريح قبل العقد، ثم غير اسمها إلى المعاملة، وصورتها إلى التبايع التي لا قصد لهما فيه البتة، وإنما هو حيلة ومكر وخديعة لله تعالى، فمن أسهل الحيل على من أراد فعله أن يعطيه مثلاً ألفًا إلا درهمًا باسم القرض، ويبيعه خرقة تساوي درهمًا بخمسمائة درهم، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إنما الأعمال بالنيات» أصل في إبطال الحيل؛ فإن من أراد أن يعامله معاملة يعطيه فيها ألفًا بألف وخمسمائة؛ إنما نوى بالإقراض تحصيل الربح الزائد الذي أظهر أنه ثمن الثوب، فهو في الحقيقة أعطاه ألفًا حالة بألف وخمسمائة مؤجلة، وجعل صورة القرض وصورة البيع محللاً لهذا المحرم، ومعلوم أن هذا لا يرفع التحريم، ولا يرفع المفسدة التي حرم الربا لأجلها، بل يزيدها قوة وتأكيدًا من وجوه عديدة منها: أنه يقدم على مطالبة الغريم المحتاج من جهة السلطان والحكام إقدامًا لا يفعله المرابي؛ لأنه واثق بصورة العقد الذي تحيّل به، هذا معنى كلام ابن القيم.
قال شيخ الإسلام: ويحرم على صاحب الدين أن يمتنع من إنظار المعسر حتى يقلب عليه الدين، ومتى قال: إما أن تقلب، وإما أن تقوم معي إلى عند الحام، وخاف أن يحبسه الحاكم، لعدم ثبوت إعساره عنده وهو معسر، فقلب على هذا الوجه، كانت هذه المعاملة حرامًا غير لازمة باتفاق المسلمين؛ فإن الغريم مكره عليها بغير حق. ومن نسب جواز القلب على المعسر بحيلة من الحيل إلى مذهب بعض الأئمة، فقد أخطأ في ذلك وغلط، وإنما تنازع الناس في المعاملات الاختيارية، مثل مسألة التورق. انتهى كلامه -رحمه الله-.
وأما مسألة التورق، فصورتها: لو احتاج إنسان إلى نقد، فاشترى ما يساوي مائة بمائة وخمسين، وحكمها: الجواز، وسميت بذلك؛ لأن مشتري السلعة يبيع بالورق، أي: الدراهم من الفضة.



المجلد الرابع 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 6:22 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المجلد الرابع Empty
مُساهمةموضوع: رد: المجلد الرابع   المجلد الرابع Emptyالأحد 15 نوفمبر 2015, 6:25 am

حكم ما بيع بثمن نسيئة وحكم التسعير
س18: إذا كان المشتري لما بيعَ بثمنٍ نَسيْئَة أو بثمن حالٍ لم يُقْبَضْ، أبو البائع أو ابنه أو غلامه أو نحوه، فما الحكم؟ وما الذي يجري فيه الربا؟ وإذا اشترى ما يجري فيه الربا ممن باعه عليه، فما الحكم؟ وما حكم التسعيرة والشرء به؟ وإذا هُدّدَ مَن خالَفه، فما حكم البيع؟ وما الحكم فيما إذا قال: بع كما يَبْيعُ الناس؟ واذكر ما تستحضره من دليل، أو تعليل، والخلاف.

ج: إذا اشترى المبيع بثمن غير مقبوض بائعه من غير مشتريه، كوارثه، أو اشتراه أبو البائع من مشتريه أو وكيله، بنقد من جنس الأول أقل منه، أو اشتراه ابنه أو غلامه أو زوجته أو مكاتبه، صح شراؤه، ما لم يكن اشتراه حيلة على الربا؛ فيحرم ولا يصح كالعينة. وإن باع ما يجري فيه الربا من مكيل أو موزون نسيئة، ثم اشترى البائع من المشتري منه بثمن المبيع قبل قبضه من جنس المبيع، أو اشترى البائع من المشتري بالدرهم ثمن مثلاً ما لا يجوز بيعه به نسيئة، لم يصح، روي عن ابن عمر؛ لأنه وسيلة لبيع المكيل بالمكيل، والموزون بالموزون نسيئة، فيحرم حسمًا لمادة ربا النسيئة.
ويحرم التسعير؛ لما ورد عن أنس قال: إلا السعر، فقالوا: يا رسول الله، سعِّر لنا، فقال: «إن الله هو المُسَعِّرُ، القابضُ الباسطُ، وأرجو أن ألقي الله عز وجل، وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال» رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه الترمذي وابن حبان، وأخرجه الدارمي والبزار وأبو يعلى وغيرهم ولأحمد من حديث أبي هريرة: جاء رجل، فقال: يا رسول الله، سعِّر، فقال: «بل الله يخفض ويرفع» ولهما شواهد حسّنها الحافظ وغيره دلت على تحريم التسعير، وأنه مظلمة، وإذا كان مظلمة فهو محرم، ووجهه أن الناس مسلطون على أموالهم، والتسعيرة حجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين، وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الأمران، وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم.
ويكرهُ الشراء بالتسعير، وإنْ هَّددَ من خالفه حرم البيع وبطل؛ لأن الوعيد إكراه. والتسعير: أن يسعر الإمام على الناس سعرًا، ويجبرهم على التبايع به.
ويحرم قوله لبائع: «بع كما يبيع الناس»؛ لأنه إلزام له بما لا يلزمه، وأوجب الشيخ إلزامهم المعاوضة بثمن المثل، وأنه لا نزاع فيه؛ لأنه مصلحة عامة لحق الله تعالى، ولا تتم مصلحة الناس إلا بها كالجهاد، وقال: لا يريح على المسترسل أكثر من غيره، وكذا المضطر الذي لا يجد حاجته إلا عند شخص ينبغي أن يربح عليه مثل ما يربح على غيره.
وكره أحمد البيع والشراء من مكان ألزم الناس بالبيع والشراء فيه، لا الشراء مِمَّنْ اشتَرى مِمَّن ألزم بالبيع في ذلك المكان.
وقال ابن القيم: التسعير منه ما هو محرم، ومنه ما هو عدل جائز؛ فإذا تضمن ظلم الناس، وإكراههم بغير حق بِشيء لا يرضونه، أو منعهم مما أباح الله لهم، فهو حرام. وإذا تضمَّنَ العدل بين الناس، مثل: إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل، فهو جائز، بل واجب، فالأول: مثل ما روى أنس –وذكر الحديث، ثم قال: فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر، إما لقلة الشيء، أو لكثرة الخلق، فهذا إلى الله فإلزام الناس أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق. والثاني: مثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة، فهذا يجب عليهم بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا لإلزامهم بقيمة المثل، والتسعير هاهنا إلزام بالعدل الذي ألزمهم الله به.
قال: ولا يجوز عند أحد من العلماء أن يقول لهم: لا تبيعوا إلا بكذا، ربحتم أو خسرتم، من غير أن ينظر إلى ما يشترون به., قال: ولا يجوز عند أحد من العلماء أن يقول لهم: لا تبيعوا إلا بكذا، ربحتم أو خسرتم، من غير أن ينظر إلى ما يشترون به. قال: ومنع الجمهور أن يحد لأهل السوق حدًا لا يتجاوزون منه من قيامهم بالواجب ومن الظلم أن يلزم الناس أن لا يبيعوا الطعام أو غيره من الأصناف إلا لأناس معروفين، فلا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم بما يريدون، فلو باع غيرهم عوقبوا، فهذا من البغي في الأرض والفساد، وهؤلاء يجب التسعير عليهم، وأن لا يبيعوا إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء، والتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع، وحقيقته إلزامهم بالعدل، ومنعهم من الظلم. وقال الشيخ: إذا امتنع الناس من بيع ما يجب عليهم بيعه، فَهُنَا يؤمرون بالواجب، ويعاقبون على تركه، وكذا كل مَن وَجَبَ عليه أن يبيع بثمن المثل، فامتنع، قال ابن القيم: وجماع الأمر أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير؛ سعر عليهم تسعير العدل، لا وكس ولا شطط، وإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه، لم يفعل.

الاحتكار
س19: تكلم بوضوح عن حكم الاحتكار وشراء المحتكر، وإذا أبى المحتكر أن يبيع كما يبيع الناس، واذكر حكم ما هو مثله أو مشابه له في الحكم، وإذا ضمن إنسان مكانًا ليبيع فيه وحده، ويشتري فيه وحده، فما حكم الشراء منه؟ وما حكم الشراء من جالس على طريق؟ وما هي الحكمة في تحريم الاحتكار؟ واذكر الأدلة، والخلاف.

ج: يحرم الاحتكار في قوت آدمي فقط، وعنه: يحرم فيما يأكله الناس، وعنه: أو يضرهم ادخاره بشرائه في ضيق. والاحتكار: شراؤه لتجارة، ليحبسه طلبًا للغلاء، مع حاجة الناس إليه، وهو بالحرمين أشد تحريمًا.
والدليل على تحريم الاحتكار ما ورد عن معمر بن عبد الله مرفوعًا: «لا يحتكر إلا خاطئ» رواه مسلم. ولأحمد من حديث معقل: «من دخل في شيء من أسواق المسلمين ليغليه عليهم، كان حقًا على الله أن يقعده بعظم من النار»، وله من حديث أبي هريرة: «من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين، فهو خاطئ»، ولابن ماجه من حديث عمر: «ضربه الله بالجذام». وجاء غير ذلك مما يدل على عدم جواز الاحتكار، ولا فرق بين القوت وغيره، وهذا هو الذي يترجح عندي. والله أعلم. ويجبر محتكر على بيع ما احتكره كما يبيع الناس؛ لعموم المصلحة، ودعاء الحاجة؛ فإن أبى محتكر، وخيف التلف بحبسه، فرقه الإمام على المحتاجين إليه، ويردون بدله، وكذا السلاح لحاجة إليه. والمحتكر: هو الذي يتلقى القافلة، فيشتري الطعام منهم يريد إغلاءه على الناس، وهو ظالم لعموم الناس، خاطئ، والخاطئ: المذنب العاصي.
والحكمة في تحريم الاحتكار: دفع الضرر عن عامة الناس، كما أجمع العلماء على أنه لو كان عند شخص طعام، واضطر الناس إليه، أجبر على بيعه. قال ابن القيم: ولهذا كان لولي الأمر أن يُكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند الضرورة إليه، مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه، والناس في مخمصة، أو سلاح لا يحتاج إليه، والناس محتاجون إليه للجهاد أو غيره.
وقال الشيخ: وإذا اتفق أهل السوق على أن لا يتزايدوا في السلعة، وهم محتاجون إليها ليبيعها صاحبها بدون قيمتها؛ فإن ذلك فيه من غش الناس ما لا يخفى، وإن كان ثمَّ من يزيد فلا بأس، وقال: وإذا كان لا يبيع إلا هو بما يختار، صار كأنه يكره الناس على الشراء منه، فيأخذ منهم أكثر مما يجب عليهم. وقال: وإذا احتاج الناس إلى صناعة طائفة، كالفلاحة والنساجة والبنائين وغيرهم، فلوليّ الأمر أن يلزمهم بذلك بأجرة مثلهم.
قال: والمَقُصوْدُ أن هذه الأعمال متى لم يقم بها إلا شخص صارت فرضًا مُعينًا عليه، فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم، صارت هذه الأعمال مستحقة عليهم، يجبرهم ولي الأمر عليها بعوض المثل، ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل، ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم، وهذا من التسعير الواجب في الأعمال، وهو من التسعير الواجب؛ وأما التسعير في الأموال، فإذا احتاج الناس إلى سلاح للجهاد وآلاته، فعلى أربابه أن يبيعوه بعوض المثل، ولا يمكنوه من حبسه إلا بما يريدون من الثمن، والله قد أوجب الجهاد بالنفس والمال، فكيف لا يجب على أرباب السلاح بذله بقيمته، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وهذا الصواب.
قال: ويكره أن يتمنى الغلاء، ولا يكره إدخار قوت أهله ودوابه؛ لفعله - صلى الله عليه وسلم-، وينبغي الإشهاد على البيع إلا في قليل الخطر. اهـ. (من ش ص م).
ومن ضمن مكنًا ليبيع فيه وحده، ويشتري فيه وحده، كره الشراء منه بلا حاجة لبيعه فوق ثمن مثله وشرائه بدونه، كما يكره الشراء بلا حاجة من مضطر نحوه. وكما يكره الشراء من جالس على طريق، للنهي عن الجلوس في الطرقات، ويحرم على الذي ضمن مكانًا ليبيع فيه وحده أخذ زيادة على ثمن مثل، أو مثمن بلا حق. قال الشيخ تقي الدين: ويستحب الإشهاد على البيع؛ لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، والأمر فيه للندب؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] إلا في قليل الخطر، كحوائج البقال والعطار وشبهها، فلا يستحب للمشقة.

من النظم في بيع العصير لمن يتخذه خمرًا، والتسعير والاحتكار، والبيع على البيع، والسوم، والبيع بعد النداء يوم الجمعة
وبيع عصير العنب للخمر باطل ... كذا عنب مع كون عون لمفسدِ
كشمع لشراب وأكل وجوزة ... القمار وشطرنج وسيف لمعتدِ
وزند ومزمار وجارية الغنا ... وعود وعن إيجار ذلك فاصدد
وبيع ثياب أو خياطتها لمن ... حظرت عليه لبسها احظر وأفسد
كذا بيع مأمور بسعي لجمعة ... إذا أذن الثاني وعند الذي ابتدي
وقولان من قبل النداء بوقتها ... وباقي العقود احكم بها في المجود
وقيل مع التحريم صححه مطلقًا ... كذلك آلات الفساد المعدد
كذا الحكم فيما ضاق من وقت غيرها ... وصحح من المعذور عنها بأوطد
وَصِحّحْهُ فيما لا تقام به وَمن ... يخاطب بها مع غرٍ اردد بأجود
وَحّرمْ وَفي الأقوى نهى بيع بعضنا ... على بيع بعض والشرا بعد معقد
كذا السوم إن يرضى الذي باع أو بدا ... في الأقوى دليل البيع أولى فأطد
وصحح بكره كالشرا بيع حاضر ... تقصده للجالب المتقصد
كبيع بسعر واقع جاهلاً به ... وتأخيره مؤذِ وفي الأظهر أفسد
ويحرم تسعير فربّي مسعّر ... وربما التسعير داعي التزيد
ولا تشر ما قد بعته بنسيئة ... بنقد أقل إن لم تحل عن معهَّد
كذا بيعه بالنقد ثم ابتياعه ... نساء بأوفى منه في نص أحمد
ولا بأس أن يبتاعه ابنك أو أب ... وإن كان هذا حيلةً فَليْفُسْدِ
وإن تشرها بالعرض جاز وإن تبع ... بعرض فبالنقد اشتري لا تردد
وإن بعتها بالعين ثم اشتريتها ... بورق أجاز الصحب دون ابن أحمد
وجوز بأدنى أو مساو نسيئة ... وعرض ونقد غير احضر بأجود
ومحتمل تجويز ممنوع أصلها ... إذا جاء اتفاق لا مواطاة اقصد
ومن بعته مال الربا بنسيئة ... فلا تقض من مال النسا منه تفسد
وقيل أجز إن لم تجد ذاك حيلة ... أو اشتر منه ثم قاصِصْه تَرشُدِ
ولا تحتكر قوتًا فذاك محرُم ... وفي غير قوت لم يحرم بأوكدَ
ويشرط للتحريم تضيق مشتر ... على الناس في وقت شديد معجرد
ومن غير إضرار فليس محرمًا ... كمدخر في الرخص ذا نفع اشهد
والإشهاد ندب فرضًا بماله ... من المال قدر ليس بالمتصرد
وتلجئة مثل الذي خاف ظالمًا ... فواطأ إنسانًا على بيع أعبد
وبيع عقار لم يريداه باطنًا ... فهذان بيع باطل لم يؤكد


باب الشروط في البيع
س20: اذكر الشروط في البيع؟ وما الذي يعتبر لترتب الحكم عليها؟ ما هي أنواع الصحيح منها، وما مثاله؟ واذكر ما تستحضره من الأدلة.

ج: الشرط في البيع وفي شهه من نحو إجارة وشركة: إلزام أحد المتعاقدين الآخر بسبب العقد ماله فيه منفعة، ويعتبر لترتب الحكم عليه مقارنَتُهُ للعقد، والشرط الصحيح في البيع ثلاثة أنواع: حدها: ما يقتضيه بيع، كشرط تقابض، وحلول ثمن، وتصرف كل من المتبايعين فيما يصير إليه من ثمن ومثمن ونحوه، فلا يؤثر ذكر هذا النوع، وهو ما يقتضيه العقد، فوجوده كعدمه. النوع الثاني: ما كان من مصلحة المشترط له؛ كتأجيل كل الثمن أو بعضه إلى أجل معين، أو اشتراط رهن أو ضمين بالثمن مُعَيَّنَين، وكذا شرط كفيل ببدن مشتر، أو يشترط المشتري صفة في مبيع، ككون العبد المبيع كاتبًا أو فحلاً أو خصيًا، أو ذا صنْعة بعينهان أو مسلمًا، أو الأمَة بكرًا أو تحيض، أو الدابة هملاجة أو لبونًا أو غزيرة اللبن، أو الفهد صيدوًا، أو الطير المبيع مصوتًا أو يبيض، أو يجيء من مسافة معلومة؛ لأن في اشتراط هذه الصفات قصدًا صحيحًا، وتختلف الرغبات باختلافها، فلولا صحة اشتراطها لفاتت لحكمة التي لأجلها شرع البيع، وكذا لو شرط صياح الطير في وقت معلوم، كعند الصباح أو المساء. عن عمرو بن عوف المزني - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا حرم حلالاً، أو أحلَّ حرامًا، والمسلمون على شروطهم، إلا شرطًا حرم حلالاً، أو أحل حرامًا» رواه الترمذي وصححه.  وإن شرط المشتري: أن الطائر يوقظه للصلاة، أو أنه يصبح عند دخول وقتها، لم يصح؛ لتعذر الوفاء، ولا كون الكبش نطاحًا، ولا كون الديك مناقرًا، أو الأمة مغنَية، أو الحامل تلد في وقت بعينه؛ لأنه إما محرّم، أو لا يمكن الوفاء به، وكلاهما ممنوع شرعًا. ويلزم الشرط الصحيح؛ فإن وفى به، وإلا فله الفسخ، لفقد الشرط؛ لحديث: «المؤمنون عند شروطهم» أو أرش فَقد الصفة المشروطة إن لم ينفسخ.
وإن تَعَذَّرَ رَدُّ تعين أرش فَقْدِ الصفة كمعيب تعذر رده، وإن أخبر بائع مشتريًا بصفة في مبيع يرغب فيه لها، فصدقه مشتر بلا شرط، فبان فقدها، فلا خيار له؛ لأنه مقصر بعدم الشرط، وإن شرط العبد كافرًا، فبان مسلمًا، فلا فسخ له، أو شرط الأمة ثيبًا، أو كافرة، أو هُمَا، أو شطرهما سبطة الشعر، أو شرطها حاملاً، أو شرط صفة أدون فبانت أعلى، فلا خيار لمشتر؛ لأنه زاده خيرًا.
الثالث: شرط بائع نفعًا مباحًا معلومًا، غير وطء ودواعيه، كمباشرة دون فرج وقبلة، فلا يصح استثناؤه؛ لأنه لا يحل إلا بملك اليمين، أو عقد نكاح.
ومثال شرط النفع المباح المعلوم: كاشتراط بائع سكنى الدار المبيعة شهرًا مثلاً، وكحملان البعير ونحوه إلى موضع معلوم، فيصح؛ لما ورد عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أنه كان على جمل له قد أعيا، فأراد أن يسيبه، قال: فلحقني النبي -صلى الله عليه وسلم-، فدعا لي وضربه، فسار سَيْرًا لم يسر مثله، فقال: «بعنيه بأوقية» قلت: لا، ثم قال: «بعنيه» فبعته بأوقية، واشترطت حملانه إلى أهلي، فلما بلغت أتيته بالجمل، فنقدني ثمنه، ثم رجعت، فأرسل في أثري، فقال: «أتراني ماكستك لآخذ جملك! خذ جملك ودراهمك، فهو لك» متفق عليه.
وأخرج أحمد وأبو داود أن أم سلمة أعتقت سفينة، وشرطت أن يخدم النبي -صلى الله عليه وسلم-، يؤيده «أنه –عليه السلام- نهى عن الثنيا إلا أن تُعلم»، وهذه معلومة، وأكثر ما فيه تأخير تسليمه مدة معلومة، ولبائع إجارة وإعارة ما استثنى من النفع كالمستأجر، وإن باع مشتر ما استثنى نفعه مدة معلومة، صح البيع، وكان المبيع في يد المشتري الثاني مستثنى النفع كالمشتري الأول، وللمشتري الثاني الفسخ إن لم يعلم، كمن اشترى أمة مزوجة، أو دارًا مؤجرة. وللبائع على مشتر إن تعذر انتفاع البائع بالنفع المستثنى بسبب المشتري، بأن أتلف العين المستثنى نفعها، أو أعطاها لمن أتلفها، أو تلفت بتفريطه أْجَرةُ مِثلِ النفع المستثنى؛ لأنه فوته عليه؛ فإن لم يكن بسبب مشتر، لم يضمن شيئًا. وإن أراد مشتر إعطاء بائع عوض النفع المستثنى، لم يلزمه قبوله، وله استيفاء النفع من عين المبيع لتعلق حقه بعينه كالمؤجرة، وإن تراضيا عليه جاز. وكشَرْط بائعٍ نفعًا مَعْلُومًا في مَبِيْعٍ شَرْطُ مُشْتَر نَفْع بائعٍ في مبيعٍ، كشَرْطِ حَمْلِ حَطَبٍ مَبِيْعٍ أوَ تَكْسِيْرهِ، أو خياطة ثوب أو تفصيله، أو شرط جذ رطبة مبيعة، أو حصاد زرع أو جذاذ نخل، وكضرب حديد مبيع سيفًا أو سكينًا، بشرط علمه للنفع المشروط، واحتج أحمد على صحة ذلك بما روى محمد بن سلمة:
اشترى من نبطي جرزة حطب، وشارطه على حملها؛ ولأن ذلك بيع وإجارة يصح إفراده بالعقد، فجاز الجمع بينهما كالعينين، وما احتج به المخالف من نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن بيع وشرط لم يصح، قال أحمد: إنما النهي عن شرطين في بيع، وهذا يدل بمفهومه على جواز الشرط الواحد، يؤيده عموم حديث: «المسلمون عند شروطهم».
والبائع المشروط نفعه في المبيع كأجير؛ فإن مات بائع قبل حمل حطب، أو خياطة الثوب، ونحوه مما شرط عليه، أو استحق نفعه بائع، بأن أجر نفسه إجارة خاصة؛ فلمشتر عوض ذلك النفع المشروط عليه في المبيع، لفوات ما وقع عليه عقد الإجارة بذلك فانفسخت، كما لو استأجر أجيرًا خاصًا فمات، وإن مرض بائع ونحوه، أقيم مقامه من يعمل، والأجرة عليه كالإجارة، وإن أراد بائع دفع عوض ما شرط عليه، وأبى مشتر أو أراد مشتر أخذه بلا رضا بائع؛ لم يجبر ممتنع، وإن تراضيا على أخذ العوض جاز، لجواز أخذ العوض عنها مع عدم الاشتراط، فكذا معه، وكالعين المؤجرة والموصى بنفعها.
وإن جَمَعَ في بيْعٍ بَيْنَ شرطين من غير النوعين الأولين، كحمل الحطب وتكسيره، وخياطة الثوب وَتَفْصيْله، فقيل: لم يصح البيع؛ لحديث عبد الله بن عمرو: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لا يضمن، ولا بيع ما ليس عندك» رواه الخمسة، وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم.
قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: إن هؤلاء يكرهون الشرط في البيع، فنفض يده، وقال: الشرط الواحد لا بأس به في البيع، إنما «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شرطين في البيع». وقيل: يصح، وإن الحديث لا يتناول هذا، وإنما يدخل فيه الشرطان اللذان باجتماعهما يترتب مفسدة شرعية، كمسألة العينة ونحوها.
قال ابن القيم –رحمه الله-: عامل عمر الناس على أنهم إن جاءوا بالبذر فلهم كذا، وإلا فلهم كذا. قال: وهذا صريح في جواز: بعتكه بعشرة نقدًا، أو بعشرين نسيئة، قال: والصواب جواز هذا كله، للنص والآثار والقياس، وذكر أمثلة يصح تعليقها بالشروط، ثم قال: والمقصود أن للشروط عند الشارع شأنًا ليس عند كثير من الفقهاء، ثم قال: والصواب الضابط الشرعي الذي دل عليه النص: أن كل شرط خالف حكم الله وكتابه فهو باطل، وما لم يخالف حكمه فهو لازم، والشرط الجائز بمنزلة العقد، بل هو عقد وعهد، وكل شرط قد جاز بذله بدون الاشتراط لزم بالشرط، وقال: تفسيره نهيه عن صفقتين، وعن بيعتين في بيعة، وفسر بأن يقول: خذ هذه السلعة بعشرة نقدًا، وآخذها منك بعشرين نسيئة، وهي مسألة العينة بعينها، هذا هو المعنى المطابق للحديث؛ فإنه إذ كان مقصوده الدراهم العاجلة بالآجلة، فهو لا يستحق إلا رأس ماله، وهو أَوكس الثمنين، ولا يحتمل غير هذا المعنى، وهذا هما الشرطان في بيع، وإذا أردت أن يتضح لك هذا المعنى فتأمل نهيه عن بيعتين في بيعة، وعن سلف وبيع، ونهيه في هذا الحديث عن شرطين في بيع، وعن سلف وبيع، وكلا الأمرين يؤول إلى الربا. اهـ. والذي عليه العمل أن الشرطين الصحيحين لا يؤثران في العقد، كما هو اختيار الشيخ تقي الدين.
تنبيه: قال في «الإنصاف»: محل الخلاف إذا لم يكونا من مصلحة العقد؛ فأما إن كانا من مصلحته؛ فإنه يصح على الصحيح من المذهب.
ويصح تعليق فسخ غير خلع بشرط، كقوله: بعتك كذا بكذا، على أن تنقدني الثمن إلى كذا، أي: وقت معين، أو: بعتك على أن ترهنني المبيع بثمنه، وإلا تفعل ذلك فلا بيع بيننا، فينعقد بالقبول، وينفسخ إن لم يفعل.

من النظم مما يتعلق بالشروط بالبيع
وللبيع أشراط صحاح ثلاثة ... فما يقتضيه العقدُ غَيرَ مُنَكِدِ
كقبضهما في الحال والرد بعده ... بعيب وشرط من مصالح معقد
كشرط الفتى إن جئتني بدراهم ... إلى جمعة أولى فلا بيع جوّدِ
وتأجيل أَثمانٍ ورهنٍ وكافلٍ ... به وخيارٌ كل ذا إن تشرطن طدِ
ولا تلزمن تسليم مطلق رهن أن ... كفيل بل اختر فامض بيعًا أو ارددِ
وإن عيّنا رهنًا وقلنا لزومه ... بعقد وبالتسليم ألزمه واظهدِ
ومَن يشترط في المشتري حل صَنْعَه ... ووصفٍ مباح يُبْتَغى يُتَقَصَّدِ
كَمْهلجَةِ المركوب أو كخصائه ... وبكر وإسلام وصَيَّاد أفْهُدِ
فذا ومضاهية صحيح وفقده ... لك الأرش أو أخْذٌ لأرش المفقدِ
وقد قيل أن لا أرش فيه سوى إذا ... تعذر رد نحو عتق المُعبَدِ
وإن تشرطنها ثيبًا أو كفورة ... فلا فسخ إن تفقد سوى في مُبَعَّدِ
والغ في الأقوى شرط طير يجيء منْ ... مِسير كذا أو شَرطُ صَوْتٍ مُغَردِ
كذا شرطُ حمْل في الإناث وشرُطُه ... الديوك تنادي رقْدًا للتهجدِ
وشرط انتفاع بالمبيع أجز سوى ... الجماع إذا عَيَّنْتَ نَفْعًا بأوكدِ
وليس على ذي الحق في بذل خصمه ... له ثمن الثنيا قبول فأرشدِ
بلى إن يردّي خصمه العين إن توت ... في الأقوى وإيجازًا لِثنياه أطدِ
وشرط ارتهان المشتري ببديله ... خلاف أبي يعلى أجز عند أحمدِ


الضرب الثاني من الشروط في البيع
س21: تكلم بوضوح عن الضرب الثاني من الشروط في البيع مُبَينًا أنواعه، ومَثِلْ له، واذكر ما تستحضره من دليل أو تعليل.

ج: الضرب الثاني من الشروط في البيع فاسد، يحرم اشتراطه، وهو ثلاثة أنواع: أحدها: مبطل للعقد من أصله، كشرط بيع آخر: كبعتك هذه الدار على أن تبيعني هذه الفرس، أو شرط سلف: كبعتك عبدي على أن تسلفني كذا، أو شرط قرض: كعلي أن تقرضني كذا، أو شرط إجارة: كعلي أن تؤجرني دارك بكذا، أو شرط شركة: كعلي أن تشاركني في كذا، أو شرط صرف الثمن: كبعتك الأمة بعشرة دنانير على أن تصرفها بمائة درهم، أو شرط صرف غير الثمن: كبعتك الثوب على أن تصرف لي هذه الدنانير بدراهم؛ لحديث أبي هريرة «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعتين في بيعة» رواه مالك والشافعي وأحمد، والنسائي والترمذي وأبو داود. وهذا النوع بيعتان في بيعة. قال أحمد: والنهي يقتضي الفساد، وقال ابن مسعود: «صفقتان في صفقة ربا»؛ ولأنه شرط عقد في عقد فلم يصح، كنكاح الشغار، وكذا لو باع شيئًا على أن يزوجه ابنته، أو ينفق على عبده ونحوه، أو حصته منه قرضًا أو مجانًا.
النوع الثاني: ما يصح معه البيع، كشرط ينافي مقتضاه البيع، كاشتراط مشترِ أن لا خسارة عليه في مبيع، أو متى نَفَق المبيعُ وإلا رده لبائعه، أو اشتراط بائع على مشتر أن لا يَقِفَ المبيعَ، أو أن لا يبيع المبيع، أو أن لا يهبه، أو أن لا يعتقه، أو شرط البائع إن أعتق المشتري المبيع، فالولاء له، أي: البائع، أو يشترط البائع على المشتري أن يفعل ذلك، أي: يقف المبيع أو يهبه، فالشرط فاسد والبيع صحيح، لعود الشرط على غير العاقد، نحو: بعتكه على أن لا ينتفع به أخوك أو زيد ونحوه؛ لحديث عائشة قالت: جاءتني بريرة، فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني، فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم، ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت لهم، فأبوا عليها، فجاءت من عندهم، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس، فقالت: إني عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأخبرت عائشة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: «خذيها، واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق» ففعلت عائشة - رضي الله عنها - ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد، فما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله تعالى؟! ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق» متفق عليه. فأبطل الشرط ولم يبطل العقد، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «واشترطي لهم الولاء» لا يصح حمله على: واشترطي عليهم الولاء، بدليل أمرها به، ولا يأمرها بفاسد؛ لأن الولاء لها بإعتاقها، فلا حاجة إلى اشتراطه؛ ولأنهم أبوا البيع إلا أن تشترط لهم الولاء، فكيف يأمرها بما علم أنهم لا يقبلونه؟! وأما أمرها بذلك، فليس يأمر على الحقيقة، وإنما صيغة أمر بمعنى التسوية، كقوله تعالى: {فَاصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا} [الطور: 16] التقدير: اشترطي لهم الولاء، أو لا تشترطي؛ ولهذا قال عقبة: فإنما الولاء لمن أعتق، إلا شَرْطُ عِتُقٍ، فيلزم باشتراط بائع على مشتر؛ لحديث بريرة، ولحديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المسلمون على شروطهم» رواه أحمد وأبو داود، والحاكم وابن الجارود وابن حبان، وهذا المذهب، وهو مذهب مالك وظاهر مذهب الشافعي، والرواية الثانية: «الشرط فاسد»، وهو مذهب أبي حنيفة؛ لأنه شرط ينافي مقتضى العقد، أشبه ما لو شرط أن يبيعه، وليس في حديث عائشة أنها شرطت لهم العتق، إنما أخبرتهم أنها تريد ذلك من غير شرط فاشترطوا ولاءها، والذي يترجح عندي القول الأول، لما تقدم.
ويجبر مشتر على عتق مبيع اشترط عليه إن أباه؛ لأنه مستحق لله تعالى، لكونه قربة التزمها المشتري، فأجبر عليه كالنذر، فإن أصر ممتنعًا، أعتقه حاكم، كطلاقه على مؤلٍ، وإن شرط رهنًا فاسدًا كخمر أو خنزير، لم يصح الشرط، أو شرط خيارًا وأجلاً مجهولين، بأن باعه بشرط الخيار وأطلق، أو إلى الحصاد ونحوه، أو بثمن مؤجل إلى الحصاد ونحوه، لم يصح الشرط أو شرط تأخير تسليم مبيع بلا انتفاع به، لغا الشرط، وصح البيع، أو شرط بائع إن باع المبيع مشتر، فالبائع أحق بالمبيع بالثمن، أي بمثله. ونقل الشيخ تقي الدين، نقل علي بن سعيد فيمن باع شيئًا، وشرط عليه إن باعه، فهو أحق به بالثمن، جواز البيع والشرط، وسأله أبو طالب عمن اشترى أمة بشرط أن يتسرى بها لا للخدمة، قال: لا بأس به. قال الشيخ تقي الدين –رحمه الله تعالى-: وروي عنه نحو عشرين نصًا على صحة هذا الشرط، قال: وهذا من أحمد يقتضي أنه إذا شرط على البائع فعلاً أو تركًا في المبيع مما هو مقصود البائع أو للمبيع نفسه، صح البيع والشرط، كاشتراط العتق. واختار الشيخ تقي الدين صحة هذا الشرط، بل اختار صحة العقد والشرط في كل عقد وكل شرط لم يخالف الشرع؛ لأن إطلاق الاسم يتناول المنجز والمعلق، والصريح والكناية، كالنذر، وكما يتناوله بالعربية والعجمة. انتهى. أو شرط أن الأمة لا تحمل فيصح البيع، وتبطل هذه الشروط، قياسًا على اشتراط الولاء لبياع، ولمن فات غرضه بفساد الشرط من بائع ومشتر الفسخ في كل ما تقدم من الشروط الفاسدة، ولو كان عالمًا بفساد شرط؛ لأنه لم يسلم له ما دخل عليه من الشرط، ويرد ثمن ومثمن لم يفت بإلغاء الشرط وإن فات، فيلزم أرش نقص ثمن لبائع إن كان المشترط بائعًا، أو استرجاع زيادة الثمن لمشتر إن كان هو المشترط لفوات غرض كل منهما.
ومن قال لغريمه: بعني هذا على أن أقضيك منه دينك، فباعه إياه، صح البيع، قياسًا على ما سبق لا الشرط؛ لأنه شرط أن لا يتصرف فيه بغير القضاء، ومقتضى البيع أن يتصرف مشتر بما يختار، ولبائع الفسخ، أو أخذ أرش نقصِ ثمنٍ على ما تقدم، وإن قال رب الحق: أقضيه على أن أبيعك كذا بكذا، فقضاه حقه، صح القضاء؛ لأنه أقبضه حقه دون البيع المشروط؛ لأنه معلق على القضاء،
وإن قال رب الحق: اقضني أجود من مالي عليك على أن أبيعك كذا، ففعلاً، فالبيع والقضاء باطلان، ويرد الأجود قابضه، ويطالب بمثل دينه؛ لأن المدين لم يرض بدفع الأجود إلا في حصول المبيع له، ولم يحصل لبطلان البيع لما تقدم.
النَّوعُ الثالث: ما لا ينعقد معه البيع، وهو المعلق عليه البيع، كبعتك كذا إن جئتني بكذا، أو رضي زيد، لم يصح البيع؛ لأنه علَّق البيع على شرط مستقبل، وبه قال الشافعي، وقيل: يصح العقد، وعنه صحتهما، اختاره الشيخ تقي الدين –رحمه الله تعالى- في كل العقود التي لم تخالف الشرع، ويصح: بعت إن شاء الله، وقبلت إن شاء الله؛ لأن القصد منه التبرك، وإذا قال المرتهن: إن جئتك بحقك في محله، وإلَّا فالرهن لك، فلا يصح البيع؛ لحديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غرمه» رواه الشافعي في «مسنده»، والدارقطني وحسنه، وقال الحافظ: رجاله ثقات. وفسره أحمد بذلك، وحكاه ابن المنذر عن جماعة من العلماء؛ لأنه علقه على شرط مستقبل كالأولى. وقال الشيخ تقي الدين –رحمه الله-: لا يبطل الثاني، وإن لم يأته صار له، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، يؤيده حديث: «المسلمون على شروطهم» وحديث إغلاق الرهن، إن صح؛ فمعناه: أن يتملكه المرتهن من دون إذن الراهن وشرطه، ويصح بيع العربون وإجارته، والعربون في البيع: هو أن يشتري السلعة، ويدفع إلى البائع درهمًا أو أكثر على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن، وإن لم يأخذها فهو للبائع، قال أحمد ومحمد ابن سيرين: لا بأس به؛ لما روى نافع بن عبد الحارث أنه اشترى لعمر، وإلا له كذا وكذا. وقال أبو الخطاب: لا يصح، وهو قول الشافعي ومالك وأصحاب الرأي، ويروى عن ابن عباس والحسن؛ لما ورد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع العُرْبان» رواه مالك وأبو داود وابن ماجه. ولأنه شرط للبائع شيئًا بغير عوض، فلم يصح، كما لو شرطه لأجنبي، ولأنه بمنزلة الخيار المجهول؛ فإنه اشترط أن له رد المبيع من غير ذكر مدة، فلم يصح، كما لو قال: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهمًا. وهذا القول هو الذي يترجح عندي، والقول الأول من مفردات المذاهب.

قال ناظم المفردات:
لبائع دُرَيْهمًا مَن أعطى ... عربونه يصح هذا الإعطا
إن رَدَّهُ ليسَ به مطلوب ... أو يمضه من ثمن محسوب


ومن قال لقنه: إن بعتك فأنت حر، فباعه؛ عتق عليه بتمام قبول، ولم ينتقل ملك فيه؛ لأنه يعتق على البائع في حال انتقال الملك إلى المشتري، حيث يترتب على الإيجاب والقبول انتقال الملك ونفوذ العتق، فيتدافعان، وينفذ العتق لفوته وسرايته دون انتقال الملك، ولو قال مالكه: إن بعته فهو حر، وقال آخر: إن اشتريته فهو حر، فاشتراه، عَتَقَ على بائع دون مشتر، وإلا يقل مالكه: إن أبعته فهو حر، وقال آخر: إن اشتريته فهو حر، فاشتراه، عتق على مشتر؛ لأن الشراء يُراد للعتق، فيكون
مقصودًا، كشراء ذي رحم وغيره. وإن قال: بعتك على أن تنقدني الثمن إلى ثلاث، وإلا فلا بيع بيننا، فالبيع صحيح، نص عليه، وهذا قول أبي حنيفة والثوري وإسحاق، ومحمد بن الحسن، وقال به أبو ثور إذا كان إلى ثلاث، وحكى مثل قوله إن ابن عمر، وقال مالك: يجوز في اليومين والثلاثة ونحوها، وإن كان عشرين ليلة، فسخ البيع. وقال الشافعي وزفر: البيع فاسد؛ لأنه عَلَّقَ فسخ البيع على غرر، فلم يصح كما لو علقه بقدوم زيد، والذي يترجح عندي القول الأول؛ لأنه روي عن ابن عمر، ولأنه نوع بيع فجاز أن ينفسخ بتأخير القبض كالصرف؛ ولأن هذا بمعنى شرط الخيار؛ لأنه كما يحتاج إلى التروي في المبيع هل يوافقه أو لا، يحتاج إلى التروي في الثمن، هل يصير منقودًا أو لا؟ فهما شبيهان في المعنى، وإن تغايرا في الصورة إلا أنه في الخيار يحتاج إلى الفسخ، وهذا ينفسخ إذا لم ينقد في المدة المذكورة؛ لأنه جعله كذلك، وإن باعه وشرط البراءة من كل عيب، أو شرط بائع البراءة من عيب كذا إن كان في المبيع، لم يبرأ بائع بذلك، فلمشتر الفسخ بعيب لم يعلمه حال العقد؛ لما روى مالك وأحمد والبيهقي، واللفظ له: أن عبد الله بن عمر باع غلامًا له بثمان مائة درهم، وباعه بالبراءة، فقال الذي ابتاعه لعبد الله بن عمر: بالغلام داء، فاختصما إلى عثمان -رضي الله عنه-، فقال الرجل: باعني عبدًا وبه داء لم يسمه لي، فقال عبد الله بن عمر: بعته بالبراءة، فقضى عثمان على عبد الله بن عمر باليمين أن يحلف له: لقد باعه بالغلام، وما به داء يعلمه، فأبى عبد الله أن يحلف، وارتجع العبد، فباعه بعد ذلك بألف وخمس مائة درهم.
قال الشيخ: الصحيح في مسألة البيع بشرط البراءة من كل عيب، والذي قضى به الصحابة، وعليه أكثر أهل العلم أن البائع إذا لم يكن عَلِمَ بالعيب، فلا رد للمشتري؛ لكن إن ادعى أن البائع علم بذلك، فأنكر البائع، حَلَفَ أنه لم يَعلم؛ فإن نكل قضى عليه.اهـ.
وإذا كان في المبيع عيب يعلمه البائع بعينه، فأدخله في جملة عيوب ليست موجودة، وتبرأ منها كلها، فقال ابن القيم: لا يبرأ حتى يفرده بالبراءة، ويُعَيّنَ مَوْضِعَهُ وجنسهُ ومقدارهُ حيث لا يبقى للمبتاع فيه قول، ولا يقول البائع: بشرط البراءة من كل عيب، وليقل وأنك رضيت بها بجملة ما فيها من العيوب التي توجب الرد، أو يبين عيوبًا يدخله في جملتها، وأنه رضي بها كذلك. وفي «الاختيارات الفقهية»: وشرط البراءة من كل عيب باطل، ولا يبرأ حتى يسمي العيب، قال أحمد: يضع يده على العيب فيقول: أبرأ إليك من ذا، فأما إذا لم يعمد إلى الداء، ولم يوقفه عليه، فلا أراه يبرأ، يرده المشتري بعيبه؛ لأنه مجهول. قال ابن رشد: وحجة من لم يجز البراءة على الإطلاق أن ذلك من باب الغرر فيما لم يعلمه البائع، ومن باب الغبن والغش فيما يعلمه.
قال ابن القيم: وإذا أبطلنا الشرط، فللبائع الرجوع بالتفاوت الذي نقص من ثمن السلعة بالشرط الذي لم يسلم له، هذا هو العدل، وقياس أصول الشريعة.
ولمن جهل الحال من زيادة أو نقص وفات غرضه الخيار، ومن باع شيئًا يذرع، كأرض ودار، وتوت على أنه عشرة أذرع أو أشبار، أو أجربة أو أمتار ونحو ذلك، فبان المبيع أكثر، فالبيع صحيح؛ لأن ذلك نقص على المشتري فلم يمنع صحة البيع، كالعيب والزائد عن العشرة للبائع مشاعًا في الأرض أو الدار أو الثوب؛ لعدم تعينه، ولكل منهما الفسخ دفعًا لضرر الشركة، إلا أن المشتري إذا أعطى الزائد مجانًا بلا عوض فلا فسخ له؛ لأن البائع زاده خيرًا.
قلت: وفيما أرى أنه إذا لم يكن على المشتري ضرر في ذلك، وإن اتفقا على إمضاء البيع لمشتر بعوض للزائد جاز؛ لأن الحق لهما لا يعدوهما كحالة الابتداء، وإن بان ما ذكر من الأرض أو الدار أو الثوب أقل من عشرة، فالبيع صحيح؛ لأن ذلك نقص حصل على البائع فلم يمنع صحة البيع، كما تقدم، والنقص على البائع؛ لأنه التزمه بالبيع.
ولمشتري الفسخ لنقض المبيع، وله إمضاء البيع بقسط المبيع من الثمن برضاء البائع؛ لأن الثمن يقسط على كل جزء من أجزاء المبيع، فإذا فات جزء، استحق ما قابله من الثمن، وإن لم يرض البائع بأخذ المشتري له بقسطه، فله الفسخ دفعًا لذلك الضرر، وإن بذل مشتر جميع الثمن لم يملك البائع الفسخ؛ لأنه لا ضرر عليه في ذلك، ولا يجبر أحدهما على المعاوضة، وإن اتفقا على تعويضه جاز؛ لأن الحق لا يعدوهما، وإن باع صبرة على أنها عشرة أقفزة أو زبرة حديدة على أنها عشرة أرطال، فبانت أحد عشر، فالبيع صحيح؛ لصدوره من أهله في محله، والزائد للبائع مشاعًا، ولا خيار للمشتري لعدم الضرر، وكذا البائع. وإن بانت الصبرة أو الزبرة تسعة، فالبيع صحيح، وينقص من الثمن بقدر نقص المبيع، لما تقدم، ولا خيار للمشتري ولا للبائع، بخلاف الأرض ونحوها مما ينقص التفريق والمقبوض بعقد فاسد لا يملك به، ولا ينفذ تصرفه فيه ببيع ولا غيره.
ويضمن المشتري المقبوض بعقد فاسد كالغصب، ويلزمه النماء المنفصل والمتصل، وأجرة مثله مدة بقائه في يده، وإن نقص بيده ضمن نقصه، وإن تلف أو اتلف فعليه ضمانه بقيمته يوم تلفه ببلد
قبض فيه.

من النظم مما يتعلق بالشروط الفاسدة
وإن تشترط في البيع عقدًا كقرضه ... وصرف وشرط ما مناف التعقدِ
كشرط امتناع المشتري من عتاقه ... وبيعٍ وبَذْلٍ والتَّسَلُمُ باليدِ
وشرط ولاء عند إعتاقه له ... أو الرد إن يَخْتَرْهُ عند التكَسُّدِ
ورهنُ حرامٍ أو جهيل فكل ذي ... لتلغ وصح العقد معها بأوكدِ
وإن تَشْتَرِطْ عِتْقًا فيأباه فافْسَخَنْ ... أو اجبْرهُ في الأقوى وأبْطِلْ بأبْعَدِ
فإن تشترط شرطين من فاسد فلا ... تجزه وألغ العقد في المتأكدِ
وإن علقا بالشرط عقدًا كبعته ... متى جاء رأس الشهر أو يرض ذو اليدِ
وقولك إن لم آت بالحق وقته ... وأن لك المرهون ذا العقد أفسدِ
وإن درهمًا من قيمة العين تعطه ... على إن رددت العين يملكه اطّدِ
وقال أبو الخطاب ذا غير جائز ... وقد فعل الفاروق ذا فيه فاقتدِ
ومن يشترط من كل عين براءة ... فلا تبر في الأولى كمن كتم الردي
وقيل ابرهِ والعقد أفسد بمبعد ... كذا في التبري من كذا إن يكن طِد
وجاهل لَغو الشرط إن صح عقده ... له الفسخ أو أرش لنقص المفقدِ
وليس يفيد الملك قبض بفاسد ... وكالغصب ضمنه وبالنما فاردد
ولا حد في وطء بل أرش بكارة ... ومهر ويضمن حر ولد وتردد
وإن باع شيئًا ما معدد أذرع ... بين فوقها فاحكم له بالمزيد
وكل له فسخ وإن أمضيا أجز ... إذا صح والأولى فساد المعقد
وعكس بعكس والخيار لمشتر ... ليأخذ بقسط أو ليقبله إن فد



المجلد الرابع 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 6:24 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المجلد الرابع Empty
مُساهمةموضوع: رد: المجلد الرابع   المجلد الرابع Emptyالأحد 15 نوفمبر 2015, 6:33 am

باب الخيار في البيع وبيان خيار المجلس وما يتعلق به من أحكام
س22: ما هو الخيار، وكم أقسامه؟


ج: الخيار: اسم مصدر اختار يختار اختيارًا، والخيار: طلب خير الأمرين من إمضاء عقد أو فسخه، وأقسامه بحسب أسبابه ثمانية بالاستقراء.

س23: ما هو القسم الأول من أقسام الخيار، وما دليله؟ وما الذي يثبت فيه؟ ومتى ينتهي؟ وما الذي لا يثبت به، وما مُسْقطَاته؟ وما الذي ينقطع به؟ ومثل لما لا يتضح إلا بالأمثلة، واذكر الأدلة.

ج: الأول من أقسام الخيار: خيار المجلس، ويثبت في البيع؛ لما ورد عن حكيم بن حزام أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» أو قال: «حتى يتفرقا، فإن صدقا وبَيَّنَا، بُورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما، محقت بركة بيعهما». وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر»، وربما قال: أو يكون بيع خيار، وفي لفظ: «إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا، وكانا جميعًا أو يخير أحدهما الآخر؛ فإن خير أحدهما الآخر، فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا، ولم يترك واحد منهما البيع، فقد وجب البيع» متفق على ذلك كله. وفي لفظ: «المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه، ما لم يتفرقا، إلا بيع خيار»، وفي لفظ: «إذا تبايع المتبايعان فكل واحد منهما بالخيار من بيعه، ما لم يتفرقا، أو يكون بيعهما عن خيار، فإذا كان بيعهما عن خيار، فقد وجب البيع». قال نافع: وكان ابن عمر –رحمه الله- إذا بايع رجلاً، فأراد أن لا يقبله قام فمشى هنيهة، ثم رجع. أخرجاهما.
قال في «الشرح»: وجملته أن خيار المجلس يثبت في البيع بمعنى أنه يقع جائزًا، ولكل واحد من المتبايعين الخيار في فسخه ما داما مجتمعين لم يتفرقا، وهو قول أكثر أهل العلم، يُروى ذلك عن عمر وابنه وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي برزة، وبه قال سعيد بن المسيب وشريح، والشعبي وعطاء، وطاووس، والزهري، والأوزاعي، وابن أبي ذئب، والشافعي، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وقال مالك وأصحاب الرأي: «يلزم العقد بالإيجاب والقبول، ولا خيار لهما» اهـ.
قال النووي: «ومن قال بعدمه ترد عليه الأحاديث الصحيحة، والصواب ثبوته كما قال الجمهور».
قال ابن القيم: أثبت الشارع خيار المجلس في البيع حكمة ومصلحة للمتعاقدين، وليحصل تمام الرضى الذي شرطه تعالى فيه بقوله: {عَن تَرَاضٍ} [النساء: 29]؛ فإن العقد قد يقع بغتة من غير تروِ ولا نظر في القيمة، فاقتضت محاسن هذه الشريعة الكاملة أن يجعل للعقد حريمًا يَترَّوى فيه المتبايعان، ويعيدان النظر، ويستدرك كل واحد منهما. اهـ.

والمسائل التي لا يَثْبُتُ فيها الخيارُ أربع:
1- تَوَلَّي طرفي العقد.
2- الكتابة.
3- إذا اشترى من يَعْتُقُ عليه.
4- إذا اشترى مَن يَعترفُ بحريته قبل الشراء.
وكبيع في ثبوت الخيار في المجلس صلح بمعنى بيع، بأن أقر له بدين أو عين، ثم صالحه عنه بعوض، وكبيع قسمة بمعنى بيع، وهي قسمة التراضي، وكبيع هبة بمعناه وهي التي فيها عوض معلوم؛ لأنها نوع من البيع، فيثبت فيها خيار المجلس كالبيع، وكبيع إجارة على عين كدار وحيوان، أو على نفع في الذمة، كخياطة ثوب ونحوه؛ لأنه نوع من البيع، وكبيع ما قبضه شرط لصحته، كصرف وسلم وبيع ربوي بجنسه، فيثبت فيها خيار المجلس؛ لعموم الخبر؛ ولأنه موضوعه النظر في الأحظ وهو موجود هنا.
ولا يثبت في حوالة ولا إقالة، ولا الأخذ بالشفعة، والجعالة، والشركة، والوكالة، والمضاربة، والعارية، والهبة بغير عوض، والوديعة، والوصية قبل الموت، ولا في نكاح، لا في الوقف، والخلع، والإبراء، والعتق على مال. وأما المساقات والمزارعة؛ فإن قلنا: إنهما عقد لازم، كما هو الراجح عندي، ثبت فيهما خيار المجلس، وإن قلنا: إنهما عقد جائز، فلا خيار فيهما؛ لأن الخيار مستغني عنه حينئذ، ويبقى خيار مجلس حيث ثبت إلى أن يتفرقا عرفًا بأبدانهما؛ لحديث عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعًا» الحديث متفق عليه.

قال في نهاية «التدريب»:
أما خيارُ مجلس التبايع ... فثابت للمشتري والبائع
فيستمرُّ حق كل منهما ... حتى يرى مفارقًا أو ملزمًا


فإن كانا في مكان واسع، كمجلس كبير وصحراء فبمشي أحدهما مستديرًا لصاحبه خطوات، وإن كانا في دار كبيرة ذات مجالس وبيوت، فبمفارقته إلى بيت آخر أو مجلس أو صُفَّة أو نحوها، وإن كانا في دار صغيرة، فبصعود أحدهما السطح، أو بخروجه منها، وإن كانا بسفينة كبيرة، فبصعود أحدهما أعلاها إن كانا أسفل، أو نزوله أسفلها إن كانا أعلاها، وإن كانت صغيرة فبخروج أحدهما منها، ومع إكراه أو فزع من مخوف أو إلجاء بسيل أو نار أو نحوهما إلى أن يتفرقا ن مجلس زال فيه إلجاء أو إكراه؛ لأن فعل الملجأ والمكره كعدمه.
ويسقط إذا نفياه، أو أسقطاه بعد العقد؛ لأنه حق ثبت للمسقط بعقد البيع، فسقط بإسقاطه كالشفعة، وإن أسقطه أحدهما أو قال لصاحبه: اختر سقط خيار القائل، وبقي خيار صاحبه؛ لحديث ابن عمر: «فإن خير أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع» أي لزم، ولأن جعل الخيار لغيره، فلم يبق له شيء، وتحرم الفرقة خشية أن يستقيله؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «البَيْعُ والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله» رواه الخمسة إلا ابن ماجه، ورواه الدارقطني.
وينقطع خيار مجلس بموت أحدهما، ولا ينقطع خياره بجنونه في المجلس؛ لعدم التفرق وهو على خياره إذا أفاق من جنونه، وإن خرس، قامت إشارته مقام نطقه.

من النظم مما يتعلق بالخيار
وإن لم يفارق مشتر بائعًا هما ... بحكم خيار بين فسخ ومعقد
وفي مجلس البيع اعتبارُ تفرق الغريمين ... عنه بانفصال مبدد
ويبطل أيضًا بالفرار بكرهه ... ووجهين في التفريق كرهًا فأسند
وإن يزل الإكراه عاد خيارهم ... بمجلسهم وابْطِلْه مع موت مفرد
وقيل حرام فرُّه خوفَ فسخه ... ولو قيل لم يبطل إذًا لم أبعد
وإن أسقطا في مجلس أو بعقدهم ... فأسقطه في القول الصحيح المسدد
وأسقط خيار الفرد دون غريمه ... بإسقاطه أو قوله اختر بأجود
وفي الفسخ والإمضاء إن يتخالفا ... بمجلسهم فاقبل مقال المفسدِ


خيار الشرط
س24: تكلم بوضوح عن القسم الثاني من أقسام الخيار مبينًا ما يثبت به، وابتداء مدته وانتهاءها، وإذا شرط الخيار بائع حيلة ليربح في قرض، وإذا شرط الخيار مدة مجهولة أبدًا، أو مدة مجهولة، أو شرط الخيار إلى العطاء وما الذي لا يثبت به؟ وما الذي يسقط به خيار الشرط؟ وإذا شرط الخيار شهرًا مثلاً يومًا يثبت ويومًا لا يثبت، وإذا شرط الخيار في أحد مبيعين، فما الحكم؟ وما الذي يترتب على ذلك؟ وإذا شرط الخيار لأحد متبايعين متفاوتًا أو لغيرهما، أو لأحدهما لا بعينه فما الحكم؟ وهل يفتقر فسخه إلى رضا أو حضور؟ وإذا مضى زمنه ولم يفسخ فما الحكم؟ وما مسقطاته؟ واذكر ما تستحضره من دليل أو تعليل أو تفصيل أو خلاف أو ترجيح، ومثل لما لا يتضح إلا بالمثال.


ج: القسم الثاني من أقسام الخيار أن يشترط العاقدان الخيار في صلب العقد، أو يشترطاه بعده في زمن الخيارين خيار المجلس، وخيار الشرط إلى مدة معلومة، فيصح فيها ولو طالت، وقاله جمع من العلماء؛ لقوله تعالى: { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } [المائدة: 1]؛ ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : «المسلمون على شروطهم» ولأنه حق مقدر معتمد الشرط، فيرجع في تقديره إلى شرطه كالأجل.
وقال الشيخ: ويثبت خيار الشرط في كل العقود ولو طالت المدة، وهو اختيار ابن القيم في كتابه «إعلام الموقعين» قال: والشارع لم يمنع من الزيادة على الثلاثة، ولم يجعلها حدًا فاصلاً بين
ما يجوز من المدة وما لا يجوز، وإنما ذكرها في حديث حبان بن منقذ، وجعلها له بمجرد البيع، وإن لم يَشْتَرطْهُ؛ لأنه كان يُغْلَبُ في البيوع، فجعل له ثلاثًا في كل سلعة يشتريها، سواء شرط ذلك، أو لم يشترطه. هذا ظاهر الحديث، فلم يتعرض للمنع من الزيادة على الثلاثة بوجه من الوجوه. اهـ.
قال في «الشرح»: وأجازه مالك فيما زاد على الثلاث بقدر الحاجة، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجوز أكثر من ثلاث؛ لما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: ما أجد لكم أوسع مما جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحبان جعل له الخيار ثلاثة أيام، إن رضي أخذ، وإن سخط ترك؛ ولأن الخيار ينافي مقتضى البيع؛ لأنه يمنع الملك واللزوم، وإطلاق التصرف، وإنما جاز للحاجة فجاز القليل منه، وآخر حد القلة ثلاث، قال الله تعالى: {فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّام} [هود: 65] بعد قوله: {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64]. اهـ. والقول الأول هو الذي تميل إليه النفس. والله أعلم.
وإن شرط الخيار بائع حيلة، ليربح فيما أقرضه، حرم؛ لأنه يتوصل به إلى قرض جر نفعًا، ولم يصح البيع لئلا يتخذ ذريعة للربا ولا يصح الخيار مجهولاً مثل أن يشترطاه أبدًا، أو مدة مجهولة، بأن قالا: مدة أو زمنًا أو مدة نزول المطر ونحوه، أو أجلاه أجلاً مجهولاً كبعتك ولك الخيار متى شئت أو شاء زيد، أو قدم عمرو، أو هبت الريح، أو نزل المطر، أو قال أحدهما: لي الخيار ولم يذكر مدته، أو شرطاه إلى الحصاد والجذاذ ونحوه فيلغو الشرط، ويصح البيع.
وإن شرط الخيار إلى العطاء وهو القسط من الديون، وأراد وقت العطاء، وكان العطاء معلومًا، صح البيع والشرط للعلم بأجله، وإن أراد الوقت الذي يحصل فيه العطاء بالفعل دون الوقت المعتاد له عادة، فهو مجهول، فيصح البيع، ويلغو الشرط للجهالة.
ويثبت خيار شرط فيما ثبت فيه خيار مجلس، كبيع وصلح بمعناه وقسمه بمعناه، وهبة بمعناه؛ لأنه من صور البيع، ويثبت في إجارة في ذمة، كخياطة ثوب، أو إجارة مدة لا تلي العقد إن انقضى قبل دخولها كما لو أجره داره سنة ثلاث في سنة اثنين، وشرط الخيار مدة معلومة تنقضي قبل دخول سنة ثلاث؛ فإن وليته أو دخلت في مدة إجارة، فلا لأدائه إلى فوات بعض المنافع المعقود عليها، أو استيفائها في زمن الخيار، وكلاهما لا يجوز.
ولا يثبت في بيعٍ قبضُ عوضه شَرْطٌ لِصحَّةِ العقد عليه من صرف وسلم وربوي بربوي؛ لأن وضعها على أن لا يبقى بين المتعاقدين علقة بعد التفرض؛ لاشتراط القبض، وثبوت خيار الشرط ينافي ذلك، فيلغوا الشرط، ويصح العقد.
وابتداء مدة خيار الشرط من حين عقد شرط فيه، ويسقط خيار شرط بأول الغاية؛ فإن شرط إلى رجب سقط بأوله، وإلى صلاة مكتوبة، كالظهر سقط بدخول وقتها، كما إذا شرط إلى الغد، فيسقط بطلوع فجره؛ لأن «إلى» لانتهاء الغاية، فلا يدخ لما بعدها فيما قبلها، وإن شرط الخيار شهرًا مثلاً يومًا يثبت، ويومًا لا يثبت، صح البيع في اليوم الأول، لإمكانه فقط؛ لأنه إذا لزم في اليوم الثاني، لم يعد إلى الجواز، ويصح شرط الخيار للمتعاقدين ولو كانا وكيلين؛ لأن النظر في تحصيل الأحظ مفوض إلى الوكيل، كما يصح شرطه لموكليهما؛ لأن الحظ لهما حقيقة، وإن لم يأمر الموكلان الوكيلين بشرط الخيار.
ويصح شرط خيار في مَبيْع مُعيَّن من مبيعين بعقد واحد، كعبدين بيعًا صفقة وشرط الخيار في أحدهما بعينه؛ لأن أكثر ما فيه أن جمع ما بين مبيع فيه الخيار، ومبيع لا خيار فيه، وذلك جائز بالقياس على شراء ما فيه شفعة وما لا شفعة فيه، ومتى فسخ البيع فيما فيه الخيار منهما، رجع مشتر أقبض ثمنهما بقسطه من الثمن، كما لو رد أحدهما لعيبه، وإن لم يكن أقبضه، سقط عنه بقسطه، ودفع الباقي.
ويصح شرط خيار المتبايعين متفاوتًا، بأن شرط لأحدهما شهرًا، وللآخر سنة، ويصح شرطه لأحدهما دون الآخر؛ لأنه حق لهما جُوِّزَ رِفْقًا بهما، فكيفما تراضيا به جاز، ويصح شرط بائعين غير وكيلين الخيار لغيرهما ولو المبيع، كما لو تبايعا قِنًا وشرطا له الخيار؛ فإنه يصح، ويكون جعل الخيار للغير توكيلاً منهما له؛ لأنهما أقاماه مقامهما، فلا يصح جعل الخيار للأجنبي دون المتبايعين؛ لأن الخيار شرع لتحصيل الحظ لكل واحد من المتعاقدين، لا يكون لمن لا حظ له فيه؛ وأما صحة جعله للمبيع، فلأنه بمنزلة الأجنبي، وإن شرط الخيار في أحد المتبايعين لا بعينه، أو شُرِطَ الخيار لأحد المتعاقدين لا بعينه، فهو مجهول لا يصح شرطه للجهالة، ولمن له الخيار الفسخ من غير حضور صاحبه ولا رضاه؛ لأن الفسخ على حل عقد جعل إليه، فجاز مع غيبة صاحبه وسخطه، كالطلاق، أطلقه الأصحاب، وعنه في رواية أبي طالب: إنما يملك الفسخ برد الثمن إن فسخ البائع، وجزم به الشيخ كالشفيع، وقال الشيخ: وكذا التملكات القهرية، كأخذ الغراس والبناء من المستعير والمستأجر بعد انقضاء الإجارة، وكأخذ الزرع من الغاصب إذا أدركه رب الأرض قبل حصاه، قاله في «الإنصاف»، وهذا هو الصواب الذي لا يعدل عنه خصوصًا في زمننا هذا، وقد كثرت الحيل وهذا في زمنه، فكيف بزمننا!! ويحتمل أن يحمل كلام من أطلق على ذلك انتهى. «إقناع» و«شرحه».
وإن مضت المدة، ولم يفسخ، بطل خيارهما إن كان الخيار لهما، أو خيار أحدهما إن كن الخيار له وحده، ولزن البيع؛ لأن اللزوم موجب البيع يتخلف بالشرط، فإذا زال ثبت العقد بموجبه لخلوه عن المعارض.

من النظم مما يتعلق في خيار الشرط
وأما خيارُ الشرط فاحكم به إلى ... ثلاثة أيام وفوق وقيِّدِ
فإن لم يقيد لم يصح وعنه بل ... أجزه إلى أن يقطعا غير مفسد
ولا تمضه في كل بيع شرطت في ... تصححه قبضًا كصرف فتعتدي
ويثبت في هذا خيار بمجلس ... في الأولى وفي كل الإجارات أطد
ووجهين في سبق وأخذ بشفعة ... زراع مساقاة حوالة أمهد
ولا تثبتن في غيرها كنكاحه ... وخلع وتضمينٍ فرهن بل اردد
وذو الشرط ماض في إجارة ذمة ... وما لا تلي عقدًا ووال بمبعد
ومَن جُن أو أغُمي عليه بمجلس ... فيختار عنه حاكم ذو تقلد
ولم يثبتا في عقد فرد وغير ذي ... وغاية شرط ليس منه بأوكد
وقولين خذ في الجذ والحصد هل هما ... من الأجل المجهول أخذ مجود
وشرط إلى أن تطلع الشمس أو ... إلى الغروب صحيح أو إلى بكرة الغد
ويثبت تأجيل العطاء لقاصد ... به الوقت لا نفس العطاء المرصد
وإن شرطا عامًا باثني شهرهم ... فتممه عدًا والأهلة فاقصد
في الأولى لباقيها وعنه جميعها ... كذا كلما علقت بالأشهر اعدد
ومن شاء في التأجيل يفسخ ولو على ... كراهة خصم أو معيب بأوطد
ومدته في حين عقد وقيل من ... فراق فإن لم يفسخا فيه أطد
وشرط اختيار الغير توكيله به ... ودونهما إن خصصاه ليردد
ووجهان إن يشرط له لم يقيد ... وإن خصصا فردا به منهما طد

من ينتقل إليه الملك زمن الخيارين
س25: إلى من ينقل الملك في المبيع زمن الخيارين، وما الذي يترتب على ذلك؟ وإذا وطئ مشتر أمة زمن خيار، فما الحكم؟ وما الذي يترتب على ذلك؟ وما حكم تصرف المتبايعين مع شرط الخيار لهما زمنه في ثمن ومثمن؟ وإذا أعتق مشتر المبيع زمن خيار أو أعتقه البائع أو تصرف أحدهما في المبيع مع شرط الخيار له وحده، أو تلف المبيع قبل القبض وقد شرط الخيار، وإذا باع عبدًا بأمة بشرط الخيار، فمات العبد قبل انقضاء مدة الخيار، ووجد بالأمة عيبًا، فما الحكم؟ وما الذي يترتب على ذلك؟ وهل يورث خيار الشرط؟ واذكر الدليل والتعليل والخلاف ومثل لما لا يتضح إلا بالتمثيل.


ج: ينتقل الملك في المبيع زمن الخيارين للمشتري، سواء كان الخيار لهما أو لأحدهما لظاهر حديث: «من باع عبدًا وله مال فما له للبائع إلا أن يشترطه المبتاع» رواه مسلم، فجعل المال للمبتاع باشتراطه وهو عام في كل بيع، فشمل بيع الخيار؛ ولأن البيع تمليك بدليل صحته بقوله: ملكته، فيثبت به الملك في بيع الخيار، كسائر البيع. يحققه أن التمليك يدل على نقل الملك إلى المشتري، ويقتضيه لفظه، ودعوى القصور فيه ممنوعة، وجواز فسخه لا يوجب قصوره، ولا يمنع نقل الملك فيه كالعيب، وامتناع التصرف لأجل حق الغير لا يمنع لثبوت الملك، كالمرهون. وعن أحمد أن الملك لا ينتقل حتى ينقضي الخيار، وهو قول مالك.
والقول الثاني للشافعي، وبه قال أبو حنيفة إذا كان الخيار لهما أو للبائع، وإن كان للمشتري خرج عن ملك البائع، ولم يدخل في ملك المشتري؛ لأن البيع الذي فيه الخيار عقد قاصر، فلم ينقل الملك كالهبة قبل القبض، ويتقل ملك بعقد، ولو فسخا المبيع بَعْدُ بخيار أو عيب، أو تقابلٍ ونحوها، فيعتق بشراء ما يعتق على مشتر لرحم أو تعليق، أو اعتراف بحريته، وينفسخ نكاح بشراء أحد الزوجين الآخر، ويلزم المشتري نفقة حيوان مبيع، وفطرة قن مبيع بغروب الشمس من آخر رمضان قبل فسخه، وكسب المبيع ونماؤه المنفصل مدة خيار للمشتري؛ لحديث: «الخراج بالضمان»، وما أولد مشتر من أمرة مبيعة وطئها زمن خيار، فأم ولد؛ لأنه صادف ملكًا له، وأشبه ما لو أحبْلَهَا بَعْدَ مُدة الخيار، وولده حر ثابت النسب؛ لأنه من مملوكته، فلا تلزمه قيمته، وعلى بائع بوطء مبيعة زمن الخيارين المَهْرُ لمشتر، ولا حَدَّ عليه إن جَهِلَ، وعليه مع علم تحريمه للوطء وزوال ملكه عَنْ مَبِيعٍ بعقد، وإن البيع لا ينفسخ بوطئه المبيعة – الحَدُّ؛ لأنه وطء لم يصادف ملكًا ولا شبهة ملك.
وقيل: لا حَدَّ على بائع بوطئه المبيعة مطلقًا؛ لأن وطأه صادف ملكًا أو شهبة ملك، للاختلاف فلي بقاء ملكه، اختاره جماعة. قال في «الإنصاف»: وهو الصواب., وولده، أي: البائع مع لمه بما سبق قنٌ لمشتر، ومع جهل واحد منها الولد حر، ويفديه بقيمته يوم ولادة لمشتر ولا حدَّ، والحملُ وقت عَقْد مَبيع لا نماء للمبيع، كالولد المنفصل فيرد معها.
قال ابن رجب في «القواعد»: وهو أصح وجزم به في «الإقناع» فيما إذا ردت بشرط الخيار، وقال: قلت: فإن كانت أمة، ردت هي وولدها على القولين، لتحريم التفريق. اهـ.
قال ابن رجب: وللروايتين فوائد عديدة: منها: وجوب الزكاة، فإذا باع نصابًا من الماشية بشرط الخيار حولاً، فزكاته على المشتري على المذهب، سواء فسخ العقد أو أمضى، وعلى الرواية الثانية الزكاة على البائع إذا قيل: الملك باق له.
ومنها: لو باع عبدًا بشرط الخيار، وأهلَّ هلال الفطر وهو في مدة الخيار فالفطرة على المشتري على المذهب، وعلى البائع على الثانية.
ومنها: لو كسب المبيع في مدة الخيار كسبًا، أو نما نماءً منفصلاً، فهو للمشتري فسخ العقد أو أمضى، وعلى الثانية هو للبائع. ومنها: مؤنة الحيوان والعبد المشتري بشرط الخيار يجب على المشتري على المذهب، وعلى البائع على الثانية.
ومنها: لو تلف المبيع في مدة الخيار؛ فإن كان بعض القبض أو لم يكن مُبْهمًا، فهو من مال المشتري على المذهب، وعلى الثانية من مال البائع. ومنها: لو تعيب المبيع في مدة الخيار، فعلى المذهب لا يرد بذلك إلا أن يكون غير مضمون على المشتري لانتفاء القبض، وعلى الثانية له الرد بكل حال.
ومنها: لو باع الملتقط اللقطة بعد الحول بشرط الخيار، ثم جاء ربها في مدة الخيار؛ فإن قلنا: لم ينتقل الملك، فالرد واجب، وإن قلنا بانتقاله فوجهان الملزم به في «الكافي» الوجوب.
ومنها: لو باع مُحِلٌّ صيدًا بشرط الخيار، ثم أحرم في مدته؛ فإن قلنا: انتقل الملك عنه، فليس له الفسخ؛ لأنه ابتداء ملك على الصيد وهو ممنوع منه، وإن قلنا: لم ينتقل الملك عنه، فله ذلك، ثم إن كان في يده المشاهدة، أرسله، وإلا فلا أنهاها إلى 15. اهـ.
ويحرم تصرف المتبايعين مع شرط الخيار لهما زمنه في ثمن ومثمن، لزوال ملك أحدهما إلى الآخر، وعدم انقطاع علق زائل الملك عنه، وينفذ عتق مشتر أعتق المبيع زمن خيار بائع لقوته وسرايته، وملكُ بائع الفسخَ لا يمنعه، ويسقط فسخه إذن، كما لو وهب ابنه عبدًا، فأعتقه.
ولا ينفذ عتق بائع لمبيع، ولا شيء من تصرفاته فيه؛ لزوال ملكه عنه، ولا ينفذ غير عتق مع خيار البائع؛ لأنه لم ينقطع علقه عن المبيع إلا إذا تصرف مشتر معه، أو إلا إذا تصرف مشتر بإذن البائع، فينفذ؛ لأن الحق لا يعدوهما، ولا يتصرف بائع سواء كان الخيار لهما، أو له، أو لمشتر إلا بتوكيل مشتر؛ لأن الملك له، ومبطل خيارهما إن وكله في نحو بيع مما ينقل الملك، وليس تصرف بائع شرط الخيار له وحده فسخًا لبيع نصًا؛ لأن الملك انتقل عنه، فلا يكون تصرفه استرجاعًا كوجود ماله عند من أفلس وهو من مفردات المذهب.

قال ناظم المفردات:
في مدة الخيار إن تصرفا ... منْ باع في المبيع لو قد وقفا
فاردد ولا قل بفسخ العقد ... وهكذا في الحكم عتق العبد



... وقال في «الشرح»: إذا تصرف البائع في المبيع بما يفتقر إلى الملك، كان فسخًا للبيع، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي؛ لأن تصرفه يدل على رغبته في المبيع، فكان فسخًا للبيع، كصريح القول؛ لأن الصريح إنما كان فسخًا للبيع، لدلالته على الرضا به، فما دل على الرضا به يقوم مقامه ككنايات الطلاق.
وتَصَرُّفُ مشتر في مبيع شرط له الخيار فيه زَمَنَه، بوقف، أو بيع، أو هبة، ولَمْسُ أمةٍ مُبْتَاعَةٍ لِشَهْوَةٍ ونحوه، وسَوْمُهُ إمْضَاءُ لِلْبَيْع، وإسقاطٌ لخياره؛ لأنه دليل الرضا بالبيع، ولا يسقط خيار مشتر بتصرف في مبيع لتجربة، كركوب دابة، لينظر سيرها، وحلب شاة، لمعرفة قَدر لبنها؛ لأنه المقصود من الخيار، فلم يبطل به، كما لا يسقط باستخدام قن، ولو كان استخدامه لغير تجربة، ولا يسقط إن قبلته الأمة المبيعة، ولم يمنعها نصًا؛ لأنه لم يوجد منه ما يدل على إبْطَالِهِ، والخيار له لا لها.
وإن تلف المبيع قبل القبض، وكان مكيلاً ونحوه، بطل البيع، وبطل الخيار معه، خيار المجلس، وخيار الشرط، سواء كان لهما أو لأحدهما؛ لأن التالف لا يتأتى عليه الفسخ، وإن كان تلف المبيع بكيل أو وزن أو عد أو ذرع بعد القبض، فهو من ضمان المشتري وبطل الخيار، أو كان التلف قبله أو بعد فيما عدا مكيل ونحوه بطل خيارهما، وإن باع عبدًا بأمة بشرط الخيار، فمات العبد قبل انقضاء مدة الخيار، ووجد بالأمة عيبًا، فله ردها بالعيب على باذلها، كما لو تلف العبد، ويرجع بقيمة العبد على مشتر لتعذر رده.
ويورث خيار الشرط إن طالب به مستحقه قبل موته، بأن يقول: أنا علي حقي من الخيار، كشفعةٍ وحدِّ قذف. قال أحمد: الموت يبطل به ثلاثة أشياء: الشفعة، والحد إذا مات المقذوف، والخيار إذا مات الذي اشترط الخيار، ولا يشترط الطلب قبل الموت في إرث خيار غير خيار الشرط. قال في «الشرح الكبير»: ويتخرج أنه لا يبطل خياره، وينتقل إلى ورثته؛ لأنه حق مالي، فينتقل إلى الوارث كالأجل، وخيار الرد بالعيب؛ ولأنه حق فسخ، فينتقل إلى الوارث كالفسخ بالتحالف، وهذا قول مالك والشافعي. اهـ. وهذا هو الذي يترجح عندي أن خيار الشرط، وثبوت الشفعة لا يبطل بالموت، وأن ورثته ينوبون في هذا؛ لأنه من حقوقه المالية. والله أعلم.

من النظم مما يتعلق في نقل الملك
وينقل نفس العقد ملكًا لمشتر ... على أظهر المروي من نص أحمد
فيملك إكسابًا ومنفصل النما ... ولو فسخا عقد الخيار المجدد
وما لهما وقت الخيار تصرف ... سوى في اختيار المشتري في التقصد
تصرف مبتاع رضى في المجود ومن بائع ... فسخا وعنه بمبعد
وينفذ في المشهور إعتاق مشتر ... وإعتاق من قد باع لغو بأوكد
ومن صح منه زال تخيير خصمه ... ويأخذ أثمان العتيق المشرد
وعنه أن يشا يفسخ ويأخذ قيمة ... العتيق لتفويت ارتجاع التعبد
ومَن أفْرَدُوه بالخيار يكن له التَّصرف ... يمضي منه دون مصدد
وكالعتق لا كالبيع وقف بأجود ... وقيل كبيع العين مَن بَانَ يَردد
وإن تلف المبتاع عند الذي اشترى ... فللبائع التغيير في المتأكد
وإن يشا فليفسخ ويأخذ قيمة المبيع ... وعنه بل له الثمن قد
ومن قبلته المشتراة مع الرضا ... أو استخدم المبتاع خيِّرْ بأوطد
ومن حبلت ممن حكمت بها له ... بوقت خيار فهي أم تولد
ولا مهر فيه لا ولا حد وابنها ... هو الحر منه ثابت النسب اعدُدِ
وإن يك هذا الوطء من غير مالك ... مع العلم بالتحريم فاعكسه ترشد
وإن يك مع جهل فألزِمْهُ مهرها ... وقيمة مولود ولما يُحدَّدِ
وقال إمام العصر لا حَدَّ مطلقًا ... على واحد مع جهله والتعمُّدِ
وليس بموروث خيارُ اشتراطهم ... ولا حد قذف ثم شفعة ملحد
إذا لم يطالبهم بها قبل موته ... وقيل بلى وَرِّثْ كتأجيل مبعد
وإما تعلق عتق عبد ببيعه ... فبعت عَتَقْ وافسخه في نص أحمد
وقبل إذا لم ينقل الملك عقدهم ... ولم يسقط التخيير ذات التعقد
وإن قال عبدي حر إن بعته العلى ... وقال العلى هو حر إن أشْرِهِ طد
فاعتق له قبل القبول إن يبعه ... للعُلا فاشتر من مال بائعه قد
وقيل على من هو له بعده مدى ... التَّخير إن صححت ثاني التقيد

الثالث من أقسام الخيار: خيار الغبن
س26: تكلم بوضوح عن خيار الغبن مبينًا من الذي يثبت له، وعرف ما يحتاج إلى تعريف، ومثل لما يحتاج إلى تمثيل مما يلي المماكسة، الغبن، النجش، الركبان، الخلابة، المواطأة، المسترسل. وما حكم النجش؟ وما الذي يثبت لمن لا يحسن أن يماكس؟ وهل يقبل قوله بالجهل بالقيمة؟ وما حكم الغبن والعقد وتغوير المشتري؟ وما صفته؟ وما تستحضره من دليل أو تعليل، أو خلاف، أو ترجيح؟


ج: الثالث من أقسام الخيار: خيار الغَبْن بسكون الباء، مصدر غبنه من باب: ضربَ: إذا خدعه، والمراد غبن يخرج عن العادة؛ لأنه لم يرد الشرع بتحديده، فرجع فيه إلى العرف، كالقبض والحرز؛ فإن لم يخرج عن العادة، فلا فسخ؛ لأنه يتسامح به. وقيل: يقدر بالثلث، اختاره أبو بكر، وجزم به في «الإرشاد»؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «الثلث والثلث كثير» والذي يترجح عندي القول الأول. والله أعلم.
ويثبت خيار غبن في ثلاث صور: أحَدُها: إذا تلقى الركبان، وهم جمع راكب، وهو في الأصل راكب البعير، ثم اتسع فيه، فأطلق على كل راكب، والمراد بهم هنا القادمون من السفر بِجَلُوبَةٍ، وهي ما يجلب للبيع، وإن كانوا مشاة؛ لما ورد عن أبي هريرة قال: «نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتلقى الجلب» الحديث رواه الجماعة إلا البخاري. فمن تلقاهم عند قربهم من البلد، فباعهم شيئًا، فهو كمن اشترى منهم قبل العلم بالسعر، وغبنهم غبنًا يخرجون عن العادة؛ لحديث أبي هريرة قال: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتلقى الجلب؛ فإن تلقاه إنسان، فابتاعه، فصاحب السلعة فيها بالخيار إذا ورد السوق» رواه الجماعة إلا البخاري.
والتلقي: قيل: إنه مكروه، وقيل: محرم، وهذا أولى؛ لحديث أبي هريرة المتقدم؛ ولما ورد عن ابن مسعود قال: «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تلقي البيوع» متفق عليه.
والبيع صحيح؛ لما روى أبو هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه، فاشترى منه، فإذا أتى السَّوق فهو بالخيار» رواه مسلم. والخيار لا يكون إلا في عقد صحيح.
ولأن النهي لا لمعنى في المبيع، بل يعود إلى ضرب من الخديعة يمكن استدراكها بإثبات الخيار، فأشبه بيع المصراة، وفارق بيع الحاضر للبادي؛ فإنه لا يمكن استدراكه بالخيار، إذ ليس الضرر عليه إنما هو على المسلمين. الثانية في النجش، والنجش: كشف الشيء وإثارته، يقال: نجشت الشيء: إذا استخرجته، والناجش: الذي يحوش الصيد، والنجش: أن يزيد في السلعة، وهو لا يريد شراءها ليقع غيره فيها، وفي الحديث: «ولا تناجشوا».

قال الشاعر:
وأجرد ساط كشاة الأران ... رِيْعَ فعيَّ على الناجش

ولنجش حرام؛ لما فيه من تغرير المشتري وخديعته، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبيع حاضر لباد ولا تناجشوا»الحديث متفق عليه.
وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «الخديعة في النار» ويثبت للمشتري بالنجش الخيار إذا غبن غبنًا يخرج عن العادة، ولو كانت زيادة من لا يريد الشراء بلا مواطأة من البائع لمن يزيد فيها، أو كان البائع زاد في الثمن بنفسه والمشتري لا يعلم ذلك لوجود التغرير، ومن النجش قول بائع: أعطيت في السلعة كذا وهو كاذب، وكذا لو أخبره أنه اشتراها بكذا، فيثبت له الخيار؛ أنه باعه مساومة. وقال ابن أبي الوفا: الناجش آكل ربا وخائن، والإثم يختص بالناجش إن لم يعلم به البائع؛ فإن واطأه على ذلك، أثما جميعًا. ويحرم تغرير مشتر بأن يسومه كثيرًا، ليبذل قريبًا منه، كأن يقول في سلعة ثمنها خمسة: أبيعها بعشرة، وجزم به الشيخ وغيره.
ولا أرش لمغبون مع إمساك مبيع؛ لأن الشرع لم يجعله له، ولم يفت عليه جزء من مبيع يأخذ الأرش في مقابلته. ومن قال عند البيع: لا خلابة، فله الخيار إذا خلب، والخلابة: الخديعة، أي: له الخيار إذا خدع، ومنه: «إذا لم تغلب فاخلب»؛ لما ورد عن ابن عمر قال: ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل يُخدع في البيوع، فقال: «من بايعت، فقل لا خلابة» متفق عليه.
ومعناه البّيْع بشرط أن أرُدَّ الثمنَ، وتَسْتَرِدَّ المبيعَ إذا ظَهرَ لي غَبْنٌ، لقَّنْهُ - صلى الله عليه وسلم - هذا القول ليتلفظ به عند البيع، ليطلع به صاحبه على أنه ليس من ذوي البصائر في معرفة السلع، ومقادير القيمة فيها، ليرى له البائع كما يرى لنفسه، وكان الناس إذ ذاك أحقاء، لا يغبنون أخاهم المسلم، وينظرون له كما ينظرون لأنفسهم، والغبن محرم لما فيه من التغرير بالمشتري، وخيار غبن كخيار عيب في عدم فورية، أي على التراخي، لثبوته لدفع الضرر المستحق، فلم يسقط بالتأخير بلا رضا كالقصاص.
ولا يمنع الفسخ حدوث عيب بالمبيع عند مشتر، وعلى مشتر الأرشُ لِعَيبٍ حدث عنده، ولا يمنع الفسخ تلف المبيع، وعليه قيمته لبائعه؛ لأنه قوته عليه، وللإمام جعل علامة تنفي الغبن عن من يغبن كثيرًا؛ لأنه مصلحة، وكبيع في غبن إجارة؛ لأنها بيع المنافع، فإن فسخ في أثنائها، أي: مدة الإجارة، رجع على مستأجر بالقسط من أجرة المثل لما مضى، ولا يرجع بالقسط من الأجر المسمى؛ لأنه لا يستدرك به ظلامة الغبن.
الثالثة المسترسل: وهو من استرسل: إذا اطمأن، وشرعًا: من جهل القيمة ولا يحسن يماكس من بائع ومشتر؛ لأنه حصل له الغبن، لجهله بالبيع، أشبه القادم من سفر. والمراد الغبن الذي يخرج عن العادة، فيثبت له الخيار بين الفسخ والإمساك بكل الثمن، وهو من المفردات.

قال ناظمها:
خيار غبن المشتري المسترسل ... إن زاد عما اعتيد فاثبت تعدل

وقيل: قد لزم البيع، ولا فسخ له، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي؛ لأن نقصان القيمة مع سلامة السلعة لا يمنع لزوم العقد، كغير المسترسل، وكالغبن اليسير، والقول الأول عندي أنه أرجح.
قال ابن القيم رحمه الله على حديث حبان بن منقذ المتقدم قريبًا: في الحديث «غبن المسترسل ربا» وهو الذي لا يعرف قيمة السلع، أو الذي لا يماكس، بل يسترسل إلى البائع، واختار الشيخ وغيره ثبوت خيار الغبن لمسترسل لم يماكس، وقال: لا يربح على المسترسل أكثر من غيره، وكذا المضطر الذي لا يجد حاجته إلا عند شخص ينبغي أن لا يربح عليه إلا كما يربح على غيره.

الرابع: خيار التدليس
س27: تكلم بوضوح عما يلي: ما هو خيار التدليس؟ ولِمَ سمي بذلك؟ ولِمَ حرم؟ وما حكم العقد معه؟ دلل على ما تقول، وما هي أقسام التدليس وما مثاله؟ وما هي التصرية؟ وما حكمها؟ وما الذي يترتب عليها وإذا وجدت في بهيمة الأنعام أو في غيرها، أو اشترى جارية مصراة فما الحكم؟ وما حكم التدليس؟ وإذا تصرف المشتري في المبيع بعد علمه بالتدليس فما الحكم؟ وهل للتدليس مدة يسقط الخيار بانتهائها؟ وضح ذلك مع التمثيل لما قد يتوهم أنه تدليس وليس بتدليس، واذكر ما تستحضره لكل ما تقدم من دليل أو تعليل أو تفصيل أو خلاف أو ترجيح.


ج: الدَّلَسُ، بالتَّحْرِيكِ: الظُّلْمة، كأن البائع بفعله الآتي صَيَّر المشتري في ظلمة، والتدليس حرام للغرور، والعقد معه صحيح؛ لحديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تصرُّوا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين» متفق عليه.
حيث جعل له الخِيَار، وهو يدل على صحة البيع.
والتدليس ضربان: أحدهما: كتمان العيب، والثاني: فعل ما يزيد به الثمن، وهو المراد هنا وإن لم يكن عيبًا، كتحمير وجه الجارية وتسويد شعرها وتجعيده، وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها للبيع، ليزيد دورانها بإرسال الماء بعد حبسه، فيظن المشتري أن ذلك عادتها، فيزيد في الثمن، وكتحسين وجه الصبرة، وتصنيع النساج وجه الثوب، وصقال الأسكاف وجه المتاع الذي يداس فيه ونحوه، وجمع اللبن في ضرع بهيمة الأنعام أو غيرها وهو التصرية، ليوهم المشتري كثرة اللبن. وأصل التصرية: الحبس، والجمع، يقال: صَرَى الماءُ في ظهره زمانًا: إذا حبسه، وصرى الرجل الماء في صلبه: إذا امتنع من الجماع.

قال الشاعر:
رُبَّ غُلَامٍ قَدْ صَرى في فِقْرتِهْ ... مَاءُ الشَّبَابِ عُنْفُوان شِرَّتِهْ
ويقال: ماء صرى: إذا اجتمع في محبس فتغير لطول المكث.

قال الشاعر:
صَرَى آجِنٌ يَزْوِيْ له المرءُ وَجْهَهُ ... إذَا ذَاقَه ظَمآنُ في شَهرِ نَاجِرِ



ويحرم التدليس، كتحريم كتم عيب؛ لما ورد عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «المسلم أخو المسلم لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا وفيه عيب إلا بَيَّنَةُ لَهُ» رواه ابن ماجه.
وعن واثلة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يحل لأحد أن يبيع شيئًا إلا بَيَّنَ ما فيه، ولا يحل لأحد يعلم ذلك إلا بَيَّنَه» رواه أحمد.
وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على رجل يبيع طعامًا، فأدخل يده فيه، فإذا هو مبلول، فقال: «من غشنا فليس منا» رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي. وعن العداء بن خالد بن هَوذة قال: كتب لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابًا: «هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هَوْذَةَ من محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشترى منه عبدًا أو أمة لا داء، ولا غائلة ولا خبْثَةَ بيعَ المسلم المسلم» رواه ابن ماجه والترمذي.
ويثبت لمشتر بتدليس خيار الرد إن لم يعلم به، ولو حصل التدليس بلا قصد كحمرة وجه جارية لخجل أو تعب ونحوه؛ لأنه لا أثر له في إزالة ضرر لمشتر، ولا خيار بعلف شاة أو غيرها، ليظن أنها حامل؛ لأن كبر البطن لا يتعين للحمل، ولا خيار بتدليس ما لا يختلف به الثمن، كتبييض الشعر وتسبيطه؛ لأنه لا ضرر على المشتري في ذلك، أو كانت الشاة عظيمة الضرع خلقة، فظنها كثيرة اللبن، فلا خيار لعدم التدليس، ومتى علم المشتري التصرية، خير ثلاثة أيام منذ علم؛ لحديث أبي هريرة: «لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد، فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها وصاعًا من تمر» متفق عليه.
وللبخاري وأبي داود: «من اشترى غنمًا مصراة، فاحتلبها؛ فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها، ففي حلبتها صاع من تمر»، وفي رواية: «إذا اشترى أحدكم لقحة مصراة، أو شاة مصراة، فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إما هي، وغلا فليردها وصاعًا من تمر» رواه مسلم.
وفي رواية: «من اشترى مصراة، فهو منها بالخيار ثلاثة أيام إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها ومعها صاع من تمر لا سمراء» رواه الجماعة إلا البخاري. وعن أبي عثمان النهدي قال: قال عبد الله: «من اشترى محفَّلةً فردها، فليرد معها صاعًا» رواه البخاري والبرقاني على شرطه، وزاد: «من تمر».
وإن تصرف المشتري في المبيع بعد علمه بالتدليس، بطل رده، ويرد مع المصراة في بهيمة الأنعام عوض اللبن الموجود حال العقد، ويتعدد بتعدد المصراة صاعًا من تمر سليم، ولو زاد قيمة الصاع من التمر على المصراة، أو نقصت قيمته عن قيمة اللبن، وكون التمر بدل اللبن المحلوب، فقد ضمن الشيء بما ليس مثلاً ولا قيمة.

وقد ألغز بها الشيخ محمد بن سلوم للشيخ عبد الرحمن الزواوي، فقال:
سَألتُكَ هَل من مَوْضعٍ أوجَبُوا لَهُ ... ضَمانًا بِلَا مِثلٍ وعَن قيْمَةِ خَلا

فأجابه حلاًّ للمسألة:
مِن التمرِ صاعٌ عن حِلابٍ تَرُدُّهُ ... فلا قيمةً هذا ولا مثلَ فاعْقِلَا

فإن لم يجد التمر، فعليه قيمته موضع العقد؛ لأنه بمنزلة ما لو أتلفه. واختار الشيخ يعتبر في كل بلد صاع من غالب قوته؛ فإن كان اللبن باقيًا بحاله بعد الحلب لم يتغير بحموضة ولا غيرها، رده المشتري، ولزم البائع قبوله، ولا شيء عليه؛ لأن اللبن هو الأصل، والتمر إنما وجب بدلاً عنه، فإذا رد الأصل أَجزأ كسائر الأصول مع مبدلاتها، كرد المصراة قبل الحلب، وقد أقر له البائع بالتصرية، أو شَهِدَ به مَن تُقْبَلُ شهادته.
وقيل: لا يجبر بائع على أخذه، وحديث: «رَدَّهَا وصاعًا مِن تمر» يدل على أنه لا يجوز رد اللبن، ولو كان باقيًا على صفته لم يتغير لاختلاطه بالحادث، وتعذر معرفة قدره.
ودل على أنه لا يلزم قبوله، لذهاب طراوته واختلاطه بما تجدد عند المشتري، وأخذ الجمهور بظاهر الحديث، وأفتى ابن مسعود وأبو هريرة، ولا مخالف لهما من الصحابة، وقال به من التابعين ومن بعدهم من لا يُحْصَى عدده، ولم يفرقوا بين أن يكون اللبن الذي احتلب قليلاً أو كثيرًا ولا بين أن يكون التمر قوت البلد أم لا، وهذا القول هو الذي يترجح عندي، والله أعلم.
وإن تغير اللبن بالحموضة أو غيرها، لم يلزم البائع قبوله؛ لأنه نقص في يد المشتري، فهو كما لو أتلفه، وإن رضي المشتري بالتصرية، فأمسك المصراة، ثم وجد بها عيبًا، ردها به؛ لأن الرضا بعيب لا يمنع الرد بعيب آخر، وإن صار لبنها عادة، سقط الرد بالتصرية لزوال الضرر، كعيب زال من مبيع رد؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، وكأمة مزوجة اشتراها، وبانت قبل ردها، فيسقط؛ فإن كان الطلاق رجعيًا، فلا، وإن كان بغير مصراة لبن كثير، فحلبه ثم ردها بعيب رد اللبن إن بقي، أو رد مثله إن عدم اللَّبَن؛ لأنه مبيع، وله رَدُّ مُصَرَّاةٍ من غير بهيمة الأنعام كأمة وأتان مجانًا؛ لأنه لا يعتاض عنه عادة. والوجه الثاني لا رد له. وفي «المهذب»: وإن اشترى جارية مصراة، ففيه أربعة وجه: أحدها: أن يردها ويرد معها صاعًا؛ لأنه يقصد لبنها، فثبت بالتدليس له فيه الخيار والصاع كالشاة.
والثاني: أن يردها؛ لأن لبنها يقصد لتربية الولد ولم يسلم له ذلك، فثبت له الرد، ولا يرد بدله؛ لأنه لا يُباع ولا يقصد بالعوض.
والثالث: لا يردها؛ لأن الجارية لا يقصد في العادة إلا عينها دون لبنها.
والرابع: لا يرد ويرجع بالأرش؛ لأنه لا يمكن ردها مع عوض اللبن؛ لأنه ليس للبنها عوض مقصود، ولا يمكن ردها من غير عوض؛ لأنه يؤدي إلى إسقاط حق البائع، فوجب أن يرجع على البائع بالأرش كما لو وجد بالمبيع عيبًا، وحدث عنه عيب. اهـ. فإن مضت الثلاثة أيام، ولم يَرُدَّ المشتري المصراة، بطل الخيار لانتهاء غايته، ولزم البيع، وخيار غيرها من التدليس على التراخي كخيار عيب يجامع أن كلاً منهما ثبت لدفع الضرر وقد زال.

من النظم مما يتعلق بخيار الغبن
وإنَّ خيار الغبن في البيع ثابت ... كركب تلقوا فاشتروا مال مقصد
أو ابتاع منهم فالخيار إليهم ... إذا غبنوا في السوق فوق المعود
وقال أبو بكر هو الثلث صاعدًا ... وقد قيل بل بالسدس أو بتزيد
كذا اختر مَتى تُغبن لنجش مغرر ... خبير ولم يقصد سوى بالتزيد
كذاك ليختر جاهل بتصرف ... وسعر الذي باع أو شري في الموطد
كذا الغبن لاستعجاله لا لجهله ... بسعر لتختر فيه دون تقيد
وعن أحمد بيع التلقي باطل ... كذا النجش والمشهور عنه الذي ابتدي
وبيعك معلومًا جزافًا لجاهل ... بعلمك أو بالقدر خير بأجود
ويلزمه إن يدر أنك عالم ... بمقداره والبيع أبطل بمبعد
ومن يشتري شيئًا بتدليس ربه ... بوصف يزيد السعر من متعمد
لحبسك ماء للرحى ثم بعثه ... لدى العرض أو تحسين قِنٍّ مبعد
وتصرية الألبان في ضرع ناقة ... وشاة وأبقار لدرٍ مقصد
فللمشتري المغرور تخيير ربها ... وإن يحتلب صاعًا من التمر يردد
وقيمة تَمر فات موضع عقدهم ... وإن يقبل المحلوب في المتوطد
وردك حين العلم بالغر جائز ... وقد قيل من بعد الثلاث أن تشا اردد
فإن صار فيها عادة لم يردها ... كتطليق زوج مشتراتك في غد
وفي أشهر الوجهين ردك جائز ... لكل مصراة ولو في الإما اشهد
وكتم العيوب احظر وتدليس سلعة ... على عالم من مالك ومبعد
وقيل بل اكره دون حظر وصححن ... ولو كتما عقد المبيع بأجود



المجلد الرابع 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 6:24 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المجلد الرابع Empty
مُساهمةموضوع: رد: المجلد الرابع   المجلد الرابع Emptyالأحد 15 نوفمبر 2015, 6:40 am

الخامس: خيار العيب
س28: ما حد خيار العيب؟ وما مثال العيب في المبيع؟ وما الذي تستحضره من الأدلة والتعليلات؟ وهل عيوب المبيع محصيات أو لها ضابط؟ واذكر بعض الأمثلة للعيب.

ج: القسم الخامس من أقسام الخيار: خيار العيب، وما هو بمعنى العيب وهو: نَقْصُ مَبِيْعٍ أو نقصُ قِيْمَتِهِ عادة، فما عدَّهُ التجار مُنقصًا أنِيْطَ الحكُم به؛ لأنه لم يرد في الشرع نصٌ في كل فردٍ منه، فرجع فيه إلى أهل الشأن، كمرض بحيوان يجوز بيعه على جميع حالاته، وكبَخَرٍ في عبدٍ أو أمة، وحَولٍ وخرسٍ وكلَفٍ وصمَمٍ –ويقال له طَرَش- وقرعٍ وتحريم عام بملك أو نكاح، كمجوسية بخلاف نحو أخته من رضاع، وكعفل وقرن وفتق ورتق، وكاستحاضة وجنون وسعال، وحمل أمة لا بهيمة فهو زيادة إن لم يضر باللحم، وكذهاب جارحة كأصبع مبيع، أو ذهاب سن من كبير، وكزيادة الجارحة، كأصبع زائدة أو السن، وكزنا من بلغ عشرًا نصًا من عبد أو أمة، وكشربه مسكرًا، وإباقه، وسرقته، وبوله في الفراش؛ فإن كان ممن دون عشر فليس عيبًا، وحمق كبير، والحمق ارتكاب الخطأ على بصيرة، وكفزع الرقيق الكبير فزعًا شديدًا، وكونه أعسر لا يعمل بيمينه عملها المعتاد، وكثرة كذب، وكونه خنثى وإهمال الأدب والوقار في محالهما، وعدم ختان ذكر كبير للخوف عليه، وعثرة مركوب وعضه ورفسه وحرنه، وكونه مُستعصيًا، ويُقال: شموسًا، أو بعينه ظَفَرةٌ وهي جلدةٍ تغشى العين. وما هو بمعنى العيب، كطول نقل ما في دار مبيعة عرفًا لطول تأخير تسليم المبيع بلا شرط، كما لو كانت مؤجرة؛ فإن لم تطل المدة، فلا خيار. ولا أجرة على بائع لمدة نقل اتصل عادة، ولو طال حيث لم يفسخ مشتر لتضمن إمساكه الرضى بتلف المنفعة زمن النقل، وتثبت يد المشتري على الدار المبيعة، فتدخل في ضمانه بالعقد، وإن كانت بها أمتعة البائع إن لم يمنعه منها. وتسوى الحفر الحادثة بعد البيع كما كانت حين الشراء؛ لأنه ضرر لحق الأرض لاستصلاح ماله المخرج، فكان عليه إزالته، وكبق ونحوه غير معتاد بالدار المبيعة، لحصول الأذى به، كما لو اشترى قرية، فوجد بها حية عظيمة تنقص بها قيمتها، وكون الدار ينزلها الجند، بأن تصير معدة لنزولهم لفوات منفعتها زمنه. والجار السوء عيب، واختلاف الأضلاع والأسنان، وطول إحدى ثديي الأنثى، وخرم شنوفها وأكل الطين، والوكع وهو إقبال الإبهام على السبابة من الرجل حتى يرى أصلها خارجًا كالعقدة. وقال الشيخ: لا يطمع في إحصاء العيوب؛ لكن يقرب من الضبط ما قيل، إن ما يوجد بالمبيع مما ينقص العين أو القيمة نقصًا يفوت به غرض صحيح، يثبت الرد إذا كان الغالب في جنس المبيع عدمه. قال الوزير: اتفقوا على أن للمشتري الرد العيب الذي لم يعلم به حال العقد ما لم يحدث عنده عيب آخر.

س29: تكلم بوضوح عما إذا وجد المشتري بالمبيع عيبًا وما هو الأرش؟ وإذا أفضى أخذ الأرش إلى ربا أو مسألة مد عجوة أو تعيب الحلي أو القفيز المبيع عند المشتري فما الحكم؟ وما الحكم فيما إذا تعيب المبيع عند المشتري وعما إذا لم يعلم بالعيب حتى تلف؟ واذكر ما تستحضره من دليل أو تعليل، ومثل لما لا يتضح إلا بالتمثيل، واذكر ما في ذلك من خلاف أو ترجيح.

ج: من اشترى معيبًا لم يعلم عيبه، ثم علم عيبه، علم البائع بعيبه فكتمه، أو لم يعلم، أو حدث به عيب بعد عقد، وقبل قبض فيما ضمانه على بائع، كمكيل وموزون، ومعدود ومذروع، وثمر على شجر ونحوه، كمبيع بصفة أو رؤية متقدمة، خُيِّرَ مشترِ بين رد، وعليه مؤنة رد إلى البائع؛ لحديث: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» وإذا رده، أخذ الثمن كاملاً حتى ولو وهبه البائع ثمنه، أو أبرأه منه، وبَيْنَ إمساك المبيع مع أرش العيب، ولو لم يتعذر الرد رضي بائع بدفع الأرش أو سخط، وهذا من المفردات.

قال ناظمها:
أيْضًا له رَدُّ مَعيْبٍ حُقِقّا ... أو لا وأخذُ الأرْشِ إنْ شا مُطْلَقًا

قال في «الاختيارات الفقهية»: وإذا اشترى شيئًا، فظهر به عيب فله أرشه إن تَعَذَّرَ رَدٌّ، وإلا فلا. وهو رواية أحمد، ومذهب أبي حنيفة والشافعي، وكذا في نظائره كالصفقة إذا تفرقت. اهـ.
وهذا القول قوي فيما أرى، وهو الذي يترجح عندي. والله أعلم.
والأرش: قسط ما بين قيمته صحيحًا ومعيبًا من ثمنه، مثال ذلك لو قوم مَبْيع صَحِيْحًا بخمسة عشر ومعيبًا بإثنى عشر، فقد نقص خمس قيمته، فيرجع بخمس الثمن قل أو كثر، مثال آخر: لو قوم المبيع صحيحًا بعشرة دراهم، ومَعِيْبًا بثمانية دراهم، وكان الثمن الذي جرى عليه العقد خمسة عشر فالنقص خمس الثمن، فيكون الأرش في المثال ثلاثة، فيرجع بها.
مثال آخر: وما ثمنه مائة وخمسون قوم صحيحًا بمائة ومعيبًا بتسعين، فقد نقص بسبب العيب عشرة نسبتها لقيمته صحيحًا عشرها، فينسب ذلك العشر للمائة والخمسين، فيكون عشر المائة والخمسين خمسة عشر، وهو الأرش الواجب للمشتري، فيرجع به على البائع، ولو كان الثمن في المثال خمسين وجب للمشتري على البائع خمسة وهي عشر الخمسين. وإن أفضى أخذ الأرش إلى ربا، كشراء حُلي فضة بزنته دراهم، أمسك مجانًا إن شاء، أو رده وأخذ الثمن المدفوع للبائع، أو شراء قفيز مما يجري فيه ربا، كبرٍ وشعيرٍ بمثله جنسًا وقدرًا، ويجده معيبًا فيرد مشتر، أو يمسك مجانًا بلا أرش؛ لأن أخذه يؤدي إلى ربا الفضل، أو مسألة مد عجوة، وإن تعيب الحُلي أو القفيز المبيع أيضًا عند المشتري، فسخ العقد حاكم لتعذر فسخ كل من بائع ومشتر؛ لأن الفسخ من أحدهما إنما هو لاستدراك ظلامته، وهنا إن فسخ البائع، فالحق عليه لكونه باع معيبًا، وإن فسخ مشتر فالحق عليه لتعييبه عنده.
وإذا فسخ الحاكم، لتعذر فسخ كل من بائع ومشتر، رد بائع الثمن إن قبضه، وطالب مشتريًا بقيمة المبيع معيبًا بعيبه الأول؛ لأن العيب لا يهمل بلا رضى، ولا أخذ أرش، ولم يرض مشتر بإمساكه مجانًا، ولا يمكنه أخذ أرش العيب الأول، ولا رده مع أرش ما حدث عنده، لإفضاء كل منهما إلى الربا، وإن لم يعلم عيبه حتى تلف المبيع عنده، ولم يرض بعيبه، فسخ العقد، ليستدرك ظلامته، ورد مشترٍ بدل المعيب التالف عنده، واسترجع الثمن إن كان أقبضه للبائع لتعذر أخذ الأرش لإفضائه إلى الربا.
س30: تكلم بوضوح عما يلي: كسب المبيع لمن إذا رد المبيع بعيب وقد نما. وما معنى حديث «الخراج بالضمان»؟ وإذا وطئ المشتري أمة ثيبًا ثم أراد ردها لعيب، وإذا وطئ مشتر بكرًا ثم علم عيبها، إذا دلس بائع. إذا لم يعلم العيب حتى نسج الغزل أو صبغ الثوب، وهل يقبل قول المشتري في قيمته؟ وإذا باع المعيب مشتر قبل علم عيبه لبائعه له فما الحكم؟ واذكر أمثلة لما لا يتضح إلا بالمثال، واذكر الدليل والتعليل والخلاف والترجيح.
ج: كسب مبيع معيب من عقد إلى رد لمشتر؛ لحديث عائشة: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى أن الخراج بالضمان»رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وابن خزيمة، وابن الجارود، وابن حبان، والحاكم وغيرهم، وضعفه البخاري. ومعنى الحديث: إن خراج المبيع، وهو غلته وفائدته لمن هو في ضمانه، وضمان المبيع بعد القبض على المشتري، فكان له خراجه، والباء في قوله: «بالضمان» متعلقة بمحذوف تقديره مستحق بالضمان، أي: بسببه.
وأصل الحديث أن رجلاً اشترى غلامًا في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان عنده ما شاء الله، ثم رده من عيب وجده، فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برده بالعيب، فقال المقضي عليه: قد استعمله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الخراج بالضمان».
ولا يرد مشتر رد مبيعًا لعيبه نماءً منفصلاً منه، كثمرة وولد بهيمة إلا لعذر، كولد أمة، فيرد معها لتحريم التفريق، وللمشتري قيمة الولد على بائع؛ لأنه نماء ملكه، وللمشتري رد أمة ثيب لعيبها، وَطِئَهَا المشتري قبل علمه عيبها مَجَّانًا؛ لأنه لم يحصل به نقص جزء ولا صفة، روي ذلك عن زيد بن ثابت، وبه قال الشافعي ومالك، وأبو ثور، وعثمان البتي، وعن أحمد رواية أخرى: أنه يمنع الرد، يُروى ذلك عن علي -رضي الله عنه-، وبه قال الزهري والثوري وأبو حنيفة وإسحاق؛ لأن الوطء كالجناية؛ لأنه لا يخلو في ملك الغير من عقوبة أو مال، فوجب أن يمنع الرد، وهو اختيار الشيخ تقي الدين –رحمه الله- ذكره عنه في «الفائق» وهذا القول هو الذي يترجح عندي. والله أعلم.
وإن وطئ المشتري الأمة البكر، أو تعيبت عنده، أو تعيب غيرها من المبيع عنده كثوب قطعه، أو نَسِيَ رَقيقٌ صنعة عند المشتري، ثم علم عيبه، فللمشتري الأرش للعيب الأول، أو رَدَّه على بائعه مع أرش نقصه الحادث عنده؛ لقول عثمان في رجل اشترى ثوبًا ولبسه، ثم اطلع على عيب: «رده وما نقص»، فأجاز الرد مع النقصان. رواه الخلال.
والأرش هنا: ما بين قيمته بالعيب الأول، وقيمته بالعيبين، ولا يرجع مشترٍ رد معيبًا مع أرش عيب حدث عنده بأرش العيب الحادث عنده إن زال عيبه، كتذكره صنعة نسيها لصيرورة المبيع على المشتري بقيمته بفسخه بالعيب الأول بخلاف مشتر أخذ أرش عيب من بائع، ثم زال سريعًا، فيرده لزوال النقص الذي لأجله وجب الأرش.
وإن دَلَّسَ بائعٌ عَيْبًا بأن عَلِمَهُ فَكتَمَهُ فلا أرشَ على مشترٍ بتعيبه عنده بمرض أو جناية أجنبي، أو فعل مبيع، كإباقه ونحوه مما هو مأذون له فيه، وذهب مبيعٌ على البائع المدلس إن تلف المبيع بغير فعلِ مشترٍ، كموته أو أبق؛ لأنه غَرَّهُ، ويتبعُ بائع عبده حيث كان، وإن لم يكن البائع دلَّس العيب فتلف مبيعٌ معيبٌ في يد مُشترٍ أو عتق، تعيَّن أرش، وكذا لو لم يعلم مُشتر عيب المبيع حتى صبغ نحو ثوب، أو نسج غزلاً، أو وهب مبيعًا، أو باعه أو صبغ أو وهب، أو نسج بعضه، تعين الأرش؛ لأن البائع لم يوف ما أوجب له العقد، ولم يوجد منه الرضا به ناقصًا.
قال في «الشرح الكبير»: وإن صبغه، أو نسجه فله الأرش في أظهر الروايتين، وهو قول أبي حنيفة فيما إذا صبغه؛ لأن فيه ضررًا على البائع، وتشق المشاركة، فلم يجبر كما لو فصله، أو خلط المبيع بما لا يتميز منه. وعنه: له الرد، ويكون شريكًا للبائع بقيمة الصبغ والنسج؛ لأنه رد المبيع بعينه، أشبه ما لو لم يصبغه ولم ينسجه، ومتى رده لزمت الشركة ضرورة. وقال الشافعي: ليس للمشتري إلا رده؛ لأنه أمكنه رده، فلم يملك أخذ الأرش، كما لو سمن عنده. اهـ باختصار.
فإن فعل ذلك عالمًا بعيبه، فلا أرش له، لرضاه بالمبيع ناقصًا، ويُقبلُ قولُ المشتري إنْ تصرَّف في المبيع قبل علم عيبه في قيمته، لاتفاق العاقدين على عدم قبض جزء من المبيع، وهو ما قابل الأرش، فقبل قول المشتري في قدره؛ لكن لو باع مشتر المعيب قبل علمه، ورد عليه قبل أخذ أرشه، فله أرشه أو رده لزوال المانع كما لو لم يبعه، وإن باع المعيب قبل علم عيبه لبائعه له ولم يعلم عيبه أيضًا، ثم علمه، فللبائع الأول –وهو المشتري ثانيًا- رده على البائع الثاني، ثم للبائع الثاني رد المبيع المردود على البائع الأول. وفائدة الرد من الجانبين اختلاف الثمنين، وكذا إن اختار الأرش.

من النظم مما يتعلق في خيار المعيب
ومن بان فيما ابتاعه نقص سقمه ... وجارحة أو سن أو مع تزيد
وسرقة عبد أو إباق أو الزنا ... أو الكذب أو بول الكبير بمرقد
وعثرة مركوب وكدْمِ ورفسهِ ... وقُوَّةِ رأس أو حِرانٍ منكد
وأشباهها مما يُنقص قدرَه ... ويُقلِّل فيه رغبة المتقصد
فللمشتري المغرور رد وأخذه ... بقيمة ما بين الصحيح مع الرد
من الثمن المبذول والزائد ارتجع ... ولا أرش مع إمساكه افهم بأبعد
وكالكسب يُعطَى الراد منفصل النما ... في الأولى وعنه اردد كغير المفرد
ويلزم أخذ الأرش إن تلد الإما ... أو اردده معها لا سواه بأوطد
وما كان موجودًا لدى العقد من نما ... ليردد إذا هو من مبيع بمقصد
وإن يتعيب عنده قبل علمه ... بعيب فعيِّنْ أخذ أرش بأوكد
وعنه يباح الرد مع أرش نقصه ... لديه وعنه إن دلس إن شئتَ فاردد
بلا أرش نقصان ولا أرش مطلقًا ... وعنه بلى مع أرش بِكْرٍ مُزَيَّدِ
وعنه متى تُوطا فلا ردَّ مطلقًا ... لدى مشتر وليعط أرش المفقد
وبالثمن امنح كل من جاز رده ... فَرُد مَبيْعًا لا بقيمة اشهد
وخير شاري صبرة فوق زبرة ... وللبائع التخيير في عكس ما ابتدى
وإن بان عيب بعد أن زال ملكه ... بعتق وبيع أو هبات تجوّد
ووقف وقتل أو تلاف وأكله ... وكل مزيل الملك غير مقيد
فعين له أرشًا وقيل ويملك ... انفساخًا ويعطي قيمة المتشرد
وعن أحمد لا أرش إن باع بل متى ... يرد عليه أو إن يشا الرد يردد
وليس عليه غرم نسيان صنعة ... وهزل كنَاسِ الخطِ في نص أحمد
وخذ أرش باقي مشتر بعت بعضه ... ولا رد في الأولى بقسط مقيد
وفي أرش ما قد بعت خلف ككله ... ولا شيء للمبتاع إن يدر بالردي
ومع صبغه أو نسجه الأرش لازم ... وعنه له رد وقيل المزيد
وفي الثوب لم ينقصه نشر تخيرن ... وإلا كجوز الهند إن يكسره اعدد
وللبائع إن رد المبيع معيبًا ... من القيمة الطاري بنقص مُجَدَّدِ

س31: تكلم بوضوح عما يلي: إذا كَسَر مُشتر مبيعًا مأكوله في جَوفه، فما الحكم؟ وما مثال ذلك؟ واذكر أقسام ما له أقسام؟ وهل خيار العيب على التراخي أو على الفور؟ وما الذي يسقط به خيار العيب؟ وهل يفتقر رد المشتري المبيع إلى حضور البائع أو رضا أو قضاء؟ إذا اشترى اثنان من بائع وشرطا الخيار أو وجداه معيبًا فرضي أحدهما. إذا قال واحد لاثنين: بعتكما، فقال أحدهما: قبلت، إذا ورث اثنان خيار عَيْب، أو خيار شرط. إذا اشترى واحد معيبين أو طعامًا في وعائين، فهل له رد أحدهما؟ واذكر الدليل والتعليل، والخلاف والترجيح.

ج: ما لا يعلم عيبه بدون كسره ينقسم إلى قسمين ما لمكسور قيمة، وما ليس له قيمة، فإذا كسر مشترٍ مبيعًا مأكوله في جوفه، كرمان وبطيخ، فوجده فاسدًا، وليس لمكسوره قيمة كبيض الدجاج، رجع بثمنه لتبين فساد العقد من أصله؛ لأنه وقع على ما لا نفع فيه، وإن وجد البعض فاسدًا، رجع بقسطه من الثمن، وليس عليه رد فاسده إلى بائعه؛ لأنه لا فائدة فيه، وإن كان لمكسوره قيمة، كبيض النعام، وجوز الهند، خير مشتر بين أخذ أرشه لِنَقْصه بكسره، وبين رده مع أرش كسره الذي تبقى له معه قيمة إن لم يُدلس بائع كما مر، وأخذَ ثمنه لا اقتضاء العقد السلامة.
ويَتَعَيَّنُ أرشٌ لِمُشْتَرٍ مَعَ كسرٍ لا تبقى معه قيمةٌ، كنحو جوز هند؛ لأنه أتلفه وخيار عَيْب متراخ؛ لأنه لدفع ضرر مُحقق، فلا يَسقط بالتأخير كالقصاص، وعنه على الفور، وبه قال الشافعي، وقال في «الإنصاف»، وقال الشيخ تقي الدين: يجبر المشتري على رده، أو أرشه لتضرر البائع بالتأخير.
ولا يسقط خيار عيب إلا إن وُجِدَ دليل رضا المشتري، كتصرفه في مبيع عالمًا بعيبه بنحو بيع أو إجارة أو إعارة، وكاستعماله المبيع لغير تجربة كوطء وحمل على دابة، فيسقط أرش، كرد لقيام دليل الرضا مقام التصريح به.
وعنه: له الأرش في ذلك كله، اختاره جمع، منهم صاحب «الرعاية» واستظهره وابن عقيل، وقال عن القول الأول: فيه بعد، وقال الموفق: هذا قياس المذهب، وصوبه في «الإنصاف»، قال في «الشرح»: ونص عليه في الهبة والعطية، ويتجه صحته من جاهل غاية. قال ابن رجب في القاعدة 110: ومنها لو اشترى شيئًا، فظهر على عيب فيه، ثم استعمله استعمالاً يدل على الرضى بإمساكه، لم يسقط حقه من المطالبة بالأرش، قال ابن عقيل: لأن البيع موجب لأحد شيئين إما الرد، وإما الأرش.
ولا يفتقر رد مشتر مبيعًا لنحو عيب إلى حضور بائع ولا رضاه، ولا إلى قضاء حاكم، وإذا اشترى اثنان من بائع واحد، وشرط الخيار، فرضي أحدهما الخيار، فللآخر ردُّ نصيبه، أو اشترى اثنان شيئًا، ووجداه معيبًا، فرضي أحدهما، فللآخر رَدُّ نصيبه؛ لأن نصيبه جميع ما ملكه بالعقد، فجاز له رده بالعيب تارة، وبالشرط أخرى، وكشراء واحد من اثنين شيئًا بشرط الخيار، ووجداه معيبًا، فللمشتري رده عليهما، وله رد نصيب أحدهما عليه، وبإمساك نصيب الآخر؛ لأن عقد الواحد مع اثنين عقدان، فكأنَّ كلَّ واحدٍ منهما باعَ نَصيبه مفردًا؛ فإن كان أحدُهما غائبًا، والآخرُ حاضرًا رد المشتري على الحاضر منهما حصته بقسطها من الثمن، ويبقى نصيب الغائب في يده حتى يقدم، فيرد عليه، ويصح الفسخ في غيبته، والمبيع بعد فسخ أمانة، ولو كان أحدهما باع العين كلها بوكالة الآخر له، فالحكم كذلك سواء كان الحاضر الوكيل، أو الموكل؛ لأن حقوق العقد متعلقة بالموكل دون الوكيل، وإن قال واحد لاثنين: بعتكما هذا بكذا، فقال أحدهما وحده: قبلت، جاز ذلك، وصح العقد في نصف المبيع بنصف الثمن على ما مر من أن العقد الواحد مع الاثنين بمنزلة عقدين، فكأنه خاطب كل واحد بقوله: بعتك نصف هذا بنصف المسمى، وإن ورث اثنان خيار عيب، فرضي أحدهما بنصيبه معيبًا، سقط حقه، وحق الوارث الآخر من الرد؛ لأنه خرج من ملك البائع دفعة واحدة، فإذا رد واحد منهما نصيبه، رده مشتركًا مشقصًا، فلم يكن له ذلك. ومثله لو ورث اثنان خيار شرط بأن طالب به المورث قبل موته، فإذا رضي أحدهما، فليس للآخر الفسخ، وإن اشترى واحد مَعِيبين صفقة واحدة، أو اشترى طعامًا ونحوه في وعائين صفقة واحدة، فليس له إلا درهمًا معًا أو إمساكهما والمطالبة بالأرش؛ لأن في رَدِّ أحدهما تفريقًا للصفقة على البائع مع إمكان أن لا يفرقها، أشبه رد بعض المعيب الواحد؛ فإن تلف أحد المعيبين، وبقي الآخر، فللمشتري رد الباقي بقسطه من الثمن، لتعذر رد التالف، والقول في قيمة التالف إذا اختلفا فيها قول المشتري؛ لأنَّهُ منكر لما يدعيه البائع من الزيادة في قيمته، ولأنه بمنزلة الغارم؛ لأن قيمة التالف إذا زادت زاد قدر ما يغرمه، فهو بمنزلة المستعير والغاصب، والقول قول المشتري مع يمينه، لاحتمال صدق البائع، وإن كان أحدهما معيبًا، والآخر سليمًا، وأبى المشتري، أخذ الأرش عن المعيب، فله رده بقسطه من الثمن؛ لأنه رد للمبيع المعيب من غير ضرر على البائع، ولا يملك المشتري رد السليم لعدم عيبه إلا أن ينقصه تفريقه كمصراعي باب، وزوجي خف، أو يحرم تفريق كجارية وولدها ونحوه، فليس للمشتري رد أحدهما وحده، بل له درهمًا معًا، أو الأرش، دفعًا لضرر البائع، أو لتحريم التفريق. ومثله أخوان بيعا صفقة واحدة، وبان أحدهما معيبًا، ليس له رده، لتحريم التفريق بين ذي الرحم المحرم. ومثل ما ذكر في الأخوين في عدم التفريق رقيق جان له ولد، أو أخ ونحوه، وأريد بيع جان في الجناية، فلا يباع وحده، لتحريم التفريق، بل يباعان، وقيمة جان تصرف في أرش جناية وقيمة الولد ونحوه لمولاه، لعدم تعلق الجناية به قال في «الإقناع» وشرحه: وإن كان البائع الوكيل، فللمشتري رد المبيع إذا ظهر معيبًا على الوكيل؛ لأن حقوق العقد متعلقة به دون الموكل؛ فإن كان العيب مما يمكن حدوثه بعد البيع، كالإباق، فأقر الوكيل وأنكر الموكل، لم يقبل إقراره على موكله؛ لأنه لم يوكله بالإقرار بالعيب، فكما لو أقر أنه جنى، بخلاف خيار الشرط؛ لأنه لا يملك شرطه للعاقد معه، فملك الإقرار به، فإذا رده المشتري على الوكيل لإقراره بالعيب دون الموكل، لم يملك الوكيل رده على الموكل، لعدم اعترافه بالعيب، وإن أنكر العيب الوكيل، ولم يعترف بأن المبيع كان معيبًا، فتوجهت اليمين عليه، فنكل عن اليمين، فرده المشتري عليه بنكوله، لم يملك الوكيل رده على موكله؛ لأنه غير معترف بعيبه وهذا كله إذا قلنا: إن القول قول البائع، والمذهب: القول قول المشتري، فيحلف ويرده على الموكل. اهـ.
والبيع بعد فسخ لعيب وغيره أمانة بيد مشتر، لحصوله في يده بلا تعد؛ لكن يرده مشتر فورًا، فإن قصر في رده فتلف ضمنه، وكثوب أطارته الريح إلى داره.

من النظم مما يتعلق في خيار العيب
وما لم يَبنْ مِن دُوْنِ كَسْرٍ عُيُوبُه ... فمع كسر ما يُدرى به عيبُه قدِ
كجوز وبطيخ وبيض ونحوه ... لك الأرش أو ردٌّ بغرم التشردِ
وعن أحمد تَعيينُ أرشٍ وعنه لا ... ارتداد ولا أرش له في المعددِ
إذا هو لم يشرط سلامته وإن ... خلا بانكسار من تمول قصد
كبيض دجاج لا كبيض نعامة ... وجوزة هند بالثَّمَنْ كلّضه عد
وفي ربوي بيع بالجنس إن يبن ... معيبًا فلا أرش بل إن شئت فاردد
وواحد مبتاعين شيئًا بخيره ... له الرد في الأولى كذا الجزء من ردي
كوارث عيب في معيب وعنه لا ... كترك خيار وارث منهم قد
وإن بان عيب في مبيعين صفقة ... لشخص أبى أرشًا فكلا ليردد
وعنه له ردُّ الفرار بقسطه ... وعنه له ردُّ لكل ومفرد
فإن يتْوَ فرد ردَّ باقٍ بقسطه ... في الأولى وعنه لا وفضل كما ابتدى
ومن مشتر لا البائع اقبل مقاله ... بالاية في قدر لثاوٍ بأوطد
ومَن نَقَّصَ التفريق بينهما ومن ... يحرم حر أخذ أرش أو اردد
وقيل ارددن والكل أرش فناقص ... بتفريق حل مثل ما مع مفرد

س32: تكلم بوضوح عن أحكام ما يلي: إذا اختلف بائع ومشتر عند من حديث العيب فمن القول قوله؟ إذا قال بائع: إن البيع ليس المردود، أو في ثمن أنه ليس المردود ومن القول قوله في ثابت في ذمة إذا باع قنًا تلزمه عقوبة أو لزمه مال. إذا أقر وكيل بعيب فيما باعه وإذا اشترى شيئًا فوجده خبرًا مما اشتراه، واذكر الدليل والتعليل والخلاف والترجيح.

ج: إذا اختلف بائع ومشتر عند من حدث العيب في المبيع مع الاحتمال لحصوله عند بائع، وحدوثه عند مشتر، كإباق، ولا بينة لأحدهما؛ فالقول قول مشترٍ بيمنه؛ لأنه ينكر القبض في الجزء الفائت، والأصل عدمه، كقبض المبيع، فيحلف على البت إن لم يخرج مبيع عن يد المشتري؛ فإن غاب عنه، فليس له رده لاحتمال حدوثه عند من انتقل إليه، فلا يجوز الحلف على البت فيحلف أنه اشتراه وبه العيب، أو أن العيب ما حدث عنده؛ لأن الأيمان كلها على البت إلا ما كان على نفي فعل الغير. هذا المذهب وهو من المفردات.

قال ناظمها:
والخلف في العيب مع احتماله ... هل كان عند بائع في ماله
أو حادث بعد الشرا في النظر ... فالقول باليمين قولُ المشتري


وقيل: القول قول بائع مع يمينه على البت؛ لأن الأصل سلامة المبيع وصحة العقد؛ ولأن المشتري يدعي استحقاق الفسخ، والبائع ينكره قال في «الإنصاف»: والرواية الثانية يقبل قول البائع وهي أنصهما، واختارها القاضي في الروايتين، وأبو الخطاب في «الهداية» وابن عبدوس في «تذكرته» وجزم بها في «المنور» و«منتخب الآدمي» وقدمها في «المحرر» وقضى به عثمان -رضي الله عنه، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي، واستظهره ابن القيم في «الطرق الحكمية»، وهذا القول هو الذي يترجح عندي لما تقدم؛ ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» والمدعي في هذه الحال هو المشتري. والله أعلم.
وإن لم يحتمل إلا قول أحدهما، كأصبع زائدة، والشجة المندملة التي لا يمكن حدوثها بعد عقد إذا ادعى البائع حدوثها، فالقول قول المشتري بلا يمين، وكالجرح الطري الذي لا يحتمل كونه قديمًا إذا ادعى المشتري أنه قديم، فالقول قول البائع بغير يمين لعدم الحاجة.
ويقبل قول بائع بيمينه إن المبيع المعيب المعين بعقد ليس المردود، لإنكاره كونه سلعته، وإنكاره استحقاق المعين بعقد ليس المردود، لإنكاره كونه سلعته، وإنكاره استحقاق الفسخ إلا في خيار شرط إذا أراد المشتري رد ما اشتراه بشرط الخيار وأنكر البائع كونه المبيع، فالقول قول مشتر أنه المردود بيمينه لاتفاقهما على استحقاق الفسخ.
ويقبل قول مشتر في عين ثمن معين بعقد أنه ليس المردود إن رده عليه بعيب، ويقبل قول قابض بيمينه في ثابت في ذمة من ثمن مبيع، وقرض وسلم وأجرة وقيمة متلف إذا أراد رده بعيب، وأنكره مقبوض منه؛ لأن الأصل بقاء شغل الذمة إن لم يخرج عن يد القابض، ويغيب عنه فلا يملك رده لما تقدم.
ومن باع قِنًا تلزمه عقوبة من قصاص وغيره ممن يعلم لزوم العقوبة، فلا شيء له، لرضه به معيبًا، وإن علم بذلك بعد البيع خُيِّرَ بين رد وأخذ ما دفع من ثمن، وبين أخذ أرش مع إمساك كسائر العيوب. وإن علم مشتر بعد قتل قصاصًا أو حدٍّ تعيَّنَ أرش لتعذر رد فيقوم لا عقوبة عليه ثم وعليه العقوبة، ويؤخذ بالقسط من الثمن، فلو قوم غيرَ جان بمائة وجانيًا بخمسين، فما بينهما النصف، فالأرش إذن نصف الثمن هذا المذهب وهو من المفردات.



قال ناظمها:
من باع عبدًا مستحقًا دمه ... والمشتري فذاك لا يعلمه
فقتلوه مشتريه ينثني ... بأرشه لا بجميع الثمن


لأنه تلف عند المشتري بالعيب الذي كان فيه، فلم يوجب الرجوع بجميع الثمن، كما لو كان مريضًا، فمات بدائه، أو مرتدًا فقتل بردته.
وقال أبو حنيفة والشافعي: يرجع بجميع الثمن؛ لأن تلفه كان بمعنى استحق عند البائع، فجرى مجرى إتلافه إياه، وهذا القول هو الذي يترجح عندي، ويخالف المريض؛ فإنه لم يمت بالمرض الذي كان في يد البائع، وإنما مات بزيادة مرض حدث في يد المشتري فلم يرجع بجميع الثمن. والله أعلم.
وإن دلس بائع، فات عليه، ورجع مشتر بجميع الثمن كما سبق.
وإن علم مشتر بعد قطع قصاصًا أو لسرقة ونحوهما ولا تدليس، فحكمه كما لو اشترى معيبًا على أنه سليم، فظهر أنه معيب، ثم عَابَ عند المشتري، وقد تقدم أنه له الأرش للعيب الأول مع الإمساك، وله الرد مع أرش نقصه الحادث عنده، قاله الموفَّقُ، والشارح؛ لأن استحقاق القطع دون حقيقته.
وقال في «الإنصاف»: قلت: الذي يظهر أن ذلك –يعني القطع- ليس بحدوث عيب عند المشتري؛ لأنه مستحق قبل البيع غايته أنه استوفى ما كان مستحقًا، فلا يسقط حق المشتري من الرد. انتهى.
وإن لزم القن المبيع مال أوجبته جنايته قبل بيعه، أو جنى عمدًا وعفي عنه إلى مال، والسيد –وهو البائع- ولمشتر جهل الحال الخيار لتمكن المجني عليه من انتزاعه؛ فإن اختار الإمساك، واستوعبت الجناية رقبة المبيع، وأخذ بها، ورجع مشتر بالثمن كله؛ لأن أرش مثل ذلك جميع الثمن، وإن لم تكن مستوعبة، فيرجع بقدر أرشه، أي: نسبة قيمته من ثمنه، فلو كانت قيمة الجاني مائة، وأرش الجناية خمسين، رجع مشتر بنصف الثمن، وإن كان بائعٌ موسرٌ تَعَلَّقَ أرشٌ وَجَبَ بجنايَةِ مَبِيعٍ قبل بيعٍ بذمة البائعِ؛ لأنه مُخَيَّرٌ بين تسليمه في الجناية وفدائِهِ، فإذا باعهُ تعين عليه فداؤهُ؛ ولأنه فوَّتَهُ على المجني عليه، فيلزمه أرشه، كما لو قتله، ولا خيار لمشتر؛ لأنه لا ضرر عليه لرجوع مجني عليه على بائع. ومن اشترى متاعًا فوجده خيرًا مما اشتراه، فعليه رده على بائعه، كما لو وجده أردأ كان له رده، نص عليه، قال في «الرعاية»: ولعل محله إذا كان البائع جاهلاً به قاله في «الإنصاف».

من النظم في الاختلاف عند من حدث العيب عنده
وإن بان عيب ليس يعلم حاله ... قبيل شراها أم حديث التجدد
ليقبلْ في الأولى مشتر بيمينه ... ودون يمين مع تعين قلد
ويقبل فيما رد أقوال بائع ... بأن الذي قد بعت غير المردد
وإن عاب بعد البيع من قبل قبضه ... فما نقل مرديه يضمنه فاردد
وليس على فور خيارُك هاهنا ... وفي الخلف في وصف المبيع بأوكد
وإفلاس مبتاع إذا لم يبن رضى ... بشيء كسوم أو كوطء الإما اشهد
ويملك رد العين من غير حاكم ... ومع كره خصم في معيب ومشهد
ولا شيء للمبتاع شيئًا بعينه ... عليمًا كعبد قاتل أو مفسد
ويأخذ أرشًا أو يرد لجهله ... ومن بائع بالأرش حسب إن قتل فدي
وإن زال هذا أو عفا عنه قبل أن ... يردّ فلا ردّ ولا أرش فاشهد
وإن يجن ما يستلزم المال قد مّن ... حقوق خصوم العبد مع فقر سيد
وللمشتري فسخ وما ابتاعه به ... أو الأرض مع مال به العبد يفتدي
إذا كان قدر العبد أو دون قدره ... ولا تلزمنه في القويّ بأزيد
وإن هو لم يفده فْالأدنى لخصمه ... من الأرض أو من قيمة المعتدي فد
وإن كان مولى العبد بالأرش موسرًا ... ففي ماله والبيع ألزم بأوكد
وحمل الإما لا العجم عيب به ارددن ... ووجهان في عيب بمال المُعَبَّدِ
وشرط الخصا أو فعل اردد بقصده ... وفي مطلق من لم تحض والخصا اردد

القسم السادس: خيار في البيع بتخيير الثمن متى بان أقل أو أكثر
س33: تكلم بوضوح عن القسم السادس من أقسام الخيار، وما الذي يثبت به من الصور، وكم هي؟ وما الذي لابد في جميعها منه، ولماذا؟ وما الألفاظ التي تصح بها؟ وعرف ما يحتاج إلى تعريف، ومثل لما لا يتضح إلا بالتمثيل. وإذا قالك أشركتك، أو أشركاني، أو أشركني، أو اشتري قفيزًا فقبض نصفه. فقال آخر: بعني، أو قال: أشركني في هذا القفيز بنصف الثمن، فما الحكم؟ وإذا دعى البائع غلطًا في رأس المال، أو باع سلعة بدون ثمنها فما الحكم؟ وإذا اشترى المبيع ممن ترد شهادته له، أو ممن حاباه، أو لرغبة تخصه فما الحكم؟ واذكر ما تستحضره من دليل أو تعليل، أو خلاف مع الترجيح لما تراه.

ج: يثبت الخيار في البيع بتخبير الثمن في صور أربع من صور البيع واختصت بهذه الأسماء، كاختصاص السلم باسمه:
1- الأولى: التولية وهي لغةً: تقليد العمل، والمراد بها هنا البيع برأس المال فقط كقوله: وليتكه أو بعتكه برأس ماله، أو بعتكه بما اشتريته به، وبعتكه برقمه وهو ثمنه المكتوب عليه، وهما يعلمان الثمن والرقم.
2- وفي شركة وهي بيع بعض المبيع بقسطه من الثمن، كقوله: أشركتك في ثلثه أو ربعه، أو ثلثيه أو ثمنه، و«أشركتك» ينصرف إلى نصفه؛ لأن مطلق الشركة يقتضي التسوية، وإن لقيه آخر، فقال له: أشركني وكان الآخرُ عالمًا بشركة الأول فَشَرَّكهُ، فله نصف نصيبه وهو الربع؛ لأنه طلب منه أن يُشركه في النصف، وأجابه إلى ذلك، فيأخذ الربع، وإن لم يكن الآخر عالمًا بشركة الأول، وقال: أشركتُك، صح ذلك، وأخذ الآخرُ نصيبه كلَّه وهو النصفُ؛ لأنه طلب منه نصف المبيع، وأجابه إليه، وإن طلبا منه الشركة، فشركهما معًا، فلهما الثلثان، وله الثلث، وإن كانت السلعةُ لاثنين، فقال لهما آخر: أشْركاني فيها، فأشركا معًا فله الثلث لما سبق من أن مطلق الشركة يقتضي التسوية، وإن أشركه أحدهما وحده، فله نصف نصيبه وهو الربع لما سبق، وإن أشركه كل واحد منهما منفردًا كان له النصف، ولكل واحد منهما الربع لما تقدم، وإن اشترى شخص قفيزًا من طعام أو غيره مما يكال، فقبض المشتري نصفه، فقال له آخر: بعني نصفه، فباعه نصفه، انصرف البيع إلى النصف المقبوض؛ لأنه الذي يصح تصرف المشتري فيه، وإن قال الآخر لمشتري القفيز القابضِ لِنصفهِ: أشركني في هذا القفيز بنصف الثمن، فقال له: أشركتك فيه بنصف الثمن، لم تصح الشركة إلا فيما قبض منه وهو النصف، فيكون لكل واحد من النصف المقبوض الربع بربع الثمن، والنصف الذي لم يقبض باق للمشتري الأول؛ لأن تصرف المشتري بالشركة لا يصح إلا فيما قبض منه.
3- وفي مرابحة، وهي بيع المبيع بثمنه، وهو رأس ماله وربح معلوم، مثال ذلك أن يقول: ثمنه مائة بعتك بها، وبربح خمسة، أو يقول: رأس مالي فيه ألف بعتكه به، وربح مائة، فيصح ذلك بلا كراهة؛ لأن الثمن والربح معلومان. وإن قال: بعتكه بثمنه كذا على أن أربح في كل عشرة درهمًا، يصح ويكره، نص عليه، واحتج بكراهة ابن عمر وابن عباس، ورويت الكراهة أيضًا عن الحسن ومسروق وعكرمة، وسعيد بن جبير، وعطاء بن يسار، وهي من المفردات.

 قال ناظمها:
يكره أن يقول في المرابَحَة ... لكل عشر درهم مسامَحَه

وقال إسحاق: لا يجوز؛ لأن الثمن مجهول حال العقد فلم يجزكما لو باعه بما يخرج به الحساب، ورخص فيه سعيد بن المسيب، وابن سيرين وشريح والنخعي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وابن المنذر؛ لأن رأس المال معلوم، والربح معلوم، وهذا القول هو الذي يترجح عندي، ووجه الكراهة أن ابن عمر وابن عباس كرهاه ولم يعلم لهما في الصحابة مخالف. وإن قال: دِهْ يا زِدِهْ أو دِهْ دَوَ ازِدِهْ كره أيضًا نصًا؛ لأنه بيع الأعاجم؛ ولأن الثمن قد لا يعلم في الحال، ومعنى دهْ يَازْدِهِ: العشر أحد عشر، ومعنى: دِهْ دَوازدِهْ: العشرة اثنا عشر.
تنبيه: يؤخذ من قول الإمام؛ لأنه من بيع الأعاجم؛ لأن التكلم بلغتهم مكروه. قال الشيخ: اعتياد الخطاب بغير العربيَّة مكروه؛ فإنه من التشبه بالأعاجم. قال: وقال عمر: إياكم ورطانة الأعاجم.
4- وفي مواضعة وهي بيع بخسران، كبعتكه برأس ماله مائة وَوَضِيْعَة عشرة، فما ثمنه الذي اشتراه به مائة، وباعه به ووضيعة درهم من كل عشر وقع البيع بتسعين، لسقوط عشرة من المائة، وإن باعه بثمنه المائة، ووضيعة درهم لكل عشرة، أو عن كل عشرة، يقع البيع بتسعين وعشرة أجزاء من أحد عشر جزءًا من درهم؛ لأن الحط في الصورتين من غير العشرة، فيحط من كل أحد عشر درهمًا درهم، فيسقط من تسعة وتسعين تسعة، ومن درهم جزء من أحد عشر جزءًا منه، فيبقى ما ذكر، ولا تضر الجهالة حينئذ لزوالها بالحساب.
ويعتبر للتولية والشركة والمرابحة والمواضعة علْمَ العاقدين برأس المال، لما تقدم من أن شرط البيع العلم بالثمن، والمذهب أنه متى بان أقل أو مؤجلاً حط الزائد ويحط قسطه في مرابحة، وينقصه في مواضعه وأجل في مؤجل ولا خيار، والذي يترجح عندي القول الأول، وهو ثبوت الخيار في البيع تولية وشركة ومرابحة ومواضعة إذا بان خلاف ما أخبر به. والله أعلم. وتصح الأنواع المذكورة بألفاظها، أو بلفظ البيع، وبما يؤدي ذلك المعنى، ولا تقبل دعوى بائع غلطًا في إخبار برأس مال كان قال: اشتريته بعشرة، ثم قال: غلطت بل اشتريته بخمسة عشر بلا بينة؛ لأنه مدع لِغَلط غيره، أشبه المضارب إذا ادعى الغلط لربح بعد أن أقر به.
وعنه: يقبل قوله مطلقًا مع يمينه، اختاره القاضي وأصحابه، وقدم في «الهداية»، و«المستوعب»، و«الخلاصة»، و«المحرر»، و«نظم المفردات»، و«الرعايتين»، و«الحاويين»، و«الفائق» واختاره ابن عبدوس في «تذكرته»، و«المحرر» وجزم به في «المنور»، وقال ابن رزين: وهو القياس.

قال ناظم المفردات:
وبعد الأخبار برأس ماله ... من ادعى النسيان في مقاله
يرجع بالنقصان مع يمينه ... والشيخ لا لابد من تَبْيِيْنِهِ


وعنه: يقبل قوله إن كان معروفًا بالصدق، وإلا فلا. وعن أحمد رواية ثالثة: أن لا يقبل قول البائع، وإن أقام بينة حتى يصدقه المشتري، وهو قول الثوري والشافعي؛ لأنه أقر بالثمن، وتعلق به حق الغير، فلا يقبل رجوعه، وإن أقام بينة لإقراره بكذبها. والذي تميل إليه النفس أنه يقبل قول البائع إذا كان مَعْروفًا بالصدق وإلا فلا. والله أعلم.
ولا يحلف مشتر بدعوى بائع عليه علم الغلط؛ لأنه قد أقر له، فيستغنى بالإقرار عن اليمين، وخالف في ذلك الموفق والشارح، فقالا: الصحيح أن عليه اليمين أنه لا يعلم ذلك، وجزم به في «الكافي» قاله في «الإقناع» وشرحه.
وإن باع سلعة بدون ثمنها الذي اشتراها به عالمًا بالنقص عن ثمنها لزمه البيع، ولا خيار له، وإن اشترى المبيع ممن لا تقبل شهادتهُ لهُ كأبيه وابنه، لم يجز بيعه مرابحة حتى يبين ذلك، وبهذا قال أبو حنيفة لأنه متهم في الشراء منهم، لكونه يحابيهم، ويسمح لهم، فلم يجز أن يخبر بما اشترى منهم مطلقًا، كما لو اشترى من مكاتبه، فإنه يجب عليه أن يبين أمره.
وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد: يجوز وإن لم يبين؛ لأنه اشتراه بعقد صحيح، وأخبر بثمنه، فأشبه ما لو اشترى من أجنبي. اهـ (ش ك) أو اشتراه ممن حاباه بأن اشتراه منه بأكثر من ثمن مثله، لزمه بيان الحال لما في ذلك من الغش، وكذا لو اشتراه من غلام دكانه الحر، أو من غيره حيلة، فيلزمه بيان الحال، وإن اشتراه بدنانير، وأخبر في البيع بتخبير الثمن أنه اشتراه بدراهم أو بالعكس أو اشتراه بعرض، فأخبر أنه اشتراه بثمن، أو اشتراه بنقد، فأخبر أنه اشتراه بعرض وأشباه ذلك، فللمشتري الخيار. وإن اشترى إنسان شيئًا بثمن لرغبة تخصه، كسمن جارية، أو كان المبيع دارًا بجوار منزله، أو أمة لرضاع ولده، لزمه بيان الحال، أو لموسم ذهب كالذي يباع على العيد أنه اشتراه قربة، وبقي عنده، لزمه أن يبين الحال، أو باع بعض المبيع بقسطه من الثمن، وليس المبيع بعضه من المتماثلات المتساوية، كزيت ونحوه من كل مكيل أو موزون متساوي الأجزاء، كالثياب ونحوها، لزمه أن يبين ذلك لمشتر؛ لأنه قد لا يرضى به إذا علمه كما لو اشترى شجرة مثمرة، وأراد بيعها مرابحة دون ثمرتها. وإن كان مكيلاً ونحوه، جاز بيعه مراحبةً ونحوها، وإن لم يبين الحال؛ فإن كتم بائع شيئًا من ذلك، خير مشتر بين رد وإمساك كالتدليس، وهو حرام كتدليس العيب. وكذا إن نقص المبيع بمرض، أو ولادة أو عيب، أو تلف بعضه، أو أخذ مشتر صوفًا أو لبنًا ونحوه كَانَ حِيْنَ البَيْع أخْبَرَ بالحال.

من النظم فيما يتعلق في البيع
بتخيير الثمن ويشمل المرابحة والمواضعة والتولية والشركة
فتولية ولّيتُ أو بعتُه بما ... اشتريت ومعناه كرقم محدد
وشركته بيع لبعض بقسطه ... كنصف وثلث المشتري لمعدد
وإن في مبيع يشرك اثنان ثالثًا ... معًا فله ثلث ونصف بمبعد
وبيع برقم واكتساب مقدر ... مرابحة واعكس مواضعة اليد
ويشرط في هذي العقود جميعها ... تعيُّنُ رأس المال وقت التعقد
وبيع بما هو ظاهر بحسابه ... من الربح شرعًا طد بكره بأوطد
وما زاد فالزمه مع قسطه أخي ... من الربح في نسيانه والتعمد
وإن زاد في الأخبار حتى بعمدٍ أو ... يبن نسئًا إن شاء يردّ بأوكد
وإن يمض يلزمه وإلا مؤجلاً ... وعنه إن يشا الإمساك حالاً ليرفد
وبالعكس من هذا مواضعة ومدعي ... غلطًا أحلفه واقبل أو اردد
وعنه اقبلن مع شاهديه وعنه لا ... وعنه اقبلن من صادق في التفرد
وألزم قبولاً من يصدق باطنًا ... ولا تحسبن منه نما صنعة اليد
ولا أجر حمال وخزن ونحوه ... وللمشتري صف ما جرى لا تزيَّد
وإن ضم فوق المال أجرة صنعه ... سوى عمل منه وقال بمشهد
علي بهذا قد تحصل مجملاً ... فوجهين في التحليل والحظر أورد
ومن كتم التأجيل أو مشتراه مِن ... محابٍ كإبن واحتيالٍ اكرهن دد
وفي بيع جزء الصفقة افهم بقسطه ... وليس بموزون ولا كيل باليد
وأخذك أرش العيب أو لجناية ... لمبتاعه الامضا ورد المعدد
وما بعته بالربح ثم اشتريته ... فبالحال أخبر في الصحيح المسدد
أو الربح من ثانيهما حُطَّ واخْبِرَنْ ... بباقٍ وللحال إن فقد كله عد
وبعد اشتراك واقتسام متى يبع ... مرابحة إن بَيَّن اعقد بأوكد
ومن كان في الثوبين أسلف إن يشا ... إذا استويا في الوصف يخبر ويرشد
بقيمة ثوب منهما أو بربحه ... ويحرم إن يفقد تساويهما أشهد
وإن يشر مبتاع دري كتم بائع ... بحال بها قلنا يخبَّر، يردد
وليس برقم الثوب بأس لمخبر ... إذا علماه عند عقد مشيد
وأحمد مختار مساومة على ... مرابحة تقوى إمام مسدد
ومشتريًا ثوبًا بعشرين فاشتري ... فتى منهما حظ الشريك بأزيد
فإن زاد مثقالين يخبر بواحد ... وعشرين والمبتاع نصف معبد
بعشرين ثم ابتاع آخرْ نصفه ... بخمسين إن باعا معًا بيع مفرد
مساومة فالربح نصفان فيهما ... وبالربح إن باعا كذلك وطد
وعنه إذا باعا مرابحة يكن ... على قدر المالين قسم المزيد



المجلد الرابع 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 6:25 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المجلد الرابع Empty
مُساهمةموضوع: رد: المجلد الرابع   المجلد الرابع Emptyالأحد 15 نوفمبر 2015, 6:46 am

ما يزاد في ثمن أو مثمن أو أجل هبة مشتر لوكيل وبائع لوكيل
س34: تكلم بوضوح عما يلي: ما يزاد في ثمن أو مثمن أو أجل أو يحط منه زمن الخيارين، هبة مشتر لوكيل باعه شيئًا. هبة بائع لوكيل اشترى منه، أخذ النماء والاستخدام والوطء إلخ. إذا اشترى ثوبًا بعشرة وقصره ونحوه، أجرة المكان والكيل والوزن ونحوه، حمل المبيع وخياطته وعلفه ونحوه، وإذا اشتراه بعشرة، ثم باعه بخمسة عشر، ثم اشتراه بعشرة أو اشتراه بخمسة عشرة، ثم باعه بعشرة، أو اشترى نصف شيء بعشرة، واشترى غيره باقيه بعشرين، ثم باعاه مرابحة أو مواضعة أو تولية صفقة واحدة فما الحكم؟

ج: ما يزاد من ثمن زمن الخيارين، أو في مثمن زمن الخيارين، أو يُزاد في أجل زمن الخيارين، أو يزاد في خيار شرط في بيع يلحق بالعقد فيخبر به كأصله، وما يوضع من ثمن أو مثمن أو أجل أو خيار من الخيارين يلحق بالعقد، فيجب أن يخبر به كأصله تنزيلاً لحال الخيار منزلة حال العقد، وإن حط الثمن كله، فهبة، ولا يلحق بعقد ما زيد أو حط فيما ذكر بعد لزوم العقد، فلا يجب أن يخبر به، ولا إن جنى مبيع ففداه مشتر، أو مرض فداواه، فلا يلحق ذلك بالثمن؛ لأنه لم يزد به المبيع ذاتًا ولا قيمة، وإنما هو مزيل لنقصه بالجناية أو المرض، وكذا لو مانه أو كساه لا يلحق بالثمن، وإن أخبر بالحال، فحسن؛ لأنه أتم في الصدق، وهبة مشتر لوكيل باعه شيئًا من جنس الثمن أو غيره كزيادة في الثمن، فتكون لبائع زمن الخيارين فيخبر بها، ومثله هبة بائع لوكيل اشترى منه، فتلحق بالعقد، وتكون للموكل زمن الخيارين، وإن كانت الهبة بعد لزوم البيع، فهي للموهوب له فيهما؛ فإن اشترى ثوبًا بعشرة، وقصره أو صبغه، أو نحو ذلك بعشرة بنفسه أو غيره، أخبر به على وجهه، بأن يقول: اشتريته بعشرة، وقصرته أو صبغته بعشرة، ومثل أجرة عمله أجرة مكانه وكيله ووزنه وذرعه وحمله وخياطته، وعلف الدابة ونحوه، فيخبر بذلك على وجهه، ولا يجوز أن يخبر أنه اشتراه بعشرين، ولا يجوز أن يقول: تحصل علي بها؛ لأنه كذب وتغرير للمشتري، وفيه وجه آخر: أنه يجوز فيما استأجر عليه أن يضم الأجرة إلى الثمن، ويقول: تحصلت علي بكذا؛ لأنه صادق، وبه قال الشعبي والحكم والشافعي. والذي تميل إليه النفس القول الأول؛ لأنه كما تقدم تغرير بالمشتري؛ فإنه ربما لو علم أن بعض ما تحصلت به لأجل الصناعة، لم يرغب فيها لعدم رغبته في ذلك، فأشبه ما ينفق على الحيوان في مؤنته وكسوته، وعلى المتاع في خزنه.
وإن باع ما اشتراه بعشرة بخمسة عشر، ثم اشتراه بعشرة لم يَبعْهُ مرابحة، بل يخبر بالحال؛ لأنه أبلغ في الصدق، وأقرب إلى الحق، أو يحط الربح من العشرة الثمن الثاني، ويخبر أنه تحصل عليه بخمسة؛ لأن الربح أحد نوعي النماء، فوجب الإخبار به في المرابحة ونحوها، كالنماء من نفس المبيع كالثمرة ونحوها، ولا يجوز أن يخبر أنه اشتراه بخمسة؛ لأنه كذب وهو حرام، وهذا المذهب، وعليه الأصحاب. وقيل: يجوز أن يخبر أنه اشتراه بعشرة، قدمه في «المقنع» واختاره الموفق ولشارح وقدمه في «الفروع» وهو أصوب، قال في «الإنصاف»: وهو الصواب، وقال عن الأول: إنه المذهب، وهو المذهب، ثم قال: وهو ضعيف. ولعل مراد الإمام أحمد استحباب ذلك، لا أنه على سبيل اللزوم. اهـ. «إقناع» وشرحه. ولو اشتراه بخمسة عشر، ثم باعه بعشرة، ثم اشتراه بأي ثمن كان بيَّنَهُ. وما باعه اثنان من عقار أو غيره مشترك بينهما مرابحة، فثمنه بينهما بحسب ملكيهما ولا يكون ثمنه على رأس ماليهما؛ لأن الثمن عوض المبيع، فهو على قدر ملكيهما.

من النظم في الزيادة في مدة الخيار
وما زيد في وقت التخاير ملحق ... وما حط منقوص من المتعدد
ولا شيء من بعد اللزوم بملحق ... ولا ما به الجاني المبيع قد افتدى
وينقص من أثمانه أرش عيبه ... كذا أرش ما يجني عليه بأوكد
وما نلت من صوف ودر مباشر ... بعقد وذكر الحال أولى فقيد
ولا تَنْقُصن ألكسب منه ولا النما ... وما ذكر سعر لازم في المؤكد
وإن باع إنسان مواضعة فكالمـ ... ـرابحة التفضيل مع عكس معهد
وبالمائة إن يبع وعشر فوضعه ... من العشر فلسًا زن أيا خير مفرد
وقل مائة من غير نقص كقوله ... لكل عشير وضع فرد مزهد

س35: تكلم بوضوح عن القسم السابع من أقسام الخيار، وبين ماذا يعمل عند الاختلاف، وما الحكم فيما يتفرع عن ذلك ن فسخ أو نكول؟ وما صفة الحلف الصادر من المتبايعين أو أحدهما؟ وما صفة الاختلاف؟ وإذا اختلفا في الأجرة. واذكر ما تستحضره من دليل أو تعليل أو تفصيل أو ترجيح أو خلاف.

ج: السابع: خيار يثبت لاختلاف المتبايعين في الثمن في بعض صوره، فإذا اختلفا، أو اختلفت ورثتهما أو أحدهما، وورثة الآخر في قدر ثمن، بأن قال بائع أو وارثه: الثمن ألف، وقال مشتر أو وارثه: ثمانمائة، ولا بَيِّنة لأحدهما، تحالفا، أو كان لكل منهما بينة بما ادعاه، وتعارضت البينتان، تحالف المتعاقدان، وسقطت بينتاهما، فيصيران كمن لا بينة له، وصفة التحالف أن يبدأ بيمين البائع، لقوة جنبتِهِ؛ لأن المبيع يرد إليه، فيحلف: ما بعته بكذا، وإنما بعته بكذا، فيجمع بين النفي والإثبات.
فالنفي لما ادعي عليه، والإثبات لما ادعاه، ويقدم النفي على الإثبات؛ لأنه الأصل في اليمين، ثم يحلف المشتري: ما اشتريته، وإنما اشتريته بكذا، ويتفاسخان، وبه قال شريح والشافعي، ورواية عن مالك؛ لحديث ابن مسعود مرفوعًا: «إذا اختلف المتبايعان، وليس بينهما بينة، فالقول ما يقول صاحب السلعة، أو يترادَّان» رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وزاد فيه: «والبيع قائم بعينه»، ولأحمد في رواية: «والسلعة كما هي»، وفي لفظ: «تحالفا»، وروي عن ابن مسعود أنه باع الأشعث رقيقًا من رقيق الإمارة، فقال: بعتك بعشرين ألفًا، وقال الأشعث: اشتريته منك بعشرة، فقال عبد الله: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إذا اختلف المتبايعان، وليس بينهما بينة والمبيع قائم بعينه، فالقول قول البائع، أو يترادان البيع» قال: فإني أردُّ البيع.
وعن عبد الملك بن عبيدة مرفوعًا: «إذا اختلف المتبايعان، استحلف البائع، ثم كان للمشتري الخيار إن شاء أخذ، وإن شاء ترك» رواهما سعيد. وظاهر هذه النصوص أنه يفسخ من غير حاكم، قاله في «الشرح».
ويحلف وارث على البت إن علم الثمن، وإلا فعلى نفي العلم، ثم بعد تحالف إن رضي أحد المتعاقدين بقول الآخر، أقر العقد؛ لأن من رضي صاحِبُه بقوله منهما، حَصَلَ له ما ادعاه، فلا خيار له، أو نكل أحدهما عن اليمين، وحَلف الآخر أقر العقد بما حلف عليه الحالف منهما؛ لأن النكول كإقامة البينة على من نكل، وإن لم يرض أحدهما بقول الآخر بعد التحالف، فلكل منهما الفسخ ولو بلا حاكم؛ لأنه لاستدراك الظلامة، أشبه رد المعيب، وينفسخ البيع بفسخ أحدهما ظاهرًا وباطنًا؛ لأنه فسخ لاستدراك الظلامة، أشبه الرد بالعيب.
وإن امتنع البائع والمشتري من الحلف، صرفهما الحاكم، كما لو نكل من ترد عليه اليمين، وكذا إجارة؛ فإن اختلف المؤجر والمستأجر، أو ورثتهما في قدر الأجرة، فكما تقدم، فإذا تحالفا، وفسخت الإجارة بعد فراغ مدة إجارة، فعلى مستأجرٍ أجرةَ مِثْل العين المؤجرةِ، وإن فسخت في أثناء مدة الإجارة يؤخَذ من مستأجر بالقسط من أجرة مثل؛ لأنه يدل ما استوفى من المنفعة. ويحلف بائع فقط إن اختلفا في قدر الثمن بعد قبض ثمن وفسخ عقد بتقايل أو غيره؛ لأن البائع منكر لما يدعيه المشتري بعد انفساخ العقد، أشبه ما لو اختلفا في القبض.

اختلاف المتبايعين في قدر ثمن مبيع
والقسم الثامن من أقسام الخيار
س36: تكلم بوضوح عما إذا اختلف المتبايعان في قدر ثمن مبيع تلف، وما الذي يترتب على ذلك؟ ومن الذي يقبل قوله في القيمة والقدر والصفة؟ وهل يقبل قول الغارم فيما غرم؟ وإذا ادعى المشتري أو الغارم تقدم العيب على البيع؟ وإذا مات المتعاقدان أو أحدهما فما الحكم؟ وما صفة الحلف المطلوبة من الوارث؟ وما هو القسم الثامن من أقسام الخيار؟ واذكر ما تستحضره من دليل أو تعليل أو خلاف أو ترجيح.

ج: إذا اختلفا في ثمن السلعة بعد تلفها، فقيلك يتحالفان مثل ما لو كانت قائمة، وهو قول الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد، وإحدى الروايتين عن مالك، والأخرى القول قول المشتري مع يمينه اختارها أبو بكر، وهو قول النخعي والثوري والأوزاعي، وأبي حنيفة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث: «والسلعة قائمة» مفهومه أنه لا يشرع التحالف عند تلفها؛ ولأنهما اتفقا على نقل السلعة إلى لمشتري، وهذا القول قوي فيما أرى. والله أعلم.
قال في «الإقناع وشرحه»: إن كانت السلعة تالفة،وتحالفا لاختلافهما في قدر الثمن، وفسخ العقد، رجعا إلى قيمة مثلها إن كانت مثلية، وإلا بأن لم تكن مثلية، فإلى قيمتها، لتعذر رد العين، فيأخذ مشتر من باعٍ الثمن إن كان قد قبض إن لم يرض بقول بائع وفسخ العقد، ويأخذ بائع من مشترٍ القيمة؛ لأنه فوت عليه المبيع، فإن تساويا، أي: الثمن والقيمة، وكانا من جنس، أي: نقد واحد، تقاصا وتساقطا؛ لأنه لا فائدة في أخذه، ثم رده، وإلا بأن كان أحدهما أقل وهما من جنس واحد، سقط الأقل، ومثله من الأكثر، ويبقى الزائد يطالب به صاحبه، وإن اختلف الجنس، فلا مقاصة. اهـ. وقال في «الإنصاف»: وقال ابن منجا في شرحه: ظاهر كلام أبي الخطاب أن القيمة إذا زادت عن الثمن لا يلزم المشتري الزيادة؛ لأنه قال: المشتري بالخيار بين دفع الثمن الذي ادعاه البائع، وبين دفع القيمة؛ لأن البائع لا يدعي الزيادة. قال: وبحث ذلك الشيخ تقي الدين –رحمه الله- أيضًا-، فقال: يتوجه أن لا تجب قيمته إلا إذا كانت أقل من الثمن؛ أما إذا كان أكثر، فهو قد رضي بالثمن، فلا يعطي زيادة، لاتفاقهما على عدم استحقاقها.
وإن اختلف البائع والمشتري في قيمة السلعة التالفة بعد التفاسخ، فقول مشتر بيمينه، وكذا إن اختلفا في صفة السلعة التالفة، ككون العبد كاتبًا، فقول مشتر بيمينه، أو اختلفا في قدر السلعة التالفة، بأن قال البائع: كان المبيع قفيزين، فقال المشتري: بل قفيزًا، فقول مشتر بيمينه؛ لأنه غارم، والقول قول الغارم. فلو وصفها مشتر بعيب كبرص، وخرق ثوب وغيرهما، فقول من ينفيه، وهو البائع بيمينه؛ لأن الأصل السلامة من العيب، وإن ثبت أن المبيع معيب، قبل قول المشتري من تقدم العيب على البيع؛ لأن الأصل براءته مما يدعي عليه. وإن تعيب مبيع عند مشتر قبل تلفه، ضم أرشه إلى قيمته، لكونه مضمونًا عليه حين التَّعَيُّب، وكل غارم حكمه حكم المشتري في ذلك. وإن مات المتعاقدان، أو مات أحدهما، فورثتهما بمنزلتهما، وورثة أحدهما إن مات وحده بمنزلته، وإن كان الموت بعد التحالف وقبل الفسخ؛ فإن رضي ورثة أحدهما بما قاله وَرَثةُ الآخر، أقر العقد، وإلا فلكل الفسخ، ومتى رضي بعض ورثة أحدهما، فليس للبقية الفسخ على قياس ما تقدم في خيار العيب، وإن كان الموت قبل التحالف، وكان الوارث حضر العقد، وعلمه، حلف على البت؛ لأنه الأصل في الإيمان، وإن لم يعلم الوارث قدر الثمن حضر العقد أولاً، حلف على نفي العلم؛ لأنه على فعل الغير، وإذا فسخ في التحالف، انفسخ ظاهرًا وباطنًا في حق كل منهما، فيباح للبائع جميع التصرف في المبيع، وكذا المشتري في الثمن إن كان ظالمًا. وقال في «المقنع»: ومتى فسخ المظلوم منهما، انفسخ العقد ظاهرًا وباطنًا، وإن فسخ الظالم، لم ينفسخ في حقه باطنًا وعليه إثم الغاصب، وهذا هو الذي تميل إليه النفس. والله أعلم.

الثامن من أقسام الخيار:
خيار يثبت للخلف في الصفة إذا باعه بالوصف ولتغير ما تقدم رؤيته العقد، وتقدم في الشرط السادس من شروط البيع.

من النظم في الخيار عند اختلاف المتبايعين
وإن يختلف في سلعة مع بقائها ... فمن ناقص أثمانها ومزيد
ليحلف كلُ إنما عقدا كذا ... ولكنَّ مَن قد بَاع بالحلف يبتدي
وكلُّ له فسخ إذا لم يكن رضى ... بما قيل وليُقْضي على ناكل هدي
ومحتمل في ذلكم فسخ حاكم ... لقطع خصومات الورى والتنكد
ومَن مات قام الوارثون مقامه ... وينفذ فسخ المعتدي ظاهرًا قد
وقيل بأن الفسخ ينفذ باطنًا ... وقيل مِنَ المبتاع حسْبُ فَقَيِّدِ
وإن فَسَخَ المظلوم يفسخ مطلقًا ... كذا إن تلف المبتاع في الحكم أسند
وللمشتري إعطاءه من باع ما ادعى ... أو القيمة إن تعرف صفات المفقدِ
وإن تخف يقبل قوله مع يمينه ... بقيمة مع وصفه المتعددِ
كذا كل ذِي غُرْمٍ وخذ قَوْل مَن نَفَا ... إذًا ظاهرًا كالخرق في المتوطد
وعن أحمد قول الذي باع وحده ... وحلفته اقبل مع توى المشتري قد
وعنه اقبلن من مشترٍ بَعْدَ قبضه ... ومِن قبلِهِ حُكْمُ التحالف أكِّدِ
وعن أحمد مِنْ بائع مع يمينه ... ليقبل فردًا في البقا والتفسد

س37: تكلم بوضوح عما يلي إذا اختلف المتبايعان في صفة ثمن، أو في شرط صحيح أو فاسد، أو أجل أو رهن أو ضمين أو قدر مبيع. إذا تشاحا في التسليم، إذا غيب مشتر ماله، أو ظهر عسره، أو أجر بنقد حال، أو نقص مبيع بتشقيص، أو أحْضَر بَعض الثمن، وهل يملك البائع المطالبة بثمن في الذمة؟ وهل يملك أحدهما قبض الثمن أو المثمن من الخيارين؟ واذكر ما تستحضره من ضوابط وتفاصيل وأدلة وتعليلات وخلاف وترجيح.

ج: إذا اختلف المتبايعان في صفة ثمن اتفقا على ذكره في البيع أخذ نَقْدُ البلد إن لم يكن بها إلا نقد واحد، وادَّعاه أحدهما، فيقضي له به عملاً بالقرينة، ثم إن كان بالبلد نقود، واختلفت رواجًا، أخذ غالبه رَوَاجًا؛ لأن الظاهر وقوع العقد به، لغلبته فإذا استوت النقود رواجًا، فالوسط تسوية بين حقيهما؛ لأن العدول عنه ميل على أحدهما، وعلى مدعي نقد البلد، أو غالبه رواجًا أو الوسط اليمين، وإن اختلفا في جنس ثمن، كما لو ادعى أحدهما أنه عقد بنقد، والآخر بعرض، أو ادعى أحدهما أنه عقد بذهب والآخر بفضة، فالظاهر أنهما يتحالفان؛ لأنهما اختلفا في الثمن على وجه لا يترجح قول أحدهما، فوجب التحالف كما لو اختلفا في قدره، وإن اختلفا في أجل أو شرط، فقول من ينفيه؛ لعموم حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ولكن اليمين على المدعى عليه» متفق عليه.
وروى البيهقي والحاكم ولفظه: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» وكذا إن اختلفا في رهن بأن قال: بعته بدينار على أن ترهنني عليه كذا، وأنكر مشتر، فقوله: أو اختلفا في قدر الأجل والرهن، فقول منكر الزائد سوى أجل في سلم، فقول مسلم إليه، وكذا إن اختلفا في شرط ضمين بالثمن، أو بعهدته، أو عهدة المبيع فوق لمن ينفيه بيمينه؛ لأن الأصل عدمه.
كما يقبل قو منكر مفسد لبيع ونحوه، فإذا ادَّعى أحدهما ما يفسد العقد مِن سَفَهٍ أو صغَرٍ أو إكراه، أو عَبْدٍ عدم إذن سيَّدهِ ونحوه، وأنكر الآخرُ، فقول المنكر؛ لأن الأصل في العقود الصحة، وإن أقاما بينتين، قُدمت بينة مدعٍ، وقيل: يتساقطان، وإن اختلفا في قدر مبيع، بأن قال بائع: بعتك قفيزين، وقال المشتري: بل ثلاثة، فقول بائع؛ لأنه منكر للزيادة والبيع يتعدد بتعدد المبيع، فالمشتري يدعي عقد آخر ينكره الآخر بخلاف الاختلاف في الثمن، وفي عين المبيع كبعتني هذه الجارية، فيقول: بل العبد، فوق بائع؛ لأنه كالغارم، وقيل: يحلف كلُّ واحد على ما أنكره، ولم يثبت بيع واحد منهما، وهذا هو الذي يترجح عندي. والله أعلم. وإن قال: بعتني هذين، فقال: بل أحدهما بثمن واحد، فالقول قول بائع؛ لأنه منكر للبيع في العبد الثاني، والأصل عدمه، وقيل: يتحالفان، اختاره القاضي، وذكره ابن عقيل رواية وصححها، قال الشارح: هذا أقيس وأولى إن شاء الله تعالى «إنصاف»، وإن تشاحا في أيهما يسلم قبل الآخر، فقال بائع: لا أسلمُ المبيع حتى أتسلم الثمن، وقال المشتري: لا أسلم الثمن حتى أتسلَّمَ المبيع والثمنُ عينٌ، أي: معين في العقد نُصبَ عدلٌ يقبض منهما الثمن والمثمن، ويسلم المبيع للمشتري، ثم يسلم الثمن لبائع؛ لأن قبض المبيع من تتمات البيع في بعض الصور، واستحقاق الثمن مرتب على تمام البيع، ولجريان العادة بذلك، وإن كان الثمن دينًا حالاً أجبر بائعٌ على تسليم المبيع، لتعلق حق مشتر بعينه، ثم أجبر مشتر على تسليم ثمن إن كان الثمن حالاً بالمجلس، لوجوب دفعه عليه فورًا لإمكانه. وقال مالك وأبو حنيفة: يجبر المشتري على تسلم الثمن ثم البائع على تسليم المثمن، وقيل: له حبسه حتى يقبض ثمنه الحال، كما لو خاف فواته؛ لأنه لم يرض بالبيع إلا بهذه الحالة. ولو أجبر على تسليم المبيع قبل قبض الثمن، لحصل بذلك ضرر عظيم على الناس، وتمكن الغادر من أخذ أموال الناس بهذه الطريقة، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس. والله أعلم.
وإن كان الثمن غائبًا بعيدًا، أو المشتري معسرًا، فللبائع الفسخ؛ لأن عليه ضررًا في تأخير الثمن، فكان له الفسخ والرجوع في عين ماله، كالمفلس، وكل موضع قلنا: له الفسخ في المبيع، فإنه يفسخ بغير حكم حاكم، وفي النكاح تفصيل يأتي إن شاء الله تعالى. وكل موضع قلنا: يحجر عليه، فذلك إلى حاكم؛ لأنه يحتاج إلى نظر واجتهاد، وكذا حكم مؤجر بنقد حال على ما تقدم تفصيله، وإن هرب المشتري قبل وزن الثمن وهو مُعْسِرٌ بالثمن أو بعضه، فللبائع الفسخ في الحال، وإن كان المشتري موسرًا، وهرب قبل دفع الثمن قضاه الحاكم من ماله إن وجد له مالاً، وإلا باع المبيع وقضى منه ثمنه، وحفظ الباقي؛ لأن للحاكم ولاية مال الغائب كما يأتي إن شاء الله تعالى في باب القضاء.
وليس للبائع الامتناع من تسليم الأمة المبيع بعد قبض الثمن، لأجل الاستبراء، لتعلق حق المشتري، وانتقال الملك إليه، ولو طالب المشتري البائع بكفيل لئلا تظهر حاملاً، لم يكن له ذلك إن لم يشترطه في صلب العقد؛ لأنه إلزام له بما لا يلزمه، ولم يلتزمه. وإن أحضر مشتر بعض الثمن لم يملك أخذ ما يقابله من مبيع إن نقص بتشقيص، كمصراعي باب. ولا يملك بائعٌ مطالبة بثمن بذمةٍ زمن خيار، ولا يملك أحدهما قبض معين من ثمن ومثمن زمن خيار شرط أو مجلس بغير إذن صريح في قبضه ممن الخيار له، لعدم انقطاع علق من له الخيار عنه، وإن تعذر على بائع تسليم مبيع فلمشترٍ الفسخ.

من النظم عند الاختلاف في صفة الثمن
وفي صفة الأثمان إن يتحالفا ... إلى الثمن المعروف بالبلد اردد
فإن كثرت فيه النقود بأوسط النقود ... إلا فاحكم ولا تتردد
وأفت بتحليف الذي القول قوله ... وقد أحلف القاضي الغريمين فاقتدي
وإن يختلف خصمان في أجل وفي ... ضمينٍ وفي شرطٍ ورهنٍ مرصد
وعن أحمدِ يُروى التحالفُ منهما ... وعنه لِيَحْلِف مُنكر بتفرُّدِ
وإن يختلف في مفسد العقد فاعتمد ... على قول من ينفيه والعقد أطد
كدعوى افتراق قبل قبض تصارف ... أو ابتعت كرهًا للمصحح قلد
فإن قال شخصٌ كنت بعتك سلعتي ... صغيرًا فقول المشتري اقبل وأكد
ومحتمل نصر لذي الصغر ادعى ... وإن قال عبد بعت سلعة سيد
بلا إذنه فالقول قول من اشترى ... وإن أنكر المولى إلى قوله عُد
وإن يك في عين المبيع اختلافهم ... وفي القدر في الشيئين من باع قلد
وقيل بلا احكم بالتحالف منهما ... وأوْهِي عُقُودَ الفِرقَتَيْنِ وَأفْسِدِ
وفي قَدَرِ الأثمان من بعد قبضها ... وفسخ العقود القول من بائع طد

في جعل العدل يقبض ويقبض
ويجعل عدل قابض ومقبض ... متى شحَّ كل منهما افهم بمبتدي
إذا كانت الأثمان عينا بمجلس ... وذا العدل في ظني وكيل لعقد
ويبدا بتسليم المبيع لمشتر ... ومن بعده الأثمان للبائع ارفد
ومع قدرة من يأب يضمن كغاصب ... وقيل المبيع احبس لقبض المعدد
وإن بعت بالدين الحليلَ فسلمن ... كذا المشتري بالمال في المجلس اضهد
وللبائعين الفسخ من عسر مشتر ... وغيبة مال مدة المتبعد
وما دون هذا في احتمال وقبل عن ... مبيع وباقي ماله امنعه واصدد
إلى حين تسليم كحكم مغيب ... ببلدته مال الوفاء مُبَعَّدِ

فصل
في التصرف في المبيع قبل قبضه

س38: تكلم بوضوح عن الأشياء التي لا يصح تصرف المشتري فيها قبل قبضها، وما يتعلق بها، والتي من ضمان البائع، والتي ينفسخ فيها العقد وإذا انفسخ العقد، أو تلف المبيع أو بعضه، أو الثمن، أو أخذ بشفعة، أو خلط بما لا يتميز، أو تلف قبل قبضه، فما الحكم؟ وإذا اشترى شاة بشعير، فأكلته قبل قبضه، فما الحكم؟ واذكر ما تستحضره من دليل أو تعليل، أو ضابط أو تفصيل، أو خلاف مع الترجيح لما تراه.

ج: ما اشتُري بكيل كقفيز من صبرةٍ أو اشتُري بوزنٍ كرطلٍ من زُبرة حديد، أو اشتري بعد كبيض على أنه مائة، أو اشتري بذرع كثوبٍ على أنه عشرة أذرع، ملك المبيع في ذلك بمجرد العقد، فنماؤه لمشتر أمانة بيد بائع، ولزم البيع فيه بعقد لا خيار فيه، كسائر المبيعات، ولم يصح تصرفه فيه ببيع، وعنه يجوز بيعه لبائعه، اختاره الشيخ تقي الدين –رحمه الله- وجوز التولية فيه، والشركة، وخرجه من بيع دين، والمذهب خلاف ذلك، وعليه الأصحاب، والذي يترجح عندي القول الأول أنه لا يجوز ولو لبائعه.
ولا يصح التصرف فيه بإجارة ولا هبة، ولا رهن، ولا الحوالة عليه، ولا الاعتياض عنه، ولا غير ذلك من التصرفات حتى يقبضه؛ لما ورد عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا ابتعت طعامًا فلا تبعه حتى تستوفيه» رواه أحمد ومسلم، وعن أبي هريرة قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُشترى الطعام، ثم يباع حتى يُستوفى» رواه أحمد ومسلم، ولمسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من اشتر طعامًا، فلا يبعه حتى يكتاله»، وعن حكيم بن حزام قال: قلت: يا رسول الله، إني أشتري بيوعًا فما يحل لي منها، وما يحرم علي؟ قال: «إذا اشتريت شيئًا، فلا تبعه حتى تقبضه» رواه أحمد. وعن زيد بن ثابت «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تُباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم» رواه أبو داود والدارقطني. وروى عثمان بن عفان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا بعت فكِلْ، وإذا ابتعتَ فاكتل» رواه البخاري. وعن جابر قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع، وصاع المشتري» رواه ابن ماجه. وعن ابن عمر قال: كانوا يتبايعون الطعام جزافًا بأعلى السوق، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعوه حتى ينقلوه. رواه الجماعة إلا الترمذي وابن ماجه، ولفظ في «الصحيحين»: «حتى يحولوه» وللجماعة إلا الترمذي: «من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه» ولأحمد: «من اشترى طعامًا بكيل أو وزن، فلا يبعه حتى يقبضه» ولأبي داود والنسائي: «نهى أن يبيع أحد طعامًا اشتراه بكيل حتى يستوفيه». وعن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه». قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله. رواه الجماعة إلا الترمذي، وفي لفظ في «الصحيحين»: «من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله».
ويصح قبض مبيع بكيل أو وزن، أو عد أو ذرع جزافًا إن علم المتعاقدان قدره، لحصول المقصود به؛ ولأنه مع علمه قدره كالصبرة المعينة، ويصح عتق الرقيق المبيع بعَدّ قبل قبضه، لقوته وسرايته، ويصح جعل المبيع بنحو كيل مهرًا، ويصح خلع عليه ووصية به لاغتفار الغرر فيهما. وينفسخ عقد البيع في مبيع بكيلٍ، أو وزنٍ أو عدٍ، أو ذرع تلف بآفة سماوية لا صُنْعَ لآدمي فيها قبل قبضه؛ لأنه –عليه الصلاة والسلام- نهى عن ربح ما لم يضمن. والمراد به ربح ما بيع قبل القبض، ويخير مشتر إن تلف بعضه، وبقي منه شيء بين أخذ الباقي بقسطه من الثمن، أو رده وأخذ الثمن كله لتفريق الصفقة، وإن تلف مبيع بنحو كيل أو عاب قبل قبضه بإتلاف مشتر أو تعييبه له، فلا خيار له؛ لأن إتلافه كقبضه وإذا عَيَّبَهُ، فقد عيب مال نفسه، فلا يرجع بأرشه على غيره، وإن تلف أو تعيب بفعل بائع، أو بفعل أجنبي غير بائع ومشتر يخير مشتر بين فسخ بيع، ويرجع على بائع بما أخذ من ثمنه؛ لأنه مضمون عليه إلى قبضه، وبين طلب إمضاء بيع، وطلب متلف بمثل مثلي، وقيمة متقوم مع تلف في مسألة الإتلاف أو إمضاءٍ ومُطالبةُ مُعَيِّبِهِ بأرش نقصٍ مَعَ تَعَيُّبٍ في مسألة التعيب، لتعديهما على ملك الغير، ولا ينفسخ بتلفه بفعل آدمي بخلاف تلفه بفعله تعالى؛ لأنه لا مقتضى للضمان سوى حكم العقد بخلاف إتلاف الآدمي، فإنه يقتضي الضمان بالبدل إن أمضى العقد، وحكم العقد يقتضي الضمان بالثمن إن فسخ، فكانت الخيرة للمشتري بينهما، والتالف من مال بائع؛ لحديث: «نهى عن ربح ما لم يضمن». قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عنه، قال: هذا في الطعام وما أشبهه من مأكول ومشروب، فلا يبعه حتى يقبضه. فلو بيع أو أخذ بشفعة مبيع اشترى بثمن يتعلق به حق توفية من مكيل وموزون، ومعدود ومذروع، كما لو اشترى عبدًا أو شقصًا مشفوعًا بنحو صبرة بر على أنها عشرة أقفزة، ثم باع العبد، أو أخذ الشقص، ثم تلف الثمن وهو الصبرة بآفة قبل قبضه، انفسخ العقد الأول الواقع بالصبرة، لتلفها قبل قبضها، كما لو كانت مثمنًا دون العقد الثاني، ولم يبطل الأخذ بالشفعة لتمامه قبل فسخ الأول، وغرم المشتري الأول للعبد أو الشقص بالصبرة للبائع لهما قيمة المبيع الذي هو العبد أو الشقص، لتعذر رده عليه، وكذا لو أعتق عبدًا، أو أحبل أمة اشتراها بذلك، ثم تلف، وأخَذَ المشتري الأول من الشفيع مثل الطعام التَالف؛ لأنه ثمن الشقص ومَن اشترى العبدُ منه ما وقع عليه عقده، أو خلطه بما لا يتميز كَبُرٍ بِبُرٍ، وزيت بزيت، لم ينفسخ البيع بالخلط، لبقاء عينه والمشتري ومالك ما اختلط به المبيع شريكان في المختلط بقدر ملكيهما ولمشتر الخيار لِعَيْبِ الشركة.
وما عدا ما اشتري بكيل أو وزن، أو عد أو ذرع يصح التصرف فيه قبل قبضه؛ لما ورد عن ابن عمر قال: قلت: يا رسول الله، إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذا من هذا، وأعطي هذا من هذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا بأس أن تؤخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء» رواه الخمسة، وصححه الحاكم.
ووجه الدلالة منه أنه تصرف في الثمن قبل قبضه، وهو أحد العوضين، فدل على الجواز. ويعضده أنه –عليه السلام- اشترى من جابر جَمَلَه، فوهبه له قبل قبضه، واشترى - صلى الله عليه وسلم - ناقة فوهبها لعبد الله بن عمر قبل قبضها.
وعن أحمد رواية أخرى: لا يجوز بيع شيء قبل القبض، اختارها ابن عقيل، وروي ذلك عن ابن عباس، وهو قول أبي حنيفة والشافعي إلا أن أبا حنيفة اختار بيع العقار قبل قبضه؛ لما روى حكيم بن حزام قال: قلت: يا رسول الله، إني أشتري بيوعًا فما يحلي لي منها، وما يحرم عليَّ؟ قال: «إذا اشتريت شيئًا فلا تبعه حتى تقبضه» رواه أحمد. إلا المبيع بصفة أو رؤية متقدمة؛ لحديث: «الخراج بالضمان» وهذا المبيع ربحه للمشتري، فضمانه عليه إلا أن منع المشتري البائعُ من قبضه، فعليه ضمانه، كغاصب، أو كان المبيع ثمرًا على شجر على ما يأتي، أو كان مبيعًا بصفة أو رؤية متقدمة، فتلفه من ضمان بائع؛ لأنه يتعلق به حق توفية، أشبه ما لو اشترى بنحو كيل.
وما لا يصح تصرف مشتر فيه، كمبيع بنحو كيل أو بصفة أو رؤية متقدمة ينفسخ العقد بتلفه بآفة قبل قبضه، لما تقدم. وإن تلف بفعل آدمي فعلى ما سبق، وثمن ليس في ذمة وهو المعين، كمثمن في حكمه السابق، فلو اشترى شاة بشعير، فأكلته قبل قبضه؛ فإن لم تكن بيد أحد، انفسخ البيع، وإن كانت بيد بائع، فكقبضه، وإن كانت بيد مشتر، أو أجنبي خير بائع كما مر، وما في الذمة من ثمن ومثمن له أخذ بدله إن تلف قبل قبضه، ويصح بيعه وهبته لمن هو عليه غير سلم، ويأتي لاستقراره في ذمته.
وحكم كل عوض ملك بعقد موصوف بأنه ينفسخ بهلاكه العوض قبل قبضه، كأجرة معينة في إجارة وعوض معين في صلح بمعنى بيع ونحوهما، كعوض معين بشرط في هبة حُكْمُ عِوَضٍ في بيع في جواز التصرف إن لم يحتج لحق توفية، ولم يكن بصفة أو رؤية متقدمة، وفي منع التصرف فيما يحتاج لحق توفية، أو كان بصفة أو رؤية متقدمة، وكذا حكم عوض لا ينفسخ عقده بهلاكه قبل قبضه، كعوض خلع وعتق، وكمهر، ومصالح به عن دم عَمد، وأرش جناية، وقيمة متلف ونحوه، كعوض طلاق في جواز التصرف فيه قبل قبضه، ومنعه إلحاقًا له بعقد البيع؛ لكن يجب بتلف العوض الذي لا ينفسخ العقد بهلاكه مثله إن كان مثليًا أو قيمته إن كان متقومًا لبقاء العقد، وتعذر تسليمه، ولو تعين ملك جائز التصرف في موروث أو وصية أو غنيمة، فله التصرف فيه قبل قبضه، لتمام ملكه عليه، وعدم توهم غرر الفسخ فيه، وكذا وديعة، ومال شركة وعارية، فيجوز التصرف فيها قبل قبضها لما تقدم، وما قبضه شرط لبقاء صحة عقده، كصرف ورأس مال سلم لا يصح تصرفه فيه قبل قبضه؛ لأن ملكه عليه غير تام، أشبه ملك غيره، ويحرم ولا يصح تصرف في مقبوض بعقد فاسد؛ لأن وجوده كعدمه، فلا ينتقل الملك فيه، ويضمن هو وزيادته من ولد وثمرة وكسب وغيرها.

من النظم مما يتعلق في حكم قبض المبيع والتصرف فيه
وسبعة أشيا القبض شرط لزومها ... هبات وقرض ثم مال الربا اعدد
ورهن وأثمان الذي فيه أسلموا ... ولا ملك قبل القبض في ذي لقصد
وللمشتري بعد انقضاءٍ لمدة ... التَّخَيُّرْ بلا فسخ تصرف مقصد
وذلك في العين المميز مطلقًا ... في الأولى وبعد القبض في غيره قد
وقبض الذي بالكيل بعت بكيله ... وموزونه وزنًا ومعدوده اعدد
ومذروعه ذرعًا وكل تصرف ... بذا قبل تسليم بما قيل فاردد
ولو كان ما قد بعته من معين ... كمد كذا من صبرة عينت طد
وما علما مقداره جاز قبضه ... جزافًا وفي المكيال قولين أسند
وما شرطه التقبيض إن يتْو قَبل ... بالسماوي فممن باع والبيع فسد
وما بعضه يتوى وَهَي فيه قدره ... وللمشتري التخيير في سالم قد
وإن يختلط مِن غير مَيْزٍ بغيره ... وَهَي العقد في الوجه الصحيح المجود
وإن بائع أراده أو غيره فللذي ... ابتاع فسخ وارتجاع المنقد
إن يشأ الإمضا وقيمة متلف ... أو المثل في المثلي في مال مفسد
وما ابتعته بالوصف أو ماض رؤية ... فمثل مكيل والموزَّنَ فاعدد
وإن يتو ما قد بعت منه مقدرًا ... سوى قدره فالسالم المشتري قد
ككر وعنه كالإما عين صبرة ... وكالقبض أتوى المشتري مشتر طد
فمن يشتر المطعوم يا صاح صبرة ... فمن قبل قبض لا يبعه بأوكد
وإن تشر أثمارًا صلاحها مبتدي ... فبعها إن تشا من قبل قطع بأوطد
وقيل إن توى من قبل قبض مقدر ... فمن بائع والغير من مشتر طد
وغير الذي سقناه من قبل قبضه ... التصرف فيه جائز في المؤكَّد
وإتلافه من مال مبتاعه وما ... مُلكْ بنكاح أو عتاقه أعبد
وخذ مثل مثلي وقيمة متلف ... سواه وما عقدًا لهذا بمفسد
وما حزته الإرث أو بوصية ... إذا شئت قبل القبض بع لم تصدد
وتضمن مقبوضًا لعرض مثمنًا ... وما لم يثمن أو يساوم بأبعد
وما قبضه شرط لصحة عقده ... كصرف فلا تصرفَّن قبل يفسد
ولا يملك المقبوض في فاسد ولا ... تصرفه فيه حلال لمهتد
ومع أجر نفع أدّ قيمة تالف ... ونقص وما ينمي بوجهين أسند
ولا حد بل مهر وأرش بكارة ... بوطء الإما والولد حر لمولِدِ
بقيمة إن يبد حيًا وميتًا ... ليلغ وإن يهلك بضربة معتدي
فغرة الزمه كمالك أمه ... كقيمته منها وتوريث أزيد



المجلد الرابع 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 6:27 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المجلد الرابع Empty
مُساهمةموضوع: رد: المجلد الرابع   المجلد الرابع Emptyالأحد 15 نوفمبر 2015, 6:54 am

فصل في قبض المبيع
س39: بم يحصل قبض ما بيع بكيل أو نحوه؟, وما الذي يشترط لذلك؟ وتكلم عن وعاء المستحق، وزلزلة الكيل، وقبض وكيل من نفسه لنفسه، وإذا وجد قابض زائدًا أو ناقصًا، أو أذن لغريمه في الصدقة بدينه عنه، أو قال: تصدق عني بكذا، أو أتلف المبيع مشتر، أو متهب لعين موهوبة أو غصب بائع ثمنًا، أو أخذه بلا إذن، فما الحكم؟ وعلى من أجرة الكيال ونحوه؟ وبم يحصل قبض الصبرة؟ وما ينتقل وما يتناول؟ والأراضي والبناء والشجر، وما الذي يعتبر لقبض المشاع؟ وإذا امتنع الشريك عن شيء يجب عليه، أو سلم البائع المبيع بلا إذن الشريك فما الحكم؟ واذكر الدليل والتعليل، والضابط والتفصيل، ومثل لما يتضح إلا بالتمثيل، وتعرض للخلاف والترجيح.

ج: يحصل قبض ما بيع بكيل أو وزن، أو عد أو ذرع بالكيل والوزن، والعد والذرع؛ لحديث أحمد عن عثمان مرفوعًا: «إن بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل» رواه البخاري تعليقًا، وحديث: «إذا سميت الكيل فكل» رواه الأثرم. ولا يعتبر نقله بعد بشرط حضور مستحق الكيل ونحوه، لما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا ابتعت فاكتل» أو حضور نائب المستحق لقيامه مقامه.
وَوعَاه المستحق كيده؛ لأنهما لو تنازعا ما فيه كان لربه، فإذا وضع في وعائه بحضرته، فهو من ضمانه ولو لم يتناوله أو يحوله إلا إذا وضع في الوعاء بغير حضور مستحق أو نائبه؛ لأنه الحضور شرط، وتكره زلزلة الكيل، لاحتمال الزيادة على الواجب بها، وحملاً على العرف، وفي «الغاية»: ما لم يحصل بها زيادة محققة، فيحرم فعلها؛ لقوله تعالى: { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } [المطففين: 1]، ويصح قبض وكيل من نفسه لنفسه، بأن يكون لمدين وديعة عند رب الدين من جنسه، فيوكله في أخذ قدر حقه منها؛ لأنه يصح أن يوكله في البيع من نفسه، فصح أن يوكله في القبض منها إلا ما كان من غير جنس ماله، بأن كان الدين دنانير، والوديعة دراهم، فلا يأخذ منها عوض الدنانير؛ لأنه معاوضة تحتاج إلى عقد، ولم يوجد. ويستحق استنابةُ من عليه الحق للمستحق، بأن يقول من عليه حق لربه: اكتل من هذه الصبرة، ومتى وجد المقبوضَ قابضٌ زائدًا قدرًا لا يتغابن به عادة، أعلم القابضُ المُقَبِّض بالزيادة وجوبًا ولم يجب عليه الرد بلا طلب، وإن قبض المكيل ونحوه جزافًا ثقة بقول باذل: إنه قدر حقه، ولم يحضر كيله أو ووزنه، ثم أخبره ووجده ناقصًا، قبل قول القابض في قدر نقصه إن لم يخرج عن يده؛ لأنه منكر، فالقول قوله بيمينه إن لم تكن بينة وتلف، أو اختلفا في بقائه على حاله، وإن اتفقا على بقائه بحاله اعتبر بالكيل أو نحوه.
وإن صدقه قابض في قدر الكيل ونحوه، برئ مقبض من عهدته، فمتلفه على قابض، ولا تقبل دعوى نقصه بعد تصديقه، ولا يتصرف فيه قابض قبل اعتباره، لفساد القبض؛ لأن قبضه بكيله ونحوه مع حضور مستحقه أو نائبه ولم يوجد، ولو أذن رب دين لغريمه في الصدقة بدينه عنه، أو في صرفه أو الشراء به ونحوه، لم يصح الإذن، ولم يبرأ مدين بفعل ذلك؛ لأن الآذن لا يملك شيئًا مما يد غريمه إلا بقبضه ولم يوجد، فإذا تصدق، أو صرف، أو اشترى بما ميزه لذلك، فقد حصل بغير مال الآذن، فلم يبرأ به. ومن قال الآخر ولو لغريمه: تصدق عني بكذا، أو اشتر لي به ونحوه، ولم يقل: من ديني، صح؛ لأنه لا مانع منه، وكان قوله ذلك اقتراضًا من المأذون له، وتوكيلاً له في الصدقة ونحوها به؛ لكن يسقط من دين غريم أذن في ذلك بقدر المأذون فيه بالمقاصة بشرطها وإتلاف مشتر لمبيع ولو غير عمد قبض، وإتلاف متهب لعين موهوبة بإذن واهب قبض؛ لأنه ماله، وقد أتلفه، وليس غصب المشتري معيبًا داخلاً في ضمانه إلا بقبضه، ولا غصب موهوب له عينًا وهبت له قبضًا، فلا يصح تصرفه في ذلك لعدوانه، وكذا غصب بائع من مشتر ثمنًا بذمة، أو كان معينًا من نحو مكيل، كموزون قبل اعتباره، أو أخذ البائع الثمن من مال مشتر بلا إذن منه ليس قبضًا للثمن، بل غصب؛ لأن حقه لم
يتعين فيما قبضه، كغصب البائع ثمنًا غير معين إلا مع المقاصة، بأن أتلفه أو تلف بيده، وكان موافقًا لماله على المشتري نوعًا وقدرًا، فيتساقطان وكذا إذا رضي مشتر بجعله عوضًا عما عليه من الثمن.
وأجرَةُ كيَّال لمكيل، ووزَّان لموزونٍ، وعدَّادٍ لمعدودِ، وذراعٍ لمذروعٍ، ونقَّادٍ لمنقود قبل قبضها، ونحوهم كتفية ما يحتاج إليها على باذلٍ بائع أو غيره؛ لأنه تعلق به حق توفية، ولا تحصل إلا بذلك، أشبه السقي على بائع الثمرة، وأجرة نقل لمبيع منقول على آخذ؛ لأنه لا يتعلق به حق توفية؛ ولأنه من مصلحته. وأجرة دلال على بائع إلا مع شرط، ولا يَضمن ناقدٌ حاذقٌ أمين خطأ مُتبرعًا كان أو بأجرة؛ لأنه أمين. ويحصل قبض في صبرة بيعت جزافًا بنقل، وفي ما ينقل بنقل، وفي حيوان بتمشيته، وفيما يتناول كدنانير ودراهم وكتب بتناول باليد، وفي غير المذكور، كأرض وبناء وشجر بتخلية بائع بينه وبين مشتر بلا حائل، بأن يفتح له باب الدار، أو يسلمه مفتاحها ونحوه. ولو كان بالدار متاع بائع؛ لأن القبض مطلق في الشرع، فيرجع فيه إلى العرف كالحرز والتفرق؛ لكن يعتبر في قبض مشاع، فيرجع فيه إلى العرف كالحرز والتفرق؛ لكن يعتبر في قبض مشاع، كثلث ونصف مما ينقل، كنصف فرس أو بعير إذن شريكه؛ لأن قبضه نقله ولا يتأتى إلا بنقل حصة شريكه، والتصرف في مال الغير بغير إذنه حرام، فلو أبى الشريك الإذن في قبضه، وَكَّلَ مُشتر في قبضه، فإن أبى مشتر أن يوكل فيه، أو أبى الشريك، نَصَبَ حاكمٌ مَن يقبض لهما أمانة أو بأجرة، وأجرها عليهما مراعاة لحقهما، فلو سلمه بائع بلا إذن شريكه، فالبائع غاصب لحصة شريكه، لتعديه بتسليمها بلا إذنه، وقرار الضمان فيه إن تلف على البائع، لتغريره المشتري ما لم يعلم آخذ وهو المشتري أنَّ للبائع شريكًا لم يأذن في تسليم حصته؛ فإن علم فقرار الضمان عليه، وكذا إن جهل المشتري الشركة، أو علمها وجهل وجوب الإذن، ومثله يجهله، فقرار الضمان على البائع.

من النظم مما يتعلق في قبض المبيع
وقبضك في المنقول بالنقل والذي ... يُناول بالأيدي التناول باليد
فتمتع قبل النقل من بيع صبرة ... شريت وعنه بل يجوز فبعد
وفي حيوان مشيُه من مكانه ... وفي الأرض تمكينٌ بغير مصدد
وكل مبيع قبضه في رواية ... بتمكينه منه وتمييزه قد
وفي مال كلٍّ غرمُ إيفاء واجب ... لصاحبه تقبيضه منه فاشهد
وما ابتعته بالكر من صبرة متى ... تبعه فتتلف صبرة قبل مورد
فأول عقديك افسخن حسب واضمنن ... من ابتعته بالكر قيمته قد
وفسخ على المنصور رد إقالة ... أقل قبل قبض والشفيع ليطرد
ولا تتزيد فوق ما ابتعته به ... وعنه شرً فاعكس وفي وجه ازدد


س40: ما هي الإقالة؟ وما حكمها؟ وما دليلها؟ وهل هي فسخ أم بيع؟ وما الذي تصح به الإقالة، والذي تصح منه؟ وهل يعتبر لها شروط؟ وما هي الألفاظ التي تصح بها، وهل فيها خيار أو شفعة؟ وهل يحنث بها من حلف لا يبيع أو يبر من حلف ليبيعن؟ وضح جميع ما يتعلق بالإقالة وعلى من مؤنة رد مبيع تقايلاه؟ وهل تمنع رجوع أب في هبة؟ وما هي المسائل التي لا تصح معها الإقالة؟ وما حكمها من الوكيل ومؤجر الوقف؟ ولمن النماء الحاصل والكسب؟

ج: الإقالة: قال ابن سيده: الإقالة في البيع: نَقْضُه وإبطالُه، وقال الفارسي: معناه أنك رددت ما أخذت منه، وردَّ عليك ما أخذ منك، والأفصح أقالهُ إقالةً، ويقال: قاله بغير ألف.
إقالة النادم مستحبة؛ لما ورد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من أقال مسلمًا بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة» رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان في «صحيحه» واللفظ له، والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما، وفي رواية لابن حبان: «من أقال مسلمًا عثرته، أقال الله عثرته يوم القيامة». وفي رواية لأبي داود في «المراسيل»: «من أقال نادمًا أقال الله نفسه يوم القيامة»، وعن أبي شريح -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من أقال أخاه بيعًا أقال الله عثرته يوم القيامة» رواه الطبراني في «الأوسط».
والإقالة: فسخ العقد لا بيع؛ لأنها عبارة عن الرفع والإزالة بدليل جوازها في السلم مع إجماعهم على المنع من بيعه قبل قبضه، فتصح الإقالة قبل قبض ما بيع من نحو مكيل، كموزون ومعدود ومذروع، ومبيع في ذمة، أو بصفة، أو رؤية متقدمة. وفي سلم قبل قبضه، وبعد نداء الجمعة، كسائر الفسوخ. وتصح الإقالة من مضارب وشريك ولو بلا إذن رب المال، والشريك الآخر، وتصح من مفلس بعد حجر الحاكم عليه، ومن ناظر وقف، ومن ولي يتيم لمصلحة فيهن؛ لأنها مطلوبة شرعًا، ومن وكل في بيع فباع، لم يملك الإقالة بغير إذن موكله، أو وكل في شراء، فاشترى، لم يملك الإقالة بغير إذن الموكل؛ لأنه لم يوكل في الفسخ، وتصح الإقالة في الإجارة، كما تصح في البيع، وتصح الإقالة من مؤجر وقف إن كان الاستحقاق له كله؛ لأنه كالمالك له، قال في «شرح الإقناع»: وظاهره إن كان الاستحقاق مشتركًا أو لمعين غيره، أو كان الوقف على جهة، لم تصح الإقالة، وعمل الناس على خلافه، وفي «الفروع»: في الحج من استُؤجر عن ميت يعني ليحج عنه إن قلنا: تصح الإجارة، فهل تصح الإقالة؛ لأن الحق للميت؟ يتوجه احتمالان، قال في «تصحيح الفروع»: الصواب الجواز؛ لأنه قائم مقامه، فهو كالشريك والمضارب. اهـ. وتصح الإقالة بلا شروط بيع من معرفة المقال فيه، ومن القدرة على تسليمه وتمييزه عن غير، كما يصح الفسخ لخيار مع عدم ذلك، وتصح الإقالة بلفظها، وبلفظ صلح، وبلفظ بيع، وبما يدل على معاطاة؛ لأن القصد المعنى، فيكتفي بما أداه كالبيع، ولا خيار في الإقالة لا لمجلس ولا غيره؛ لأنها فسخ والفسخ لا يفسخ، ولا شفعة فيها، كالرد بالعيب، ولا يحنث بها من حلف لا يبيع؛ لأنها فسخ، ولا يبر بها من حلف ليَبيعَنَّ. وتصح مع تلف ثمن لا مع تلف مبيع، لتعذر الرد فيه، ولا تصح مع موت المتعاقدين أو أحدهما، ولا تصح بزيادة على الثمن المعقود به، أو مع نقصه، أو بغير جنسه؛ لأن مقتضى الإقالة رد الأمر إلى ما كان عليه ورجوع كل منهما إلى ما كان له، والملك باق للمشتري؛ أنه شرط التفاضل فيما يعتبر فيه التماثل، فبطل، كبيع درهم بدرهمين، وإن طلب أحدهما الإقالة، وأبى الآخر، فاستأنفا بيعًا، جاز بزيادة عن الثمن الأول، ونقص عن الثمن الأول، وبغير جنسه، والفسخ بالإقالة أو غيرها رفع عقد من حين فسخ، لا من أصله كالخلع والطلاق، فما حصل من كسب ونماء منفصل، فللمشتري؛ لحديث: «الخراج بالضمان» ولا ينفذ حكم حاكم بصحة عقد بيع فاسد بعد تقايل، لحصول فسخ العقد وارتفاعه، فلم يبق ما يحكم به.

باب الربا والصرف
س41: ما هو الربا؟ وما حكمه؟ وما دليله؟ وما هي أنواعه؟



ج: الربا مقصور، وأصله: الزيادة، قال الجوهري: رَبَا الشيءُ يَربُو رُبوًا: إذا زاد، قال الله تعالى: {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج: 5] أي: علت وارتفعت.
وقال: {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل: 92]. أي أكثر.
وقال تعالى: {فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ} [الروم: 39]. أي: لا يزيد.
وهو محرم بالكتاب والسُّنة والإجماع، قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 275].
ثم قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 278].
وأما الأدلة من السُّنة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» وذكر منها: «أكل الربا» متفق عليه. وعن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه» رواه الخمسة، وصححه الترمذي، غير أن لفظ النسائي: آكل الربا وموكله، وشاهداه، وكاتبه إذا علموا ذلك ملعونون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة»، وعن عبد الله بن الحنظلية غسيل الملائكة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشدُّ من ست وثلاثين زَنيَة» رواه أحمد. وعن جابر - رضي الله عنه - قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه»، وقال: «هم سواءٌ» رواه مسلم. وعن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «رأيت الليلة رجلين أتياني، فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه ورجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمي الرجل بحجر في فيه، فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى فيه بحجر، فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟ فقال: الذي رأيه في النهر آكل الربا» رواه البخاري في «صحيحه».
وأجمعت الأمة على أن الربا محرم، وهو من الكبائر، لعده -صلى الله عليه وسلم- له في السبع الموبقات.
وهو شرعًا: تفاضل في أشياء، كمكيل بجنسه، أو موزون بجنسه، ونساء في أشياء كمكيل بمكيل، وموزون ولو من غير جنسه مختص بأشياء، وهي المكيلات والموزونات ورد الشرع بتحريم الربا فيها. وهو نوعان ربا فضل وربا نسيئة.

س42: تكلم بوضوح عما يجري فيه الربا وما لا يجري فيه، واذكر ما تستحضره من دليل أو تعليل، ومثل لما لا يتضح إلا بالتمثيل، واذكر ما في ذلك من خلاف.

ج: يحرم ربا الفضل في كل مكيل بيع بجنسه، وفي كل موزون بيع بجنسه، لعدم التماثل؛ لما روى عبادة بن الصامت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرُّ بالبُّرِّ، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مِثْلاً بمثل يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم يدًا بيد» رواه أحمد ومسلم. وعن أبي سعيد مرفوعًا: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مِثْلاً بمثل، يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد، فقد أربى، الآخذ والمعطي سواء» رواه أحمد والبخاري.
واختلف في العلة التي لأجلها حرم الربا في هذه الأصناف الستة، فالأشهر عن الإمام وعامة الأصحاب أن علة الربا في النقدين كونهما موزوني جنس، وفي الأعيان الباقية كونها مكيلات جنس، فيجري الربا في كل مكيل أو موزون بجنسه مطوعًا، كان أو غير مطعوم، وبذلك قال أبو حنيفة؛ لحديث عبادة المتقدم؛ ولحديث أبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلاً على خيبر، فجاءهم بتمر جنيب، فقال: «أكل تمر خيبر هكذا؟» قال: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، فقال: «لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا»، وقال: «في الميزان مثل ذلك» متفق عليه.
قال في «شرح المنتقى» على الحديث: وقال المصنف –رحمه الله-: وهو حجة في جريان الربا في الموزونات كلها؛ لأن قوله: «في الميزان»، أي: في الموزون، وإلا فنفس الميزان ليست من أموال الربا. انتهى. وقد ترجم البيهقي لحديث أبي سعيد: باب من قال بجريان الربا في كل ما يُكال ويُوزن، وفي كتاب «رحمة الأمة»: الأعيان المنصوص على تحريم الربا فيها بالإجماع ستة، هي: الذهب والفضة، والبر والشعير، والتمر والملح، فالذهب والفضة يحرم فيها الربا عند الشافعي بعلة واحدة لازمة، وهي أنهما من جنس الأثمان، وقال أبو حنيفة: العلة فيهما جنس موزون، فيحرم الربا في سائر الموزونات؛ وأما الأربعة الباقية، ففي علتها للشافعي قولان الجديد أنها مطعومة، فيحرم الربا في الأدهان، والماء على الأصح والقديم أنها مطعومة أو مكيلة أو موزونة. وقال أهل الظاهر: الربا غير معلل، وهو مختص بالنصوص عليه، وقال أبو حنيفة: العلة فيها أنها مكيلة في جنس، وقال مالك: العلة القوة، وما يصلح للقوت في جنس مدخر، وعن أحمد روايتان، إحداهما كقول الشافعي، والثانية كقول أبي حنيفة، وقال ربيعة: كل ما يجب فيه الزكاة يحرم فيه الربا. اهـ. وقال الشيخ تقي الدين: العلة في تحريم ربا الفضل الكيل أو الوزن مع الطعم، ورجح ابن القيم في كتابه «الإعلام» من هذه الأقوال قول الإمام مالك. اهـ. وإنما جعل العلة ما ذكر؛ لأن أخص أوصاف الأربعة المذكورة،



ونظم بعض المالكية ما فيه ربا النساء وربا الفضل عند مالك في بيتين، وهما:
رباء نسا في النقد حَرِّمْ ومِثْلُهُ ... طعامٌ وإن جنساهما قد تعددا
وخُصَّ ربا فضل بنقدٍ ومثلُه ... طعامُ الربا إن جنس كلٍ تّوحدا

والأشياء التي لا ربا فيها:
1- الماء لإباحته أصلاً، وعدم تموله عادة.
2- ما لا يوزن، لصناعة كأسطال، ومعمول من حديد كسكاكين، ومعمول من قطن كثياب، ومعمول من حرير وصُوف، وشعر وَوَبَر، فيجوز بيع سكين بسكينين وإبرة بإبرتين ونحوه، وكذا فلس بفلسين، ولا ربا في مطعوم لا يكال ولا يوزن، كالبطيخ والجوز، والقثاء والخيار، والبيض والرمان، والتفاح؛ لما روى سعيد بن المسيب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا ربا إلا فيما كيل، أو وزن مما يؤكل أو يشرب» أخرجه الدارقطني، وقال: الصحيح أنه من قوله، ومن رفعه فقد وهم.
ولا الأوني لخروجها عن الكيل والوزن، ولعدم النص والإجماع، وهو قول الثوري، وأبي حنيفة، وأكثر أهل العلم، وهذا هو الصحيح، قاله في «الشرح» من غير ذهب وفضة فيجري فيهما للنص عليهما.
وجَيِّدُ الربوي ورديئه، وتبره ومضروبه، وصحيحه ومكسوره في جواز البيع متماثلاً، وتحريمه متفاضلاً سَوَاءٌ إلا بمثله وزنًا سواء ماثله في الصناعة أو لا؛ لعموم الخبر، وجَوَّز الشيخ بيع مصنوع مباح الاستعمال، كخاتم ونحوه بيع بجنسه بقيمته حالاً جعلاً للزائد عن وزن الخاتم في مقابلة الصنعة، فهو كالأجرة، وكذا جوزه، أي: بيع الخاتم بجنسه بقميته نساء ما لم يقصد كونهما ثمنًا؛ فإن قصد ذلك، لم يجز للنساء، وفي «الاختيارات الفقهية»: وما خرج عن القوت بالصنعة، فليس بربوي ولا بجنس نفسه، فَيباع خبز بهريسة، وزيت بزيتون، وسمسم بشيرج. اهـ. والمذهب ما يأتي أنه لا يصح.
وفي «المغني» و«الشرح»: وإن قال للصائغ: صغ لي خاتمًا وزنه درهم، وأعطيك مثل زنته وأجرتك درهمان، فليس ذلك بيع درهم بدرهمين، قال أصحابنا: وللصائغ أخذ الدرهمين أحدهما في مقابلة فضة الخاتم، والآخر أجرة له في نظير عمله، وجزم بمعناه في «المنتهى».

الجنس والنوع وأمثلة لما يصح بيعه
س43: تكلم بوضوح عما يلي: الجنس، النوع، وهل يكون النوع جنسًا والجنسُ نوعًا؟ بيع صبرة بجنسها بيع حب جيد بخفيف أو مسوس. بيع مكيل بجنسه وزنًا، أو موزون بجنسه كيلاً. حكم البيع إذا اختلف الجنس. بيع لحم بمثله. بيع عسل بمثله، بيع فرع معه غيره لمصلحته. بيع فرع بأصله. ومثل لما لا يتضح إلا بالتمثيل، واذكر الدليل والتعليل والخلاف والترجيح، وجميع ما يتعلق بما ذكر من المسائل.

ج: الجنس ما شمل أنواعًا، أي أشياء مختلفة بالحقيقة، والنوع: ما شمل أشياء مختلفة بالشخص، وقد يكون النوع جنسًا باعتبار ما تحته، والجنس نوعًا باعتبار ما فوقه.
ويصح بيع صبرة من مكيل بصبرة من جنسهان كصبرة تمر بصُبْرة تمر إن علما كيلهما وتساويهما كيلاً، لوجود الشرط وهو التماثل، أو لم يعلما كيلهما ولا تساويهما وتبايعاهما مثلاً بمثل، فكيلتا فكانتا سواء لوجود التماثل، وإن نقصت إحداهما عن الأخرى بطل؛ لكن إن بيعت صبرة من بر بصبرة من شعير مثلاً بمثل، فكيلتا فزادت إحداهما، فالخيار. قال في «الفروع»: واختار شيخنا في «الاعتصام بالكتاب والسُّنة» ما ذكره عن مالك أنه يجوز بيع الموزونات الربوية بالتحري للحاجة. انتهى.
ويصح بيع حب جيد بحب خفيف من جنسه إن تساويا كيلاً؛ لأنه معيارهما الشرعي، ولا يؤثر اختلاف القيمة. ولا يصح بيع حب بحب مسوس من جنسه؛ لأنه لا طريق إلى العلم بالتماثل، والجهل به كالعلم بالتفاضل.
ولا يصح بيع مكيل كتمر وبر وشعير بجنسه وزنًا، كرطل تمر برطل تمر، ولا بيع موزون كذهب وفضة بجنسه كيلاً؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «الذهب بالذهب وزنًا بوزن، والفضة بالفضة وزنًا بوزن، والبر بالبر كيلاً بكيل، والشعير بالشعير كيلاً بكيل» رواه الأثرم. ولأنه لا يحصل العمل بالتساوي مع مخالفة المعيار الشرعي، للتفاوت في الثقل والخفة؛ فإن كيل المكيل، أو وزن الموزون فكانا سواءن صح البيع للعلم بالتماثل. قال في «الفائق»: قال شيخنا –ويعني به الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى-: إن بيع المكيل بشيء من جنسه وزنًا ساغ. وقال في «الفروع»: ويتوجه من جواز بيع حب بدقيقه وسويقه جواز بيع مكيل وزنًا وموزون كيلاً، اختاره شيخنا.
وقال في «الاختيارات الفقهية»: وما لا يختلف فيه الكيل والوزن مثل الأدهان يجوز بيع بعضه ببعض كيلاً ووزنًا. وعن أحمد ما يدل عليه. اهـ.
ويصح البيع إذا اختلف الجنس، كتمر ببر كيلاً، ولو كان المبيع موزونًا، ووزنًا، ولو كان المبيع مكيلاً، وجزافًا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا اختلفت هذه الأشياء فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد» رواه مسلم وأبو داود؛ ولأنهما جنسان يجوز التفاضل بينهما، فجاز جزافًا، وحديث جابر في النهي عن بيع الصبرة بالصبرة من الطعام لا يدري ما كيل هذه، وما كيل هذه. محمول على الجنس الواحد، جمعًا بين الأدلة.
ويصح بيع لحم بمثله وزنًا من جنسه، رطبًا ويابسًا إذا نزع عظمه؛ فإن بيع يابس من برطبه لم يصح، لعدم التماثل، أو لم ينزع عظمه لم يصح، للجهل بالتساوي، ويصح بيع لحم بحيوان من غير جنسه. هذا أحد وجهين، وهو المذهب، وبه قال مالك؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا اختلفت هذه الأشياء فبيعوا كيف شئتم» ولأنه ليس أصله ولا جنسه، فجاز كما لو بيع بغير مأكول. والوجه الثاني: لا يجوز، وهو قول الشافعي؛ لحديث: «نهى عن بيع الحي بالميت» ذكره أحمد واحتج به، وقال الشيخ تقي الدين: يحرم به لنسيئة عند جمهور الفقهاء، قاله في «الفروع».
ولا يصح بيع لحم بحيوان من جنسه؛ لما روى مالك عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع اللحم بالحيوان»، قال ابن عبد البر: هذا أحسن أسانيده. وورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «نهى أن يباع حَيُّ بميت» ذكره الإمام أحمد. وروى البيهقي عن الحسن عن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن بيع الشاة باللحم»، وقال البيهقي بعد سياقه: هذا إسناده صحيح؛ ولأن مال ربوي بيع بما فيه من جنسه مع جهالة المقدار، وهذا مذهب مالك والشافعي، وقول الفقهاء السبعة.
وحكي عن مالك أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان معد للحم، ويجوزه بغيره. وقال ابن القيم: وأما إذا كان الحيوان غير مقصود به اللحم، كما إذا كان غير مأكول، أو مأكولاً لا يقصد لحمه، كالفرس تباع بلحم إبل، فذا لا يحرم بيعه به. وقال أبو حنيفة: يجوز مطلقًا؛ لأنه باع مال الربا بما لا ربا فيه، أشبه بيع الحيوان بالدراهم، أو بلحم من غير جنسه، ويجوز بيع لحم بحيوان غير مأكول، كبغل وحمار.
ويصح بيع عسل بمثله كيلاً إذا صُفِّيَ كل منهما من شمعه، وإلا لم يصح، لما سبق، إن اتحد الجنس، وإلا جاز التفاضل، كعسل قصب بعسل نحل.
ويصح بيع فرع من جنس مع فرع غيره لمصلحته كجبن؛ فإن فيه ملحًا لمصلحته أو منفردًا ليس معه غيره، كجبن بجبن متماثلاً وزنًا، وكسمن بسمن متماثلاً كيلاً إن كان مائعًا، وإلا فوزنًا. ويصح بيع فرع معه غيره لمصلحته، أو لا بفرع غيره، كزبد بمخيض ولو متفاضلاً، كرطل زبد برطلي مخيض لاختلافهما جنسًا بعد الانفصال، وإن كانا جنسًا واحدًا ما دام الاتصال بأصل الخلقة، كالتمر ونواه، إلا مثل زبد بسمن، فلا يصح بيعه به لاستخراجه منه.
ولا يصح بيع نوع معه شيء ليس لمصلحته، ككشك بنوعه؛ لأنه كمسألة مدّ عجوة ودرهم، ولا بيع فرع معه غيره لغير مصلحته بفرع غيره، ككشك بجبن أو بهريسة، لعدم إمكان التماثل، ولا بيع فرع بأصله، كأقط أو زبد أو سمن أو مخيض بلبن لاستخراجه منه، أشبه بيع لحم بحيوان من جنسه، ولا يصح بين نوع مسته النار، كخبز شعير بنوعه الذي لم تمسه النار كعجين شعير، لذهاب النار ببعض رطوبة أحدهما، فيجهل بالتساوي بينهما.

من النظم مما يتعلق بالربا
فإيَّاك إيَّاك الربا فلدرهم ... أشد عقابًا من زناك بنهد
وتمحق أموال الربا وإن نمت ... ويربو قليل الحل في صدق موعد
وفي بلد الإسلام يحرم مطلقًا ... وفي دار حرب ما خلا بين مهتد
ومن ذوي حرب ولا أمن بينهم ... كخدعة حربٍ حصلت نيل مقصد
ويختص موزون وما كيل إن بيع ... بجنس ولو نزرًا رباء التزيد
وعنه بجنس الطعم أو ثمنية ... وعنه إن يكل مطعومك أو يوزنن قد
فمطعوم وزن أو مكيل بجنسه ... ربا ومنافيه أبح لا تردد
وما هجر المعيار فيه لصنعة ... فما من ربا فيه على المتأكد
وسيان في الحكم الصحيح وضده ... وتبر ومضروب وما جادوا الردي
وبيعك أموال الربا بعصيرها ... كزيت بزيتون حرام فأبعد
وما لم يجز فيه التفاضل فاحظر ... النسا فيه حتمًا دون خلف تسدَّدِ
وما أصله كيل أو الوزن لم يبع ... بأجناسه إلا بعرف مُقَيْدِ
وعند اختلاف الجنس بع كيف شئته ... جزافًا وكيلاً أو بوزن محدّد

... حلول وتقبيض بمجلس معقد
وشرط شرا كيل ووزن بمثله ... فلوسًا بها الشرطين ألْزِمْ بأوطدِ
سوى عَرْضٍ وَزْنٍ بالنقودِ وصارفٍ ... وموزونهم أو ذا بذا حال معقدِ
وليس بشرط قبض غير مكيلهم ... الأصح وعنه أحظر بجنس موحد
وما جاز فيه الفضل جاز النساء في ... وعنه على الإطلاق دُوْنَ تَقّيُّدِ

وعنه إذا ما بعته متفاضلاً

الجنس وفروعه
س44: تكلم بوضوح عن الجنس وفروعه، ومثل له، واذكر حكم ما إذا بيع دقيق الربوي دقيقه، أو مطبوخه بمطبوخه، أو عصيره بعصيره، أو رطبه برطبه، أو منزوع النوى بما فيه النوى، أو بيع منزوع نواه مع نواه بما فيه نواه، أو ما فيه النوى بما ليس فيه، أو حب بدقيق أو خبز حبه أو دقيقه أو سويقه، أو نيء الربوي بنيئه، أو أصله بعصيره، أو خالصه بمشوبه أو رطبه بيابسه. واذكر ما تستحضره من دليل أو تعليل أو خلاف.

ج: تقدم تعريف الجنس، وأنه ما شمل أشياء مختلفة كالذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح، وفروع الأجناس أجناس كالأدقة والأخباز، والأدهان والخلول ونحوها، فدقيق البر جنس، وخبزه جنس، ودقيق الشعير جنس، وخبزه جنس، وهكذا واللحم واللبن والجبن والسمن أجناس باختلاف أصولها، فلحم الإبل جنس، ولبنها جنس، ولحم البقر والجواميس جنس، ولحم الضأن والمعز جنس ولبنها جنس، وهكذا سائر الحيوانات، فيجوز بيع رطل لحم ضأن برطلي لحم بقر.
والشحم والمخ والألية والقلب والطحال والرئة والكلية والكبد والأكارع أجناس، فيجوز بيع رطل شحم برطلي مخ، وهو ما يخرج من العظام، أو برطلي ألية مطلقًا؛ لأنهما جنسان، ويصح بيع دقيق ربوي كدقيق ذرة بدقيقه مثلاً بمثل إذا استويا في النعومة، لتساويهما على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقص، فجاز كبيع التمر؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث عبادة المتقدم: «مثلاً بمثل سواء بسواء»، وهذا قول أبي حنيفة ومالك. وقال الشافعي: لا يجوز؛ لأنه يعتبر تساويهما حالة الكمال، وهو حال كونهما حبًا، وقد فات ذلك؛ لأن أحد الدقيقين يكون من حنطة رزينة، والآخر من خفيفة، فيستويان دقيقًا ولا يستويان حبًا.
ويصح بيع مطبوخ الربوي بمطبوخه من جنسه، كرطل سمن بقري برطل منه مثلاً بمثل.
ويصح بيع خبزه بخبزه، كخبز بر بخبز بر مثلاً بمثل، إذا استويا نشافًا أو رطوبةً، لا إن اختلفا. ويصح بيع عصيره بعصيره، كمد ماء عنب بمثله، ويصح بيع رطبه برطبه، كرطب برطب وعنب بعنب مثلاً بمثل. ويصح بيع منزوع نواه من تمر وزبيب بمنزوع النوى من جنسه مثلاً بمثل، كما لو كانا مع نواهما.
ولا يصح يع منزوع نواه مع نواه، بمنزوع النوى مع نواه، لزوال التبعية فهي كمسألة مد عجوة ودرهم، ولا يباع تمر بلا نوى بتمر فيه النوى، لاشتمال أحدهما على ما ليس من جنسه، ويصح بيع نوى بتمر فيه نوى، ولا يصح حب من بر و ذرة ونحوها بدقيقة أو سويقه لانتشار أجزاء الحب بالطحن، فيتعذر التساوي، ولأخذ النار من السويق، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك: يجوز بيع الحب بدقيقه، ولا يصح بيع خبز بحبه أو دقيقه أو سويقه للجهل بالتساوي؛ لما في الخبز من الماء، ولا بيع نيء الربوي بمطبوخه، كلحم نيء بلحم مطبوخ، لأخذ النار من المطبوخ، ولا يجوز بيع أصله بعصيره، كدبس بتمر، أو زيت بزيتون، لعدم التساوي، واختار ابن القيم في كتابه «الإعلام» الجواز، وهو اختيار الشيخ تقي الدين.
ولا يصح بيع خالص الربوب بمشوبه، لانتفاء التساوي والجهل به، ولا بيع رطبه بيابسه، كبيع الرطب بالتمر والعنب بالزبيب والحنطة المبلولة أو الرطبة باليابسة، وبه قال مالك والشافعي وصاحبا أبي حنيفة؛ لحديث سعد بن أبي وقاص أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سُئل عن بيع الرطب بالتمر، قال: «أينقص الرطبُ إذا يبس؟» قالوا: نعم، «فنهى عن ذلك» رواه الخمسة، ومالك والشافعي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي، وصححه الترمذي، وتفرد أبو حنيفة بتجويز بيع رطبه بيابسه كيلاً.

المحاقلة والمزابنة والعرايا
س45: تكلم بوضوح عن المحاقلة، والمزابنة، والعرايا، واذكر ما تستحضرهُ من شروط وأمثلة وتفاصيل ومحترزات، وما يعتبر وما لا يعتبر، وحكم ما إذا ترك العرية حتى أثمرَت، واذكر الدليل والتعليل والخلاف.

ج: المحاقلة: مفاعلة من الحقل، وهو: الزرع إذا تشعب قبل أن يغلظ سوقه، وقيل: الحقل: الأرض التي تزرع. قال صاحب «المطالع»: المحاقلة: كراء الأرض بالحنطة، أو كراؤها بجزء مما يخرج منها، وقيل: بيع الزرع قبل طيبه، أو بيعه في سنبله بالبر، وهو من الحقل، وهو الفدان، والمحاقل: المزارع، وفي عرف الفقهاء: هي بيع الحب المشتد في سنبله بجنسه. والمزابنة: مفاعلة من الزبن، وهو الدفع، كان كل واحد منهما يَزْبِنُ صاحبه عن حقه بما يزداد منه. قال صاحب «المطالع»: المزابنة والزبن: بيع معلوم بمجهول من جنسه، أو بيع مجهول بمجهول من جنسه من الزبن مأخوذ، وهو الدفع. وقيل: بيع الزرع بالحنطة وبكل ثمر يخرصه، وفسرها ابن الأثير ببيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر؛ وأما العرايا فهي جمع عَرِيَّة، فعيلة بمعنى مفعولة، وهي في اللغة: كل شيء أفرد من جملة وإنما دخلت فيها الهاء؛ لأنها أفردت فصارت في أعداد الأسماء، مثل النطيحة والأكيلة، ولو جئت بها مع النخلة، قلت: نخلة عري.

قال الشاعر:
ليست بِسنْهَاءَ ولا رُجَّبِيَّة ... ولكن عرايا في السنين الجوائحِ

قال أبو عبيد: من عراه يعريه: إذا قصده، ويحتمل أن يكون فعيلة بمعنى فاعلة، من عَرِي يَعْرَى إذا خلع ثيابهن كأنها عريت من جملة التحريم، أي: خرجت، وقال ابن عقيل: هي في الشرع بيع رُطب في رؤوس نخلة بتمر كيلاً.
ولا يصح بيع المحاقلة؛ لما ورد عن جابر - رضي الله عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، وعن الثنيا إلا أن تعلم» رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وصححه الترمذي، وعن أنس رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة، والمخاضرة، والملامسة، والمنابذة، والمزابنة» رواه البخاري.
لأن الحب إذا بيع بجنسه لا يعلم مقداره بالكيل، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل؛ فإن لم يشتد الحب، وبيع ولو بجنسه لمالك الأرض أو بشرط القطع، صح إن انتفع به، ويصح بيع حب مشتدٍ في سنبله بغير جنسه من حب وغيره، كبيع بر مشتد في سنبله بشعير أو فضة، لعدم اشتراط التساوي، ولا يصح بيع المزابنة؛ لحديث جابر المتقدم، وحديث أنس المتقدم قريبًا وهو بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر إلا في العرايا.

وشروط بيع العرايا خمسة:
الأول: أن يكون دون خمسة أوسق؛ لما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المزابنة، والمزابنة: بيع الرطب بالتمر، ثم أرخص في العرية، وشك في الخمسة. فيبقى على العموم في التحريم؛ ولأن العرية رخصة بنيت على خلاف النص، والقياس فيما دون الخمسة، والخمسة مشكوك فيها، فلا تثبت باجتهاد مع الشك. وروى ابن المنذر بإسناده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرخص في بيع العرية في الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة. والتخصيص بهذا يدل على أنه لا يجوز الزيادة في العدد عليه. وقال ابن حبان: الاحتياط أن لا يزيد على الأربعة، قال الحافظ: يتعين المصير إليه. وقال مالك والشافعي في قول: يجوز في
الخمسة. ورواه إسماعيل بن سعيد عن أحمد؛ لأن في حديث
سهل وزيد أنه رخص في العرايا مطلقًا، ثم استثنى ما زاد على الخمسة، وشك الراوي في الخمسة، فبقي المشكوك فيه على أصل الإباحة.
الثاني: أن يكون مشتريها محتاجًا إلى أكلها رطبًا؛ لما روى محمود بن لبيد قال: قلت لزيد بن ثابت: ما عراياكم هذه؟ فسمى رجالاً محتاجين من الأنصار شَكَوْا إلى رسول الله أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطبًا يأكلونه، وعندهم فضول من التمر، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر يأكلونه رطبًا. متفق عليه.
الثالث: أن يشتريها بخرصها، للخبر؛ ولأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلاً. متفق عيه. ولا بد أن يكون التمر معلومًا بالكيل للخبر. وفي معنى الخرص روايتان، إحداهما: أن ينظر كما يجيء منها تمر، فيبيعها بمثله؛ لأنه يخرص في الزكاة كذلك. والثانية: يبيعها بمثل ما فيها من الرطب؛ لأن الأصل اعتبار المماثلة في الحال بالكيل، فإذا خولف الدليل في إحداهما، وأمكن أن لا يخالف في الآخر وجب، ولا يجوز بيعها برطب ولا تمر على نخل خرصًا.
الخامس: أن يتقابضا قبل تفرقهما؛ لأنه بيع تمر بتمر، فاعتبرت فيه أحكامه إلا ما استثناه الشرع مما لم يمكن اعتباره في العرايا، والقبض فيما على النخلة بالتخلية، وفي التمر باكتياله؛ فإن كان حاضرًا في المجلس اكتاله، وإن كان غائبًا مشيًا إلى التمر فتسلم، وإن قبضه أولاً ثم مشيا إلى النخلة فتسلمها جاز. وعلم مما تقدم أن الرطب لو كان مجذوذًا لم يجز بيعه بالتمر، للنهي عنه، والرخصة وردت في ذلك ليؤخذ شيئًا فشيئًا، لحاجة المشتري إلى التفكه، لا لحاجة البائع وإن المشتري إن لم يكن محتاجًا للرطب، أو كان محتاجًا إليه ومعه نقد، لم تصح، ولا يعتبر في العرية كونها موهوبة لبائع على المذهب، وإذا ترك العرية حتى أثمرت بطل البيع.



المجلد الرابع 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 6:28 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المجلد الرابع Empty
مُساهمةموضوع: رد: المجلد الرابع   المجلد الرابع Emptyالجمعة 20 نوفمبر 2015, 7:13 am

مسألة مد عجوة وحكم بيع العرايا في غير ثمن النخل
س46: تكلم بوضوح عما إذا باع رجل عرية من رجلين، أو اشترى إنسان عريتين فأكثر من رجلين، أو باع العرية لغني. وما هي مسألة مد عجوة؟ وما صورتها، وما حكمها، وما دليله؟ وهل يجوز بيع العرايا في غير ثمرة النخل؟ وما حكم الزيادة على القدر المأذون فيه؟ واذكر التوجيه، والدليل، والتعليل، والخلاف.

ج: لو باع رجل عرية من رجلين، فأكثر فيها أكثر من خمسة أوسق، جاز البيع حيث كان ما أخذه كل واحد دون خمسة، فلا ينفذ البيع في حق البائع بخمسة أوسق، بل ينفذ في حق المشتري، وإن اشترى إنسان عريتين فأكثر من رجلين فأكثر، وفيهما أقل من خمسة أوسق، جاز البيع لوجود شرطه، وإن كان فيهما خمسة أوسق فأكثر، لم يجز عند القائلين بجوازها فيما دون خمسة أوسق، كما هو المشهور من المذهب، وتقدم الخلاف، وأدلة كل من القولين في جواب السؤال الذي قبل هذا.
ولا يجوز بيع العرية لغني معه نقد يشتري به، لمفهوم ما تقدم، ولو باعها لواهبها تحرزًا من دخول صاحب العرية، أو من دخول غيره لا لحاجة الأكل، لم يجز لما سبق أو اشتراها بمثل خرصها رطبًا لم يجز لما سبق. ولو احتاج إنسان إلى أكثر التمر، ولا ثمن معه إلا الرطب، لم يبعه به، فلا تعتبر حاجة البائع؛ لأن الرخصة لا يقاس عليها.
وقال أبو بكر والمجد بجوازه، وهو بطريق التنبيه؛ لأنه إذا جاز مخالفة الأصل لحاجة التفكه، فلحاجة الاقتيات أولى، والقياس على الرخصة جائز إذا فهمت العلة، ولا يباع الرطب الذي على الأرض بتمر للنهي عنه كما سبق، ولا يجوز بيع العرايا في بقية الثمار؛ لحديث الترمذي عن سهل ورافع مرفوعًا: «نهى عن المزابنة بيع الثر بالتمر، إلا أصحاب العرايا، فإنه قد أذن لهم، وعن بيع العنب بالزبيب»؛ ولأن أصحاب العرايا رخصة، ولا يساويها غيرها في كثرة الاقتيات وسهولة الخرص.
قال في «الكافي»: وقال القاضي: يجوز في جميع الثمار؛ لأن حاجة الناس إلى رطبها كحاجتهم إلى الرطب. ويحتمل الجواز في التمر والعنب خاصة لتساويهما في وجوب الزكاة فيهما، وورد الشرع بخرصهما، وكونهما مقتاتين دون غيرهما. اهـ. وفي «الاختيارات الفقهية»: وتجوز العرايا في جميع العرايا والزرع، وخرج الشيخ من بيع العرايا جواز بيع الخبز الطري باليابس في برِيِّةِ الحجاز ونحوها، ذكره عنه في «الفائق» والزركشي، وزاد بيع الفضة الخالصة بالمغشوشة نظرًا للحاجة «إنصاف» ولا يصح بيع ربوي بجنسه، ومع أحدهما أو معهما، أي: الثمن والمثمن من غير جنسهما، كمد عجوة ودرهم بمثلهما أو بمدين من عجوة أو بدرهمين، وتسمى مسألة: مد عجوة ودرهم، ودليلها حديث فضالة بن عبيد، قال: اشتريت قلادة يوم خيبر باثني عشر دينارًا، فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارًا، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: «لا يباع حتى يفصل»رواه مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي وصححه.
وفي لفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى بقلادة فيها ذهب وخرز، ابتاعها رجل بتسعة دنانير، أو سبعة دنانير، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لا حتى تميز بينه وبينه»، فقال: إنما أردت الحجارة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لا حتى تميز بينهما» قال: فرده حَتَّى مَيَّزَ بينهما. رواه أبو داود. قال في «شرح الإقناع»: وللأصحاب في توجيه البطلان مأخذان، أحدهما: وهو مأخذ القاضي وأصحابه: أن الصفقة إذا جمعت شيئين مختلفي القيمة انقسم الثمن على قدر ملكيهما، كما لو اشترى شقصًا وسيفًا؛ فإن الشفيع يأخذ الشقص بقسطه منه، وهذا يؤدي إلى العلم بالتفاضل أو إلى الجهل بالتساوي، وكلاهما يبطل العقد، فإنه إذا باع درهمًا ومدًا يساوي درهمين بمدين يساويان ثلاثة دراهم، كان الدرهم في مقابلة ثلثي مُدّ، ويبقى مد في مقابلة مُدّ وثلث، وذلك ربًا.
فلو فرض التساوي كمد يساوي درهمًا ودرهم بمد يساوي درهمًا، ودرهم لم يُجز؛ لأن التقويم ظن وتخمين، فلا تتحقق معه المساواة، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، وضعف هذه الطريقة ابن رجب قال: لأن التقسيم هو قسمة الثمن على قيمة المثمن، لا أجزاء أحدهم على قيمة الآخر، والمأخذ الثاني: سد ذريعة الربا، لئلا يتخذ ذلك حيلة على الربا الصريح، كبيع مائة درهم في كيس بمائتين، جعلاً للمائة في مقابلة الكيس، وقد لا يساوي درهمًا. وفي كلام الإمام إيماء هذا المأخذ. اهـ.
وعن أحمد: يجوز البيع في مسألة مد عجوة، بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره. اختاره الشيخ تقي الدين –رحمه الله- في مواضع من كلامه. فعيها يجوز بيع درهمين بمد ودرهمين
ومدين بدرهم ومد، ودرهم ومد بدرهم ومد، ومدين ودرهم بمد ودرهم وعكسه، ولا يجوز درهم بمد ودرهم، ولا مد بدرهم ومد ونحو ذلك.

بيع نوعي جنس أو نوع بنوعية أو قراضة
س47: تكلم عن حكم بيع نوعي جنس، أو نوع بنوعيه أو نوعه أو قراضته، وصحيحًا بصحيحين، أو بقراضتين، أو حنطة حمراء أو سمراء ببيضاء أو ما لا يقصد عادة، واذكر أمثلة لذلك، وإذا قال: أعطني بنصف هذا الدرهم نصفًا، وبالآخر فلوسًا أو حاجة، أو نحو ذلك فما الحكم؟ وما مرجع الكيل والوزن؟

ج: ويصح بيع نوعي جنس مختلفي القيمة بنوعيه، أو نوعه ويصح بيع نوع بنوعيه، أو نوعه، كبيع دينار قراضة، وهي: قطعة ذهب، أو قطع فضة، ودينار صحيح معها بدينارين صحيحين، أو قراضتين إذا تساوت وزنًا، أو بيع دينار صحيح بدينار صحيح مثله وزنًا، وكبيع حنطة حمراء وسمراء بحنطة بيضاء، وعكسه، وكبيع تمر معقلي وبرني بإبراهيمي وعكسه، وكبرني وصيحاني بمعقلي، وإبراهيمي مثلا بمثل؛ لأن المعتبر المثلية في الوزن أو الكيل لا القيمة والجودة.
ويصح بيع لبن بذات لبن ولو من جنسه، وبيع صوف بحيوان عليه صوف من جنسه، وبيع ذات لبن بمثلها، أو ذات صوف بمثلها؛ لأن النوى بالتمر والصوف واللبن بالحيوان غير مقصود فلا أثر له.
ويصح بيع درهم فيه نحاس بنحاس خالص، أو بدرهم مساويه في غش بيقين؛ فإن زاد غش أحدهما بطل البيع، وكذا إن جهل؛ لأن النحاس في الدرهم غير مقصود، فلا أثر له، ولا يقابله شيء من الثمن أشبه الملح في الشيرج، وحبات شعير بحطة، ويصح بيع تراب معدن بغير جنسه، وبيع تراب صاغة بغير جنسه، لعدم اشتراط المماثلة إذن؛ فإن بيع تراب معدن ذهب أو صاغة بفضة أو بالعكس، اعتبر الحلول والتقابض بالمجلس، ولا تضر جهالة المقصود لاستتاره بأصل الخلقة في المعدن، وحمل عليه تراب الصاغة، ولا يصح بجنسه للجهل بالتساوي.
ويصح بيع ما مُوّهَ بنقد بنحو دار، كباب وشباك، لا حلي بجنسه. ويصح بيع نخل عليه تمر أو رطب بمثله، وبيع نخل عليه تمر بتمر، أو رطب؛ لأن الربوي في ذلك غير مقصود بالبيع، فوجوده كعدمه.
ويصح قوله: أعطني بنصف هذا الدرهم نصفًا من دراهم، وبالنصف الآخر فلوسًا أو حاجة كلحم، وقوله: أعطني بالدرهم نصفًا وفلوسًا ونحوه، كدفع دينار ليأخذ بنصفه نصفًا وبنصفه فلوسًا أو حاجة، لوجود التساوي؛ لأن قيمة النصف في الدرهم كقيمة النصف مع الفلوس أو الحاجة، وقيمة الفلوس أو الحاجة كقيمة النصف الآخر.
ويصح قول لصائغ: صغ لي خاتمًا من فضة وزنه درهم، وأعطيك مثل زنته، وأعطيك أجرتك درهمًا، وللصائغ أخذ الدرهمين أحدهما في مقابلة فضة الخاتم، والدرهم الثاني أجرة له، وليس بيع درهم بدرهمين. ومرد الكيل لعرف المدينة، والوزن لعرف مكة زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لحديث عبد الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة» رواه أبو داود والنسائي والبيهقي، وصححه ابن حبان والدارقطني. وروى عبد الملك بن عمير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المكيال مكيال المدينة، والميزان ميزان مكة» وكلامه - صلى الله عليه وسلم - إنما يحمل على تبيين الأحكام، فما كان مكيالاً بالمدينة في زمنه انصرف التحريم بتفاضل الكيل إليه، فلا يجوز أن يتغير بعد ذلك. وهذا قول جمهور العلماء مالك والشافعي وغيرهم. وقال أبو حنيفة: المرجع إلى عادات الناس وما لا عرف له بالمدينة يعتبر عرفه في موضعه؛ لأنه لا حد له شرعًا، أشبه القبض والحرز؛ فإن اختلفت عرفه في بلاده اعتبر الغالب منها؛ فإن لم يكن له عرف غالب رُدَّ إلى أقرب ما يشبهه بالحجاز كرد الحوادث إلى أشبه منصوص عليه بها، وكل مائع مكيل؛ لحديث: «كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع، ويغتسل هو وبعض نسائه من الفرق»، وهي: مد مكاييل قدر بها الماء، فكذا سائر المائعات، ويؤيده حديث ابن ماجه مرفوعًا: «نهى عن بيع ما في ضروع الأنعام إلا بكيل». والبر والشعير مكيلان، وكذا الدقيق والسويق وسائر الحبوب والأبازير، ويجوز التعامل بكيل لم يعهد. ومن الموزون: الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والزئبق والكتان والقطن والحرير والقز والشعر والوبر والصوف. وغير المكيل والموزون كالثياب والحيوان والجوز والبيض والرمان والقثاء والخيار، وسائر الخضر والبقول والسفرجل والتفاح والكمثرى والخوخ ونحوه.

من النظم في معاني الجنس والنوع وما يتصل بذلك
وشامل أصناف تشارك في اسمه ... بقيد هو الجنس المراد لقصد
كتمر وبر والشعير ونحوه ... كذلك أجناس فروع المعدد
كأدهانها خذ مع خلول أدقة ... كذلك ألبانًا ولحمانها اعدد
وفي الشاة أجناس يفاضل بينها ... إذا بعت من لحم وشحم مسرهد
وكبد وقلب والرئات وكلية ... وأطحلة والكرش فاحفظ معدد
ومن سادة الأصحاب مَن قال ألية ... وشحم هما جنسان للمتفقد
ولا تشر باللحمان أحياء جنسها ... وفيها بغير الجنس وجهين أورد
وما بيع حب جائزٍ بدقيقه ... وتجويزه يروى بشرط مُقَيدِ
إذا استويا وزنًا وليس بجائز ... عصير بأصل والمشوب بجيد
وبيعُك أَلبان الحليب بجائز ... يجوز وحرم بيعه المُجمَّدِ
وما بيع سمن بالمخيض ممنع ... وبالمثل بع سمنًا بِزُبْدٍ بأجود
وبع رطبًا والخبز والعنب إن تشا ... ولحمًا وقيل إن عن عظام يُجَرَّدِ
بمثل كما بعد الجفاف وقيل في ... طري اللحم ذا احظره وذا الوجه بعد
وباللبن احظر مطلقًا بيع سمنه ... وزبد ومخضوض بغير تردد
وعن أحمد إن زاد زبد مفرد ... على الزبد في الألبان جاز فبعد
ومن قبل طبخ باللبا اللبن اشتري ... وعن كامخ بالمثل والكشك فاصدد
وحرم شرا مطبوخ نوع بنيه ... كذا رطبه باليابس المُتَجَمِّدِ
سوى في العرايا بيع أرطاب نخلة ... بتمر كتمر الرطب بعد التجمد
وعنه بتمر مثلها رطبًا له ... وقبل الفراق القبض شرط المعدد
لدى حاجة للتمر يشري برطبه ... وبالعكس مع إعساره من منقد
وذلك فيما دون خمسة أوسق ... فحسب ولو من واحد أو معدد
وأبطل بثاني الصورتين إن اتمرتْ ... وفي غير ثمر النخل حرم بأجود
وفي السنبل احظر بيع حب بجنسه ... كذاك بغير الجنس في متبعد
وبالربوي لا تشر بالجنس مردفًا ... بغرٍّ من القطرين أو من مفرد
كصاع دقيق معه ليس بمثله ... وصاعين أو فلسين في المتأكد
وعنه أجز ما لم يكن كمصاحب ... أو انقص منه قدر ذا المتفرد
وبالنوع نوعي جنس أو سالمين بالْتَّسَلُّمْ ... وضدُّ لم يَزِدْ بِعْ بأجود
وما لا ربا فيه وفيه مخالِطٌ ... هَلِيْكٌ بجنس الخلط بع لا تُفَنّدِ
كذا ربوي فيه مستهلكٌ به ... لإصلاحه أولى بغير تَقَيُّدِ
كذا مال عبد تشتريه بجنسه ... ولو باشتراط إن يكن غير مقصد
وبيع النوى بالتمر منتزع النوى ... يدًا بيد جوز ولو بتزيد
وبيع النوى في التمر فيه نواه هل ... يجوز على قولين في نص أحمد
وإن باع نخلاً فيه تمر بمثله ... وبالتمر جوز بيعه مع تردد
كذا بيع شاة ذات صُوف ودرهما ... بمثل أو الألبان والصوف ردد
ويحرم بيع الدين بالدين والتفاضل ... في مرذول جنس بجيد
ومرجع عرف الكيل مكيال يثرب ... ومكة في وزن يعرف لمرشد
وما ليس معروفًا هناك فعرفه ... بموضعه بل قيل بالشبه اعدد
وكالماء كل المائعات مكيلة ... وجا سَلَمٌ بالوزن من قول أحمد


ما يحرم فيه ربا النسيئة وما يشترط لبيع الربوي بجنسه
س48: ما هو النسِاء؟ وما الذي يحرم فيه ربا النسيئة، وهل له ضابط؟ وما الذي يشترط لبيع الربوي بجنسه؟ وما هو الكالئ؟ واذكر ما تعرفه من صور بيع الدين بالدين؟ ومثل لما لا يتضح إلا بالتمثيل؟ واذكر الدليل والتعليل والخلاف والترجيح والشرط.

ج: النساء والنسيئة: هو التأخير، ومثله النسأة، ومنه الحديث: «أنسأ الله في أجله». وقوله تعالى: { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ } [آل عمران: 124]، ومنه حديث ابن عوف: وكان قد أنسِيءَ له في العُمُر. وحديث: «من سره النساء ولا نساء» قال الكميت، أو عمير بن جدل الطعان:
ألسْنَا النَّاسِئِيْنَ عَلى مَعَدٍّ ... شُهُور الحِلَّ نَجْعَلُهَا حَرَامَا
يحرب ربا النسيئة بين ما اتفقا علة ربا الفضل، كبيع مدَّ بُرٍّ بمدَّ بُرٍ، أو بشعير، وكبيع درهم من قز برطل من خبز، فيشترط لذلك حلول وقبض بالمجلس سواء اتحد الجنس أو اختلف، وتماثل إن اتحد الجنس؛ ولأنهما مالان من أموال الربا علتهما متفقة، فيحرم التفرق فيهما قبل القبض كالصرف، ولا يعتبر ذلك إن كان أحد العوضين نقدًا إلا في صرف النقد بفلوس نافقة، فيشترط الحلو والقبض إلحاقًا لها بالنقد، وقال في «الإقناع وشرحه»: ولو في فلوس نافقة بنقد، فيجوز النساء، واختاره الشيخ تقي الدين وغيره كابن عقيل، وذكره الشيخ رواية، قال في «الرعاية»: إن قلنا: هي عرض جاز، وإلا فلا. اهـ. والذي تميل إليه النفس ما مشى عليه في «الإقناع» حيث جوز النساء في صرف الفلوس بالنقد. والله أعلم.
والخلاصة: أنه إذا بيع مكيل بجنسه كتمر بتمر، أو الموزون بجنسه كذهب بذهب؛ صح بثلاثة شروط: الحلول، والمماثلة في القدر، والقبض قبل التفرق؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «مثلاً بمثل، يدًا بيد» رواه أحمد ومسلم. وعن أبي سعيد مرفوعًا: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الوَرِق بالوَرِق إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز» متفق عليه. وإذا بيع بغير جنسه كذهب بفضة وبر بشعير، صح بشرط القبض قبل التفرق، وجاز التفاضل.

قال في «نهاية التدريب»: ناظمًا للشروط المذكورة:
بيع الطعام بالطعام يشترط ... له التساوي إن يكن جنسًا فقط
كذلك الحلول والمقابضةْ ... حقيقة في مجلس المعاوضة
فلم يبع بجنسه جنس فضل ... ولا يجوز مطلقًا إلى أجل
وكالطعام في جميع ما عرف ... نَقْدٌ بِنَقْدٍ جنسه أو مختلف


لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد» رواه أحمد ومسلم، وعن عمر مرفوعًا: «الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا هاء وهاء» متفق عليه. وقال - صلى الله عليه وسلم - : «لا بأس ببيع البر بالشعير، والشعير أكثرهما يدًا بيد» رواه أبو داود.وإذا بيع المكيل بالموزون كبر بذهب مثلاً، جاز التفاضل، والتفرق قبل القبض؛ لأن العلة مختلفة، فجاز التفرق كالثمن بالمثمن. ويحل نساء في بيع ما لا يدخله ربا فضل، كثياب بثياب، أو نقد أو غيره، وحيوان بحيوان أو غيره؛ لحديث ابن عمر: أنه «أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ على قلائص الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة» رواه أحمد والدارقطني، وصححه. الكالئ بالكالئ: هو النسيئة بالنسيئة، وذلك أن يشتري الرجل شيئًا إلى أجل، فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضي به، فيقول: بعنيه إلى أجل آخر بزيادة شيء، فيبيعه منه، ولا يجري بينهما تقابض. يقال: كلأ الدين كْلُوءًا فهو كالئ، وإذا تأخر. ومنه قولهم: بلغ الله بك أكلأ العمر، أي: أطوله وأكثره تأخرًا.

وأنشد ابن الأعرابي:
تَعَفَّفْتُ عنها في السنين التي مضت ... فكيف التَّصَابي بعدما كلأ العمر

ولا يصح بيع كالئ بكالئ، وهو بيع دين بدين؛ لما ورد عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن بيع الكالئ بالكالئ» يعني: الدين بالدين. رواه إسحاق والبزار بإسناد ضعيف، ففي الحديث دليل على عدم جواز بيع الدين بالدين، وهو إجماع أهل العلم، كما حكاه أحمد وابن عبد البر والوزير وغيرهم وله صور، منها بيع ما في الذمة بثمن مؤجل لمن هو عليه، أو بحال لم يقبض، أو جعله رأس مال سلم.
وقال ابن القيم: الكالئ: هو المؤخر الذي لم يقبض، كما لو أسلم شيئًا في شيء بالذمة، وكلاهما مؤخر، فهذا لا يجوز بالاتفاق، وكذا لا يجوز بيع معدوم بمعدوم، وقال: بيع الدين بالدين ينقسم إلى بيع واجب بواجب، وهو ممتنع، وإلى بيع ساقط بساقط، وساقط بواجب، وواجب بساقط، فالساقط بالساقط في صورة المقاصة، والساقط بالواجب كما لو باعه دينًا له في ذمة بدين آخر من جنسه، فسقط الدين المبيع، ووجب عوضه وهو بيع الدين ممن هو في ذمته؛ وأما بيع الواجب بالساقط، فكما لو أسلم إليه في كر حنطة ما في ذمته، وقد حكى الإجماع على امتناعه، ولا إجماع فيه.
واختار الشيخ جوازه. قال ابن القيم: وهو الصواب، إذ لا محذور فيه، وليس بيع كالئ بكالئ فيتناوله النهي بلفظه، ولا في معناه فيتناوله بعموم المعنى؛ فإن المنهي عنه قد اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة؛ وأما ما عداه من الثلاث فلكل منهما غرض صحيح، وذلك ظاهر في مسألة التقاص؛ فإن ذمتهما تبرأ من أسرها، وبراءة الذمة مطلوب لهما وللشارع، فأما في الصورتين الأخيرتين فأحدهما يعجل براءة ذمته، والآخر يحصل على الربح، وإن كان بيع دين بدين، فلم ينه الشارع عنه لا بلفظه ولا بمعنى لفظه، بل قواعد الشرع تقتضي جوازه. اهـ. لكن المنع قول الجمهور، لاسيما في الاحتيال على المعسر في قل الدين إلى معاملة أخرى بزيادة مال، وذكر الشيخ أنه حرام باتفاق المسلمين، ويحرم أن يمتنع من إنظار المعسر حتى يقلب عليه الدين.

باب الصرف
س49: ما هو الصرف؟ ولِمَ سمي بذلك؟ وبأي شيء يبطل؟ ومثل لما لا يبطل به؟ وإذا تأخر التقابض في البعض، فما الحكم؟ وما حكم التوكيل في قبض في صرف ونحوه؟ وإذا تصارفا على عينين من جنسين، وظهر غصب أو عيب أو بيعت سائر أموال الربا، أو تصارفا على جنسين في الذمة وتقابضا قبل التفرق، ووجد أحدهما بما قبضه عيبًا، فما الحكم؟ وإذا تلف عوض قبض في صرف، ثم علم عيبه وقد تفرقا، فما الحكم؟ واذكر ما يتفرع حول هذا المبحث من المسائل والتقادير، والدليل والتعليل.

ج: الصرف: بيع نقد بنقد من جنسه أو غيره، مأخوذ من الصريف، وهو تصويت النقد بالميزان، وقيل: لانصراف المتصارفين عن مقتضى البياعات من عدم جواز التفرق قبل القبض ونحوه. والقبض في المجلس شرط لصحة الصرف، حكاه ابن المنذر إجماع. مَنْ يحفظ عنه من أهل العلم؛ ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : «وبيعوا الذهب كيف شئتم إذا كان يدًا بيد» ويبطل كسلم بتفرق ببدن يُبْطِلُ خيار المجلس قبل تقابض من الجانبين في صرف؛ لقوله -عليه السلام-: «يدًا بيد» وفي سلم قبض رأس ماله، لما يأتي في بابه، وإن تأخر تقابض في صرف، أو في رأس مال سلم في بعض من ذلكن بطل الصرف والسلم في المتأخر قبضه فقط، لفوات شرطه، وصحا فيما قبض لوجود شرطه، ويقوم الاعتياض عن أحد العوضين، وسقوطه عن ذمة أحدهما مقام قبضه، ويصح التوكيل من العاقدين أو أحدهما بعد عقد في قبض ربوي وسلم، ويقوم قبض وكيل مقام قبض موكله ما دام موكله بمجلس العقد، لتعلقه به، سواء بقي الوكيل بالمجلس إلى قبض أو فارقه، ثم عاد وقبض؛ لأنه كالآلة؛ فإن فارق موكل قبله بطل العقد، وإن وكل في العقد اعتبر حال الوكيل، ولا يبطل صرف ونحوه باشتراط خيار فيه كسائر العقود الفاسدة في البيع، فيصح العقد ويبطل بالتفرق، وإن تصارفا على عينين من جنسين كصارفتك هذا الدينار بهذه الدراهم، فيقبل، ذكر وزنهما أم لا، ولو كان صرفهما بوزن متقدم على مجلس العقد، أو بخبر صاحبه بوزنه وتقابضا وظهر غصب في جميعه، أو ظهر عيب في جميع أحد العوضين، ولو كان يسيرًا، أو كان عيبه من غير جنس المعيب بأن وجد الدنانير رصاصًا، أو الدراهم نحاسًا، أو فيها شيء من ذلك بطل العقد؛ لأن باعه ما لا يملكه، أو لم يسلم له، أشبه: بعتك هذا البغل، فبان فرسًا.
وإن ظهر الغصب أو العيب في بعضه، بطل العقد في المغصوب أو المعيب فقط بناء على تفريق الصفقة، ويصح في الباقي بقسطه، وإن كان العيب من جنس المعيب كوضوح ذهب، وسواد فضة، فلآخِذِهِ الخيار بين فسخ وإمساك، وليس له أخذ بدله لوقوع العقد على عينه؛ فإن أخذ غيره أخذ ما لم يعقد عليه؛ فإن رد المعيب بطل العقد لما تقدم، وإن أمسك فله أرش العيب كسائر المعيبات المبيعة بالمجلس، ولا يأخذ أرشه من جنس النقد السليم، لئلا يصير كمسألة مد عجوة ودرهم.
وكذا يجوز أخذ أرش العيب بعد المجلس إن جعل الأرش من غير جنس النقدين كبر وشعير لعدم اعتبار التقابض إذًا، وكذا سائر أموال الربا إذا بيعت بربوي غير جنسها بما القبض شرط فيه، كمكيل بيع بمكيل، وموزون بيع بموزون غير جنسه، فبر بيع بشعير، ووجد بأحدهما عيب من جنسه، فأرش بدرهم أو نحوه من الموزونات مما لا يشاركه في العلة، جاز في المجلس فقط لا من جنس السليم، وإن تصارفا على جنسين في الذمة، كدينار بندقي بعشرة دراهم فضة، صح إن تقابضا قبل تفرق، ثم إن وجد أحدهما بما قبضه عيبًا، والعيب من جنسه، فالعقد صحيح، كما لو لم يكن عيب، ثم تارة يعلم العيب قبل تفرق، وتارة يعلمه بعده؛ فإن علمه قبل تفرق عن المجلس، فله طلب سليم بدله؛ لأن الإطلاق يقتضي السلامة أو أرشه، وله إمساكه مع أرشه، لا من جنس السليم. وإن علمه بعد التفرق، فله إمساكه مع أخذ أرش، لاختلاف الجنس، ويكون من غير جنس السليم والمعيب كما تقدم.
وله رده، وأخذ بدله بمجلس رد؛ لأن ما جاز إبداله قبل التفرق جاز بعده كالسلم فيه؛ فإن تفرقا قبل أخذ بدله بطل العقد؛ لحديث: «ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز» وإن لم يكن العيب من جنسه فتفرقا قبل رَدِّ معيْبٍ وأخذ بدله، بطل الصرف للتفرق قبل التقابض، وإن عين أحد العوضين من جنسين في صرف دون العوض الآخر، بأن كان في الذمة، ثم ظهر في أحدهما عيب، فلكل من المعين وما في الذمة حكم نفسه فيما تقدم، والعقد على عينين ربويين من جنس، كهذا الدينار بهذا الدينار، كالعقد على ربويين من جنسين، وكذا لو كانا أو أحدهما في الذمة، إذ أنه لا يصح أخذ أرش مطلقًا، لا قبل التفرق ولا بعده، ولا من الجنس ولا من غيره؛ أنه يؤدي إلى التفاضل إن كان من الجنس، وإلى مسألة مد عجوة إن كان من غير الجنس، وإن تلف عوض قبض في عقد صرف ذهب بفضة مثلاً، ثم علم عيبه وقد تفرقا، فسخ صرف وردَّ الموجودُ لباذله، وتبقى قيمة التالف في ذمة من تلف بيده، لتعذر الرد، فيرد من تلف بيده مثل القيمة أو عوضها إن اتفقا عليه، ويصح أخذ أرش العيب ما لم يتفرقا إن كان العوضان في صرف من جنسين؛ لأن الأرش كجزء من المبيع، وقد حصل قبضه بالمجلس؛ لكن لا يكون جنس السليم كما تقدم، ويصح أخذه بعد التفرق من غير جنس النقدين.

مسائل متنوعة تتعلق بالصرف وبعض الحيل
س50: هل لأحد المتصارفين الشراء من الآخر؟ وإذا أعطى صارف فضة بدينار أكثر مما بالدينار ليأخذ قدر حقه منه، أو صارف خمسة دراهم بنصف دينار، فأعطى صارف الفضة دينارًا، أو اقترض الخمسة، وصارفه بها عن الباقي، فما الحكم؟ وما هي الحيلة؟ وما حكمها؟ وما دليله؟ واذكر بعض الحيل المحرمة، وإذا كان على إنسان دينار فقضاه دراهم متفرقة، أوله على آخره عشرة دنانير وزنًا فوفاها عددًا فوجدت وزنًا أحد عشر، أو باع دينارًا بدينار بإخبار صاحبه بوزنه، وتقابضا فوجده ناقصًا فما الحكم؟ وما حكم الصرف، والمعاملة بمغشوش، وكسر السكة الجائزة بين المسلمين؟ واذكر الدليل، والتعليل، والتفصيل.

ج: لكل من المتصارفين الشراء من الآخر من جنس ما صرف الآخر منه، بلا مواطأة كأن صرف منه دينارًا بدرهم، ثم صرف منه الدراهم بدينار آخر؛ لحديث أبي سعيد وأبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلاً على خبير، فجاءه بتمر جنيب، فقال له: «أكل تمر خيبر هكذا؟» قال: لا والله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تفعل، بع التمر بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جنيبًا» متفق عليه. ولم يأمره أن يبيع من غير من اشترى منه، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وصارف فضة بدينار إن أعطى فضة أكثر مما بالدينار، ليأخذ رب الدينار قدر حقه منه، ففعل بأن أخذ صاحب الدينار قدر حقه، جاز هذا الفعل منهما ولو كان أخذ قدر حقه بعد تفرق، لوجود التقابض قبل التفرق، وإنما تأخر التمييز، والزائد عن حقه أمانة بيده، لوضع يده عليه بإذن ربه، وصارف خمسة دراهم فضة بنصف، فأعطى صارف الفضة دينارًا، صح الصرف لما تقدم، ولقابض الدينار مصارفته بعد ذلك بالباقي من الدينار؛ لأنه أمانة بيده.
ولو افترض صارف خمسة دراهم الخمسة التي دفعها لصاحب الدينار، وصارفه بها عن النصف الباقي من الدينار، صح بلا حيلة، لوجود التقابض قبل التفرق. فإذا كان ثم حيلة لم يصح، والحيلة: التوسل إلى محرم بما ظاهره الإباحة، والحيل كلها غير جائزة في شيء من أمور الدين؛ لحديث: «من أدخل فرسًا بين فرسين، وقد أمن أن يسبق فهو قمار، ومن أدخل فرسًا بين فرسين، ولم يأمن أن يسبق، فليس بقمار» رواه أبو داود وغيره. فجعله قمارًا مع إدخال الفرس الثالث، لكونه لا يمنع معنى القمار، وهو كون كل واحد من المتسابقين لا ينفك عن كونه آخذًا، أو مأخوذًا منه، وإنما دخل تحيلاً على إباحة المحرم.
وسائر الحيل مثل ذلك، كأن يظهر المتعاقدان عقدًا ظاهره الإباحة يريدان به محرمًا مخادعة وتوسلاً إلى فعل ما حرم الله تعالى من الربا ونحوه، أو إلى إسقاط واجب لله تعالى أو لآدمي، كهبة ماله قرب الحول لإسقاط الزكاة، أو لإسقاط نفقة واجبة، أو إلى دفع حق عليه من نحو دين، فمن الحيل لو أقرضه شيئًا، وباعه سلعة بأكثر من قيمتها، أو اشترى المقرض من المقترض سلعة بأقل من قيمتها توسلاً إلى أخذ العوض عن القرض. ومن الحيل أن يستأجر البستان بأمثال أجرتها، ثم يساقيه على ثمر شجر بجزء من ألف جزء للمالك، أو لجهة الوقف والباقي من الثمر للعامل، ولا يأخذ المالك ولا الناظر منه شيئًا، ولا يريدان ذلك، وإنما قصدهما بيع الثمرة قبل وجودها أو بُدُو صلاحها بما سمياه أجرة، والعامل لا يقصد سوى ذلك، وربما لا ينتفع بالأرض التي سمى الأجرة في مقابلتها، بل قد تكون الأرض لا تصلح للزرع بالكلية، وقد ذكر ابن القيم في كتابه «إعلام الموقعين» من ذلك صورًا كثيرة جدًا في المجلد الثالث، ومن عليه دينار فأكثر، فقضاه دراهم متفرقة، كل نقدة من الدراهم بحسابها من الدينار، صح لعدم المانع، وإلا يكن كل نقدة بحسابها بأن صار يدفع الدراهم شيئًا فشيئًا، ثم صارفه بها وقت المحاسبة، فلا يصح ولا يجوز؛ لأنه بيع دين بدين.
ومن له على آخر عشرة دنانير مثلاً وَزْنًا، فوفاها عددًا، فوجدت وزنًا أحد عشر دينارًا، فالدينار الزائد مشاع مضمون لربه، لقبضه على أنه عوض ماله، فكان مضمونًا بهذا القبض، ولمالكه التصرف فيه بصرف وغيره ممن هو بيده وغيره لبقاء ملكه عليه، ومن باع دينار بإخبار صاحبه بوزنه ثقة به، وتقابضا وافترقا، فوجد الدينار ناقصًا عن وزنه المعهود، بطل العقد؛ لأنه بيع ذهب بذهب متفاضلاً، وإن وجده زائدًا عن وزن الدينار المعهود، والعقد على عين الدينارين، بطل العقد أيضًا للتفاضل.
وإن كانا في الذمة بأن قال: بعتك دينارًا بدينار، ووصفاهما وقد تقابضا وافترقا، ثم وجد أحدهما زائدًا، فالزائد بيد قابض له مشاع مضمون لربه، لما تقدم، ولم يفسد العقد؛ لأنه إنما باع دينارًا بمثله، وإنما وقع القبض للزيادة على المعقود عليه، وللقابض دفع عوض الزائد لربه من جنسه ومن غيره؛ لأنه ابتداء معاوضة، ولكل من المتعاقدين فسخ العقد؛ أما القابض فلأنه وجد المبيع مختلطًا بغيره والشركة عيب؛ وأما الدافع، فلأنه لا يلزمه أخذ عوض الزائد. وإن كان في المجلس استرجعه ربه، ودفع بدله، ويجوز الصرف بنقد مغشوش، وتجوز المعاملة بنقد مغشوش، ولو كان غشه بغير جنسه، كالدراهم تغش بنحاس لمن يعرف الغش. قال أحمد: إذا كان شيئًا اصطلحوا عليه مثل الفلوس اصطلحوا عليها، فأرجو أن لا يكون بها بأسًا؛ ولأن غايته اشتماله على جنسين ولا غرر فيهما؛ ولأن هذا مستفيض في الأعصار؛ فإن لم يعرف الآخر غشه لم يجز، لما فيه من التغرير.
ويحرم كسر السكة الجائزة بين المسلمين؛ لما ورد عن عبد الله بن عمرو المازني قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، ولما فيه من التضييق عليهم إلا أن يختلف في شيء منها: هل هو رديء أو جيد؟ فيجوز كسره للحاجة.

ما يتميز به ثمن عن مثمن وحكم اقتضاء نقد من آخر
س51: بم يتميز ثمن عن مثمن؟ وما حكم اقتضاء نقد من آخر؟ وإذا اشترى شيئًا بنصف دينار، فماذا يلزمه؟ ووضح ما يتفرع على ذلك من المسائل، وما الذي تتعين به الدراهم والدنانير، والذي تملك به؟ وما حكم إبدالها، والتصرف فيها قبل قبضها؟ وحكم ما إذا تلفت، أو ظهرت الدراهم مغصوبة، أو معيبة، أو تعاقدا على مثلين أو لا، وما حكم أخذ الأرش، ومن أين يؤخذ؟ وما حكم الربا بين المسلم والحربي، وبين السيد ورقيقه، ومكاتبه... إلخ؟

ج: يتميز ثمن مثمن بباء البدلية، ولو أن أحد العوضين نقد، فما دخلت عليه الباء فهو الثمن، فدينار بثوب، الثمن بثوب، لدخول الباء عليه. قال: بعضهم للباء أربعة عشر معنى>



وجمعها بعضهم في بيتين:
تَعَدَّ لُصُوقًا واسْتَعِنْ بتَسَبُّبٍ      وبَدِّلْ صحَابًا قَابَلُوْكَ بالاسْتِعْلا
ورِدْ بَعْضَهُمْ إنْ جَاوَزَ الظَّرْفُ غَايَةً   يَمِيْنًا تَحُزْ للبا مَعَانِيها كَلا


ويصح اقتضاء نقد من نقد آخر، كذهب من فضة وعكسه إن أحضر أحَدُ النقدين، أو كان أحدهما أمانة أو عارية أو غصبًا، والآخر مستقر في الذمة، كثمن وقرض وأجرة استوفى نفعها، بخلاف دين كتابة، وجُعْلٍ قَبل عمل ورأس مال سلم؛ لأنه لم يستقر. ولو كان ما في الذمة غير حال ككونه مؤجلاً، وقضاه عنه بسعر يوم القضاء، جاز؛ لأنه رضي بتعجيل ما في الذمة بغير عوض بسعر يوم القضاء؛ لحديث ابن عمر قال: قلت: يا رسول الله، إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم فآخذ الدنانير، آخذ هذا من هذا، وأعطي هذا من هذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا بأس أن تؤخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء» رواه الخمسة، وصححه الحاكم؛ ولأنه صرف بعين وذمة، فجاز كما لو لم يسبقه اشتغال ذمة، واعتبر بسعر يوم القضاء للخبر، ولجريان ذلك مجرى القضاء، فتقيد بالمثل، وهو هنا من حيث القيمة لتعذره من حيث الصورة، ولا يشترط حلول ما في الذمة إذا قضاه بسعر يومه لظاهر الخبر؛ ولأنه رضي بتعجيل ما في الذمة بغير عوض، أشبه ما لو قضاه من جنس الدين؛ فإن نقصه عن سعر المؤجلة أو غيرها لم يجز للخبر.
ومن اشترى كتابًا أو نحوه بنصف دينار أو نحوه؛ لزمه نصف دينار، ثم إن اشترى شيئًا آخر كثوب بنصف آخر لزمه شق أيضًا، لدخوله بالعقد على ذلك، ويجوز إعطاء المشتري للبائع عن الشقين دينًا صحيحًا؛ لأنه زاده خيرًا؛ فإن كان ناقصًا، أو اشترى بمكسرة، وأعطى عنها صحاحًا أقل منها، أو بصحاح، وأعطى منها مكسرة أكثر منها، لم يجز للتفاضل؛ لكن إن اشترط إعطاء صحيح عن الشقين في العقد الثاني أبطله، لتضمنه اشتراط زيادة عن العقد الأول، واشتراط ذلك قبل لزوم العقد الأول بخيار مجلس يبطل العقدين، لوجود المفسد قبل إبرامه لازمًا، وتتعين دراهم ودنانير بتعيين في جميع المعاوضات؛ لأنها تتعين بالغصب، فتتعين بالعقد كالقرض، ولأنها أحد العوضين، فأشبهت العرض الذي هو المثمن، فإنه يتعين بذلك، وتملك دراهم ودنانير بالتعيين في جميع العقود، فلا يصح إبدالها إذا وقع العقد على عينها لتعينها.
ويصح تصرف من صارت إليه فيها قبل قبضها، كسائر أملاكه، وإن تلفت أو تعيَّبت، فهي من ضمانه إن لم تحتج إلى عدد أو وزن؛ فإن احتاجت إلى أحدهما لم يصح تصرفه فيها قبل قبضها لاحتياجها لحق توفية. ويبطل غير نكاح وخلع وطلاع وعتق على دراهم أو دنانير معينة، وغير صلح بها عن دم عمد في نفس أو طرف بكون الدراهم والدنانير المعينة مغصوبة كالمبيع يظهر مستحقًا، أو بكونها معيبة عيبًا من غير جنسها، ككون الدراهم نحاسًا أو رصاصًا؛ لأنه باعه غير ما سمي له.
ويبطل غير ما تقدم استثناؤه في بعض هو مغصوب أو معيب من غير جنسها فقط، ويصح في الباقي بناء على تفريق الصفقة، وإن كان العيب من جنسها، كسواد درهم، ووضوح دنانير يخير من صارت إليه بين فسخ العقد المعيب، وإمساك بلا أرش إن تعاقدا على مثلين، كدينار بدينار؛ لأن أخذه يفضي إلى التفاضل، أو مسألة مد عجوة ودرهم، وإلا يكن العقد على مثلين، فلمن صارت إليه المعيبة أخذ الأرش بمجلس العقد، لا من جنس السليم؛ لأن أكثر ما فيه حصول زيادة من أحد الطرفين، ولا تمنع من الجنسين، ولا يأخذ أرشًا بعد المجلس إلا إن كان الأرش من غير جنس العوضين، فيجوز أخذه بعده مما لا يشاركه في العلة كما تقدم.
ويحرم الربا بدار حرب، ولو بين مسلم وحربي، بأن يأخذ المسلم زيادة من الحربي؛ لعموم قوله تعالى: { وَحَرَّمَ الرِّبَا } وعموم السُّنة؛ ولأن دار الحرب كدار البغي في أنه لا يد للإمام عليهما، وحديث مكحول مرفوعًا: «لا ربا بين المسلم وأهل الحرب» رُدَّ بأنه خبر مجهول لا يترك له تحريم ما دل عليه الكتاب والسُّنة الصحيحة، ولا يحرم الربا بين سيد ورقيقه، ولو كان الرقيق مدبرًا، أو أم ولد؛ لأن المال كله لسيد، ولو كان الرقيق مكاتبًا، فلا يجري بينه وبين سيد ربًا في مال الكتابة فقط، بأن عوضه عن مؤجلها دونه، ويأتي لا يجوز الربا بينهما في غير هذه.

من النظم مما يتعلق بالصرف
ويبطل عقد الصرف إن يتفرقا ... ولا قبض من كل كذا السلم اعدد
ومهما تعين من دراهم عُيّنَتْ ... ومِن ذهب في العقد في المتأكد
وَرَدُّك بَعْضًا مثل تَركِك قَبْضه ... بوجه فأبطل في الجميع بأوكد
فإنْ بان عَيْبٌ بَعْدَ عَقدٍ وفرقة ... تغاير في جنس فأبطل بأوطد
بناء على التعيين إن عَيَّناهُمَا ... وإلَّا له الإبدال أورده قد
وعنه له الإبدال حالة رده ... وعنه ليلزم بالمبيع فبعد
ومن جنسه إن كان إن شئت رده ... وخذ بدلاً في مجلس الردِّ فاعْضِدِ
وإلا فأمسك أو بلا البدل اردد
إذا قيل لا تَعْيِيْنَ أو لم يُعينا ... وقولين في رد المعيب فَقَطْ طد
وَمِن عَيبِ بعض إن تشا اردد جميعَه ... بمجلسكم أو غير جنس الثمن عد
وإن تشا في الجنسين لا الجنس الأرش خُذْ ... من الربوي المعلوم بالربوي اعدد
كذا الحكم والتفصيل في كل ما اشترى ... في الأقوى بلا أرش ليبق أو اردد
وإن بعد عيب أو توىَ تدري عيبه ... بمثل لمثلي أو القيمة اعهد
وفي ذمة التاوي إليه ضمانُها ... أو إخبار بعض العاقدين فجودِّ
وتركهما وزنًا لعلم بقدره ... وهَي العقدُ قيل إنْ عينا في المزيد
وإن يُدْرَ نقصٌ بَعد قَبضٍ وفرقَةٍ ... بوصف بذكر أو بعرف معود
ويشرط علم للنقود لصرفهم ... بدين أجز بل في المؤجل بأجود
وحظر شرا دين بدين وعينه ... ومن غيره في الجنس بالجنس أفسد
ومع علم عيب منه يلزم مطلقًا ... كإنفاق مغشوش على المتأطد
وإن يتساوى الغش جاز بأجود ... فخذ وقت عقد قيمة المتكسد
وإن بعت شيئًا بالفلوس فعطلت ... كذا الحكم في الأثمان يا ذا التأيد
إذا كنت لم تقبض إلى أن تكسدت ... ليَقْضِيَهُ قبل المحل بأوطد
ويحرم تنقيص لدين مؤجل ... المُشرّع عنه اخطره دُون تَقَيُّدِ
وكل احتيال لاستباحة ما نَهَى ... من المشتري لا حيلة في المجود
وبالنقد بع أردى وخذ جيدًا به ... وفاه صحيحًا دون أو عكس أجود
وإن ظن هلك لا وإن شك ردد
وإن تشرِ عينًا بالمكسر لم يجز    وصرفًا بمظنون البقا مودعًا أجز



المجلد الرابع 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 6:28 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المجلد الرابع Empty
مُساهمةموضوع: رد: المجلد الرابع   المجلد الرابع Emptyالجمعة 20 نوفمبر 2015, 7:20 am

باب بيع الأصول والثمار وما يتعلق بها
س52: ما هي الأصول، وإذا باع دارًا فما الذي يدخل بالبيع، والذي لا يدخل فيه؟ وضح ما في ذلك من مفردات وتفاصيل، وما لذلك من أدلة أو تعليلات، أو خلاف مع الترجيح.

ج: الأصول جمع أصل، وهو ما يتفرع عنه غيره، والمراد به هنا: أرض ودور وبساتين ونحوها، والثمار: جمع ثمر، ككتاب وكتب، وجمع الثمر أثمار، كعنق وأعناق، وهي ما حملته الأشجار سواء أكل أو لا، من باع دارًا أو رهن دارًا أو وهب دارًا أو أوقف دارًا أو أقر بدار، أو وصى بدار، تناول ذلك أرضها
بمعدنها الجامد؛ لأنه من أجزائها بخلاف الجاري، وتناول بناءها؛ لأنهما داخلان في مسماها، وتناول فناءها إن كان لها فناء؛ لأن غالب الدور لا فناء لها، وتناول متصلاً بها لمصلحتها، كسلالم مسمرة، جمع: سلم، وهي: المرقاة، وهو مأخوذ من السلامة تفاؤلاً ويذكر ويؤنث.

وأنشدوا لابن مقبل:
لا تحْرْز المرء أحجاء البلاد ولا ... يبني له في السموات السلاليم
احتاج فزاد الياء، وقال الجوهري: السُّلم: واحد السّلاليم. ويشمل البيع الرفوف المسمرة، والأبواب المنصوبة، والرحى المنصوبة والخوابي المدفونة، والأجرنة المبنية، وأساسات الحيطان؛ لأن اتصاله لمصلحتها أشبه الحيطان؛ فإن لم تكن السلالم والرفوف مسمرة، أو كان الأبواب والرحى غير منصوبة، أو الخوابي غير مدفونة، لم يتناولها البيع ونحوه؛ لأنها منفصلة عنها، أشبه الطعام والشراب فيها، وتناول ما في الدار من شجر مغروس، ومن عُرْش جمع عريش، شبه بيت من حريد يجعل فوقه الثمار، ويجمع على عروش كفلس وفلوس.
فائدة: مرافق الأملاك، كالطرق والأقنية ومسيل المياه ونحوها، هل هي مملوكة، أو ثبت فيها حق الاختصاص؟ فيه وجهان: أحدهما: ثبوت حق الاختصاص فيها من غير ملك، جزم به القاضي وابن عقيل في إحياء الموات، ودل عليه نصوص أحمد. الثاني: الملك، صرح به الأصحاب في الطرق، وجزم به في الكل صاحب «المغني» وأخذه من نص أحمد والخرقي على ملك حريم البئر، ذكر ذلك في القاعدة الخامسة والثمانين، قاله في «الإنصاف» م ص.
ولا يتناول البيع ما فيها من كنز وحجر مدفونين؛ لأنهما مودعان فيها للنقل عنها، أشبه الستر والفرش، بخلاف ما فيها من الأحجار المخلوقة؛ فإن ضرت بالأرض ونقصتها فعيب، ولا يتناول البيع ما فيها من منفصل منها، كحبل ودلو وبكرة وقفل وفرش؛ لأن اللفظ لا يشمله، ولا هو من مصلحتها؛ وأما المفتاح، وحجر الرحى الفوقاني، فقيل: لا يتناولهما اللفظ، وقيل: يشملهما البيع، ويدخلان فيه، وهذا هو الذي يترجح عندي. والله أعلم.
ولا يتناول البيع ما فيها من معدن جار وماء نبع؛ لأنه يجري من تحت الأرض إلى ملكه، أشبه ما يجر من الماء في نهر إلى ملكه؛ ولأنه لا يملك إلا بالحيازة، وتقدم في البيع. وإن ظهر ذلك بالأرض لم يعلم بائع، فله الفسخ؛ لما روي أن ولد بلال بن الحارث باعوا عمر بن عبد العزيز أرضًا، فظهر فيها معدن، فقالوا: إنما بعنا الأرض ولم نبع المعدن، وأتوا عمر بالكتاب الذي فيه قَطْعِيِّةُ النبي - صلى الله عليه وسلم -
لأبيهم، فأخذه وقبله، ورد عليهم المعدن، وعنه: إذا ظهر المعدن في ملكه ملكه، وظاهر أنه لم يجعله للبائع، ولا جعل له الخيار، قاله في «الشرح».

ما يدخل وما لا يدخل في البيع إذا كان المبيع أرضًا أو بستانًا
س53: إذا باع أرضًا أو بستانًا، فما الذي يدخل في المبيع، وما الذي لا يدخل؟ وتكلم عما إذا كان فيها زرع أو قطنيات، أو جزر أو فجل، أو ثوم أو نحوه، واذكر التفصيل والدليل والتعليل والخلاف.

ج: مَنْ باع أو وهب أو رهن أو وقف أو أقر أو أوصى بأرض أو بستان، أو جعله صداقًا أو عوض خلع ونحوه، دخل غراس وبناء فيها ولو لم يقل بحقولها، لاتصالهما بهما، وكونهما من حقوقهما، والبستان اسم للأرض والشجر والحائط، إذ الأرض المكشوفة لا تسمى به، ولا يدخل في نحو بيع أرض ما فيها من زرع لا يحصد إلا مرة، كبر وكشعير وأرز وقطنيات، سميت بذلك لقطونها، أي: مكثها في البيوت، ونحوها كجزر وفجل وثوم ونحوه، كبصل ولفت؛ لأنه مودع في الأرض يُراد للنقل، أشبه الثمرة المؤبرَّة.
ويبقى في الأرض لبائع ونحوه إلى أول وقت أخذه، كالثمرة بلا أجرة؛ لأن المنفعة مستثناة له، فلا يبقى بعد أول وقت آخذه، وإن كان بقاؤه أنفع له، إلا برضى مشتر، ما لم يشترط الزرع مشتر أو متهب ونحوه؛ فإن شرطه آخذ فهو له، قصيرًا كان أو ذا حب مستترًا أو ظاهرًا، معلومًا أو مجهولاً؛ لأنه بالشرط يدخل تبعًا للأرض، كأساسات الحيطان، وإن حصد الزرع بائع قبل أوان الحصاد، لينتفع بالأرض في غير الزرع، لم يملك البائع الانتفاع بها، لانقطاع ملكه عنها، كما لو باع دارًا فيها متاع لا ينقل في العادة إلا في شهر، فتكلف نقله في يوم لينتفع بالدار في غيره بقية الشهر، لم يملك ذلك، لانقطاع ملكه عنها، وإنما أمهل للتحويل بحسب العادة دفعًا لضرره، وحيث تكلفه قد رضي به.
(فرع): البستان: اسْمٌ لأرض وشجر وحائط، بدليل أن الأرض المكشوفة لا تسمى بذلك، ومن قال: بعتك هذه الأرض، وثلث بنائها، أو: بعتك الأرض وثلث غراسها، أو بعتك هذا البستان وثلث غراسه، لم يدخل في البيع من البناء والغراس إلا الجزء المسمى، لقرينه العطف وإن كان في الأرض زرع يجز مرة بعد أخرى، كرطبة وهي القصة؛ فإن يبست فهي قت، وكالبقول وثمر ونعناع وقثاء وباذنجان ودباء، أو يتكرر زهره، كورد وياسمين، فأصول جميع هذه لمشترٍ ومتهب ونحوه؛ لأنه لم يرد للبقاء أشبه الشجر، وجزة ظاهرة وقت عقد لبائع ونحوه، ولقطة أولى، وزهر تفتح وقت عقد لبائع ونحوه؛ لأنه يجني مع بقاء أصله، أشبه الشجر المؤبر، وعلى البائع ونحوه قطع الجزة الظاهرة واللقطة الأولى ونحوها في الحال، أي: فورًا؛ لأنه ليس له حد ينتهي إليه، وربما ظهر غير ما كان ظاهرًا، فيعسر التمييز، ما لم يشترط مشتر دخول ما لبائع عليه؛ فإن شرطه كان له؛ لحديث: «المسلمون عند شروطهم».
وقصب سكر كزرع يبقى لبائع إلى أوان آخذه؛ فإن أخذه بائع قبل أوانه لينتفع بالأرض لم يمكن منه، وقصب فارسي كثمرة، فما ظهر منه فلمُعْط، ويقطعه في أول وقته الذي يؤخذ فيه، وعروق القصب الفارسي لمشتري ونحوه؛ لأنها تترك في الأرض للبقاء فيها، أشبهت الشجر؛ فإن طلب من بائع ونحوه إزالة عروق قصب سكر مضرة بالأرض، لزمه ذلك؛ لأن عليه تسليم الأرض خالية، وكذا يلزمه إزالة عروق قطن وذرة، كنقل متاع وتسوية حفر، لما في بقائها من الضرر، وكذا كل ما لا يدخل في بيع على البائع إزالته.

حكم البذر إذا بقي أصله وإذا وهب البائع المشتري ما هو من حقه
س54: تكلم عن حكم البذر إذا بقي أصله، وإذا كان خيار لأحد المتبايعين، وعما إذا وهب البائع المشتري ما هو من حقه، أو اشترى نخلاً عليها طلع ظن المشتري أنه لم يؤبر، فبان مؤبرًا، أو قطع البائع الطلع، أو اشترى أرضًا أو نخلاً، ظن دخول زرع فيها أو ثمرة، ومن القول قوله في جهل ذلك؟ وهل تدخل مزارع قرية أو شجر في بيعها؟ وإذا باع إنسان إنسانًا شجرة، فهل له تبقيتها؟ وهل له الاجتياز إليها؟ وهل يدخل منبتها وإذا انقلعت أو بادت فما الحكم؟

ج: بذر بقي أصله، كبذر بقول وقثاء، وباذنجان ورطبة، كشجر يتبع الأرض؛ لأنه يتبعها لو كان ظاهرًا، فأولى إذا كان مستترًا؛ ولأنه يترك فيها للبقاء، وما لا يبقى أصله كبذر بر وقطنيات، فهو كزرع لبائع ونحوه، كما لو ظهر، ولمشتر جهل بذر الأرض أن لا يتبع الأرض بأن لم يعلم به، الخيار بين فسخ بيع، لفوات منفعة الأرض عليه ذلك العام، وبين إمضاء مجانًا بلا أرش؛ لأنه نقص بالأرض، ويسقط خيار مشتر إن حول البذر بائع من أرض مبادرًا بزمن يسير، لزوال العيب على وجه لا يضر بالأرض، أو وهب البائع المشتري ما هو من حقه وهو البذر، فلا خيار للمشتري؛ لأنه زاده خيرًا.
وإن اشترى أرضًا بذرها فيها صح، ودخل تبعًا، وكذا مشتر نخلاً عليها طلع ظن المشتري طلعها لم يؤبر، فبان مؤبرًا فيثبت له الخيار، ويسقط إن وهب بائع الطلع؛ لكن لا يسقط خيار بقطع الطلع؛ لأنه لا تأثير له في إزالة الضرر عن المشتري بفوات الثمرة ذلك العام.
ويثبت خيار لمشتر أرضًا أو شجرًا ظن دخول زرع بأرض، أو دخول ثمرة على شجر لبائع، كما لو جهل وجود الزرع والثمرة لبائع، لتضرره بفوات منفعة الأرض والشجر ذلك العام، والقول قول المشتري بيمينه في جهل ذلك إن جهله مثله كعامي؛ لأن الظاهر معه، وإلا لم يقبل قوله، ولا تدخل مزارع قرية بيعت بلا نص أو قرينة، بل الدور والحصن الدائر عليها؛ لأنه من مسمى القرية، وإن قال: بعتك القرية بمزارعها، أو دلت قرينة على دخولها كمساومة على الجميع، أو بذل ثمن لا يصلح إلا فيها وفي مزارعها، دخلت عملاً بالنص أو القرينة.
إذا باع رب بستان إنسانًا شجرة فأكثر من بستانه، فللمشتري تبقيتها في أرض البائع إن لم يشترط قلعها، كثمر على شجر بيع بعد بدو صلاحه، ويثبت للمشتري حق الاجتياز إليها لدلالة الحال عليه، فله الدخول لمصالحها من نحو سقي وتأبير، ولا يدخل منبتها من الأرض تبعًا لها؛ لأن اللفظ قاصر عنه، والمغرس أصل فلا يكون تبعًا إلا بشرط، ولا يبطل البيع بشغلها بمساقاة ونحوها، بل تبطل المساقاة مع البيع، ومع عدم الشرط، بل يكون للمشتري حق الانتفاع في الأرض النابتة فيها، فلو انقلعت الشجرة أو بادت لم يملك إعادة غيرها مكانها؛ لأنه لم يملكها كما تقدم، وانقطع حقه من الانتفاع بذلك.

من النظم فيما يتعلق ببيع الأصول والثمار
وفي بيع دار يدخل الأرضُ والبنا ... ومتصلٌ فيها لإصلاحها اعدد
كسلّمها المنصوب والرَّفِ مُوثقًا ... وأبوابها منصوبة خوفَ معتدي
وخابية منصوبة أو رحىً وفي العَلِيَّةِ ... والمفتاح وجهين أسند
كذا حكم مصراع أخوه مركب ... كذاك أرى في الباب ملقى بمرصد
وكنز وفرش ثم قفل وبكرة ... وحبل ودلو للذي باع في الغد
ومدفون أحجار كذا كل مودع ... به غير ما استثنيته فله زد
وللمشتري الأرضين جامدُ مَعْدَنٍ ... كمثل لْجَينٍ والحديدِ وعَسْجَدِ
وإن باع شخصٌ أرضَه بحُقوقها ... فبالغرس والبنيان للمشتري اشهد
وهل يدخلان إن لم يقل بحُقوقها ... هنا وكذا في الرهن وجهين أسند
... تدل على الصحرا وبنيانها طد
وإن باع شخصٌ قرية بقرينة ... مزارعها للدار بالبيع أفرد
وإن قرية بيعت ولم تشترط لها ... وما حاز من أشجارها في المجود
وإلا فما الصحرا له بل بناؤها ... وفجل وما مَحْصُودُهُ لَم يُردد
وإن بعت أرضًا ذات زرع كحنطة ... إهداؤها لأكثر من واحد
وسبع البدته لا يجوز ... على قلعه لكن إذا اشتد فاحصد
لك الزرع ما لم يشترط لست مكرهًا ... العروق وما حفرت منها فمهد
ويلزمك التنظيف للأرض من أذى ... فليس له بالأرض نفع مجدد
وإن تقتلعه قبل حين اقتلاعه ... وذا ثمن من بعد أخذ مردد
وإن كان مما جزه متكررًا ... فظاهر هذا حسب للبائع ارفد
كقثا وباذنجانهم وبنفسج ... اشترى وأبا الجلاب كالزرع فاعدد
كذا فارسي الأقصاب والأصل للذي ... وجز بقول خشبة من تزيد
ويلزم من قد باع في الحال لقطة ... وللمشتري التخيير مع جهل مقصد
وبذر الذي يختص كل به له ... خيار كذا تفريغها غير مبعد

فإن وهب البياع ذاك له فلا إذا باع شخص نخلاً أو وهبه وقد تشقق الطلع
س55: إذا باع شخص نخلاً أو هبهُ، أو رهن نخلاً فيه طلع فما الحكم؟ وما هي المسائل التي تدخل فيها الثمرة أبرت أو لم تؤبر؟ وإذا باع شجر عنب وتوت أو رمان أو نحوه، فلمن الثمر والورق والعراجين؟ ومن الذي يقبل قوله في بدو الثمر وتشقق الطلع؟ وما حكم شرط بائع ما لمشتر؟ وإذا ظهر أو تشقق بعض ثمرة أو بعض طلع، وعلى من يكون السقي؟

ج: من باع نخلاً، أو رهن نخلاً، أو وهب نخلاً تشقق طلعه، ولو لم يؤبّر –أي: يلقح، وهو وضع الفحال في طلع النخل- أو باع أو رهن أو وهب نخلاً به طلع فحال يُراد للتلقيح، أو صالح به، أو جعله أجرة أو صداقًا، أو عوض خلع أو طلاق أو عتق، فثمر وطلع فحال لم يَشترطهُ كلَّه أو يشترط بعضهُ المعلوم آخذٌ لمُعطٍ متروكٌ إلى جَذاذٍ؛ لما ورد عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر، فثمرتها للذي باعها، إلا أن يشترط المبتاع» متفق عليه.
وعن عبادة بن الصامت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أن ثمرة النخل لمن أبرها، إلا أن يشترط المبتاع. رواه ابن ماجه. ونص على التأبير، والحكم منوط بالتشقق لملازمته له غالبًا، وعن أحمد رواية أن الحكم منوط بالتأبير، وأنه إذا تشقق ولم يؤبر للمشتري؛ لظاهر الحديث، واختارها الشيخ تقي الدين وصاحب «الفائق»، وبه قال مالك والشافعي، وهذا القول هو الذي يترجح عندي. والله أعلم.
وألحق بالبيع باقي عقود المعاوضات؛ لأنها في معناه، وألحق بذلك الهبة، لزوال الملك بغير فسخ، وتصرف المتهب بما شاء أشبه المشتري والرهن؛ لأنه يُراد للبيع ليستوفي الدين من ثمنه، وترك إلى الجذاذ؛ لأن تفريغ المبيع بحسب العرف والعادة، كدار فيها أطعمة أو متاع. وإن اشترطه كله مشتر، أو شرط بعضًا معلومًا، فله ما شرطه للخبر، ما لم تجر عادة بأخذ التمر بُسْرًا، أو يكن بسره خيرًا من رطبه، فيجذه بائع إذا استحكمت حلاوة بسره؛ لأنه عادة أخذه إن لم يشترطْ مُشترٍ قطعهُ على بائع؛ فإن شرطه عليه قطع وما لم يتضرر النخل ببقائه؛ فإن تضررت قطع؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر، بخلاف وقف ووصية؛ فإن الثمرة تدخل فيهما نصًا، أبَّرَت أو لم تؤبّر، كفسخ بيع أو نكاح قبل دخول، لعيب ومقايلة في بيع. وجملة ذلك أن الشجر على خمسة أقسام: أحدها: ما يكون ثمره في أكمامه، ثم تتفتح الأكمام فيظهر كالنخل الذي وردت السُّنة فيه، وهو الأصل، وما عداه مقيس عليه وملحق به، ومن هذا الضرب القطن، وما يُقصد نوره كالورد والياسمين والنرجس والبنفسج؛ فإنه تظهر أكمامه ثم تنفتح فيظهر، فهو كالطلع إن تفتح جنبذه فهو للبائع، وإلا فهو للمشتري.
الثاني: ما تظهر ثمرته بارزة لا قشر عليها ولا نور، كالتين والتوت والجُمَّيْزِ، فهي للبائع؛ لأن ظهورها من شجرها بمنزلة ظهور الطلع من قشره.
الثالث: ما يظهر في قشره، ثم يبقى فيه إلى حين الأكل، كالرمان والموز، فهو للبائع أيضًا بنفس الظهور؛ لأن قشره من مصلحته، ويبقى فيه إلى حين الأكل، فهو كالتين، ولأن قشره ينزل منزلة أجزائه للزومه إياه، وكونه من مصلحته.
الرابع: ما يظهر في قشرين كالجوز واللوز، فهو للبائع أيضًا بنفس الظهور؛ لأن قشره لا يزول عنه غالبًا إلا بعد جذاذه، فأشبه الضرب الذي قبله؛ ولأن قشر اللوز يؤكل معه، فأشبه التين، وقال القاضي: إن تشقق القشر الأعلى، فهو للبائع، وإن لم يتشقق، فهو للمشتري كالطلع؛ لأن الطلع لابد من تشققه، وتشققه من مصلحته، وهذا بخلافه؛ فإنه لا يتشقق على شجره، وتشققه قبل كماله يفسده.
الخامس: ما يظهر نوره ثم يتناثر، فتظهر الثمرة كالتفاح والمشمش والإجاص والخوخ، فإذا تفتح نوره وظهرت الثمرة فيه فهي للبائع، وإن لم تظهر فهي للمشتري، وقيل: ما تناثر نوره فهو للبائع، وما لا فهو للمشتري؛ لأن الثمرة لا تظهر حتى يتناثر النور، والعنب بمنزلة ما له نور؛ لأنه يبدو في قطوفه شيء صغار كحب الدخن، ثم ينفتح ويتناثر كتناثر النور، فيكون من هذا القسم. والله أعلم.
وأما الأغصان والورق وسائر أجزاء الشجر فهو للمشتري بكل حال؛ لأنه من أجزائها خلق لمصلحتها، فهو كأجزاء سائر المبيع. اهـ من «المغني».
ويقبل قول معط من نحو بائع وواهب في بدو ثمرة قبل عقد، لتكون باقية له؛ لأن الأصل عدم انتقالها عنه ويحلف. ويصح شرط بائع ونحوه ما لمشتر ونحوه، أو شرطه جزءًا منه معلومًا من نحو ربع أو خمس، كما تقدم في طلع النخل، وله تبقيته إلى جذاذ، ما لم يشترط عليه قطع غير المشاع، وإن ظهر أو تشقق بعض ثمرة، أو بعض طلع ولو من نوع، فما ظهر أو تشقق لبائع ونحوه لما سبق، وغير الذي تشقق أو ظهر لمشتر ونحوه للخبر، إلا إذا ظهر أو تشقق بعض ثمرة في شجرة، فالكل لبائع ونحوه؛ لأن بعض الشيء الواحد يتبع بعضه.  ولكل من معط وآخذ السقي لما له لمصلحة، ويرجع فيها إلى أهل الخبرة، ولو تضرر الآخر بالسقي، لدخولهما في العقد على ذلك؛ فإن لم تكن مصلحة في السقي منع منه؛ لأن السقي يتضمن التصرف في ملك الغير، والأصل المنع، وإباحته للمصلحة.

من النظم فيما يتعلق في بيع الأشجار بعد ظهور حملها والنخل مؤبرًا
ومن باع أشجارًا تبين حملها ... أو النخل مأبورًا بطلع منضد
له الحمل بل إن يشترط مشتر يجز ... مبقي إلى وقت الجذاذ المعود
وذاك بأن يبدو بصورة كامل ... وفي الطلع بالتشقيق غي رمقيد
وقد قيل من فحل لما باع مطلقًا ... وإن لم يؤبر طلع أكل معود
وقيل وبادي النور قبل انفتاحه ... ومشقوق أعلى القشر قطفي التعدد
وما قيل والأوراق للمشتري فقط ... سوى ورق التوت المفتح بأبعد
وكل له إن يشترط ما لخصمه ... وفي الفسخ أتبع أصله لا تقيد
وقول الذي قد باع يقبل أنه ... بدا قبل بيع الأصل بالأصل فاعضد
وكالنخل قطن ياسمين بنفسج ... ونرجسهم وردًا من الكم يبتدي
وما بان في البستان من نوعه له ... وما لم يبن للمشتري في المؤطد
وما نوع جنس موجبًا لظهوره ... بدو لنوعي جنسه في المجود
وللبائع السقيا وإن ضر أصله ... كحاج كذاك العكس للمشتري امهد
وإن خيف بالبقيا على أصله التوى ... فوجهين في إلزامه القطع أسند


بيع الثمر قبل بدو صلاحه والزرع قبل اشتداده
س56: ما حكم بيع الثمر قبل بدو صلاحه، والزرع قبل اشتداد حبه؟ وهل يلزم القطع إذا شرط؟ وما الذي يستثنى من ذلك؟ واذكر ما تستحضره من دليل، أو تعليل، أو تفصيل، أو خلاف، أو ترجيح.

ج: لا يصح بيع الثمرة قبل بدو صلاحها؛ لحديث ابن عمر قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع» متفق عليه. والنهي يقتضي الفساد. ولا يصح بيع الزرع قبل اشتداد حبه؛ لحديث ابن عمر: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع السنبل حتى يبيض، ويأمن العاهة» رواه مسلم. وعن أنس مرفوعًا: «نهى عن بيع الحب حتى يشتد» رواه أحمد والحاكم. وقال: على شرط مسلم. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تتبايعوا الثمار حتى يبدو صلاحها» رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه.
وعن أنس «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع العِنَب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد» رواه الخمسة إلا النسائي. وعن أنس «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمرة حتى تزهى»، قالوا: وما تزهى؟ قال: «تحمر» الحديث، أخرجاه. ويُستثنى من ذلك إذا باع الثمرة لمالك أصلها قبل بدو صلاحها، أو باع الزرع قبل اشتداد حبه لمالك أرضه، صح البيع لحصول التسليم للمشتري على الكمال، لملكه الأصل والقرار، فصح كبيعهما معًا ولا يلزم مالك الأصل ومالك الأرض قطع ثمرة أو زرع شُرِطَ في البيع؛ لأن الأصل والأرض لهما. وقيل: لا يجوز بيع الثمر قبل بدو صلاحه، ولا الزرع قبل اشتداد حبه لمالك الأرض والأصل؛ لأن العقد يتناول الثمرة خاصة، والغرر فيما يتناوله العقد أصلاً يمنع الصحة، كما لو كانت الأصول لأجنبي؛ ولأنها تدخل في عموم النهي، بخلاف ما إذا باعهما معًا؛ فإنه مستثنى بالخبر المروي فيه؛ ولأنَّ الغرر فيما يتناوله العقد أصلاً يمنع الصحة، وفيما إذا باعهما معًا تدخل الثمرة تبعًا، ويجوز في التابع ما لا يجوز في المتبوع، كما يجوز بيع اللبن في الضرع والحمل مع الشاة، والذي يترجح عندي أنه لا يجوز بيعهما للمالك قبل البدو والاشتداد كغيره؛ لأن الحديث عام، والعلة عامة. والثالثة مما يُستثنى: إذا بيعا مَعَ أصلهما، فيصح البيع، لحصوله فيهما تبعًا، فلم يضر احتمال الغرر فيه، كما احتملت الجهالة في لبن ذات اللبن، والنوى في التمر. الرابعة: إذا باعها بشرط القطع في الحال؛ لأن المنع لخوف التلف وحدوث العاهة قبل الأخذ، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس :"أرأيت إن منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟" رواه البخاري، وهذا مأمون فيما يقطع، فصح بيعه، كما لو بدا صلاحه، وإذا بيعا بشرط القطع اشترط شرطان: أحدهما: أن يكونا منتفعًا بهما؛ فإن لم ينتفع بهما لم يصح، لما تقدم في شروط البيع.
الثاني: أن لا يكونا مشاعين؛ فإن كانا كذلك بأن باعه النصف ونحوه بشرط القطع، لم يصح؛ لأنه لا يمكنه قطعه إلا بقطع ملك غيره، فلم يصح اشتراطه؛ فإن اشترى الثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع، ثم استأجر الأصول، أو استعارها مشتر بشرط القطع لتبقية الثمرة أو أوان الجذاذ، لم يصح. وكذا لو اشترى الزرع الأخضر بشرط القطع في الحال، ثم استأجر الأرض، أو استعارها لتبقية الثمرة، لم يصح؛ لأن البيع يبطل بأول زيادة.
ولا يجوز بيع القثاء والخيار والباذنجان وما أشبهه إلا لقطة لقطة، أو جزة جزة، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك: يجوز بيع الجميع؛ لأن ذلك يشق تمييزه، فجعل ما لم يظهر تبعًا لما ظهر، كما أن ما لم يبد صلاحه تبع لما بدا، ودليل القول الأول ما روى مسلم وأصحاب السنن: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر، وهذا غرر، وأنها ثمرة لم تخلق، فلم يجز بيعها، كما لو باعها قبل ظهوره شيء منها، والحاجة تندفع ببيع أصوله، ولأن ما لم يبد صلاحه يجوز إفراده بالبيع، بخلاف ما لم يخلق؛ ولأن ما لم يخلق من ثمرة النخل لا يجوز بيه تبعًا لما خلق، وإن كان ما لم يبد تبعًا لما بدا ولا يجوز بيع ما المقصود منه مستور في الأرض، كالجزر والفجل والبصل والثوم حتى يقلع ويشاهد، وهذا قول الشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي، وأباحه مالك والأوزاعي وإسحاق؛ لأن الحاجة داعية إليه، فأشبه بيع ما لم يبد صلاحه تبعًا لما بدا.
ودليل القول الأول: أنه مبيع مجهول لم يره ولم يوصف له، فأشبه بيع الحمل؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن بيع الغرر» رواه مسلم. وهذا غرر؛ وأما بيع ما لم يبد صلاحه فإنما جاز بيعه؛ لأن الظاهر أنه يتلاحق في الصلاح، ويتبع بعضه بعضًا. وفي «الاختيارات الفقهية» (129): والصحيح أنه يجوز بيع المقاثي جملة بعروقها، سواء بدا صلاحها أو لم يَبْدُ، وهذا القول له مأخذان: أحدهما: أن العروق كأصول الشجر، فبيع الخضروات قبل بدو صلاحها كبيع الشجر بثمرة قبل بدو صلاحه يجوز تبعًا. والمأخذ الثاني، وهو الصحيح: أن هذه لم تدخل في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل يصح العقد على اللقطة الموجودة واللقطتان إلى أن تَيْبَسَ المقثأة؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك، ويجوز بيع المقائي دون أصولها. وقاله بعض أصحابنا. اهـ. واختار ابن القيم جواز بيع المقائي، وللمشتري اللقطة الموجودة، وما يحدث بعدها إلى أن تيبس المقثأة، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس. والله أعلم.

على من يكون الحصاد والجذاذ
س57: على من يكون الحصاد والجذاذ؟ وإذا حدث مع ثمرة انتقل ملك أصلها ثمرة أخرى، أو اختلطت مشتراة بغيرها، فما الحكم؟ ومتى يجوز بيع الثمرة والحب، وعلى من يكون السقي، واذكر الدليل والتعليل والخلاف.

ج: حصاد زرع يبيع حيث صحَّ على مُشترٍ، وجذاذ ثمرٍ بيع حيث يصح على مُشتر، ولقاطُ ما يُباعُ لقطة لقطةً على مشترٍ ونحوه كمتهبٍ؛ لأن نقل المبيع، وتفريغ ملك البائع منه على المشتري كنقل مبيع من محل بائع، بخلاف كيل ووزن، فعلى بائعٍ كما تقدم؛ لأنها من مؤونة تسليم المبيع، وهي على البائع، وهنا حصل التسليم بالتخلية بدون القطع، لجواز بيعها والتصرف فيها، وإن ترك مشترٍ ثمرًا أو زرعًا شُرِط قطعُهُ حيثُ لا يصح بدونه، وبطل البيع بزيادته، لئلا يتخذ ذلك وسيلة إلى بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وتركها حتى يبدو صلاحها، ووسائل الحرام حرام كبيع العينة، وهذه من المفردات.

قال ناظمها:
من اشترى شيئًا كنحو الثمرة ... قبل صلاح حالها المشتهرة
بشرط قطع كي يصح المشتري ... فإن تزد بتركه رد الشرا


وعند الأئمة الثلاثة وأكثر أهل العلم: لا يبطل؛ لأن أكثر ما فيه أن المبيع اختلط بغيره، أشبه ما لو اشترى ثمرة، فاختلطت بأخرى ولم تتميز، أو حنطة فانثالت عليها أخرى. وعنه: البيع صحيح، ويشتركان في الزيادة. وعنه: يتصدقان بها، ووجه الرواية الأولى: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها»، فاستثنى نه ما اشتراه بشرط القطع، فقطعه بالإجماع، فيبقى ما عداه على أصل التحريم؛ ولأن التبقية معنى حرم الشرع اشتراطه لحق الله تعالى، فأبطل العقد وجوده، كالنسيئة فيما يحرم فيه النساء وترك التقابض فيما يشترط فيه القبض أو الفضل فيما يجب التساوي فيه، وهذا القول هو الذي يترجح عندي. والله أعلم.
ويعفي عن يسير الزيادة عُرفًا لعُسر التحرز منه. وكذا في بطلان البيع بالترك لو اشترى رطبًا عرية ليأكلها، فتركها ولو لعذر حتى أثمرت، فصارت تمرًا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «يأكلها أهلها رطبًا» ولأن شراءها كذلك إنما جاز للحاجة إلى أكل الرطب، فإذا أثمر تَبينًا عدم الحاجة، وسواء كان لعذر أو غيره، وحيث بطل البيع عادت الثمرة كلها للبائع تبعًا لأصلها، وإن حدَثَ مَعَ ثمرة انتقل ملك أصلها ثمرةٌ أخرى، كما لو باع شجرًا فيه ثمر للبائع، بأن كان نخلاً تشقق طلعه أو شجرًا ظهرت ثمرته، أو باع ما فيه زهر أو قطن خرج من أكمامه، أو أصول قثاء ونحوها بعد ظهور ثمرتها.
 قالوا: ويصدق في التين والنبق والسفرجل؛ أن النبق يحمل حملين: أحدهما: يُسمى بعلاً، والثاني: يسمى نيروزي ووزيري، وهما حملان في وقتين، والسفرجل سدسي وصَيْفي–فالحادث للمشتري؛ لأنه نماء ملكه، والسابق الذي كان ظاهرًا للبائع، أو اختلطت ثمرة مشتراة بعد بدو صلاحها بغيرها، ولم تتميز الحادثة؛ فإن علم قدر الحادثة بالنسبة إلى الأولى كالثلث، فالآخذ وهو المستحق للحادثة شريك بذلك القدر المعلوم، وإلا تعلم قدرها اصطلحا على الثمرة، ولا يبطل البيع لعدم تعذر تسليم للبيع، وإنما اختلط بغيره، أشبه ما لو اشترى صبرة، واختلطت بغيرها، ولم يعرف قدر كل منهما، بخلاف شراء ثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع، فتركها حتى بدا صلاحها؛ فإن البيع يبطل كما تقدم، لاختلاط المبيع بغيره، بارتكاب نهي، وكونه يتخذ حيلة على شراء الثمرة قبل بدو صلاحها، ويفارق مسألة العارية أيضًا؛ لأنها تتخذ حيلة على شراء الرطب بالتمر بلا حاجة إلى أكله رطبًا، وحيث بقي البيع، فهو كتأخير قطع خشب اشتراه مع شرط القطع فزاد، فلا يبطل البيع، ويشترك البائع والمشتري في زيادة الخشب.
وقال ابن قندس في حاشية «الفروع»: ويطلب الفرق بين الثمرة والخشب، فيقال: لِمَ بطل العقد في الثمرة بالزيادة، ولم يبطل في الخشب؟ فقد يقال: الفرق أن الترك في مسألة الثمرة اختل به شرط صحته شرط القطع، ولو بيع من غير شرط القطع لم يصح؛ لأن الثمرة قبل بدو الصلاح متعرضة للآفة، بخلاف الخشب؛ فإنه لا يُشترط في صحة بيعه شرط القطع، لعدم تعرضه للآفة، فإذا شرط قطعه ثم ترك، لم يحصل اختلاط شرط صحة العقد، وإنما اختل شرط ما اتفقا عليه بينهما في العقد، ولو لم يذكر صح العقد. اهـ.
وإن اشترى إنسان قصيلاً فقطعه، ثم نبت في العام المقبل، فلصاحب الأرض؛ لأن المشتري ترك الأصول على سبيل الرفض لها، فسقط حقه منها، كما سقط حق حاصد الزرع من السنابل التي يدعها، ولذلك أبيح التقاطها، ولو سقط من الزرع حب، ثم نبت من العام المقبل، فهو لصاحب الأرض. قاله في «الشرح» ومتى بدا صلاح ثمر جاز بيعه، أو اشتد حب جاز بيعه بلا شرط القطع، وجاز بيعه بشرط تبقية الثمر إلى الجذاذ، والزرع إلى الحصاد، لمفهوم الخبر، وأمن العاهة.
ولمشتر تبقيته إلى الجذاذ وحصاد، لاقتضاء العرف، ولمشتر بيع الذي بدا صلاحه، والزرع الذي اشتد حبه قبل جذه؛ لأنه مقبوض بالتخلية فجاز التصرف كسائر المبيعات، ولمشتر قطعه في الحال. وعلى بائع سقي الثمر بسقي الشجرة، ولو لم يحتج إليه؛ لأنه يجب عليه تسليمه كاملاً، بخلاف شجر بيع عليه ثمر لبائع، فلا يلزم مشتريًا سقيه؛ لأن البائع لم يملكه من جهته، وإنما بقي ملكه عليه، وعلى البائع سقيه ولو تضرر الأصل بالسقي؛ لأنه دخل على ذلك، ويجبر بائع على سَقْي إن أبى السقي لدخوله عليه.

إذا تلفت ثمرة بيعت بعد بدو صلاحها
س58: تكلم بوضوح عما إذا تلفت ثمرة بيعت بعد بدو صلاحها دون أصلها قبل أوان جذاذها بآفة، أو تعَيّبَت بالجائحة قبل أوان جذَاذهَا، وعما يتكرر حَمْلهُ من النبات، وعن صلاح بعض ثمرةِ شجرةٍ، وعن كيفية صلاح الثمر بالتفصيل، وبِمَ يكون صلاحُها؟ وما الذي يشمله بيعُ الدابة، وبيعُ القن؟ وما يتعلق بذلك من شرط، أو فسخٍ، أو إقالةٍ أو ردٍ، أو نحو ذلك، مع ذكر الدليل والتعليل والخلاف والترجيح؟

ج: وما تلف بجائحة من ثمر بعد بدو صلاحه مُنفردًا على أصوله قبل أوان أخذ، أو قبل بدو صلاحه بشرط القطع قبل التمكن منه سوى يسير لا ينضبط – والجائحة: الآفة التي تهلك الثمار والأموال وتستأصلها وكل مصيبة عظيمة، وفتنة مُبيرة جائحة، والجمع: الجوائح، وجاح الله المال، وأجاحه: أهلكه، والسَّنَة كذلك، والمراد هنا: ما لا صنع لآدمي فيها. وذلك كجراد وحر وبَرْد وبَرد وريح وعطش– ولو كان تلفه بعد قبضه بتخليته، فضمانه على بائع.
ويعابا بها، فيقال: مبيع قبضه المشتري، ومع ذلك مضمون على البائع؛ لما ورد عن جابر «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع الجوائح» رواه أحمد والنسائي وأبو دود. وفي لفظ لمسلم: «أمر بوضع الجوائح»، وفي لفظ، قال: «إن بعت من أخيك ثمرًا، فأصابها جائحة؛ فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق!» رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه. والقول بوضع الجوائح من مفردات المذهب.

قال ناظم المفردات:
وإن يكن بعد الصلاح المشتري ... ونزلت جائحة بها ترى
عن مشتر فوضعها لا ينتفي ... ومالك لابد بالثلث تفي

وقال أبو حنيفة والشافعي في الجديد: كل ما تهلكه الجائحة من الثمر على أصوله قبل أوان الجذاذ من ضمان المشتري؛ لما روى أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت: إن ابني اشترى ثمر من فلان، فأذهبتها الجائحة، فسأله أن يضع عنه، فتألى أن لا يفعل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «تألى فلان أن لا يفعل خيرًا» متفق عليه.  ولو كان واجبًا لأجبره عليه؛ وأن التخلية يتعلق بها جواز التصرف، فتتعلق بها كالنقل والتحويل؛ ولأنه لا يضمنه إذا أتلفه آدمي، فكذلك لا يضمنه بإتلاف غيره.
قال أهل القول الأول: لا حجة لهم في حديثهم؛ فإن فعل الواجب خير، فإذا تألى أن لا يفعل الواجب، فقد تألّى ألا يفعل خيرًا، فأما الإجبار فلا يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بمجرد قول المدعي من غير إقرار من البائع، ولا حضور؛ ولأن التخلية ليست بقبض تام، بدليل ما لو تلفت بعطش عند بعضهم، ولا يلزم من إباحة التصرف تمام القبض، بدليل المنافع في الإجارة يباح التصرف فيها، ولو تلفت كانت من ضمان المؤجر، كذلك الثمرة فإنها في شجرها كالمنافع قبل استيفائها، توجد حالاً فحالاً.
وقياسهم يبطل بالخلية في الإجارة. قاله في «المغني» ورجح القول الأول القرطبي والشوكاني في «نيل الأوطار»، وابن القيم في «تهذيب السنن»، وفي «إعلام الموقعين» ورَدَّ قولَ مَن قال: إنه من ضمان المشترين وهذا هو الذي يترجح عندي، والله أعلم. ويقبل قول بائع في قدر تالف؛ لأنه غارم، وتكون من ضمان المشتري في مسألتين: إذا بيعت الثمرةُ مع أصلها. المسألة الثانية: إذا أخر مشتر أخذها عن عادته؛ فإن أخره عنه فمن ضمان المشتري لتلفه بتقصيره، وإن تعيبت الثمرة بالجائحة قبل أوان جذاذها، خير مشتر بين إمضاء بيع وأخذ أرش، أو رد مبيع وأخذ ثمن كاملاً؛ لأن ما ضمن تلفه بسبب في وقت كان ضمان تعيبه فيه بذلك من باب أوّلى، وإن تلف الثمر بصنع آدمي، ولو بائعًا أو لصًا أو عَسْكرًا، فحرقه ونحوه، خير مشتر بين فسخ بيع، وطلب بائع بما قبضه، ونحوه من ثمن أو إمضاء بيع ومطالبة متلفه ببدله، وإن أتلف مشتر فلا شيء عليه. وأصل ما يتكرر حمله من قثاء وخيار وبطيخ ونحوه، كثمر شجر في جائحة وغيرها مما سبق تفصيله.
فائدة: تختص الجائحة بما تقدم على الصحيح من المذهب، وعليه أكثر الأصحاب، واختار الشيخ تقي الدين –رحمه الله- ثبوت الجائحة في زرع مستأجر، وحانوت نقص نفعه عن العادة. وقال الشيخ تقي الدين –رحمه الله- أيضًا: قياس نصوصه وأصوله إذا عطل نفع الأرض بآفة، انفسخت فيما بقي، كانهدام الدار، وأنه لا جائحة فيما تلف من زرعه؛ أن المؤجر لم يبعه إياه، ولا ينازع في هذا من فهمه، قاله في «الإنصاف».
وإن استأجر إنسانٌ أرضًا فزرعها، فتلف الزرع ولو بجائحة سماوية، فلا شيء على المؤجر فيما قبضه من الأجرة، وإن لم يكن قبضها فله الطلب بها؛ لأنها تستقر بمضي المدة، انتفع المستأجر أولاً، وصلاح بعض ثمرةِ شجرةٍ صلاح لجميع ثمر أشجار نوعها الذي في البستان؛ لأن اعتبار الصلاح في الجميع يشق، وكالشجرة الواحدة؛ ولأنه يتتابع غالبًا، فاكتفى ببدو صلاح بعضه؛ لأن الله امتن علينا، فجعل الثمار لا تطيب دفعة واحدة، إطالة لزمن التفكه، فلو اعتبر في طيب الجميع لأدى إلى أن لا يباع شيء قبل كمال صلاحه، أو تباع الحبة بعد الحبة، وفي كل منهما حرج ومشقة.
فمثلاً صلاح السَّلجة صلاح لها ولغيرها من نوعها، وصلاح الخطرية صلاح لها ولغيرها من نوعها، وصلاح السُّكَّريَّة صلاح لها ولغيرها من نوعها، وهذا قول الشافعي وكثير من العلماء. وقال ابن القيم: إذا بدا الصلاح في بعض الشجر جاز بيعها جميعها، وكذلك يجوز بيع ذلك النوع كله في البستان.
وفي «الاختيارات الفقهية»: وإذا بدا صلاح بعض الشجرة جاز بيعها، وبيع ذلك الجنس، وهو رواية عن أحمد وقول الليث بن سعد، وفي «الفروع»: واختار شيخنا بقية الأجناس التي تباع عادة كالتفاح، والعلة عدم اختلاف الأيدي على الثمرة والصلاح فيما يظهر من الثمر فما واحدًا، كبلح وعنب طيبُ أكله وظهورُ نضجه؛ لقول أنس - رضي الله عنه - : «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع العنب حتى يطيب» متفق عليه.
والصلاح فيما يظهر فما بعد فم، كقثاء أن يؤكل عادة كالثمر، والصلاح في حب أن يشتد أو يبيض؛ لأنه –عليه السلام- جعل اشتداده غاية لصحة بيعه، كبدو صلاح ثمر، ويشمل بيع دابة لجامًا ومقودًا ونعلاً، لتبعيته لها عرفًا، ويشمل بيع قن ذكرٍ أو أنثى لباسًا معتادًا عليه؛ لأنه مما يتعلق به حاجدة البيع أو مصلحته، وجرت العادة ببيعه معه، ولا يأخذ مشتر ما لجمال من لباس وحلي؛ لأنه زيادة على العادة، ولا يتعلق به حاجة المبيع، ولا يشمل البيع مالاً مع الرقيق أو بعض ما لجمال وبعض المال، إلا أن يشترط المشتري ذلك أو بعضه في العقد؛ لحديث ابن عمر مرفوعًا: «من باع عبدًا وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترط المبتاع» رواه مسلم.
ثم إن قصد ما اشترط، ولا يتناوله بيع لولا الشرط بأن لم يرد تركه للقن اشترط له شروط البيع من العلم به، وأن لا يشارك الثمن في علته ربا الفضل ونحوه، كما يعتبر ذلك في المعينين المبيعين؛ لأنه مبيع مقصود أشبه ما لو ضم إلى القن عينًا أخرى وباعهما، وإلا يقصد مال القن أو ثياب جماله، أو حليه، فلا يشترط له شروط البيع لدخوله تبعًا غير مقصود، أشبه أساسات الحيطان، وتمويه سقف بذهب.
وللمبتاع الفسخ بعيب مال الرقيق المقصود، كما أن له الفسخ بعيب يجده في الرقيق، وإن رد الرقيق بإقالة أو خيار شرط أو خيار عيب، أو غبن أو تدليس رد ماله معه؛ لأن عين مال أخذه المشتري به فيرده بالفسخ كالعبد، ورد بدل ما تلف من المال عنده، كما لو تعيب عنده، ثم رده، ولا يفرق بين العبد المبيع ببيعه، بل النكاح باق مع البيع، لعدم ما يوجب التفريق.

من النظم فيما يتعلق ببيع الثمار قبل بدو صلاحها
وبيع ثمار قبل بدو صلاحها ... بلا شرط قطع ألغ لكن به طد
كذا الزرع من قبل اشتداد حبوبه ... إذا كان في المقطوع نفع لقصد
كذا بيع باذنجانهم وخياره ... وشبههما من مثمر متجدد
فلا تشر إلا لقطة بعد لقطة ... وفي رطبة في كل جزةٍ ابتدي
وبيعكه مع أصله جائز كذا ... شرا مالك الأصل الثمار بمبعد
كذلك في بيع القصيل وأرضه ... من الحكم والتفصيل ما قد مضى امهد
ومحتمل وجهين قبل حصادها ... على بائع بل من شراها ليحصد
وإن حدثت فوق الثمار لمشتر ... ثمار فتصحيح المبيع ليشهد
فإن ميزا قدر النصيبين شوركا ... وإلا إلى الصلح انفصالهما عد
فإن كان يدري بائع بحدوثها ... فباع فعقد البيع يا صاح أفسد
وإن تشتريها قبل بدو صلاحها ... لقطع فتترحها ولو لم تعمد
إلى أن بدا فالبيع أبطل بأوكد ... وللبائع احكم واقض بالمتزيد
وذا قدرها ما بين بيع وأخذها ... وقد قل ما بين الشرا والتنضد
وإن تمض بيعًا فهي بينهما معًا ... وقيل لمبتاع وعنه بها جد
وبذلهما ندب فإن أبيا يكن ... مشاركة حتى تراضيهما ارصد
كذا الحكم في الرطب العرايا حبسته ... إلى حين إتمار فقيد وقلد
وما تشتري من بعد بدو صلاحه ... يجز تركه حتى الجذاذ ويمهد
ويلزم من قد باعه سقيه وإن ... تضرر أصل عند حاجته قد
وإن نبت المقصول أو حب حاصل ... فذاك لرب الأرض في نص أحمد
وبالصفرة النخل اعتبر أو بحمرة ... وفي العنب التمويه إن تره اعقد
وفي غير هذين اعتبره بنضجه ... كتين وكمثرى وطيبة مزود
وللمشتري بعد الصلاح وقيل إن ... يحد يجوز البيع في المتأكد
بدو صلاح الجنس من نوع حائط ... صلاح لكل النوع في المتأطد
وليس صلاح الجنس شرطًا لغيره ... ولا حائط شرط لآخر مفرد
وفي بصل فامنع وفي جزر وما ... يضايهما في الأرض بيعا وصدد
ومن يشر أثمارًا فتمحق بآفة ... سماوية من قبل قطع معود
فللمشتري الرجعى على من يبيعها ... إذا لم تجاوز وقت قطع محدد
ولو قل في الأولى ويضبط عادة ... ومع أصله إن بيع لم يضمن اشهد
وعن أحمد لا يضمن دون ثلثه ... بتقويمه بل قيل بالقدر حدد
وإن تشر عبدًا باشتراط لماله ... مع الجهل إن يملك فصحح تسدد
وعينًا ودينًا مع أقل وأزيد
ولو كان من جنس الذي ابتعته به ... خلا إن يريد العبد لا غير فاعقد
وإن قلت لم يملك فكالبيع شرطه ... لبائعه غير اللباس المعود
وذاك على القولين من غير شرطه



المجلد الرابع 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 6:29 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المجلد الرابع Empty
مُساهمةموضوع: رد: المجلد الرابع   المجلد الرابع Emptyالجمعة 20 نوفمبر 2015, 7:27 am

باب السلم والتصرف في الدين وما يتعلق به
س59: ما هو السلم؟ ولِمَ سمي سلمًا وسلفًا؟ وبِمَ ينعقد؟ وما سنده؟ وكم شروطه؟

ج: السلم والسلف واحد في قول أهل اللغة، إلا أن السلف يكون قرضًا؛ لكن السلم لغة أهل الحجاز، والسلف لغة أهل العراق. وسمي سلمًا لتسليم رأس المال في المجلس، وسلفًا لتقديمه.  وحدّه في الشرع: عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس العقد. وهو جائز بالكتاب والسُّنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } [البقرة: 282]. وروى سعيد بإسناده عن ابن عباس أنه قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه، أذن فيه، ثم قرأ هذه الآية؛ ولأن هذا اللفظ يصلح للسلم، ويشمله بعمومه.
وأما السُّنة: فروى ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قدم المدينة، وهم يسلفون في الثمار السنتين والثلاث، فقال: «من أسلف في شيء، فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» متفق عليه., وروى البخاري عن محمد بن أبي المجالد، قال: أرسلني أبو بردة وعبد الله بن شداد إلى عبد الرحمن بن أبزى، وعبد الله بن أبي أوفى، فسألتهما عن السلف، فقالا: كنا نصيب المغانم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام، فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب، فقلت: أكان لهم زرع، أم لم يكن؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك. وأما الإجماع: فقال ابن المنذر: أجمع كل من تحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز؛ ولان المثمن في البيع أحد عوضي العقد، فجاز أن يثبت في الذمة كالثمن؛ ولأن الناس في حاجة إليه؛ لأن أرباب الزرع والثمار والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم وعليها لتكمل، وقد تعوزهم النفقة، فجوز لهم السلم، ليرتفقوا ويرتفق المسلم بالاسترخاص. ويصح السلم بلفظه، كأسلمتك هذا الدينار في كذا من القمح، ويصح بلفظ سلف، كأسلفتك كذا في كذا؛ لأنهم حقيقة فيه لأنهما للبيع الذي عجل ثمنه، وأجل مثمنه، ويصح بلفظ بيع، وكل ما ينعقد به البيع، والسلم نوع من البيع؛ لأنه بيع إلى أجل، فشمله اسمه.

ويصح بشروط سبعة زائدة على شروط البيع، فتكون أربعة عشر شرطًا.
س60: تكلم بوضوح عن الشرط الأول من شروط السلم، وما الأوصاف التي لابد منها، وبم يضبط الحيوان؟ وما الحكم فيما إذا أسلم في مكيل أو نحوه، أو في أمة أو في فواكه، أو بقول، أو جلود ونحوها، أو في أواني، أو فيما لا ينضبط أو يجمع أخلاطًا، أو ما فيه لمصلحته، أو في أثمان أو في فلوس أو عرض، أو في قسي، أو في ترس، أو في معين؟ واذكر ما لذلك من تتمة؟ واذكر ما لذلك من دليل أو تعليل أو تفصيل أو خلاف.

ج: الأول: كون مُسْلَمٍ فيه مما يمكن انضباط صفاته؛ أن ما لا تنضبط يختلف كثيرًا، فيفضي إلى المنازعة المطلوب عدمها شرعًا. وقال الوزير: اتفقوا على أن السلم جائز في المكيلات، والموزونات، والمزروعات التي يضبطها الوصف. وقال الموفق وغيره: المتفق عليه ثلاثة أوصاف: الجنس، والنوع، والرداءة، وأن هذه لابد منها في كل مسلم بلا خلاف، ويضبط الحيوان بتسعة أوصاف: الجنس، والنوع، والرداءة، والسن، واللون، والقدر، والهزال، والسمن، والجودة. وذلك الذي يمكن انضباط صفاته، كمكيل من حبوب، وأدهان، وألبان، وموزون من ذهب وفضة وحديد ونحاس ورصاص وقطن وكتان وصوف وإبريسم وشهد ونحوها، ولو كان الموزون شحمًا نيئًا.
قيل لأحمد: إنه يختلف، قال: كل سلف يختلف، ولحمًا ولو مع عظمه؛ لأنه كالنوى في التمر إن عين محل يقطع منه، كظهر وفخذ وجنب، ويعتبر إذا أسلم في لحم أن يقول: لحم ذكر أو أنثى، مع بيان نوع كبقر أو جواميس أو ضأن أو معز، وبيان صفة من سمن وهزال وخصي وغيره، رضيع أو فطيم معلوف أو راع من الكلأ؛ لأن الثمن يختلف بهذه الأشياء، فاعتبر بيانها. وإن كان لحم صيد لم يحتج في الوصف لذكر علف وخصاء وذكورية وأنوثية؛ لكن يذكر الآلة أحبولة أو كلبًا أو غيره من الجوارح، والشبكة والفخ؛ لأن الأحبولة يؤخذ فيها الصيد سليمًا، ونكهة الكلب أطيب من نكهة الفهد.
ويلزم المسلم إذا أسلم في لحم وأطلق قبول لحم بعظم؛ لأن اتصاله بالعظم اتصال خلقة كنوى بتمر، ولا يلزم قبول رأس وساقين؛ لأنه لا لحم بها؛ فإن أسلم في لحم طير لم يحتج في وصفه لذكر ذكورة وأنوثة، إلا أن يختلف اللحم بذلك، كلحم دجاج فيحتاج إلى البيان، ولا يحتاج أيضًا في السلم في الطير، لذكر موضع قطع، إلا أن يكون الطير كبيرًا يأخذ منه بعضه، كخمسة أرطال من لحم نعام، فيبين موضع القطع، لاختلاف العظم، ويذكر في سمك إذا أسلم فيه النوع والنهر، ويذكر نحو سمن وهزال، وصغر وطري وملح، ولا يقبل رأس وذنب، بل يلزم المسلم أن يقبل ما بين الذنب والرأس بعظامه.
ولا يصح السلم في اللحم المطبوخ والشواء على الصحيح من المذهب، وهو مذهب الشافعي؛ لأن ذلك يتفاوت كثيرًا وعادات الناس فيه مختلفة، فلم يمكن ضبطه، وقيل: يصح، لما ذكر في الخبز واللبأ، قدمه ابن رزين. ويصح السلم في مزروع وثياب وخيوط، وفي معدود من حيوان.
قال الله تعالى: { وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } [البقرة: 275] وعن عبد الله ابن عمر قال: «أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أن أبعث جيشًا على إبل كانت عندي، قال: فحملت الناس حتى نفدت الإبل، وبقيت بقية من الناس، قال: فقلت: يا رسول الله، الإبل نفدت، وقد بقيت بقية من الناس لا ظهر لهم، فقال: «ابتع علينا إبلاً بقلائص الصدقة إلى محلها».
قال: فكنت أبتاع البعير بقلوصين وثلاث قلائص إلى إبل الصدقة» رواه أحمد وأبو داود والدارقطني. وروي عن أبي رافع قال: «استسلف النبي - صلى الله عليه وسلم - بَكْرًا فجاءتْه إبل الصدقة، فأمرني أن أقضي الرجل بكرة». وعن علي: «أنه باع جملاً له يُدْعَى عصيفيرًا بعشرين بعيرًا إلى أجل معلوم» رواه مالك والشافعي.
قال ابن المنذر: وممن روينا عنه ذلك ان مسعود وابن عباس وابن عمر؛ ولأن يثبت في الذمة صداقًا، فصح السلم فيه كالنيات، وعنه: لا يصح؛ لأن الحيوان لا يمكن ضبطه؛ لأنه يختلف اختلافًا متباينًا مع ذكر أوصافه الظاهرة، فربما تساوى العبدان وأحدهما يساوي أمثال صاحبه، وإن استقصى صفاته كلها تعذر تسليمه، قاله في «الكافي». وقال ابن عمر: إن من الربا أبوابًا لا تخفى، وإن منها السلم في السن. رواه الجوزجاني. ومن قال بالرواية الأولى حمل حديث ابن عمر على أنهم يشترطون من ضراب فحل بني فلان. قال الشعبي: إنما كره ابن مسعود السلف في الحيوان؛ لأنهم اشترطوا نتاج فحل بني فلان فحلٍ معلوم. رواه سعيد. ولو كان آدميًا كعبد صفته كذا.
ولا يصح السلم في أمة وولدها أو أختها أو عمتها أو نحوه، لندرة جمعهما الصفة، ولا يصح اشتراط كون حيوان مسلم فيه حاملاً؛ لأن الحمل مجهول غير محقق، فلا تأتي الصفة عليه، أو كونه لبونًا؛ لأنه كالحمل، ولا يصح في معدود فواكه كرمان وسفرجل وخوخ ونحوها، لاختلافها صغرًا وكبرًا، بل يصح في المكيل منها، كرطب وفي الموزون كعنب كسائر الموزونات، ولا يصح السلم في بقول؛ لأنها تختلف ولا يمكن تقديرها بالحزم، ولا في جلود لأنها تختلف، ولا يمكن ذرعها لاختلاف أطرافها، ولا في رؤوس وأكارع؛ لأن أكثر ذلك العظام والمشافر، واللحم فيها قليل، وليست موزونة على المذهب.
وعنه: يصح السلم في الجلود والرؤوس والأكارع. اختاره ابن عبدوس في «تذكرته». قال الناظم: وهو أولى، وصححه في «تصحيح المحرر»، وهذا مذهب مالك والثوري، ولا يصح في بيض لاختلافه كبرًا وصغرًا، ولا في رمان ونحو هذه المذكورات من المعدودات المختلفة، ولا يصح السلم في أوان مختلفة رؤوس وأوساط، كقماقم وأصطال ضيقة رؤوس لاختلافها. وقال في «الإقناع»، وقيل: يصح حيث أمكن ضبطها؛ فإن لم تختلف رؤوسها وأساطها، صح السلم فيها، ولا فيما لا ينضبط، كجوهر ولؤلؤ ومرجان وعقيق ونحوها، لاختلافها اختلافًا كثيرًا صغرًا وكبرًا، وحسن تدوير وزيادة ضوء وصفاء.
ولا يمكن تقديرها ببيض عصفور ونحوه؛ لأنه يختلف، ولا في مغشوش؛ لأن غشه يمنع العلم بالمقصود منه، ولما فيه من الغررو، ففي حديث أبي هريرة: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الغرر» روه مسلم، وأهل السنن. ولا فيما يجمع أخلاطًا مقصودة غير متميزة كمعاجين مباحة، ولا في ندٍ وغالية: نوع من الطيب مركب من مسك وعنبر وعود ودهن، لعدم ضبطها في الصفة، ولا في قسي مشتملة على الخشب والقصب والعرى ولا في ترس لعدم انضباط مقداره. ويصح السلم فيما فيه لملحته شيء غير مقصود، كجبن فيه أنفحة، وكخبز فيه ملح أو ماء، وكخل تمر وزيبي فيه ماء، وكسكنجبين فيه خل، وكشيرج فيه ملح؛ لأن الخلط يسير غير مقصود بالمعاوضة لمصلحة المخلوط، فلم يؤثر.
ويصح فيما يجمع أخلاطًا متميزة كثوب نسج من نوعين كقطن وكتان أو إبريسم وقطن، وكنشاب ونيل مريشين، وخفاف، ورماح متوزة، أي مصنوعة ونحوها، لإمكان ضبطها بصفة لا يختلف ثمنها معها غالبًا، يصح السلم في عين من عقار وشجر نابت وغيرهما؛ لأن المعين يمكن بيعه في الحال، فلا حاجة إلى السلم فيه؛ ولأنه ربما تلف قبل أوان تسليمه، فلم يصح كما لو شرط مكيالاً بعينه غير معلوم. ويصح السلم في أثمان خالصة؛ لأنها تثبت في الذمة ثمنًا، فتثبت سلمًا كعروض، ويكون رأس المال غير الأثمان كثوب وفرس، لئلا يفضي إلى ربا النسيئة، ويصح في فلوس ولو نافقة وزنًا وعددًا على الصحيح من المذهب، ويكون رأس مال الفلوس عرضًا.
 ويصح في عرض بعرض، كتمر في فرس، وحمار في حمار، ولا يصح السلم إن جرى بين المسلم فيه ورأس ماله ربا، في إسلام عرض في فلوس، وعرض في عرض، فلو أسلم في فلوس وزينة نحاسًا أو حديدًا أو في تمر برًا أو نحوه، لم يصح؛ لأنه يؤدي إلى بيع موزون بموزون، أو مكيل بمكيل نسيئة، ومن جيء له بعين ما أسلمه عند محله، كمن أسلم عبدًا صغيرًا في عبد كبير إلى عشر سنين، فجاءه بعين العيد عند الحلول، وقد كبر واتصف بصفات السلم، لزم المسلم قبوله؛ لاتصافه بصفات المسلم فيه، أشبه ما لو جاء بغيره، ولا يلزم عليه اتحاد الثمن والمثمن؛ لأن الثمن في الذمة، وهذا عوض عنه، ومحله ما لم يكن حيلة، كما لو أسلم جارية صغيرة في جارية كبيرة إلى أمد تكبر فيه ووصفها، فلم يأت إلا وهي بصفة مسلم فيه وهي الجارية الكبيرة؛ فإن فعل ذلك حيلة لينتفع بالعين، أو يستمتع بالجارية، ثم يردها بغير عوض، لم يجز، لما تقدم من تحريم الحيل. ويصح السلم في السكر والفانيذ والدبس ونحوه مما مسته النار؛ لأن عمل النار فيه معلوم عادة يمكن ضبطه بالنشاف والرطوبة، أشبه المجفف بالشمس، الفانيذ: معرب بانيد، هو ضرب من الحلوى.

س61: تكلم بوضوح عن الشرط الثاني من شروط السلم، وما الذي يختلف ثمن المسلم فيه غالبًا؟ وبم يصف التمر، وإذا شرط في العقد عتيق، أو أسلم في رطب أو دفع إليه مشدخًا، أو ما قارب أن يثمر فما الحكم؟ وما حكم ما يشبهه من الفواكه، والخبز والحنطة والعسل والسمن والزبد واللبن والجبن والحيوان؟ وإلى من يرجع في سن الرقيق؟ وما حكم استقصاء الصفات إلى حد بندر فيه وجود المسلم فيه؟ وهل يحتاج إلى وصف شعر الجارية المسلم فيها؟ وبِمَ يصف الإبل والغزل والقطن والإبريسم والثياب والكاغد والنحاس والسيف وخشب البناء وحطب وقود ونشاب وقصاع وحجر رحى والآجر والبلور والعود الهندي؟ وما حكم شرط الأردأ و الأجود؟ وإذا جاء بأجود أو أردأ أو من غير نوعه، أو تعيب سلم، أو أخذ عوض زيادة قدر دفعت، أو عوض جودة أو نقص.

ج: الثاني: ذكر ما يختلف به ثمنه غالبًا؛ لأنه عوض في الذمة، فاشترط العلم به كالثمن؛ وأما الاختلاف النادر فلا أثر له، ولا فرق بين الصفات في العقد أو قبله، وذلك كنوع المسلم فيه، وهو مستلزم لذكر جنسه، وذكر قدر حب، كصغار حب أو كباره، متطاول الحب أو مدوره، وذكر لون كأحمر وأبيض إن اختلف ثمنه بذلك ليتميز بالوصف، وذكر بلد الحب، فيقول: من بلد كذا، بشرط أن تبعد الآفة فيها، وذكر حداثته وجودته أو ضدهما، فيقول: حديث أو قديم، جيد أو رديء، ويبين قديم سنة أو سنتين ونحوه، وذكر سن حيوان، ويرجع في سن رقيق بالغ إليه، وإلا فقول سيد وإن جهله رجع إلى قول أهل الخبرة تقريبًا بغلبة الظن، وبذكر نوعه كضأن أو معز، ثني أو جذع، وذكر ما يميز به مختلفه، كذكر أو سمين أو معلوف أو ضدها، وذكر جنس مسلم فيه، فيقول: تمرًا أو حنطة، وذكر قدر، كقفيز أو رطل، وذكر جودة كحرير بلدي.
وذكر رداءة شرط في كل مسلم فيه من مكيل أو موزون فيصف التمر بنوعه، كبرني أو معقلي، صغير حب أو كبيره، أو يصفه بذكر لونه إن اختلف لونه كأحمر أو أسود، ويصفه بذكر بلده، كبصري أو كوفي أو حجازي، ويذكر قدمه وحداثته؛ فإن أطلق العتيق فلم يقيده بعام أو أكثر؛ أجزأ أيُّ عتيق كان، لتناول الاسم له، ما لم يكن مسوسًا أو متغيرًا، فلا يلزم المسلم قبوله؛ لأن الإطلاق يقتضي السلامة، وإن شرط في العقد عتيق عام أو عامين، فهو على ما شرط لوقوع العقد على ذلك، ويذكر تمر جيد كبرني أو رديء كحشف. ورطب كتمر في هذه الأوصاف إلا الحديث والعتيق؛ لأنه لا يتأتى فيه ذلك، وللمسلم في رطب ما أرطب كله، لانصراف الاسم إليه، ولا يأخذ رطبًا مشدخًا كمعظم بسر يغمر حتى يشدخ. ولا يلزم أخذ ما قارب أن يثمر، لعدم تناول الاسم له، وكالرطب في هذه الأوصاف ما يشبهه من عنب وفواكه يصح السلم فيها، وكذلك سائر الأجناس التي يسلم فيها، ولا يلزم أخذ نحو تمر كزبيب إلا جافًا الجفاف المعتاد.
ويصِفُ الخبز بنوع، كخبز برّ أو شعير أو ذرة، ويذكر في وصفه نشافه ورطوبته ولونه كحوارى، ولابد من وصف جودة ورداءة، ويَصِفُ الحنطة بالنوع كَسُلْمُوني، والبلد كحوراني. وبقاعي إذا كان في الشام، وبُحَيْري إذا كان بمصر، وبالقدر كصغير حب أو كبيره، وحديث أو عتيق، وإن كان النوع الواحد يختلف لونه ذكره لما تقدم. ولا يسلم في البرّ إلا مصفى من تبنه وعُقَد، وكذا الشعير والقطنيات وسائر الحبوب، فيصفها بأوصاف البر.
ويلزم مسلمًا إليه دفع حب مسلم فيه بلا تبن ولا عقد؛ فإن كان به تراب يأخذ موضعًا من المكيال، لم يجز، وإن كان فيه تراب يسير لا يأخذ موضعًا من المكيال لزم مسلمًا أخذُه؛ لأن الحبوب لا تخلو من يسير التراب غالبًا، ويصف العسل بالبلد، كمصري وشقيقي وربيعي وصيفي، أبيض أو أشقر أو أسود، جيد أو رديء، وليس له إلا مصفى من الشمع، ويصف السمن بالزرع، كمِنْ ضأن أو معز أو بقر أو جاموس، ويصفه باللون، كأبيض أو أصفر، وجيد أو رديء.
قال القاضي: ويذكر المرعى، ولا يحتاج لذكر عتيق أو حديث؛ لأن الإطلاق يقتضي الحديث. ولا يصح السلم في عتيق السمن؛ لأنه عيب، ولا ينتهي إلا حد يضبط به، ويصفُ الزبد بأوصاف السمن، ويزيد على وصف السمن: زبد يومه، أو زبد أمسه، ولا يلزم المسلم قبول متغير من سمن وزبد ولا قبول سمن أو زبد رقيق، إلا أن تكون رقتهما من الحر، ويَصِفُ اللبن بنوع ومرعى، ولا يحتاج للون لعدم اختلاف، ولا إلى كونه حليب يوم؛ لأن الإطلاق يقتضي ذلك؛ فإن ذكر كان مؤكدًا، ولا يلزم قبول لبن متغير بنحو حموضة؛ لأن الإطلاق يقتضي السلامة. ويصح السلم في المخيض؛ لأن ما فيه من الماء يسير لمصلحته، وجرت العادة به، فهو كالملح في الجبن, ويَصفُ الجبن بنوع ومرعى، ورطب أو يابس، جيد أو رديء. ويَصِفُ اللبأ كما يصف اللبن بالنوع والمرعى، ويزيد ذكر اللون والطبخ أو عدمه، ويسلم في اللبأ وزنًا؛ لأنه يجمد عقب حلبه، فلا يتحقق فيه الكيل.
ويَصِفُ الحيوان، آدميًا كان أو غيره، بالنوع والسن والذكورة والأنوثة؛ فإن كان الحيوان المسلم فيه رقيقًا ذكر نوعه كتركي وزنجي وذكر سنه، ويرجع في سن الغلام والجارية إليهما إن كانا بالغبن، وإن لم يكونا بالغبن رجع إلى قول السيد في قدر سنه؛ لأن قول الصغير غير معتد به، وإن لم يعلم السيد سنة رجع إلى قول أهل الخبرة على ما يغلب ظنهم تقريبًا، لعدم القدرة على اليقين. ويعتبر ذكر طول رقيق كخماسي أو سداسي، يعني خمس أشبار أو ستة، أسود أو أبيض، أعجمي أو فصيح، والجارية كحلاء أو دعجاء، والكحل محركًا: سواد في أجفان العَين خلقة، كأن بها كحلاً وإن لم تكتحل، يقال: رجل أكحل وامرأة كحلاء.

قال الشاعر:
ليس التكحل في العينين كالكحل
والدعج: شدة سواد العين في شدة بياضها، وتَكلْثُمُ وجهٍ، أي: استدارته، وبكارة وثيوبة ونحوها، ويذكر كون الجارية خميصة ثقيلة الأرداف، أو سمينة، ونحوه مما يقصد؛ فإن استقصى الصفات حتى انتهى إلى حد يندر وجود مسلم فيه بتلك الصفات، بطل السلم؛ لأن شرطه أن يكون عام الوجود عند الحلول، واستقصاء الصفات يمنع منه، ولا يحتاج في وصف شعر الجارية المسلم فيها، كقوله: ذات شعر جعد أو سبط أو أسود أو أشقر؛ لأنه لا يختلف به الثمن اختلافًا بينًا، كما لا تراعى صفات ذات حسن وملاحة؛ لأنه لا يختلف بها اختلافًا ظاهرًا؛ فإن ذكر ذلك وعقد عليه، لزم الوفاء به.
ويَصِفُ الإبل بالنتاج، كمن نتاج بني فلان، واللون كبيض وحمر، وبالسن كبنت مخاض أو لبون، أو حقة، وبالذكورة والأنوثة. وأوصاف الخيل كالإبل، وتنسب بغال وحمير لبلدها، كشامي ومصري ويمني؛ لأنها لا تنسب لنتاج، والبقر والغنم إن عرف لها نتاج نسبت إليه، كبلدي وجبلي إذا كان بالشام، وإلا يعرف لها نتاج، فكحمير تنسب إلى بدلها. ولابد من ذكر نوع هذه الحيوانات، كأن يقول في وصف إبل: بختية أو عرابية، وفي وصف خيل: عربية أو هجين أو برذون، ويقول في وصف غنم: ضأن أو معز، إلا البغال والحمير، فلا أنواع فيها غالبًا.
ويصف غزل قطن وعزل كتان ببلد ولون ورقة ونعومة وخشونة، ويصف القطن بالبلد واللون، ويجعل مَكان غلَظٍ ودقَّةٍ طويل شعرة أو قصيرها، وإن شرط فيه منزوع الحب جاز، وله شرطه، وإن أطلق كان له القطن بحبه، كالتمر بنواه. ويصفُ الإبريسم ببلد ولون وغلظ ودقة، ويصفُ الصوف ببلد ولون وطويل شعره وقصيره، ويصفه بزمان، كقوله: خريفي، أو ربيعي. وعلى المسلم إليه تسليمه نقيًا من شوك وبعر، وكذا شعر ووبر، فيوصفان بأوصاف الصوف، ويسلمان نقيين من الشوك والبعر، وإن لم يشترط.
ويَصِفُ الثياب إذا أسلم فيها بنوع وقطن وكتان وصوف وحرير، ويصفه ببلد، كبغدادي وشامي ومصري، ويصفه بطول وعرض وصفاقة ورقة وغلظ ونعومة وخشونة، ولا يذكر الوزن، وإن ذكر في الوصف الخام أو المقصود، فله شرطه، وإن لم يذكره جاز، ولأن الثمن لا يختلف بذلك، ومع الإطلاق فله خام؛ لأنه الأصل وإن ذكر في وصف الثوب مغسولاً أو لبيسًا، لم يصح السلم؛ لأن اللبس يختلف، ولا ينضبط، وإن أسلم في مصبوغ مما يصبغ غزله، صح السلم؛ لأنه مضبوط، وإن أسلم في ثوب مختلف غزل من نوعين فأكثر، كقطن وكتان أو قطن وإبريسم، أو قطن وصوف وكتان، وكان الغزل من كل نوع مضبوطًا، ككون السدا من إبريسم، واللحمة من كتان أو نحوه، كقطن وصوف، صح السلم للعلم بالمسلم فيه، وإلا لم يصح.
ويَصِفُ الكاغد بطول وعرض ودقة وغلظ واستواء صَنعَةٍ، ولا يضر اختلاف يسير جدًا في دقة وغلظ، لعسر التحرز من ذلك. ويَصفُ نحو رصاص ونحاس بنوع، كرصاصٍ قلعي أو أسرب، ويصفه بنعومة وخشونة ولون إن كان يختلف لونه، ويزيد في وصف حديد بذكر أو أنثى؛ فإن الذكر أحد وأمضى من الأنثى، ويَصفُ السيف بنوع حديد، وضبط طوله وعرضه، وبلده وقدمه، قديم الطبع أو حديثه، ماض أو غيره، ويصف قبيعته وقرابه.
ويَصِفُ خشب بناء بذكر نوع كجوز وحور ورطوبة ويبس وطول ودور إن كان مدورًا أو سمك وعرض إن لم يكن مدورًا، ويلزم دفع الخشب كله من طرفه إلى طرفه بالعرض والدور الموصوفين؛ فإن كان أحد طرفيه أغلظ مما وصف له، والآخر كما وصف، فقد زاده خيرًا، وإن كان أحد طرفيه أدنى مما وصف له، لم يلزمه قبوله؛ لأنه دون ما أسلم فيه. وإن ذكر وزن الخشب أو كونه سمحًا، أو لم يذكر ذلك، جاز السلم، وصح وله سمح، أي: خال من العقد، وإن كان الخشب المسلم فيه للقسي، ذكر هذه الأوصاف، وزاد: سهليًا أو جبليًا؛ فإن الجبلي أقوى من السهلي. ويَصِفُ حطب وقود بغلظ ودقة ويبس ورطوبة ووزن.
ويَصِفُ نحو قصاع وأقداح من خشب بذكر نوع خشب، فيقول: من جوز أو توت أو نحوه، وقدر من صغر وكبر وعمق وضيق وثخانة ورقة. ويصف الأواني المتساوية الرؤوس والأوساط بقدر من كبر وصغر، وطول وسمك، ودور كالأسطال القائمة الحيطان، ويَصِفُ حجر رحى بدور وثخانة، وبلد ونوع، إن كان يختلف، ويَصِفُ حجر بناءٍ بلون وقدر، ونوع ووزن، ويصف الآجر واللبن بموضع تربة، ولون ودور وثخانة، ويصف البلور بأوصافه المعلومة له.
ويصف العنبر بلون ووزن وبلد، وإن شرطه قطعة أو قطعتين أو أكثر جاز، وإلا فله إعطاؤه صغارًا بالوزن، ويصف العود الهندي ببلده وما يعرف به، ويصف المسك ونحوه مما يختلف به الثمن، واللبان والمصطكي وصمغ الشجر باللون والبلد وما يختلف به. ويصف السكر والدبس وسائر ما يجوز السلم فيه بما يختلف الثمن، وما لا يختلف به الثمن لا يحتاج إلى ذكره. ولا يصح شرط الأردأ أو الأجود، لتعذر الوصول إليه إلا نادرًا، إذا ما من جيد إلا ويحتمل أجود منه، ولا رديء إلا ويحتمل أردأ منه.
ولمسلم أخذ دون ما وصف له، وله أخذ غير نوع المسلم فيه إذا كان من جنسه، كثمر معقلي عن إبراهيمي وعكسه؛ لأن الحق له وقد رضي بدونه، ومع اتحادهما في الجنس هما كالشيء الواحد، بدليل تحريم التفاضل ولا يلزم المسلم أخذ دون ما وصف له، ولا أخذ نوع آخر؛ أن غير المسلم فيه، ولا يجبر على إسقاط حقه، وإن جاء المسلم إليه بجنس آخر، بأن استلم في بر، فجاء بأرز وشعير، لم يجز للمسلم أخذه؛ لحديث: «من أسلم في شيء، فلا يصرفه في غيره» رواه أبو داود وابن ماجه من رواية عطية العوفي، وضعفه جماعة من حديث أبي سعيد. ونقل جماعة من الإمام: يأخذ أدنى كشعير عن بر بقدر كيله، ولا يربح مرتين، واحتج بابن عباس، وبأنه أقل من حقه، وحمل على أنهما جنس واحد.

وقال الشيخ سليمان ابن سحمان الناظم لبعض اختيارات شيخ الإسلام:
وقال أبو العباس بل ذاك جائز ... وعن أحمد نص الجواز فأورد
إن اعتاض عن حب شعيرًا بسعره ... ولا بأس في هذا لدى كل سيد
فيروى عن الحبر ابن عباس أنه ... يجوز ولم يعرف له من مفند
وأما حديث النهي عن صرفه إلى ... سواه ففي الإسناد طعنٌ لنُقَّدِ
وإن صح هذا فالمراد بصرفه ... إلى سلم في غير ذاك فقيد
ليربح فيما ليس يضمن فاحظرن ... لهذا ففيه النهي فافهم تسدد


ويلزم المسلم إن جاءه المسلم إليه بأجود مما وصف له أخذ أجود منه إذا كان من نوع ما أسلمه فيه؛ لأنه جاءه بما تناوله العقد وزاده نفعًا، ولا يلزمه أخذه من غيره نوعه، ولو أجود، كضأن عن معز؛ لأن العقد تناول ما وصفاه على شرطيهما، والنوع صفة، فأشبه ما لو فات غيره من الصفات؛ فإن رضيا جاز، كما تقدم، ويجوز رد سلم معيب أخذه غير عالم بعيبه، ويطلب بدله، وله أخذ أرشه مع إمساكه كمعيب غير سلم، ولمسلم إليه أخذ عوض زيادة قدر دفعت، كما لو أسلم إليه في قفيز فجاءه بقفيزين، لجواز إفراد هذه الزيادة بالبيع، ولا يجوز له أخذ عوض جودة إن جاءه بأجود مما عليه؛ لأن الجودة صفة لا يجوز إفرادها بالمبيع، ولا أخذ عوض نقص رداءة لو جاءه بأردأ، لما سبق.وليس لمسلم إلا أقل ما يقع عليه الصفة التي عقد عليها، فإذا أتاه به لا يطلب من أعلى منه؛ لأنه أتاه بما تناوله العقد، فبرئت ذمته منه.

من النظم فيما يتعلق في باب السلم
بحاضر عين بذلها متعوضًا ... بموصوف دين في زمان مجدد
يصح بألفاظ التبايع كلها ... وما حضه أولى وبالسلف امهد
وإمكان ضبط الوصف شرط الجواز ... كالمكيل وموزون ودرع معدد
ولابد عند العقد من ذكره هذه ... ليمكن تقبيض بغير منكد
وما ليس مضبوطًا بوصف كلؤلؤ ... وحب ومرجان ومثل زبرجد
فللسلم امنع فيه وامنعه في الذي ... التخالط مقصود به لم يحدد
كند ومعجون ومغشوش نقدهم ... وإن ميز الأخلاط فيه لصد
كثوب من الجنسين أحكم نسجه ... ونبل ونشاب مريش فجود
وما فيه خلط مصلح لا يراد ... بالعقود كملح الخبز إن تسلمن طد
ووجهان في إسلام عرض بمثله ...  كآنية فيها وفي شاة قثرد
وما اختلفت أوساطه ورؤوسه ... وفي حيوان حامل ذاك أسند
لبونًا لنا وجها جواز ومنعه ... وأولاهما التجويز يا ذا التأيد
وفي الحيوان استمل قولين مطلقًا ... وجوز وبطيخ وبيض معدد
وقولان في زمانهم وسفرجل ... وإلا فزن بل عنه زن لا تقيد
وبقل ومع نزر التفاوت عده ... في الأولى وأطراف المذكي المجود
وفي الروس أسلم والجلود ونحوها ... وسمن وشهد أسلمن ثم قيد
وفي اللحم والألبان والخبز واللبا ... بغير مكيل والذي يوزن اسند
وأورد في التنبيه قولاً بمنعه
فيما تختلف أثمانه
وما اختلفت أثمانه غالبًا به ... فذكركه في العقد شرط مؤكد
كجنس ونوع ثم قدر ومنشأ ... جديد عتيق والرديء وجيد
وليس بكاف أن يرى رأس ماله ... وأجرى عين دون ضبط بأجود
وفي شرط أردى النوع وجهان جاءنا ... وليس صحيحًا شرط أجوده اشهد
وما دون موصوف ونوع لجنسه ... لك الأخذ لا حتمًا سوى أخذ أجود
وتعويضه عن جودة غير جائز ... لنهيك عن صرف إلى غير مقصد
في المذروع
ولا يجزِ في المذروع إلا بذرعه ... وفي عكس عرف الغير جوز بأوكد
وضبط بمعيار يرى غير شائع ... لدى العرف لا يكفيك عند لتعقد

س62: تكلم بوضوح عن الشرط الثالث من شروط السلم مبينًا ما يلزم ذكره، وحكم ما إذا أسلم في كيل وزنًا، أو في موزون كيلاً، أو في مكيال غير معلوم، أو أسلم في مثل هذا الثوب ونحوه، أو عين مكيال رجل أو ميزانه أو نحوه، وبأي شيء يسلم في معدود مختلف يتقارب غير حيوان، واذكر الدليل والتعليل والخلاف؟

ج: الثالث: ذكر قدر كيل في مكيل، وقدر وزن في موزون وقدر ذرع في مذروع متعارف، أو قدر عد في معدود؛ لحديث: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» ولأنه عوض في الذمة، فاشترط معرفة قدره كالثمن، فلا يصح سلم في مكيل وزنًا، أو في موزون كيلاً؛ لحديث: «من أسلف في شيء، فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» متفق عليه؛ ولأنه مبيع يشترط معرفة قدره، فلم يجز بغير ما هو مقدر به في الأصل، كبيع الربويات بعضها ببعض؛ ولأن قدره بغير ما هو مقدر به في الأصل، فلم يجز. واختاره أكثر الأصحاب، قال الزركشي: هو المشهور والمختار للعامة، وممن قال به: القاضي وابن أبي موسى.

وجزم بن ناظم «المفردات»، فقال:
وفي المكيل لا يصح السلم ... وزنًا ولا بالعكس نصًا فاعلموا

وعنه: يصح، اختاره الموفق والشارح وابن عبدوس وصاحب «الوجيز» والشيخ تقي الدين وابن القيم، وبه قال الثلاثة، وعليه العمل في هذا الزمن وقبله؛ لأن الغرض معرفة قدره وإمكان تسليمه من غير تنازع، فبأي شيء قدر قدره جاز. وهذا القول هو الذي يترجح عندي. والله أعلم. ولا يصح السلم في المذروع إلا بالذرع، ولابد أن يكون المكيال ونحوه، كالصنجة والذراع معلومًا عند العامة؛ لأنه إذا كان مجهولاً تعذر الاستيفاء به عند التلف، وذلك مخل بالحكمة التي اشترط معرفة القدر لأجلها؛ فإن شرط مكيالاً بعينه، أو ميزانًا بعينه أو ذراعًا بعينه، أو صنجة بعينها غير معلومات، أو أسلم في مثل هذا الثوب ونحوه، لم يصح السلم؛ لأنه قد يهلك فتتعذر معرفة المسلم فيه، وهو غرر؛ لكن إن عين مكيال رجل أو ميزان أو صنجته أو ذراعه، صح السلم، ولم تتعين، فله أن يسلم في أي مكيال أو ميزان أو صنجة أو ذراع، لعدم الخصوصية. ويسلم في معدود مختلف يتقارب فيه حيوان عَدَدًا، وفي المعدود الذي لا يتقارب وزنًا إن صح السلم فيه، والمذهب أنه لا يصح، والرواية الثانية: يصح، وعندي أنها أقوى من الأولى إذا كان التفاوت يسيرًا.



المجلد الرابع 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 6:29 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المجلد الرابع Empty
مُساهمةموضوع: رد: المجلد الرابع   المجلد الرابع Emptyالجمعة 20 نوفمبر 2015, 7:33 am

س63: ما هو الشرط الرابع من شروط السلم؟ وبم يصح؟ وما الحكم فيما إذا أسلم، أو باع، أو أجر، أو شرط الخيار مطلقًا، أو لمجهول، أو قالا: محله رجب أو إليه، أو فيه، ونحوه أو يؤديه فيه؟ وإذا أسلم وعين عيد فطر أو أضحى، أو ربيعًا، أو جمادى، أو قالا: محله رجب أو إلى رجب، أو في رجب أو إلى أول شهر كذا أو أخره، أو يؤديه فيه، أو إلى ثلاثة أشهر فما الحكم؟ واذكر الدليل، والتعليل، والتفصيل، والخلاف، والترجيح.

ج: الشرط الرابع: أن يكون في الذمة إلى أجل معلوم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «من أسلف في شيء، فليسلف في كيل معلوم، أو وزن معلوم إلى أجل معلوم» فأمر بالأجل كما أمر بالكيل والوزن، والأصل الوجوب؛ ولأن السلم رخصة جاز للرفق، ولا يحصل إلا بالأجل، فإذا انتفى الأجل انتفى الرفق، فلا يصح كالكتابة، والحلول يخرجه عن اسمه ومعناه، بخلاف بيوع الأعيان، فإنها لم تثبت على خلاف الأصل لمعنى يختص التأجيل، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة، وأكثر العلماء، خلافًا للشافعي، ففي كتاب «المهذب»: ويجوز حالاً؛ لأنه إذا جاز مؤجلاً، فلأن يجوز حالاً، وهو من الغرر أبعد أولى. اهـ.
وفي «الاختيارات الفقهية»: ويصح السلم حالاً إن كان المسلم فيه موجودًا في ملكه، وإلا فلا. اهـ. قال: وهو المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم - لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عندك» أي: ما ليس في ملكك، فلو لم يجز السلم حالاً لقال: لا تبع هذا، سواء كان عندك أم لا. وتلكم على ما ليس عنده. للأجل وقع في الثمن عادة؛ لأن اعتبار الأجل لتحقق الرفق، ولا يحصل بمدة لا وقع لها بالثمن كشهر ونحوه. وفي «الكافي»: أو نصفه، وفي «المغني» و«الشرح»: وما قارب الشهر. وقال بعض الأصحاب: ويشترط أن تفي به مدته، فلا يصح كمائتي سنة؛ لأن آجال الناس لا تبلغها غالبًا، وهو ظاهر.
ويصح أن يسلم في جنسين، كأرز وعَسل إلى أجل واحد، إن بين ثمن كل جنس منهما؛ فإن لم يُبينه لم يصح، قال في «المغني»: لأن ما يقابل كل واحد من الجنسين مجهول، فلم يصح، كما لو عقد عليه مفردًا بثمن مجهول، ولأن فيه غررًا؛ لأنا لا نأمن الفسخ بتعذر أحدهما، فلا يعرف بما يرجع، وهذا غرر يؤثر مثله في السلم، وبمثل هذا عللنا معرفة صفة الثمن وقدره، وقد ذكرنا ثم وجهًا آخر أنه لا يشترط، فيخرج هاهنا مثله؛ لأنه في معناه، ولأنه لما جاز أن يسلم في شيء واحد إلى أجلين، ولا يبين ثمن كل واحد منهما، كذا هاهنا.
قال ابن أبي موسى: ولا يجوز أن يسلم خمسة دنانير وخمسين درهمًا في كر حنطة حتى يبين حصة ما لكل واحد منهما من الثمن، والأولى صحة هذا؛ لأنه إذا تعذر بعض المسلم فيه، رجع بقسطه منهما، إن تعذر النِّصف رجع بنصفهما، وإن تعذر الخمس رجع بدينار وعشرة دارهم. ويصح أن يسلم في جنس واحد إلى أجلين، كسمن يأخذ بعضه في رجب، وبعضه إلى رمضان؛ لأن كل بيع جاز إلى أجل جاز إلى أجلين، وآجال إن بَيَّنَ قسط كل أجل وثمنه؛ لأن الأجل الأبعد له زيادة وقع على الأقرب، فما يقابله أقل، فاعتبر معرفة قسطه وثمنه؛ فإن لم يبينهما لم يصح، وكذا لو أسلم جنسين كذهب وفضة في جنس كأرز، لم يصح حتى يبين حصة كل جنس من المسلم فيه.
ويصح أن يسلم في شيء كلحم وخبز وعسل، يأخذ كل يوم جزءًا معلومًا مطلقًا، وساء بين ثمن كل قسط أو لا، لدعاء الحاجة إليه، ومتى قبض البعض وتعذر الباقي رجع بقسطه من الثمن، ولا يجعل للمقبوض فضلاً على الباقي؛ لأنه مبيع واحد متماثل الأجزاء، فقسط الثمن على أجزائه بالسوية، كما لو اتفق أجله. ومن أسلم أو باع مطلقًا أو لمجهول، أو أجر، أو شرط الخيار مطلقًا، بأن لم يُغَيِّهِ بغايةٍ، أو جَعلها لأجلٍ مجهولٍ، كحصادٍ وجذاذٍ ونحوهما، أو قدوم الحاج، أو نزول المطر، أو جعلها إلى عيد أو ربيع أو جمادى أو النفر، لم يصح غير البيع، لفوات شرطه؛ ولأن الحصاد ونحوه يختلف بالقرب والبعد حتى لو أبهم الأجل، كإلى وقت أو زمن. أخرج البيهقي عن ابن عباس أنه قال: لا سلف إلى العطاء، ولا إلى الحصاد، واضْرِبْ له أجلاً. وفي لفظ: ولكن سمه شهرًا.
وعن أحمد: يجوز إلى الحصاد والجذاذ، وبه قال مالك؛ لأن التفاوت يسير يتسامح بمثله، وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه يباع إلى العطاء، وبه قال ابن أبي ليلى. وكذا إن قال: إلى قدوم الغزاة، وهذا القول هو الذي يترجح؛ لأن التفاوت يسير فيه، وهو مقصود مَن أسلم في الثمر والزرع ولو عين شهرًا؛ فإن قصده حصول تلك الثمرة. والله أعلم.
وأما البيع فيصح لعدم تعلقه بالأجل، ويكون الثمن حالاً، وللمشتري الخيار بين إمضاء البيع مع استرجاع الزيادة على قيمة المبيع حالاً، وبين الفسخ؛ فإن عين عيد فطر أو أضحى، أو ربيع أول أو ثانٍ أو جمادى كذلك، أو النفر الأول أو الثاني،
أو إلى يوم عرفة أو عاشوراء أو نحوها، صح؛ لأنه أجل معلوم. وإن قالا: محلُّه رجب، أو: محله إلى رجب، أو: في رجب ونحوه، صح السلم وحَلَّ بأوَّلِه، وإن قالا: محله إلى أوله، أي: شهر كذا، أو إلى آخره، يحل بأول جزء من أوله أو آخره، ولا يصح إن قالا: يؤديه فيه، لجعل الشهر كلَّهِ ظرفًا، فيحتمل أوله وآخره فهو مجهول.
وإن قالا: إلى ثلاثة أشهر، فإلى انقضائها، وإن كانت مبهمة فابتداؤها حين تلفظه بها، وإن قال: إلى شهر انصرف إلى الهلال، إلا أن يكون في أثنائه؛ فإنه يكمل العدد وينصرف إطلاق الأشهر إلى الأشهر الهلالية؛ لقوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً} [التوبة: 36].

المقبول قوله في قدر الأجل وعدم مضيه
س64: من المقبولُ قولُه في قدْرِ الأجل، وعَدَمِ مُضيه، ومكان تسليم؟ وإذا أتي إنسانٌ بمالهُ مِن سلَمِ أو غيره قَبْل حلولِهِ أو بعده، فما حكم ذلك؟ وماذا يعمل معه إذا أبى قبضه؟ وإذا أراد إنسانٌ قضاء دين عن مدين أو غيره، فأبى ربه أو أعسر زوج بنفقة زوجة، أو لم يعسر فبذلها أجنبي فما الحكم؟ وهل تملك الفسخ لإعساره؟ واذكر جميع ما يتعلق بما ذكر، والدليل والتعليل، والخلاف والترجيح والتفصيل.

ج: ويقبل قول مدين، أي: مسلم إليه في قدر الأجل، وفي عدم مضيه بيمينه؛ لأن العقد اقتضى الأجل والأصل بقاؤه، ولأن المسلم إليه ينكر استحقاق التسليم، وهو الأصل، ويقبل قوله أيضًا في مكان تسليم إذا الأصل براءة ذمته في مؤونة نقله إلى موضع ادعى المسلم شرط التسليم فيه.
ومَنْ أتي بماله من سلم أو غيره قبل محله، ولا ضرر عليه في قبضه، لخوف وتحمل مؤنة، أو اختلاف قديم مسلم فيه وحديثه؛ لزم رب الدين قبضه، لحصول غرضه؛ فإن كان فيه ضرر كالأطعمة والحبوب والحيوان أو الزمن مخوفًا، لم يلزمه قبضه قبل محله، وإن أحضره في محله لزمه قبضه مطلقًا كمبيع معين؛ فإن أبى قبضه حيث لزمه، قال له حاكم: إما أن تقبض، أو تبرئ من الحق؛ فإن أبى القبض والإبراء قبضه الحاكم لرب الدين، لقيامه مقام الممتنع، كما يأتي في السيد إذا امتنع من مال الكتابة، ومع ضرر في قبضه لكونه مما يتغير كالفاكهة التي يصح السلم فيها من الرطب والعنب ونحوهما، فإنها تتلف سريعًا، والضرر لا يزال بالضرر أو كان المسلم فيه قديمه دون حديثه كالحبوب، فلا يلزمه قبضه قبل محله، وكذلك ما يحتاج في حفظه لكلفة كقطن وحيوان يحتاج لمؤنة، أو يخشى المسلم على ما يقبضه من خوف في زمان أو مكان، فلا يلزمه قبل محله، لما عليه من الضرر، وإن جاء المسلم إليه بالمسلم فيه بعد محله؛ فإنه يلزم المسلم قبول المسلم فيه مطلقًا، تضرر بقبضه أو لا؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر، ومن أراد قضاء دين عن مدين وغيره، فأبى رب الدين قبضه من غير مدينه، أو أعسر زوج بنفقة زوجته، وكذا إن لم يعسر بطريق الأولى، فبذلها أجنبي، أي: من لم تجب نفقته، فأبت الزوجة قبول نفقتها من الأجنبي، لم يجبر رب الدين والزوجة لما فيه من المنة عليهما؛ وإذا كان الباذل لذلك وكيلاً ونحوه لزم القبول تبرئة لذمة المبذول عنه، وتملك الزوجة الفسخ لإعسار زوجها، كما لو لم يبذلها أحد؛ فإن ملكه لمدين وزوج وقبضاه ودفعاه لهما، أجبر على قبوله، وليس للمسلم إلا أقل ما يقع الصفة. وتسلم الحبوب نفية من تبن وعقد ونحوها، وتراب إلا يسيرًا لا يؤثر في كيل، ويسلم التمر جافًا.

س65: ما هو الشرط الخامس من شروط السلم؟ ما حكم السلم إذا عين مسلم فيه من ناحية، أو عين قرية أو بستانًا، أو أسلم في شاة من غنم زيد أو نتاج فحله، أو أسلم لمحل يوجد فيه عامًا فانقطع وتحقق بقاؤه، أو هرب مسلم إليه، أو تعذر مسلم فيه، لو أسلم فهي لذمي في خمر ثم أسلم أحدهما؟ واذكر الدليل والتعليل، والتمثيل لما لا يتضح إلا بالتمثيل، والخلاف والترجيح.

ج: الخامس: غلبة مسلم فيه وقت محله؛ لأنه وقت وجوب تسليمه، وإن عدم وقت عقد، كسلم في رطب وعنب في الشتاء إلى الصيف بخلاف عكسه؛ لأنه لا يمكنه تسليمه غالبًا عند وجوبه أشبه ببيع الآبق بل أولى. ويصح سلم إن عين مسلم فيه من ناحية تبعد فيها آفة كتمر المدينة، وإن سلم في ثمرة بستان بعينه، أو قرية صغيرة، لم يصح؛ لأنه لا يؤمن انقطاعه وتلفه. قال ابن المنذر: إبطال السلم إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه كالإجماع من أهل العلم، منهم: الثوري ومالك والشافعي والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي.
قال: وروينا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أسلف إليه رجل من اليهود دنانير في تمر مسمى، فقال اليهودي: من تمر حائط بني فلان، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أما من حائط بني فلان فلا؛ ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى» رواه ابن ماجه وغيره، ورواه الجوزجاني في «المترجم»، وقال: أجمع الناس على الكراهة لهذا البيع؛ ولأنه لا يؤمن انقطاعه وتلفه أشبه ما لو أسلم في شيء قدره بمكيال معين، أو صنجة معينة، أو أحضر خرقة وأسلم في مثلها، قال في «الإنصاف»: ونقل أبو طالب وحنبل: يصح إن بدا صلاحه واستحصد. وقال أبو بكر في «التنبيه»: أن أَمِنَ عَليها الجائحة. اهـ. وكذا لو أسلم في مثل هذا الثوب. ولا يصح إن أسلم في شاة من غنم زيد، أو في بعير من نتاج فحله، أو في عبد مثل هذا العبد ونحوه؛ لحديث ابن ماجه المتقدم.
وإن أسلم إلى وقت يوجد فيه مسلم فيه عامًا، فانقطع وتحقق بقاؤه؛ لزمه تحصيله، ولو شق كبقية الديون، وإن تعذر مسلم فيه، أو تعذر بعضه، خير مسلم بين صبر إلى وجوده فيطالب به، أو فسخ فيما تعذر منه، ويرجع إن فسخ لتعذره كله برأس ماله إن وجد، أو عوضه إن كان تالفًا، أي: مثله إن كان مثليًا، وقيمته إن كان متقومًا. هذا إن فسخ في الكل؛ فإن فسخ في البعض فيسقطه، وبذلك قال الشافعي وإسحاق وابن المنذر؛ فإن هرب مسلم إليه أخذ مسلم فيه من ماله كغيره من الديون عليه، وإن أسلم ذمي لذمي في خمر، ثم أسلم أحدهما، رد لمسلم رأس ماله إن وجد أو عوضه إن تعذر.

من النظم فيما يتعلق في اشتراط الوقت ووجود ذلك عند الحلول
ولابد في وقت به الرفق غالبًا ... ومن كون مبتاعتى حل يوجد
فإن كنت لا تلاقاه أو تلق نادرًا ... إذا حل من يسلم إذًا فيه يصدد
ومن قبضك الأثمان قبل تفرق ... فمهما تجده اختل منهن يفسد
وإن تقبضن البعض ثم افترقتما ... فما حزت في الأقوى امض والغير أفسد
وإن تسلمن في الحال أو لغد فلا ... يصح وقول الشافعي غير مبعد
وإن تشترط قبضًا لجزء معين ... بكل نهار منه صحح وجود
وتعديد آجال لجنس مجوز ... كذلك أجناسٌ لوقت محدد
وشرط إلى حين الجذاذ وحصدهم ... في الأوهى أجز واطلب به حين يبتدي
كذاك إلى شهري جمادى ونحوه ... وإما إلى شهرٍ ففي الآخر اقصد
ولا تك في الجنسين مفرد قيمة ... وعَيِّن لكل منهما في المؤكَّدِ
وما قبض دين قبل ما حل لازمًا ... متى كان في التعجيل تفويت مقصدِ
وقل للمدين اقبله في قدر وقتهم ... ونفي حلول مع يمين وأكِّدِ
وما سَلَمٌ في ثمر نخل معين ... وقريته الصغرى صحيحًا بل افسد
وإن يتعذر قبض ما حل فاصبرن ... أو افسخ ومالك خذه أو عوض الردي
ووجهان إن تحتل به أو عليه هل ... يصح إذًا أمْ لا إنِ الفَسْخَ تقصد
وقيل بنفس العقد يفسخ في الذي ... تعذر من كل وبعض مفقد
ويختار في باقيه بالقسط وحده ... في الأقوى وفي المفقود فاسخ أو ارصد


س66: ما هو الشرط السادس من شروط السلم، وإذا ظهر رأس مال مسلم مقبوض غصبًا أو معيبًا، فما الحكم؟ وما حكم معرفة قدر رأس مال السلم، ومعرفة صفته، والسلم في الجوهر، ونحوه، ومن القول قوله في الاختلاف في القيمة؟

ج: السادس: قبض رأس مال سلم قبل تفرق من مجلس عقده تفرقًا يبطل خيار مجلس، لئلا يصير بيع دين بدين، واستنبطه الشافعي من قوله –عليه السلام-: «فليسلف» أي: فليعط، قال: لأنه لا يقع اسم السلف فيه حتى يعطيه ما أسلفه قبل أن يفارقه من أسلفه، وإن قبض مسلم إليه بعض رأس مال السلم قبل التفرق، صح فيه بقسطه فقط، وبطل فيما لم يقبض، لتفريق الصفقة.
 وإن بان رأس مال سلم مقبوض غصبًا أو معيبًا عيبًا من الجنس أو غيره، فحكمه كما مر في صرف من أنه إن ظهر أنه مغصوب أو العيب من غير الجنس، فللمسلم إليه إمساكه، وأخذ أرش عيبه أو رده، وأخذ بدله في مجلس الرد، لا من جنس السلم، وكقبضٍ في الحكم ما بِيَد المُسْلَم إليه أمانة أو غصب ونحوه، فيصح جعله رأس مال سلم في ذمة من هو تحت يده، ولا يصح جعل ما في ذمة رأسَ سلم؛ لأن المسلم فيه دين؛ فإن كان رأس ماله دينًا كان بيع دين بدين، بخلاف غصب وأمانة، وتشترط معرفة قدر رأس مال السلم، ومعرفة صفته؛ لأنه لا يؤمن فسخ السلم لتأخر المعقود عليه، فوجب معرفة رأس ماله ليرد بدله كالقرض، ولا تكفي مشاهدة رأس مال السلم، كما لو عقداه بصبرة لا يعلمان قدرها ووصفها، ولا يصح فيما لا ينضبط، كجوهر ونحوه، ويرد ما قبض من ذلك على أنه رأس مال سلم، لفساد العقد إن وجد، وإلا يوجد فقيمته إن كان متقومًا، ومثله إن كان مثليًا كصبرة من حبوب؛ فإن اختلفا في قيمة رأس مال السلم الباطل، أو في قدر الصبرة المجعولة رأس مال سلم، فقول مسلم إليه بيمينه؛ لأنه غارم؛ فإن تعذر قول مسلم إليه بأن قال: لا أعرف قيمة ما قبضته، فعليه قيمة مسلم فيه مؤجلاً إلى الأجل الذي عيناه؛ لأن الغالب في الأشياء أن تباع بقيمتها، ويقبل قول مسلم إليه في قبض رأس ماله، وإن قال أحدهما: قبض قبل التفرق، وقال الآخر: بعده، فقول مدعي الصحة، وتقدم بينته عند التعارض.

ذكر مكان الوفاء وأخذ الرهن والكفيل بدين السلم
س67: هل يشترط في السلم ذكر مكان الوفاء؟ وبأي مكان يكون الوفاء؟ وما حكم أخذ الرهن، والكفيل بدين السلم، وأخذ غيره مكانه؟ وبيعه أو بيع رأس ماله، أو حوالة عليه، أو به، وما صورتهما، وما الفرق بينهما؟ والدليل، والتعليل، والخلاف، والترجيح.

ج: ولا يشترط في السلم ذكر مكان الوفاء؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يذكره، ولأنه عقد معاوضة، أشبه بيوع الأعيان؛ فإن كان موضع العقد لا يمكن الوفاء به، كبرية وبحر ودار حرب، فيشترط ذكره لتعذر الوفاء في موضع العقد، وليس البعض أولى من البعض، فاشترط تعيينه بالقول، ويكون الوفاء مكان عقد السلم إذا كان محل إقامة؛ لأن مقتضى العقد التسليم في مكان، ويجب الإيفاء مكان العقد مع المشاحة؛ لأن العقد يقتضي التسليم في مكانه، فاكتفى بذلك عن ذكره.
وللمسلم أخذ المسلم فيه في غير مكان العقد إن رضيا؛ لأن الحق لا يعدوهما، ولا يجوز أخذه مع أجرة حمله إلى مكان العقد، ويصح شرط الإيفاء في مكان العقد، ويكون ذلك الشرط تأكيدًا، ولا يصح أخذ رهن أو كفيل بمسلم فيه، رويت كراهته عن علي وابن عباس، وابن عمر والحسن، وسعيد بن جبير، والأوزاعي؛ لأنه لا يمكن الاستيفاء من عين الرهن، ولا من ذمة الضامن، ولأنه لا يؤمن هلاك الرهن في يده بعد، فيصير مستوفيًا لحقه من غير المسلم فيه.
وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره» وروى الدارقطني عن ابن عمر مرفوعًا: «من أسلف سلفًا فلا يشرط على صاحبه غير قضائه»؛ ولأنه يقيم ما في ذمة الضامن مقام ما في ذمة المضمون عنه، فيكون في حكم أخذ العوض، والبدل عنه، وهذا لا يجوز وهو المذهب، جزم به الخرقي وابن البناء في «خصاله» وصاحب «المبهج» و«الإيضاح» وناظم «المفردات» قال في «الخلاصة»: ولا يجوز أخذ الرهن والكفيل به على الأصح، واختاره الأكثر، والرواية الثانية: يجوز، روى حنبل جوازه، ورخص فيه عطاء ومجاهد وعمرو بن دينار والحكم ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي وابن المنذر؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ} إلى قوله: {فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} [البقرة: 282]، وقد روي عن ابن عباس وابن عمر أن المراد به السلم، ولأن للفظ عام، فيدخل السلم في عمومه، ولأنه أحد نوعي البيع، فجاز أخذ الرهن بما في الذمة منه كبيوع الأعيان، وصححه في «التصحيح» و«الرعاية» و«النظم»، وجزم به في «الوجيز» قال الزركشي: وهو الصواب.
وقال في «التنقيح»: وهو أظهر، وحملوا قوله: «لا يصرفه لي غيره» أي لا يجعله رأس مال سلم آخر. وهذا القول هو الذي يترجح عندي لما تقدم؛ ولأن الحاجة للتوثقة في دين السلم أبلغ من غيرها. والله أعلم.
ولا يجوز أخذ غيره مكانه لنهيه –عليه الصلاة والسلام- عن بيع الطعام قبل قبضه. وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من أسلف في شيء؛ فلا يأخذ إلا ما أسلف فيه، أو رأس ماله» رواه الدارقطني وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من أسلم في شيء، فلا يصرفه إلى غيره» رواه أبو داود وابن ماجه. قال في «الشرح»: وذلك حرام، سواء كان المسلم فيه موجودًا أو معدومًا، وسواء كان العوض مثل المسلم فيه في القيمة، أو أقل أو أكثر، وبه قال أبو حنيفة والشافعي.
وقال مالك: يجوز أن يأخذ غير المسلم فيه مكانه يتعجله، ولا يؤخره إلا الطعام، قال ابن المنذر: وقد ثبت أن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: إذا أسلم في شيء إلى أجل؛ فإن أخذت ما أسلفت فيه، وإلا فخذ عوضًا انقص منه، ولا تربح مرتين. رواه سعيد. وسُئل شيخ الإسلام –رحمه الله- عن رجل أسلف خمسين درهمًا في رطل حرير إلى أجل معلوم، ثم جاء الأجل فتعذر الحرير، فهل يجوز أن يأخذ قيمة الحرير، أو يأخذ أي شيء كان؟ فأجاب: الحمد لله، هذه المسألة فيها روايتان عن الإمام أحمد.
إحداهما: لا يجوز الاعتياض عن دين السلم بغيره، كقول الشافعي وأبي حنيفة؛ لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره» وهذه الرواية هي المعروفة عند متأخري أصحاب الإمام أحمد، وهي التي ذكرها الخرقي وغيره.
والقول الثاني: يجوز ذلك، كما يجوز في غير دين السلم، وفي المبيع من الأعيان، وهو مذهب مالك، وقد نص أحمد على هذا في غير موضع، وجعل دين السلم كغيره من المبيعات، فإذا أخذ عوضًا غير مكيل ولا موزون بقدر دين السلم حين الاعتياض، لا بزيادة على ذلك، أو أخذ من نوعه بقدره، مثل أن يسلم في حنطة، فيأخذ شعيرًا بقدر الحنطة، أو يسلم في حرير، فيأخذ عنه عوضًا من خيل أو بقر أو غنم؛ فإن يجوز، وقد ذكر ذلك طائفة من الأصحاب. اهـ. من «مجموع الفتاوى» (29/503، 504)، والذي يترجح عندي القول الثاني، لما تقدم. والله أعلم.
ولا يجوز بيع المسلم فيه قبل قبضه هذا المذهب، وقال في «الشرح»: بغير خلاف علمناه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الطعام قبل قبضه، وعن ربح ما لم يضمن؛ ولأنه مبيع لم يدخل في ضمانه، فلم يجز بيعه كالطعام قبل قبضه. وفي «المبهج» وغيره رواية بأن بيعه يصح، واختاره الشيخ تقي الدين –رحمه الله تعالى- وقال: هو قول ابن عباس - رضي الله عنهما - ؛ لكن يكون بقدر القيمة فقط، لئلا يربح فيما لم يضمن، قال: وكذا ذكره أحمد –رحمه الله تعالى- في بدل القرض وغيره، وهو اختيار ابن القيم في «تهذيب السنن».
ولا يصح بيع رأس مال بعد فسخ، وعليه أكثر الأصحاب، وقيل: يجوز، اختاره القاضي في «المجرد» وابن عقيل، وهو ظاهر ما جزم به في «المنور» وتصح هبة كل دين سلم أو غيره لمدين فقط؛ لأنه إسقاط، وعنه: تصح لغير من هو عليه، اختارها في «الفائق» وهو مقتضى كلام الشيخ تقي الدين، وهو الذي تميل إليه النفس. والله أعلم.
ولا تصح الحوالة بدين السلم، ومعنى الحوالة به: أن يكون لرجل سلم، وعليه مثله من قرض، أو سلم آخر أو بيع، فيحيل بما عليه من الطعام على الذي عنده السلم، فلا يجوز، وإن أحال المسلم إليه المسلم بالطعام الذي عليه، لم يصح أيضًا؛ لأنه معاوضة بالمسلم فيه قبل قبضه، فلم يجز كالبيع؛ لأنها لا تجوز إلا على دين مستقر، والسلم عرضة للفسخ، ولا تصح الحوالة على المسلم فيه، أو رأس ماله بعد الفسخ؛ لحديث نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الطعام قبل قبضه، وعن ربح ما لم يضمن. وحديث: «من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره» ولأنه لم يدخل في ضمانه، أشبه المكيل قبل قبضه، وأيضًا فرأس مال السلم بعد فسخه وقبل قبضه مضمون على المسلم إليه بعقد السلم أشبه المسلم فيه، واختار الشيخ تقي الدين جواز الحوالة بدين السلم، والحوالة عليه، وعلله بتعاليل جيدة، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس؛ لأنه لا محذور فيه؛ ولأن الحوالة ليست بيعًا. والله أعلم.

بيع الدين المستقر وحكم الإقالة في السلم
س68: تكلم عن حكم بيع الدين المستقر، ومثل لذلك، ذاكرًا ما يشترط لذلك وما يتعلق بذلك، وما حكم الإقالة في السلم أو بعضه، وما الذي يجب بفسخ سلم؟ وما الذي يترتب على ذلك؟ وإذا كان إنسان له سلم، وعليه سلم من جنسه، فقال لغريمه: اقبض سلمي لنفسك، أو قال: اقبضه لي، ثم لك، أو قال: أنا أقبضه لنفسي، وخذه بالكيل الذي تشاهد، أو احضر اكتيالي منه لأقبض لك، ففعل، فما الحكم؟

ج: يصح بيع دين مستقر من ثمن وقرض ومهر بعد دخول، وأجرة استوفى نفعها ومدتها، وأرش جناية وقيمة متلف ونحوه لِمَنْ هو في ذمته، وهذا المذهب؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: كنا نبيع الإبل بالبقيع بالدنانير، ونأخذ عوضها الدارهم، وبالدراهم ونأخذ عوضها الدنانير، فسألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: «لا بأس إذا تفرقتما، وليس بينكما شيء» فدل الحديث على جواز بيع ما في الذمة من أحد النقدين بالآخر، وغيره يقاس عليه، ودل على اشتراط القبض قوله: «إذا تفرقتما، وليس بينكما شيء» ويُستنثى على المذهب ما إذا كان عليه دراهم من ثمن مكيل أو موزون باعه منه نسيئة؛ فإنه لا يجوز أن يستبدل عما في الذمة بما يشاركه المبيع في علة رد الفضل، نص عليه حسمًا لمادة ربا النسيئة.
ويستثنى أيضًا ما في الذمة من رأس مال السلم إذا فسخ العقد، وأنه لا يجوز الاعتياض عنه، وإن كان مستقرًا، على الصحيح من المذهب، ويشترط لصحة بيع الدين الثابت في الذمة لمن هو عليه أن يقبض عوضه في المجلس إن باعه، بما لا يباع به نسيئة، كأن باع الذهب بفضة أو عكسه، أو باعه بموصوف في الذمة، فيصير قبضه قبل التفرق، لئلا يصير بيع دين بدين، وهو منهي عنه كما تقدم، ولا يصح بيع الدين المستقر لغير من هو في ذمته، وهو الصحيح من المذهب، وعنه: يصح، قاله الشيخ تقي الدين. ولا يصح بيع دين الكتابة ولو لمن هو في ذمته؛ لأنه غير مستقر. وتصح إقالة في سلم؛ لأنها فسخ، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الإقالة في جميع ما أسلم فيه جائزة؛ لأن الإقالة فسخ للعقد. وقع من أصله، وليست بيعًا، وتصح الإقالة في بَعْض السلم؛ لأنها مندوب إليها، وكل مندوب إليه صح في شيء، صح في بعضِه، كالإبراء والإنظار، ولا يشترط في التقايل قبض رأس مال السلم في مجلس الإقالة؛ لأنها ليست بيعًا، ولا قبض عوض رأس مال السلم إن تعذر رأس مال السلم بأن عدم في مجلس الإقالة، ومتى انفسخ عقد السلم بإقالة أو غيرها كعيب في الثمن، لزم المسلم إليه رد الثمن الموجود؛ لأنه عين مال السلم عاد إليه بالفسخ، وإن لم يكن الثمن موجودًا رد مثله إن كان مثليًا، ثم قيمته إن كان متقومًا؛ لأن ما تعذر رده رجع بعوضه، وإن أخذ بدل رأس مال السلم بعد الفسخ ثمنًا وهو ثمن، فصرف يُشترط فيه التقابض قبل التفرق، وإن كان رأس السلم عرضًا، فأخذ السلم منه عرضًا أو ثمنًا بعد الفسخ، فبيع؛ يجوز فيه التفرق قبل القبض؛ لكن إن عوضه مكيلاً عن مكيل، أو موزونًا عن موزون، اعتبر القبض قبل التفرق، كالصرف. وإن كان لرجل سلم، وعليه سلم من جنسه، فقال الرجل لغريمه: اقبض سلمي لنفسك ففعل، لم يصح قبضه لنفسه إذ هو حوالة بسلم، وتقدم أنها على المذهب لا تصح به، ولا يصح قبضه للآمر؛ لأن الآمر لم يوكله في قبضه، فلم يقع له، فيرد المسلم إليه، وصح قبضه لهما إن قال: اقبضه لي، ثم اقبضه لك، لاستنابته في قبضه له ثم لنفسه، فإذا قبضه لموكله جاز أن يقبضه لنفسه، كما لو كان له عنده وديعة.
وتقدم: يصح قبض وكيل من نفسه لنفسه، إلا ما كان من غير جنس دينه. وإن قال رب سلم لغريمه: أنا أقبض السلم ممن هو عليه لنفسي، وخذه بالكيل الذي تشاهد؛ صح قبضه لنفسه، لوجود قبضه من مستحقه. والرواية الثانية: لا يجوز، ولا يكون قبضًا، وهو مذهب الشافعي؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان، صاع البائع وصاع المشتري، ولم يوجد ذلك، ولأنه قبض بغير كيل، أشبه ما لو قبضه جزافًا.
أو قال رب سلم لغريمه: احضر اكتيالي ممن عليه الحق لأقبضه لك، ففعل؛ صح قبضه لنفسه لما تقدم، ولا أثر لقوله: لِأقْبضَهُ لكَ؛ لأن القبض مع نيته لغريمه كنيته لنفسه، ولا يكون قبضًا لغريمه حتى يقبضه له بالكيل؛ فإن قبضه بدونه لم يتصرف فيه قبل اعتباره، لفساد القبض، وتبرأ به ذمة الدافع، وإن ترك القابض المقبوض بمكياله، وأقبضه لغريمه، صح القبض لهما؛ لأن استدامة الكيل كابتدائه، وقبض الىخر له في مكياله جريُّ لصاعه فيه.

س69: هل يقبل قول قابض لسلم في قدره، وإذا ادعى قابض أو مقبض بكيل أو وزن غلطًا أو نحوه، فما حكم ذلك؟ وإذا قبض أحد شريكين أو أكثر من دين مشترك فممن يأخذ شريكه؟ وماذا يعمل من استحق على غريمه مثل ماله عليه قدرًا وصفة حالين، أو مؤجلين أجلاً واحدًا؟ وإذا دفع مديون وفاءَ عما عليه، أو امتنع ووفاه عنه حاكم، فهل يبرأ؟ وإذا كان على أنثى دين من جنس واجب نفقتها، فهل يُحتسب به؟ وإذا كان على إنسان دين لا يعلم به ربه، فما حكم إعلامه؟ واذكر ما يتعلق حول ما ذكر من أمثلة.

ج: يقبل قول قابض لسلم أو غيره جزافًا في قدر المقبوض بيمينه؛ لأنه ينكر الزائد، والأصل عدمه؛ لكن لا يتصرف من قبض مكيلاً ونحوه جزافًا في قدر حقه قبل اعتباره بمعياره لفساد القبض، وفيه وجه: يصح التصرف في قدر حقه منه، قدمه ابن رزين في «شرحه»، ولا يقبل قول قابضٍ ولا مُقبِّضٍ بكيل ولا وزن ونحوه دعوى غلط ونحوه؛ لأنه خلاف الظاهر، وما قبضه أحد شريكين من دين مشترك بإرث أو إتلاف عين مشتركة، أو بعقد كبيع مشترك، وإجارته أو بِضَرِيْبَةٍ سببُ استحقاقها واحدٌ، كوقف على عدد محصور، فشريكه مُخيَّرٌ بين أخذ من غريم لبقاء اشتغال ذمته، أو أخذ من قابض، للاستواء في الملك، وعدَم تمييز حصة أحدهما من حصة الآخر، فليس أحدهما أولى من الآخر به، ولو بعد تأجيل الطالب لحقه، لما سبق، ما لم يستأذنه في القبض؛ فإن أذن له في القبض من غير توكيل في نصيبه، فقبضه لنفسه، لم يحاصصه، أو ما لم يتلف مقبوض، فيتعين غريم، والتالف من حصة قابض؛ لأنه قبضه لنفسه، ولا يضمن لشريكه شيئًا، لعدم تعديه؛ أنه قدر حصته، وإنما شاركه لثبوته مشتركًا، ومن استحقَّ على غريمِهِ مِثْلَ ماله عليه من دين جنسًا وقدرًا وصفة، حالَّين أو مؤجلين أجلاً واحدًا، كثمنين اتحد أجلهما؛ تساقطا إن استويا، أو سقط من الأكثر بقدر الأقل إن تفاوتا قدرًا بدون تراض؛ لأنه لا فائدة في أخذ الدين من أحدهما، ثم رده إليه، ولا يتساقطان إذا كان الدينان دين سلم، أو كان أحدهما دين سلم، ولو تراضيا؛ لأنه تصرف في دين سلم قبل قبضه، أو تعلق بأحد الدينين حق، بأن بيع الرهن لتوفية دينه من مدين غير المرتهن، أو عين المفلس بعض ماله لبعض غرمائه بثمن في الذمة من جنس دينه؛ فلا مقاصة، لتعلق حق الغرماء أو المرتهن بذلك الثمن، ومن عليها دين من جنس واجب نفقتها، لم يحتسب به مع عسرتها؛ لأن قضاء الدين بما فضل.
وإذا نوى مديون وفاءً عما عليه بدفع، بريء منه، وإلا ينو وفاءً، بل نوى التبرع فَتبرُّعٌ، والدين باق عليه؛ لحديث: «وإنما لكل امرئ ما نوى» وتكفي نية حاكم وفاة قهرًا من مال مديون لامتناعه، أو مع غيبته لقيامه مقامه.
ومن عليه دين لا يعلم به ربه، وجب عليه إعلامه. وإذا دفع زيدٌ لعمرو دراهم، وعلى زيد طعام لعمرو، فقال زيد لعمرو: اشتر لك بها مثل الطعام الذي علي، ففعل، لم يصح الشراء. قال في «الفروع»: لأنه فضولي؛ لأنه اشترى لنفسه بمال غيره.
وإن قال زيد لعمرو: اشتر لي بالدراهم طعامًا، ثم اقبضه لنفسك، ففعل، صح الشراء؛ لأنه وكيل عنه فيه، ولم يصح القبض لنفسه؛ لأن قبضهُ لنفسه فرعٌ عن قبض موكله، ولم يوجد. وإن قال زيد لعمرو: اشتر لي بدراهم مثل الطعام الذي علي، واقبضه لي، ثم اقبضه لنفسك، فاشترى لها طعامًا له، ثم قبضه له، ثم قبضه لنفسه؛ صح ذلك كله؛ لأنه وكَّلَهُ في الشراء والقبض، ثم الاستيفاء من نفسه لنفسه، وذلك صحيح. ولو دفع إليه كيسًا، فقال: استوف منه قدر حقك، ففعل، صح؛ لأنه من استنابة من عليه الحق للمستحقِّ، والزائد أمانة، قال في «الفروع»: قال أحمد -رضي الله عنه-: الدين أوله هم، وآخره حزن. قال بعضهم: كان يقال: الدين هم بالليل، وذل بالنهار، وإذا أراد الله أن يذل عبدًا جعل في عنقه دينًا. وكان يقال: الأذلاء أربعة: النمام، والكذاب، والفقير، والمديان. وكان يقال: لا هم إلا هم الدين، ولا وجع إلا وجع العين. قال ابن عبد البر: وقد روي هذا القول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه ضعيف. وقال جعفر بن محمد: المستدين تاجر الله في أرضه. وقال عمر بن عبد العزيز: الدين وقرٌ طالما حمله الكرام. اهـ.

من النظم فيما يتعلق في السلم في المعين وفي عدم نقل الملك فيه قبل قبضه والإقالة
وإن يسلم المغصوب وهو معيّن ... ورد رَديًا فهو عَقْدُ تفسد
وإن قبضا عما استقر بذمة ... فإن له في مجلس بدل الردي
وفيه من التفضيل والخلف مثلما ... تقدم في صرف هناك ليقصد
وما سَلم في العين حل وإنما ... يصح إذا أسلمت في ذمة قد
وليس بشرط ذكرهم موضع الوفا ... فوف متى تطلق بموضع معقد
وإن لم يوالِ فاشترطه بأجود ... وفي الثاني في أدنى البلاد ليورد
وإن تشترط فيه يكن لتأكد ... وفي غيره إن تشترط صح بأوكد
ونقلك فيه الملك من قبل قبضه ... حرام لنا مع جهله والتعمد
ويحرم بيع الدين بالدين مطلقًا ... وبالنقد إلا للغريم بأوكد
إذا كان دينًا مستقرًا بشرط أن ... يقبضه الأثمان في المجلس احدد
ووجهين في دين الكتابة خذهما ... وفي مسلم من بعد فسخ منكد
وبيع بممنوع به بيعه نسا ... وموصوف اقبضه بمجلس معقد
وليس بشرط قبض غيرهما به ... إذا ما به بعت الديون بأجود
وفي سلم إن ما تقبل نادمًا يجز ... وفي بعضه أيضًا على المتأكد
وخذ رأس مال أو مثيلاً له إن توى ... أو القدر عند الفسخ في المتجوزد
وإن قال شخص مالك سلمًا لمن ... عليه له من جنسه اقبضه وارشد
لنفسك لم تملكه في قبضه وهل ... يكون لأمار بوجهين أسند
وإن قال لي فاقبضه ثم لك احكمن ... بتصحيح قبض للوكيل وأكد
ولا تجز إقباضًا بكيلة قابض ... تراه ولو لم تنأ عنه بأوكد
وتركك إياه بمكيال قبضه ... فتقبيضه إياه صح بأوكد
وإن تعطه نقدًا وقلت اشترى بها ... لك السلم الباقي علي وجود
فإنَّ شراه كالفضولي فإن تقل ... لي ابتعه واستوفى يصح الشرا قد
وإن قلت لي ابتع ثم لي اقبضه ثم لك ... فيفعل يصح الكل في نص أحمد
ومن يدعي في قبض دين بعرفه ... مُسوِّغَ وهْمٍ فاقبلن في المجود
ومن جنسه من تعطه صبرة لكي ... يوفى فتوفى باتفاق يقلد
كذا في مكان القبض إن صح شرطه ... وفي وقته قول المدين فقلد
وجوز به رهنًا في الأولى وكافل ... وفك إبراءٍ بفسخ المعقد
وثابت دين جاز من رهنه القضا ... يجوز به أو آيل للتأطد



المجلد الرابع 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 6:30 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المجلد الرابع Empty
مُساهمةموضوع: رد: المجلد الرابع   المجلد الرابع Emptyالثلاثاء 24 نوفمبر 2015, 8:31 am

باب القرض
س70: ما هو القرض لغة واصطلاحًا؟ وما حكمه؟ وما وجه اتباعه بالسلم؟ وهل هو عقد لازم أم جائز؟ وبم ينعقد؟ وإذا قال: ملكتك، ولا قرينة تدل على رد بدل فمن القول قوله؟ وما حكم الاقتراض بالجاه للإخوان والشراء بدين لا وفاء له؟ وما هي شروط صحة القرض؟ ومتى يتم القبول؟ ومتى يملك ويلزم؟ ومتى يملك المقرض الرجوع فيه؟ واذكر ما تستحضره من دليل أو تعليل أو خلاف أو تفصيل أو ترجيح.



ج: القرض في اللغة: القطع، كأنه يقطع له قطعة من ماله، وقيل: هو المجازاة؛ لأنه يرد مثل ما أخذ، ومنه قولهم: الدنيا قروض ومكافأة، وهما يتقارضان الثناء، إذا أثنى رجل على رجل، وأنثى عليه الآخر. وقال الزجاج: القرض في اللغة: البلاء الحسن والبلاء السيئ.



قال أمية:
كل امرئ سوف يجزي قرضه حسنًا
أو سيئًا ومدينًا مثل مادانا

والقرض شرعًا: دفع مال إرفاقًا لمن ينتفع به، ويرد بدله، وهو نوع من السلف، وهو من المرافق المندوب إليها للمقرض؛ لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من مسلم يقرض مسلمًا قرضًا إلا كان كصدقتها مرتين» رواه ابن ماجه وابن حبان في «صحيحه»، والبيهقي مرفوعًا وموقوفًا، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة» رواه ابن حبان في «صحيحه»، ورواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من منح منيحة لبن أو وَرِقٍ، أو هدى زُقاقًا، كان له مثل عتق رقبة» رواه أحمد والترمذي، واللفظ له، وابن حبان في «صحيحه»، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. ومعنى قوله: «منح منيحة ورق» إنما يعني به: قرض الدراهم. ومعنى «هدى زقاقًا»: هداية الضال إلى الطريق، وهو نوع من المعاملات على غير قياسها، لمصلحة لاحظها الشارع، لانتفاع المقترض بما اقترضه، ويصح بلفظ: قرض، ولفظ «سلف» لورود الشرع بهما، وبكل لفظ يؤدي معناهما، كملكتك هذا على أن ترد بدله؛ فإن قال معط: ملكتك، ولا قرينة على رد بدله، فهبة، وإن اختلفا في أنه هبة أو قرض، فقول آخذ بيمينه أنه هبة؛ لأنه الظاهر؛ فإن دلت قرينة على رد بدله، فقول معط أنه قرض. والقرض مباح للمقترض، وليس مكروهًا، لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولو كان مكروهًا كان أبعد الناس منه، ولا إثم على مَن سُئل فلم يقرض؛ لأنه ليس بواجب، بل مندوب كما تقدم، وليس سؤال القرض من المسألة المذمومة، لما تقدم من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ ولأنه إنما يأخذه بعوضه، فأشبه الشراء بدين في ذمته، وينبغي للمقترض أن يعلم المقرض بحاله، ولا يغره من نفسه، ولا يستقرض إلا ما يقدر أن يؤديه، إلا الشيء اليسير الذي لا يتعذر مثله عادة، لئلا يضر بالمقرض. وكره الإمام أحمد الشراء بدين ولا وفاء عنده إلا اليسير. وقال الإمام: ما أحب أن يفترض بجاهه لإخوانه، قال القاضي: إذا كان من يقترض له غير معروف بالوفاء؛ لأنه تغرير بماله المقرض وإضرار به؛ أما إذا كان معروفًا بالوفاء فلا يكره؛ لأنه إعانة وتفريج لكربته، وينبغي للفقير إذا أراد أن يتزوج بامرأة موسرة أن يعلمها بفقره، لئلا يَغُرَّها.
وشروط صحة القرض خمسة:
أولاً: أن يكون فيما يجوز بيعه. ثانيًا: معرفة وصفه. ثالثًا: معرفة قدره. رابعًا: كون مقرض ممن يصح تبرعه، فلا يقرض نحو ولي يتيم من ماله، ولا مكاتب، ولا ناظر وقف منه، كما لا يحابي.
خامسًا: أن يصَادِفَ ذمة لا على ما يحدث. قال ابن عقيل: الدين لا يثبت إلا في الذمم. اهـ. ولا يصح قرض جهة كمسجد ونحوه، كمدرسة ورباط، وفي «الموجز»: يصح قرض حيوان وثوب لبيت المال، ولآحاد المسلمين. ذكره في «الفروع» اهـ. يؤيد ما سبق أمره –عليه السلام- ابن عمر أن يأخذ على إبل الصدقة.
ويصح القرض في كل عين يجوز بيعها إلا بني آدم، فالمذهب: لا يصح، قال في «الشرح»: ويحتمل صحة قرض لعبد دون الأمة، وهو قول مالك والشافعي، إلا أن يقرضهن ذوو أرحامهن؛ وأما قرض الجواهر ونحوها، مما يصح بيعه، ولا يصح السلم فيه، فالصحيح الصحة، ويرد المقترض القيمة، ولا يصح قرض المنافع؛ لأنه غير معهود. وقال الشيخ تقي الدين: يجوز قرض المنافع، مثل أن يحصد معه يومًا، ويحصد الآخر معه يومًا آخر أو يسكنه دارًا ليسكنه الآخر بدلها. وقال في «الاختيارات الفقهية»: ويجوز قرض الخبز ورد مثله عددًا بلا وزن من غير قصد الزيادة، وهو مذهب أحمد، وما قاله الشيخ رحمه الله هو الذي تميل إليه النفس. والله أعلم.
ويتم العقد بالقبول كالبيع، ويملك ويلزم بالقبض؛ لأنه عقد يَقِفُ التصرف فيه على القبض، فوقف الملك عليه، فلا يملك مقرض استرجاع القرض من مقترض كالبيع، للزوم من جهته، إلا إن حجر على مقترض لفلس، فيملك مقرض الرجوع فيه بشرطه؛ لحديث: «من وجد متاعه عند مفلس بعينه فهو أحق به» رواه أحمد. وللمقرض طلب بدل القرض من المقترض في الحال؛ لأنه سبب يوجب رد المثل أو القيمة، فأوجبه حالاً كالإتلاف، فلو أقرضه تفاريق فله طلبها جملة، كما لو باعه بيوعًا متفرقة ثم طالبه بثمنها جملة.

س71: تكلم بوضوح عن أحكام ما يلي: إذا شرط المقترض رد ما اقترضه بعينه، أو اقترض مثليًا ورد بعينه، أو فلوسًا فمنع السلطان إنفاقها، وأبطل ماليتها، أو كانت الفلوس أو المكسرة التي منع السلطان المعاملة بها ثمنًا معينًا لم يقبضه البائع، أو رد المشتري مبيعًا ورام أخذ ثمنه، وكان فلوسًا أو مكسرة فمنعها السلطان، أو أعوز المثل، وإذا دفع مكيلاً وزنًا أو موزونًا كيلاً، فما الحكم؟ وما حكم قرض الماء والخبز والخمير؟ واذكر الدليل والتعليل والتفصيل، والخلاف والترجيح.

ج: إذا شرط مقرض رده بعينه، لم يصح الشرط؛ لأنه ينافي مقتضى العقد، وهو التوسع بالتصرف، ورده بعينه يمنع من ذلك. ويجب على مقرض قبول قرض مثلي رد بعينه وفاءً، ولو تغير سعره لرده على صفته التي عليها، فلزمه قبوله كالسلم، بخلاف متقوم رد وإن لم يتغير سعره فلا يلزم قبوله؛ لأن الواجب له قيمته، والمثلي هو المكيل والموزون، ما لم يتعيب مثلي رد بعينه، كحنطة ابتلت، فلا يلزمه قبوله لما فيه من الضرر؛ لأنه دون حقه، أو ما لم يكن القرض فلوسًا أو دراهم مكسرة، فيمنعها السلطان ويبطل التعامل بها، ولو لم يتفق الناس على ترك التعامل بها؛ فإن كان كذلك، فللمقرض قيمة القرض المذكور وقت قرض؛ لأنها تعيبت في ملكه، وسواء نقصت قيمتها كثيرًا أو قليلاً، وتكون القيمة من غير جنس القرض إن جرى في أخذها من جنسه ربا فضل، بأن كان اقترض دراهم مكسرة، فمنعت وأبطل التعامل بها، وقيمتها يوم القرض أنقص من وزنها؛ فإنه يعطيه بقيمتها ذهبًا، وكذا لو اقترض حُلِيًا، وكذا ثمن لم يقبض إذا كان فلوسًا أو مكسرة، فمنع السلطان إنفاقها وأبطل ماليتها، أو طُلِبَ ثمنٌ من بائع برد مبيع عليه، لعيب ونحوه، وكذا صداق وأجرة وعوض خلع ونحوها إذا كان فلوسًا أو دراهم مكسرة، فمنعها السلطان وأبطل التعامل بها، فحكمه حكم القرض، قال شيخ الإسلام: ويطرد ذلك في بقية الديون.



وقد نظمها ناظم «المفردات» فقال:
والنقدُ في المبيعِ حَيْثُ عُيِّنَا ... وبَعْدَ ذَا كسَادُهُ تَبَيَّنَا
نحو الفُلُوسِ ثم لا يُعَامَلُ ... بها فَمِنْهُ عِنْدَنَا لا يُقْبَلُ
بل قيمةُ الفُلوسِ يَوْمَ العَقْدِ ... والقرض أيضًا هكذا في الرَّدِ
ومثلهُ مَن رَامَ عَوْدَ الثَّمنِ ... بِرَدِّهِ المبيع خُذْ بالأحْسَنٍ
قد ذَكرَ الأصحابُ ذَا في ذي الصُّوَرْ ... والنصُ في القرصِ عَيانًا قد ظَهَرْ
والنَّصُّ بالقيمةِ في بُطْلَانِهَا ... لا في ازدِيَادِ القَدْرِ أَو نُقْصَانِها
بل إن غَلَتْ فالمِثْلُ فيها أَحْرَى ... كَدَانِقٍ عِشْرينَ صَارَ عَشْرًا
والشيخُ في زِيَادةٍ أو نَقْصِ ... مِثْلاً كَقَرْضٍ في الغَلا والرُّخْصِ
وشيخُ الإسلامِ فَتَى تَيمِيِّهْ ... قال قياسُ القَرْضِ عَن جلِيّهْ
الطَّردُ في الدِّيُونِ كالصَّداقِ ... وعوضٍ في الخلعِ والإعْتاقِ
والغصبِ والصلحِ عَن القصاص ... ونَحوِ ذا طُرًا بلا اخْتِصَاصِ
قال وَجَافي الدَّيْنِ نصًا مُطْلَقُ ... حَرَّرَهُ الأثرمُ إذْ يُحَقَّقُ
وقولهم إنَّ الكَسَاد نَقْصًا ... فذاك نقصُ النوعِ عَابَتْ رُخْصًا
قال ونقصُ النوعِ لَيْسَ يُعْقَلُ ... فيما سِوى القيْمَةِ ذَا لا يُجْهَلُ
وخَرَّجَ القِيْمَة في المِثْلِيِّ ... بِنَقُصِ نَوْعٍ لَيْسَ بالخَفِي
واختارهُ وقالَ عَدْلٌ مَاضِي ... خَوف انتظار السِّعْرِ بالتَّقَاضِي
لِحَاجَةِ النَّاسِ إلى ذِي المسألهْ ... نَظَمْتُهَا مَبْسُوطَةً مُطَوَّلهْ

ويجب على مقترض رَدُّ فلوسٍ اقترضها، ولم تحرم المعاملة بها غلت أو رخصت أو كسدت؛ لأنها مثلية، ويجب رد مثل مكيل أو موزون لا صناعة فيه مباحة يصح السلم فيه؛ لأنه يضمن في الغصب والإتلاف بمثله، فكذا هنا، مع أن المثل أقرب شبهًا به من القيمة؛ فإن أعوز المثل فعليه قيمته يومَ إعوازه؛ لأنه يوم ثبوتها في الذمة.
ويجب رد قيمة غير المكيل والموزون المذكور؛ لأنه لا مثل له، فيضمن بقيمته كما في الإتلاف والغصب، فجوهر ونحوه مما تختلف قيمته كثيرًا، تعتبر قيمته يوم قبض المقترض من المقرض، لاختلاف قيمته في الزمن اليسير بكثرة الراغب وقلته، فتزيد زيادة كثيرة، فَيَنْضرُّ المقترضُ أو ينقُص، فينضر المقرِضُ وغير الجوهر ونحوه، كمذروع ومعدود تعتبر قيمته يوم قرض؛ لأنها تثبت في ذمته. وقي: يجب رد مثله من جنسه بصفاته، وكذا الجواهر ونحوها، قيل: يجب رد مثله جنسًا وصفة وقيمة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلف من رجل بكرًا، فرد مثله؛ ولما ورد عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم لها بقصعة فيها طعام، فضربت بيدها فكسرت القصعة، فضمها، وجعل فيها الطعام، وقال: «كلوا» ودفع القصعة الصحيحة للرسول، وحبس المكسورة. رواه البخاري والترمذي. ولأن ما ثبت في الذمة في السلم ثبت في القرض كالمثلي، ويخالف الإتلاف فإنه لا مسامحة فيه.
قالوا: ولأن هذا هو مقتضى عقد القرض، ولأن مثله يحصل فيه مقصودان: مقصود القيمة، ومقصود حصول ذلك الشيء المقرض، وهذا القول هو الذي يترجح عندي. والله أعلم.
ويرد مثل كيل مكيل دفع وزنًا؛ لأن الكيل هو معياره الشرعي، وكذا يرد مثل وزن موزون دفع كيلاً، ويجوز قرض ماءٍ كيلا كسائر المائعات.
ويجوز قرض لسقي مقدرًا بأنبوبة أو نحوها، مما يعمل على هيئتها من فخار أو نحاس أو رصاص أو نحوه، ويجوز قرضه مقدرًا بزمن من نوبة غيره، ليرد مقترض على مقرض مثله في الزمن من نوبته نصًا. قال: وإن كان غير محدود كرهته، أي: لأنه لا يمكن أن يرد مثله، ويجوز قرض خبز وخمير ورده عددًا بلا قصد زيادة؛ لحديث عائشة قالت: قلت يا رسول الله، الجيران يستقرضون الخبز والخمير، ويردون زيادة ونقصانًا، فقال: «لا بأس، إنما ذلك من مرافق الناس لا يُراد به الفضل» رواه أبو بكر في «الشافي»، ولمشقة اعتباره بالوزن مع دعاء الحاجة.

تأجيل القرض وكل دين حال أو حل
... س72: ما حكم تأجيل القرض، وكل دين حال أو حل، وشرط رهن أو ضمين في القرض، أو نقص وفاء، أو جر نفع أو نحو ذلك، أو أهدى مقترض لمقرض، أو علمت شهوة سخائه، وغلب على الظن أن يزيده، وحكم كل غريم غير المقبوض، وحكم ما إذا فعل شيئًا مما سبق قبل الوفاء أو طوب بِبَدَل قرض أو ثمن في ذمة، أو طولب ببدل غصب ببلد آخر غير بلد قرض وغصب؟ أو اقترض إنسان من رجل دراهم، وابتاع منه بها شيئًا، فخرجت زيوفًا، أو قال إنسان لآخر: أقرضني ألفًا، ، وادفع إليّ أرضًا أزرعها بالثلث، أو أقرض مَن له عليه بر شيئًا يشتريه به، ثم يْوفيه إياه، أو قال: إن مت فأنت في حل، أو أقرض إنسانٌ غريمه المعسر ألفًا ليوفيه منه، ومن دينه الأول كل وقت، أو جعل إنسان جعلاً لمن يقترض له بجاهه. واذكر ما لذلك من دليل أو تعليل أو تفصيل، ومثل لما لا يتضح إلا بالتمثيل، واذكر الخلاف والترجيح.

ج: يثبت بدل القرض في ذمة المقترض حالاً؛ لأنه سبب يوجب رد البدل، فأوجبه حالاً كالإتلاف؛ ولأنه عقد منع فيه التفاضل، فمنع فيه الأجل كالصرف، ولو مع تأجيل القرض؛ لأنه وَعْدٌ لا يلزم الوفاء به، وأيضًا شرط الأجل زيادة بعد استقرار العقد، فلا يلزم وكذا كل دين حال أو مؤجل حَلَّ، فلا يصح تأجيله، وبهذا قال الأوزاعي والشافعي وابن المنذر، وهو أنه وإن أجل القرض لم يتأجل، وكل دين حال أجله لم يصر مؤجلاً بتأجيله. وقال مالك والليث: يتأجل الجميع بالتأجيل؛ لحديث: «المسلمون على شروطهم» ولأن الله تعالى أمر بوفاء العقود، وأمر بالوفاء بالوعد، وعَدَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إخلاف الوعد من صفات النفاق؛ وأن المتعاقدن يملكان التصرف في هذا العقد بالإقالة والإمضاء، فملكا الزيادة فيه كخيار المجلس. قال في «الإنصاف»: واختار الشيخ تقي الدين صحة تأجيله ولزومه إلى أجله، سواء كان قرضًا أو غيره، وذكره وجهًا، قلت: وهو الصواب. اهـ. وهذا القول هو الذي يترجح عندي، والله أعلم. ويجوز شرط رهن في القرض؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - استقرض من يهودي شعيرًا ورهنه درعه. متفق عليه.
ولأن ما جاز فعله جاز شرطه، ويجوز شرط ضمين لما تقدم، ولأنه يراد للتوثق، وليس ذلك بزيادة، والضمان كالرَّهْن، ولا يجوز الإلزام بشرط تأجيل قرض، أو شرط نقص في وفاء؛ لأنه ينافي مقتضى العقد، ويحرم كلُّ شرط جر نفعًا، كشرط أن يسكنه المقترض داره، أو يقضيه خيرًا منه، أو أكثر مما أقرضه، أو يُنزِّلَ له في أجرة داره، أو شرط المقرض على المقترض أن يبيعه شيئًا يرخصه عليه، أو شرط أن يعمل له عملاً، أو أن ينتفعَ بالرهن، أو أن يساقيه على نخل، أو يزارعه على ضيعَةٍ، أو أن يبيعه شيئًا بأكثر من قيمته، أو أن يستعمله في صنعة ويعطيه أنقص من أجرة مثله، ونحوه من كل ما فيه جر منفعة. والدليل عليه ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن سلف وبيع» والسلف: هو القرض في لغة أهل الحجاز. وعن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «كل قرض جر منفعةً فهو ربا» رواه الحارث بن أبي أسامة، وإسناده ساقط، وله شاهد ضعيف عند البيهقي عن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - ، وآخر موقوف عن عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - عن البخاري. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المُسْلِفَ إذا شرط على المسُتسلِف زيادة أو هدية، فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربًا. وقد روي عن أبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود أنهم نهوا عن قرض جر منفعة؛ ولأنه عقد إرفاق وقربة، فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه. ولا فرق بين الزيادة في القدر أو في الصفة، مثل أن يقرضه مكسرة، فيعطيه صحاحًا أو نقدًا، ليعطيه خيرًا منه، ولا يجوز شرط أن يقضيه ببلد آخر، ولحمله مؤنة؛ لأنه عقد إرفاق وقربة، فشرط النفع فيه يخرجه عن موضوعه، وإن لم يكن لحملة مؤنة، فقال في «المغني»: الصحيح جوازه؛ لأنه مصلحة لهما من غير ضرر، وكذا لو أراد إرسال نفقة لأهله، فأقرضها ليوفيها المقترض لهم جاز، ولا يفسد القرض بفساد الشرط؛ وأما إذا شرط أن يقضيه ببلد آخر، فقيل: لا يجوز، وهو رواية عن الإمام أحمد. وقال في «الإنصاف»: ويحتمل جواز هذا الشرط، وهو عائد إلى هذه المسألة فقط، وهو رواية عن أحمد، واختاره المصنف والشيخ تقي الدين –رحمه الله- وصححه في النظم و«الفائق» وهو ظاهر كلام ابن أبي موسى، وأطلق المصنف الجواز فيما إذا لم يكن لحمله مؤنة، وعدمه فيما لحمله مؤنة. اهـ. وفي «مجموع الفتاوى»: وسُئل عما إذا أقرض رجل رجلاً دراهم ليستوفيها منه في بلد آخر، فهل يجوز ذلك أم لا؟ فأجاب: إذا أقرضه دراهم ليستوفيها منه في بلد آخر، مثل أن يكون المقرض غرضه حمل الدراهم إلى بلد آخر، والمقترض له دراهم في ذلك البلد، وهو محتاج إلى دراهم في بلد المقرض، فيقترض منه، ويكتب له سفتجة، أي: ورقة إلى بلد المقترض، فهذا يصح في أحد قولي العلماء، وقيل: نهي عنه؛ لأنه قرض جر منفعة، والقرض إذا جر منفعة كان ربًا. والصحيح: الجواز؛ لأن المقترض رأى النفع بأمن خطر الطريق في نقل دراهمه إلى ذلك البلد، وقد انتفع المقترض أيضًا بالوفاء في ذلك البلد، وأمن خطر الطريق، فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض، والشارع لا ينهي عما ينفعهم ويصلحهم، وإنما ينهى عما يضرهم (29/530، 531).
وإن فعل ما يحرم اشتراطه، بأن أسكنه داره، أو قضاه ببلد آخر بلا شرط، جاز، أو أهدى مقترض له هدية بعد الوفاء، جاز، أو قضى مقترض خيرًا مما أخذه، جاز، كصحاح عن مكسرة، أو أجود نقدًا، أو سكة مما اقترض، وكذا رد نوع خيرًا مما أخذ، أو أرجح يسيرًا في قضاء ذهب أو فضة، وكذا رد نوع خيرًا مما أخذ، أو أرجح يسيرًا في قضاء ذهب أو فضة، بلا مواطأة في الجميع، أو علمت زيادة المقترض على مثل القرض أو قيمته لشهرة سخائه، جاز ذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلف بكرًا، فرد خيرًا منه، وقال: «خيركم أحسنكم قضاء» متفق عليه من حديث أبي رافع.
ولأن الزيادة لم تجعل عوضًا في القرض، ولا وسيلة إليه، ولا استيفاء دينه، أشبه ما لو لم يكن قرض، وإن فعل مقترض ذلك بأن أسكنه داره، أو أهدى له قبل الوفاء، ولو لم ينو مقرض احتسابه من دينه، أو لم ينو مكافأة عليه، لم يجز، إلا إن جرت عادة بينهما به قبل قرضه؛ لحديث أنس مرفوعًا: «إذا أقرض أحدكم فأهدي إليه، أو حمله على الدابة، فلا يركبها ولا يقبله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك» رواه ابن ماجه، وكذا البيهقي في «السنن» و«الشعب» وسعيد بن منصور في «سننه»، وهو حديث حسن، ويؤيده ما في البخاري عن أبي بردة، قال: قدمت المدينة، فلقيت عبد الله بن سلام، فقال لي: إنك بأرض فيها الربا فاش، فإذا كان لك على رجل حق، فأهدي إليك حمل تبن، أو حمل قت، فلا تأخذه؛ فإنه ربًا. وفي مسند الحارث بن أبي أسامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل قرض جر منفعة فهو باب من أبواب الربا» وكذا كل غريم حكمه حكم المقترض في ما تقدم. ومن طولب ببدل قرض، ومثله ثمن في ذمة ونحوه، أو طولب بدل غصب ببلد آخر غير بلد قرض، أو غصب؛ لزمه أداء البدل لتمكنه من قضاء الحق بلا ضرر، إلا ما لحمله مؤنة كحديد وقطن وبر، وقيمته ببلد القرض أو الغصب أنقص من قيمته ببلد الطلب، فلا يلزمه إلا قيمته ببلد القرض أو الغصب؛ لأنه لا يلزمه حمله إلى بلد الطلب، فيصير كالمتعذر، وإذا تعذر المثل، تعينت القيمة، واعتبرت ببلد قرض أو غصب؛ لأنه الذي يوجب فيه التسليم؛ فإن كانت قيمته ببلد القرض أو الغصب مساوية لبلد الطلب أو أكثر، لزمه دفع المثل ببلد الطلب كما سبق، ومن طولب بعين الغصب بغير بلده لم يلزمه وكذا لو طولب بأمانة أو عارية ونحوها بغير بلدها؛ لأنه لا يلزمه حملهَا إليه، ولو بذل المثل مقترض أو غاصب بغير بلد قرض أو غصب، ولا مؤنة لحمله إليه، كأثمان لزم مقرضًا ومغصوبًا منه قبوله مع أمن بلد وطريق؛ لعدم الضرر عليه إذًا، وكذا ثمن وأجرة ونحوهما؛ فإن كان لحمله مؤنة أو البلد أو الطريق غير آمن، لم يلزمه قبوله، ولو تضرر المقترض أو الغاصب؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر، ومن اقترض من رجل دراهم، وابتاع منه بها شيئًا، فخرجت زيوفًا، فالبيع جائز،
ولا يرجع عليه بشيء؛ لأنها دراهمه، فعيبها عليه، وله على المقترض بدل ما أقرضه له بصفته زيوفًا، ولو أقرض إنسان فلاحه في شراء بقر يعمل عليها في أرضه بالحرث ونحوه، أو أقرضه في شراء بذر يبذره في أرضه؛ فإن شرط المقرض ذلك في القرض، لم يجز لما تقدم، وإن كان ذلك بلا شرط، أو قال المقترض: أقرضني ألفًا، وادفع إلي أرضك أزرعها بالثلث، حرم أيضًا؛ لأنه يجر به نفعًا. نص عليه، واختاره ابن أبي موسى، وجوزه المرفق وجمع لعدم الشرط والمواطأة عليه، وصححه في «النظم» و«الرعاية الصغرى»، وقدمه في «الفائق» و«الرعاية الكبرى».
ولو أقرض من له عليه بر شيئًا يشتري البر به، ثم يوفيه إياه، جاز العقد بلا كراهة، وإن قال المقرض للمقترض: إن مِتُّ -بضم التاء- فأنت في حل، فوصيته صحيحة كسائر الوصايا، وإن قال له: إن مِتَّ –بفتحها- فأنت في حلن لا يصح؛ لأنه إبراء معلق.

قال الناظم:
وقولُ إذا ما مِتُّ تَبرأ وَصِيَّةٌ
وإن تَفْتَحِ التَّا اردْدُ للابْرَا المُقَيَّدِ


ولو أقرض إنسان غريمه المعسر ألفًا، ليوفيه منه ومن دينه الأول كل وقت، جاز والكل حال، أو قال المقرض: أعطني بديني رهنًا، وأنا أعطيك ما تعمل فيه، وتقضيني ديني كله الأول والثاني، ويكون الرهن عن الدينين، أو عن أحدهما بعينه، جاز؛ لأنه ليس فيه اشتراط زيادة عما يستحقه عليه، والكل حال، الدين الأول والثاني، ولا يتأجل بقول ذلك. ولو جعل إنسان لآخر جعلاً على اقتراضه له بجاهه، جاز؛ لأنه في مقابلة ما يبذله له بجاهه فقط، وقيل: لا يجوز؛ لأن هذه المسألة داخلة في القرض الذي جر نفعًا، ووسيلة قريبة إلى الربا، وإن جعل له جعلاً على ضمانه له، فلا يجوز؛ لأنه ضامن، فيلزمه الدين، وإن أداه وجب له على المضمون عنه، فصار كالقرض، فإذا أخذ عوضًا صار القرض جارًا للمنفعة، فلم يجز. ولو أقرض ذمي ذميًا خمرًا، ثم أسلما أو أحدهما، بطل القرض، ولم يجب على المقترض شيء.
فائدة:
قال في «الفروع»: قال أحمد - رضي الله عنه - : الدين أوله هَمٌ، وآخره حزن. قال بعضهم: كان يقال: الدين هَمٌّ بالليل، وذل بالنهار، وإذا أراد الله أن يذل عبدًا جعل في عتقه دينًا، وكان يقال: الأذلاء أربعة: النمام، والكذاب، والفقير، والمديان. وكان يقال: لا هم إلا هم الدين، ولا وجع إلا وجع العين. قال ابن عبد البر: وقد روي هذا القول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه ضعيف. اهـ.

من النظم فيما يتعلق بالقرض
وإن تُقْرِضَنْ شيئًا فندبٌ مضاعفٌ ... كمثلين إلا خمس بذل التجود
ويكره الاستقراض للسيئ الوفا ... ولِلسَّهْلِهِ لا بأس بالشارع اقتد
ومن صح منه بذله صح قرضُه ... لما صَحَّ فيه البيع يا ذا التنقد
سوى أمة قد قيل والعبد والذي ... به سلم لم تمضه في المجود
وقيل اقترض واردد كقيمة جوهر ... وفي الحيوان المثل مع كرهه اردد
ومعرفة المقدار والوصف لازم ... ويملكه بالقبض مستقرض اليد
فليس عليه رده بل بديله ... بذمته حتم الحلول المؤكد
وما شرط تأجيل الحلول بلازم ... ويلزم منه أخذه إن يردد
متى لم يعب أو يمنع الناس أخذه ... فقيمته وقت اقتراضك أورد
على نصه بل قيل يوم كساده ... وما نقص سعر منع رد بأجودِ
كذا جوهر أو نحوه إن جاز قرضه ... ومثلاً لموزون وما كيل فاردد
وقيمة مثل يوم إعواز مثله ... وفيما سوى هذين وجهين أسند
وثانيهما قوم من القرض وانقد
فوجه له مثل مقارب وصفه ... قبولكه أو مثله احتم بمبعد
وفي كاسد في العرف لا منع حاكم ... وعنه اشترط الوزن زن أو فعدد
وقرض يسير الخبز بالعد جائز ... لرد كبير والخمير كذا اعدد
ويحرم إقراض الصغير تقصدًا ... لتطييب قلب المقرض المتجود
وشرط رهنًا أو ضمينًا به أجز ... كإهدائه أورد أوفى وأجود
وما جر نفعًا لا يجوز اشتراطه ... إجارته أو نفعه احذر وأوعد
وبيع عليه أو شرا الشيء منه أو ... بقيمة ما أهدي وإلا ليردد
ومن زاد من قبل الوفاء ليحتسب ... هدية هذا الصاحب المتودد
ومن كان قبل القرض يهدي تقبلت ... ففي أوطد لا بأس بالشارع اقتد
ومن زاد من غير اشتراط إذا قضى ... على أوطد الوجهين أسوة أحمد
ولا تكرهن القرض للحسن الوفا ... يزد ثانيًا يحرم بغير تردد
وقيل إن يزده مَرةً في القضا متى ... فأتبعه المعطي بقرض مجدد
ومن صده الإفلاس عن رد قرضه ... كذا قرضُه أثمان قرض ليورد
لِيُوفِيهِ شهرًا ثم شهرًا فجائز ... بأرضك أو أثمان ثور بأجود
كذا قرض بذر دون شرط لزارع ... ولو ليتيم طد نفع بأوكد
وشرط وفا سهل بغير مكانه ... وإن تفتح التا اردد للأبرا المقيد
وقول إذا ما مت تبرا وصية ... أجز واكتفل عني ولك ألفٌ اردد
وقول اقترض لي الآن ألفًا ولك
كذا ... بالإسلام أسقطها ولو من مفرد
ولو أقرض الذمي خمرًا لمثله ... بديلاً ليرضى غير أرض التجودِ
وإن طلب المغصوب منه ومقرض ... المؤونة إن يزدد هنا سعره قد
فإعطاؤه حتم سوى ما لحمله ... وليس عليه هاهنا أخذ مورد
فقيمته في أرض قرض هنا له ... مع الأمن في هذا وسبل المردد
سوى الشيء ما في حمله من مؤونةٍ ... وإن يبق لم يجبر بحال فقيد
كذا بدل المغصوب إن كان تالفًا

باب الرهن
س73: ما هو الرهن لغة وشرعًا؟ وما هو المرهون؟ وما حكم الزيادة فيه. أو في دَيْنِه؟ وهل لما يصح رهنه ضابط؟ وبم ينعقدْ؟ وما أركانه؟ وما حكمه؟ ولِمَ أتبع بالبيع والقرض، وما فائدته؟ وفصِّلُ لما يحتاج إلى تفصيل، ومثل لما يحتاج إلى تمثيل، واذكر الدليل والتعليل، والخلاف والترجيح.

ج: الرهن في اللغة: الثبوت والدوام والاستمرار. وقال ابن سيده: ورهنه، أي: أدامه، ومن رهن بمعنى دام.



قال الشاعر:
الخُبْزُ واللحمُ لَهم رَاهِنٌ
وقهوةٌ راو وُقها ساكِبُ


وقيل: هو الحبس، قال الله تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [المدثر: 38].



وقال الشاعر:
وفارقَتْكَ بِرهْنٍ لا فكَاكَ لَهُ
يومَ الوداع فأضْحَى الرَّهْنُ قَدْ غَلِقَا


شبه لزوم قلبه لها، واحتباسه عندها لوجده بها، بالرهن الذي يلزم المرتهن، فيحبسه عنده ولا يفارقه، وتخفف العين من رَهَنَ كما خُفِفَ في رُسُل وكُتُب، ومثل رَهْن ورُهُن سَقْف وسُقُف.

وقال الأعشى:
آليتُ لا أعُطِيهِ مِن أبنائنا ... رُهُنًا فَيُفْسِدْهُم كَمَنْ قَدْ أفْسَد

ويقال في الرهن: رَهَنْتُ وأرْهَنْت.



قال عبد الله بن همام السِّلولي:
فلما خَشيِتُ أظافِيْرَهُم ... نَجَوْتُ وأرهَنْتُهُم مَالِكًا

وشرعًا: توثقه دَيْنٍ بعين يُمكن أخذه أو بَعْضُه مِنها أو من ثمنها.
وهو جائز بالكتاب، والسُّنة، والإجماع؛ أما الكتاب: فقوله تعالى: { وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } [البقرة: 282].
وأما السُّنة: فروت عائشة - رضي الله عنها - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشترى من يهودي طعامًا، ورهنه درعه» متفق عليه. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة» رواه البخاري.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يغلق الرهن»؛ وأما الإجماع: فأجمع المسلمون على جواز الرهن، لدلالة الكتاب والسُّنة عليه.
والمرهون: عين معلومة قدرًا وجنسًا وصفةً، جُعِلتْ وَثِيْقَةً بحق يمكن استيفاء الحق، أو استيفاء بعضه منها، أو من ثمنها، بخلاف نحو وقف وحر، ويأتي حكم أم الولد، وتقدم حكم دين السلم والكتابة.
وتصح زيادة رهن، بأن رهنه شيئًا على دين، ثم رهنه شيئًا آخر عليه؛ لأنه توثقه، ولا تصح زيادة دينه، بأن استدان منه دينارًا، ورهنه كتابًا أو أقبضه له منه، ثم اقترض منه دينًا آخر، وجعل الكتاب رهنًا عليه وعلى الأول؛ لأنه رهن مرهون، والمشغول لا يشغل، وهذا قول أبي حنيفة وأحمد، وهو الراجح من مذهب الشافعي، وقال مالك بالجواز، وهو رواية عن أحمد، والقديم للشافعي، واختاره الشيخ تقي الدين وابن القيم، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس. والله أعلم.
ويصح رهن كل ما يصح بيعه، ولو كان نقدًا أو مؤجرًا أو معارًا، ولو لرب دين؛ لأنه يصح بيعه، فصح رهنه، وينعقد الرهن بلفظ وبمعاطاة كالبيع.
وأركانه خمسة: راهن، ومرهون، ومرهون به، ومرتهن، وصيغة، وهي الإيجاب، والقبول، وما أدى معناهما، فلا يصح بدونهما، فإذا قال: أقرضتك هذا، أو خذه بمثله، أو ملكتك على أن ترد بدله، صح، وقد يكون القرض واجبًا، كالمضطر، وحرامًا كما إذا غلب على ظنه أنه يصرفه في محرم، ومكروهًا، كما إذا غلب على ظنه أنه يصرفه في مكروه.
وأما فائدته: فكبيرة؛ لأنه من الوثائق التي يحصل منها الاستيفاء عند تعذر الوفاء من الغريم، ويطمئن إليه، ويأمن من غدر صاحبه وأكمله أن يكون عينًا مقبوضة؛ فإن كانت قيمتها أكثر من الدين تمت من جميع الوجوه؛ فإن كانت الوثيقة دينًا أو غير مقبوضة، أو أقل من الدين، صارت ناقصة.
وأما مناسبة إتباعه للبيع والقرض، فلما كان الرهن يتسبب عن الدين، من قرض تارة، ومن بيع أخرى، وأنهى الكلام على الدينين وما يتعلق بهما من مقاصة، عقد الكلام على ما يتسبب عنهم من رهن ونحوه.

ضمان العارية إذا رهنت والمبيع قبل قبضه
س74: ما حكم ضمان العارية إذا رهنت، والمبيع قبل قبضه، والمشاع؟ وإذا لم يرض شريك ومرتهن بكون المشترك بيد أحدهما أو بيد غيرهما، أو كان الرهن مكاتبًا أو مصحفًا، أو كتب حديث أو تفسير، أو جانبًا أو مدبرًا، أو معلقًا عتقه بصفة، أو كان مما يسرع إليه الفساد، أو قنًا مسلمًا لكافر، فما الحكم؟ واذكر ما يتفرع على ذلك بالتفصيل، واذكر الدليل والتعليل، والخلاف والترجيح.

ج: ويسقط ضمان العارية إذا أرهنت، لانتقالها للأمانة إن لم يستعملها المرتهن؛ فإن استعملها ولو بإذن الراهن، ضمن. ويجوز رهن المبيع قبل قبضه، غير المكيل والموزون والمذروع والمعدود على ثمنه وغيره عند بائعه وغيره، بخلاف المكيل ونحوه؛ أنه لا يصح بيعه قبل قبضه، فكذلك رهنه. واختار الشيخ تقي الدين جواز رهن المكيل والموزون ونحوهما قبل قبضها، وحكاه القاضي وابن عقيل عن الأصحاب، قالوا: لأن قبضه مستحق، فيمكن المشتري أن يقبضه ثم يقبضه، وإنما لم يجز بيعه؛ لأنه يفضي إلى ربح ما لم يضمن، وهو منهي عنه، وهذا القول هو الذي يترجح عندي. والله أعلم.
ويصح رهن المشاع؛ لأنه يجوز بيعه في محل الحق، ثم إن رضي الشريك والمرتهن بكون المشترك في يد أحدهما أو بيد غيرهما، جاز. وإن اختلفا جعله حاكم بيد أمين أمانة أو بأجرة أو آجره الحاكم عليهما، فيجتهد في الأصلح لهما؛ لأن أحدهما ليس أولى من الآخر، ولا يمكن جمعهما فيه، فتعين ذلك؛ لأنه وسيلة لحفظه عليهما.
ويصح رهن المكاتب، لجواز بيعه، وإيفاء الدين من ثمن، ولا يصح رهنه لمن يعتق عليه، بأن رهن لمكاتب عند رحمه المحرم؛ لأن المرتهن لرحمه المحرم لا يملك بيعه عند جوازه، ويأتي في الكتابة، ويمكنه المرتهن من الكسب؛ لأن ذلك مصلحة، ولا يصح شرط منعه من التصرف، وما أداه من دين الكتابة رهن معه؛ لأنه كنمائه؛ فإن عجز عن أداء مال الكتابة، وعاد قنصا، فهو وكسبه رهن؛ أنه نماؤه وإن عتق بأداء أو إعتاق، فما أدى بعد عقد الرهن رهن، كقن مرهون اكتسب ومات.
ويجوز رهن ما يسرع إليه الفساد، كفاكهة رطبة، وبطيخ، ولو رهنه بدين مؤجل؛ لأنه يصح بيعه، ويباع ويجعل ثمنه رهنًا مكانه حتى يحل الدين فيوفى منه، كما لو كان حالاً، وإن أمكن تجفيفه، كعنب ورطب، جفف، ومؤنته على راهن؛ لأنها لحفظه، كمؤنة حيوان. وكذا الحكم إن رهنه ثيابًا، فخاف المرتهن تلفها، أو رهنه حيوانًا، فخاف موته فيباع على ما تقدم، وشرط أن لا يبيعه أو لا يجففه فاسد، لتضمنه فوات المقصود منه، وتعريضه للتلف.
ويصح رهن القن المسلم لكافر إذا شرط في الرهن كونه بيد مسلم عدل، كرهن كتب حديث وتفسير لكافر، لأمن المفسدة؛ فإن لم يشترط ذلك لم يصح، اختاره أبو الخطاب، والشيخ تقي الدين –رحمه الله-، وقال: اختاره طائفة من أصحابنا، وجزم به ابن عبدوس في «تذكرته» ويفارق البيع بأن البيع ينتق الملك فيه إلى الكافر، وفي الرهن المرهون باق على ملك المسلم، وقيل: لا يصح رهن العبد المسلم لكافر، اختاره القاضي؛ لأنه عقد يقتضي قبض المعقود عليه والتسليط على بيعه، فلم يجز كالبيع، والقول الأول هو الذي يترجح عندي. والله أعلم.
ويصح رهن مدبر، ومعلق عتقه بصفة لم يعلم وجودها قبل حلول دين ومرتد وجان وقاتل في محاربة، ثم إن كان المرتهن عالمًا بالحال، فلا خيار له، كما لو لم يعلم حتى أسلم المرتد، أو عفي عن جان، وإن علم قبل ذلك فله رده، وفسخ بيع شرط فيه؛ لأن الإطلاق يقتضي السلامة، وله إمساكه بلا أرش، وكذا لو لم يعلم حتى قتل أو مات ومتى امتنع السيد من فداء الجاني لم يجير، ويباع في الجناية، لسبق حق المجني عليه، وتعلق حقه بعينه بحيث يفوت بفواته، بخلاف مرتهن.
وأما رهن المصحف، فقيل: لا يصح؛ لأن المقصود من الرهن استيفاء الدين من ثمنه، ولا يحصل إلا ببيعه، وبيعه غير جائز، وقيل: يصح، وهو قول مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، بناء على أنه يصح بيعه، فيصح رهنه كغيره، والخلاف في ذلك مبني على جواز بيعه، وتقدم الكلام عليه في أول كتاب البيع في الشرط الثالث من شروطه.

ما لا يصح رهنه والذي يستثنى منه وشروط الرهن
س75: تكلم بوضوح عما لا يصح رهنه، والذي يستثنى منه، وما شروط الرهن؟ وما حكم رهن المؤجر والمعار لذلك؟ وما حكم الرهن مع الحق وبعده وقبله؟ وما الذي ينبغي للمدين الذي يريد أن يرهن شيئًا؟ وإذا أذن إنسان لآخر أن يرهنه بمائة مثلاً، فرهنه بأزيد أو أنقص، أو أراد الرجوع عن الإذن، أو تلف المأذون في رهنه، أو اختلفا في القدر المأذون فيه، فما الحكم؟ وما الدليل وما التعليل؟ واذكر أمثلة لما لا يتضح إلا بالتمثيل، وفصل لما يحتاج إلى تفصيل، والخلاف والترجيح؟

ج: ما لا يصح بيعه لا يصح رهنه؛ لأن القصد استيفاء الدين منه أو من ثمنه عند التعذر، وما لا يصح بيعه لا يمكن فيه ذلك، ويصح رهن المساكن من أرض مصر ونحوها، ولو كانت آلتها منها؛ لأنه يصح بيعها، سوى رهن ثمرة قبل بدو صلاحها بلا شرط قطع، وسوى رهن زرع أخضر بلا شرط قطع، فيصح؛ لأن النهي عن بيعها لعدم أمن العاهة، وبتقدير تلفها لا يَفُوت حق المرتهن من الدين، لتعلقه بذمة الراهن، وسوى قن ذكرًا أو أنثى، فيصح رهنه دون ولده ونحوه، كوالده وأخيه؛ لأن تحريم بيعه وحده للتفريق بين ذوي الرحم المحرم، وذلك مفقود هنا؛ فإنه إذا استحق بيع الرهن يباعان معًا، دفعًا لتلك المفسدة، ويختص المرتهن بما يخص المرهون من ثمنها، فيوفى منها دينه، وإن فَضَل شيء من ثمنه، فللرهن، وإن فضل ذا ولد مائة، وقيمة الولد خمسون، فحصة الراهن ثلثًا الثمن؛ لكن لو رهن ثمرة على دين مؤجل إلى أجل تحدث فيه ثمرة أخرى، بحيث لا يتميز عن الثمرة المرهونة، فالرهن باطل لجهالته عند حلول الحق، وإن جعلت الثمرة رهنًا على دين مؤجل، وشُرطَ في العقد قطع عند حدوث غيرها، فلا يكون الرهْنُ باطلاً، لانتفاء الجهالة، وعدم الغرر.
وشروط الرهن ستة:
أحدها: أن يكون منجزًا، فلا يصح معلقًا، كالبيع.
الثاني: كونه مع الحق، بأن يقول: بعتك هذا بعشرة إلى شهر، ترهنني بها كذا، فيقول: قبلت، فيصح ذلك، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي؛ لأن الحاجة داعية إلى ثبوته، فإنه لو لم يعقده مع ثبوت الحق ويشترطه، لم يتمكن من إلزام المشتري عقده، وكانت الخيرة إلى المشتري، والظاهر أنه لا يبذله، فتفوت الوثيقة بالحق. ويصح بعد الحق بالإجماع؛ لأن الله تعالى قال: { وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } [البقرة: 282] جعله بدلاً عن الكتابة، فيكون في محلها، ومحلها بعد وجوب الحق؛ ولأن في الآية ما يدل على ذلك، وهو قوله: { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } [البقرة: 282] فجعله مذكورًا بعدها بفاء التعقيب؛ ولأنه دين ثابت تدعو الحاجة إلى الوثيقة به، فجاز أخذها كالضمان، ولا يجوز قبل الحق، فيقول: رهنتك عبدي هذا بعشرة تقرضنيها. اختار هذا القول أبو بكر والقاضي، وذكر القاضي أن أحمد نص عليه في رواية ابن منصور، وهو مذهب الشافعي؛ لأنه وثيقة بحق، فلم يجز قبل ثبوته، ولأنه تابع لحق، فلا يسبقه، كالثمن لا يتقدم المبيع، بخلاف الضمان، والفرق أن الضمان التزام مال تبرعًا بالقول، فجاز في غير حق ثابت كالنذر، واختار أبو الخطاب أنه يصح، فإذا قال: رهنتك ثوبي هذا بعشرة تقرضنيها غدًا، وسلمه إليه، ثم أقرضه الدراهم؛ لزمه الرهن، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك؛ لأنه وثيقة بالحق، فجاز عقدها قبل وجوبه كالضمان، أو فجاز انعقادها على شيء يحدث في المستقبل، كضمان الدرك، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس. والله أعلم.
الثالث: كونه ممن يصح بيعه وتبرعه؛ لأنه نوع تصرف في المال، فلم يصح إلا من جائز التصرف كالبيع.
الرابع: كون الرهن ملكه أو مأذونًا له فيه، بأن استأجر أو استعار دارًا مثلاً، وأذن المؤجر أو المعير له برهنها فرهنها، صح. ولا يشترط لصحة الإذن تعيين الدين، ولا وصفه، ولا معرفة رب الدين، وينبغي للمدين أن يذكر للمؤجر والمعير المرتَهِنَ، فيقول: أريد أن أرهنه عند زيد مثلاً، ويذكر له القدر الذي يرهنه به، وجنس القدر الذي يرهنه به، كذهب أو فضة، ويذكر له مدة الرهن، كشهر أو سنة، لئلا يغرهما، ومتى شرط الراهن شيئًا من ذلك المذكور، وهو المرتهن، وقدر الدين وجنسه، ومدة الرهن، فخالف ورهنه بغيره، لم يصح الرهن؛ لأنه لم يؤذن له فيه، أشبه ما لو لم يؤذن في أصل الرهن؛ فإن أذن المؤجر والمعير الراهن في رهن ما استأجره، أو استعاره لذلك كمائة مثلاً، فنقص عنه بأن رهنه بثمانين مثلاً، صح الرهن؛ لأنه فعل بعض المأذون له فيه، وإن رهنه بأكثر، كمائة وخمسين مثلاً، صح الرهن في القدر المأذون فيه، وهو المائة فقط، وبطل في الزيادة، كتفريق الصفقة، بخلاف ما لو أذنه بدنانير، فرهنه بدراهم، وعكسه؛ فإنه لا يصح للمخالفة، ويملك آذِنٌ، مؤجرًا كان أو معيرًا، الرجوع في الإذن في الرهن قبل إقباض المرتهن لا بعده، للزومه، ويطالب معير راهنًا بفكه في محل الحق وقبل محله؛ لأن العارية لا تلزم، ولا يملك مؤجر الرجوع في إجارة عين لرهن قبل مضي مدة الإجارة للزومها، وإن بيع رهن مؤجر أو معار مأذون للراهن فيه لوفاء دين، رجع مؤجر أو معير على راهن بمثلِ مِثْليٍّ؛ لأنه فوته على ربه، أشبه ما لو أتلفه، ورجع بالأكثر من قيمة متقوم أو ما بيع به؛ لأنه إن بيع بأقل من قيمته ضمن الراهن النقص، وإن بيع بأكثر كان ثمنه كله لمالكه، ويؤيده أن المرتهن لو أسقط حقه من الرهن رجع الثمن كله إلى صاحبه، فإذا قضى به الراهن دينه رجع به عليه، ولا يلزم من وجوب ضمان النقص أن لا تكون الزيادة للمالك، كما لو كان باقيًا بعينه.
وإن تلف رهن معار أو مؤجر بتفريطه، ضمن راهن ببدَلِهِ، وبلا تفريط، ضمن راهن لا مرتهن المعار لا المؤجر؛ لأن العارية مضمونة، والمؤجر أمانة لا تضمن إلا بالتعدي أو التفريط، وإن قال مأذون في الرهن لمالكه: أذنت لي في رهنه بعشرة، فقال المالك: بل أذنتُ لك في رهنه بخمسة، فقول آذن بيمينه؛ لأنه منكر للإذن في الزيادة، ويكون رهنًا بالخمسة فقط.
الخامس: كون الرهن معلومًا جنسه وقدره وصفته؛ لأنه عقد على مال، فاشترط العلم به كالبيع.
السادس: كونه بدين واجب، كقرض وثمن وقيمة متلف، أو بشيء مآله إلى الدين الواجب، كثمن في مدة خيار مجلس أو شرط، وأجرة قبل استيفاء منفعة مأجُورٍ، ومهرٍ قبلَ دخولٍ؛ لأن ذلك يؤول إلى الوجوب.



المجلد الرابع 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 6:34 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المجلد الرابع Empty
مُساهمةموضوع: رد: المجلد الرابع   المجلد الرابع Emptyالثلاثاء 24 نوفمبر 2015, 8:43 am

حكم الرهن على العين المضمونة والمقبوض على وجه السوم
س76: ما حكم أخذ الرهن على العين المضمونة؟ والمقبوض على وجه السوم، أو بعقد فاسد، أو نفع إجارة، أو دية على عاقلة، أو جعل في جعالة، أو عوض في مسابقة، أو عهدة مبيع، أو عوض غير ثابت في ذمة، أو دين كتابة؟ وما حكم رهن مال اليتيم ونحوه عند فاسق؟ وهل يشترط كون رهن من مدين، أم لابد من إذنه؟ وضح ذلك، مع ذكر ما تيسر من دليل أو تعليل، ومثل لما لا يتضح إلا بالتمثيل؟

ج: يصح بعين مضمونة، كغصب وعارية ومقبوض على وجه سوم، أو بعقد فاسد، ويصح بنفع إجارة في ذمة، كخياطة ثوب، وبناء دار، وحمل معلوم إلى موضع معين؛ لأنه ثابت في الذمة ويمكن وفاؤه من الرهن بأن يستأجر من ثمن من يعمه. ولا يصح أخذ رهن بدية على عاقلة قبل مضي حول، لعدم وجوبها إذن، ولا بجعل قبل العلم، لعدم وجوبه.
ويصح رهن بدية على عاقلة، ويجعل بعد الحول والعمل لاستقرارهما، ولا يصح بدين كتابة، لفوات الإرفاق بالأجل المشروع، إذ يمكنه بيع الرهن وإيفاء الكتابة ولا يصح أخذ رهن بعهدة مبيع؛ لأنه ليس له حد ينتهي إليه، فيعم ضرره بمنع التصرف فيه، وإذا وثق البائع على عهدة المبيع، فكأنه ما قبض الثمن، ولا ارتفق به، ولا يصح أخذ رهن بعوض غير ثابت في ذمة، كثمن وأجرة معينين، وإجارة منافع عين معينة، كدار معينة، وعبد معين، ودابة معينة لحمل إلى مكان معلوم؛ لأن الذمة لم يتعلق بها في هذه الصور حق واجب، ولا يؤول إلى الوجوب؛ لأن الحق متعلق بأعيان هذه. وينفسخ عقد الإجارة عليها بتلفها.
ويحرم، ولا يصح رهن مال يتيم لفاسق؛ لأنه تعريض به للهلاك؛ فإن شرط كونه بيد عدل، صح. وكيتيم مكاتب وقن مأذونًا له في تجارة، لاشتراط المصلحة في ذلك التصرف، وكيتيم سفيه ومجنون وصغير، فيحرم على من كانت أموالهم تحت يده أن يجعلها تحت يد فاسق على طريق رهن أو غيره، بل عليه صيانته وحفظها عن الضياع وطلب تنميتها لهم بحسب الإمكان، لضعفهم عن ذلك، ولا يشترط كون رهن من مدين ولا بإذنه؛ لأنه إذ جاز أن يقضي عنه دينه بلا إذنه، فأولى أن يرهن عنه. قال الشيخ تقي الدين: يجوز أن يرهن الإنسان مال نفسه على دين غيره، كما يجوز أن يضمنه وأولى.

من نظم ابن عبد القوي فيما يتعلق بباب الرهن
وخذ في بيان الرهن وهو وثيقة ... بحق يقوي نفس كل مشدد
وفي كل دين واجب صح أخذه ... ولو حضرا من جائز الأمر فارشد
ووجهان في دين الكتابة وارهنن ... مع الحق أو بعدًا وقيل بمبعد
ورهنك قبل الحول بالعقد باطل ... ووجهين قبل الفعل في الجعل أسند
وما لم يجب في ذمة لا تجز به ... رهانًا كما عينت في كل معقد
وعقد كه في حق ذي الدين جائز ... وملتزم بالقبض من راهنٍ قد
فإن كان منقولاً فبالنقل قبضه ... وفي غير منقول بتخلية اليد
وعنه التزم بالعقد رهن معين ... ومن منع التسليم فاجبره واضهد
ومن شرطا أن يقبض الرهن لم يجز ... تفسيره إلا رضى أو لمفسد
وتقبيضه تقبيض مرتهن فإن ... يك اثنين لم يحفظ على يد مفرد
وللعدل رد الرهن إن شا إليهما ... فإن يعط فرد يرتجعه ويردد
وضمنه إن لم يرتجعه نصيب من ... تعذر بالتسليم للغير تهتدي
ويلغ لزوم الرهن بالرد عن رضى ... وبالعود يلزم دون عقد مجدد
كذا ما تخمر من عصير رهنته ... فإن عاد خلاً عاد لازم معقد
فإن يتصرف قبل قبض ورده ... بمانع أخذ الدين منه ليفسد
ولم يلغه عارية أو إجارة ... لمرتهن والغير مع إذنه اعضد
وجائز بيع جائز الرهن ما عدا المكاتب ... إن يقبض لشرط التأطد
ويملك إن قلنا يجوز تكسبًا ... وما جاز أو أدى فرهنًا ليعدد
ومن عتقه بالشرط إن حل قبله ... ليرهن وإلا لا وإن يعم ردد
ومن يحرم التفريق في البيع بينهم ... أجزْ رهن فرد ثم بع للمعدد
فإن خيف من قبل الحلول فساده ... يجفف وإن واتى على الرهن أشهد
وإلا فبع وارهنه شاء أو اطلقا ... في الأقوى وإما يمنعا البيع أفسد
ورهن مشاع لو لغير شريكه ... أجز ولدي من عين الحفظ خلد
وفي يد عدل اجعلنه إن تخالفا ... ولو مؤجر أو آكر الكل تقصد
وغير مجاز البيع لا تمض رهنه ... سوى ثمر والزرع قبل التشدد
على أحد الوجهين في شرطك البقا ... ولا تُرْهِنِ الكفار مُسْلَم أعبد
وقال أبو الخطاب ذلك جائز ... بشرطك جعل العبد في يد مهتد
ورهن مبيع عينوا قبل قبضه ... أجزه ولو للبائعيه تسدد
وقيل سوى موزونه أو مكيله ... كذاك على أثمانه امنع بأجود
وإن زاد دين الرهن حال لزومه ... يكون به رهنًا وبالسابق اردد
ورهن معار والغصيب لقابض ... أجز وانف تضمينًا على سابق اليد
وقيل إن مضى وقت لإمكان قبضها ... وقيل بإذن الراهن القبض قَيِّدِ
وإن تستعر عينًا لترهنها يجز ... ويلزم فك الرهن عند التقصد
وقيل إن تعين قدر دين ووقته ... فإن خان أبطله وقيل بما اعتدى
وإن حل دين بعه واضمن بقيمة ... وقيل بما قد بعته إن يزيد
ووجهين في رهن التراث وبيعه ... قبيل وفا دين على الميت أسند

وقت لزوم الرهن ومن يلزم في حقه
س77: متى يلزم الرهن، ومن الذي يلزم في حقه؟ وإذا جُنّ، أو بُرْسِمَ، أو حجر عليه لسفه بعد عقد وقبل قبض، فما الحكم؟ وإذا مات راهن قبل إقباض، فهل للورثة إقباضه أم لا؟ ومتى يجوز للراهن أن يرجع في الرهن؟ وبأي شيء يبطل إذن الراهن في القبض؟ وإذا رجع فهل له التصريف فيه، وإذا كاتب الرهن، أو آجره، أو دبره فما الحكم؟ وما حكم استدامة قبض الرهن؟ وبأي شيء يزول لزوم الرهن؟ واذكر الدليل والتعليل والخلاف.,

ج: لا يلزم الرهن إلا بالقبض كقبض مبيع، ولو كان القبض ممن اتفق الراهن والمرتهن على أن يكون عنده؛ لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} [البقرة: 282] ويكون قبل القبض رهنًا جائزًا يجوز للراهن فسخه، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وسواء في ذلك الكيل والموزون وغيره، قال بعض الأصحاب في غير المكيل والموزون: إنه يلزم بمجرد العقد.
قال في «الإنصاف»: وعنه أن القبض ليس بشرط في المتعين، فيلزم بمجرد العقد، نص عليه. قال القاضي في «التعليق»: هذا قول أصحابنا، قال في «التلخيص»: هذا أشهر الروايتين، وهو المذهب عند ابن عقيل وغيره، وعليه العمل، وهو قول مالك، وهو الذي تطمئن إليه النفس. والله أعلم.
ويلزم في حق الراهن فقط؛ لأن الحظ فيه لغيره. فلزم من جهته كالضمان، بخلاف مرتهن؛ لأن الحظ فيه له وحده، فكان له فيه وحجه، فكان له فسخه كالمضمون له. ويعتبر في القبض إذن ولي أمر الحاكم لمن جن أو حصل له برسام بعد عقد رهن وقبل قبض؛ لأن ولايته للحاكم كما يأتي، وهو نوع تصرف في المال، فاحتياج إلى النظر في الحظ؛ فإن كان الحظ في إقباضه كان شرطًا في البيع، والحظ في إتمامه، أقْبَضَهُ، وإلا يجز؛ فإن قبضه مرتهن بلا إذن راهن أو وليه، لم يكن قبضًا. وإن مات راهن قبل إقباضه قام واره مَقامهُ؛ فإن أبى لم يجبر، وإن أحب إقباضه، وليس على الميت سوى هذا الدَّين، فله ذلك، وليس لورثة راهن إقباض الرهن وثم غريم للميت لم يأذن فيه نصًا؛ لأنه تخصيص له برهن لم يلزم، وسواء مات أو جُن ونحوه قبل الإذن أو بعده، لبطلان الإذن له، ولراهن الرجوع في رهن قبل الإقباض، ولو أذن الراهن في القبض، لعدم لزوم الرهن إذًا، وله التصرف فيه بما شاء؛ فإن تصرف بما ينقل الملك فيه ببيع أو هبة، أو رهنهُ ثانيًا بطل الرهن الأول، سواء أقبض الثاني أو لا، لخروجه عن إمكان استيفاء الدين من ثمنه، وإن دبره أو كاتبه، أو آجره أو زوج الأمة، لم يبطل؛ لأنه لا يمنع ابتداء الرهن، فلا يقطع استدامته كاستخدامه ويبطل إذن الراهن في القبض بنحو إغماء، وحجر لسفه وخرس، وليس له كتابة ولا إشارة مفهومة؛ فإن كانت له كتابة أو إشارة مفهومة، فكمتكلم، لحصول المقصود بكتابته أو إشارته، وإن رهنه عينًا مالية بيد رب الدين أمانة أو مضمونة، ولو كانت غصبًا، صح الرهن، ولزم بمجرد عقده كهبة؛ لأن استمرار القبض قبض، وإنما تغير الحكم، ويمكن تغيره مع استدامة القبض كوديعة جحدها مودع فصارت مضمونة، ثم أقر بها فعادت أمانة بإبقاء ربها لها عنده، وصار أمانة لا يضمنه مرتهن بتلفه بلا تعد ولا تفريط، وللإذن له في إمساكه رهنًا، ولم يتجدد منه فيه عدوان، ولزوال مقتضى الضمان، وحدوث سبب يخالفه، واستدامة قبل رهن من مرتهن أو من اتفقا عليه، شرط لبقاء لزوم عقده. للآية الكريمة، ولحديث عائشة -رضي الله عنها- «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اشترى طعامًا من يهودي إلى أجل، ورهنه درعًا من حديد» متفق عليه. فيزيل اللزوم أخذ راهن رهنًا، أو أخذ وكيله بإذن مرتهن له في أخذه ولو أخذه إجارة أو إعارة أو نيابة للمرتهن في حفظ الرهن كاستيداع؛ لأن استدامة القبض شرط للزوم وقد زالت، فينتفي المشروط بانتفاء شرطه، بخلاف ما لو أزيلت يد المرتهن بغير حق، كما لو غصب الرهن أو أبقى، أو شرد أو سرق، فلزومه باق؛ لأن يده ثابتة حكمًا، فكأنها لم تزل.
وقال في «رحمة الأمة في اختلاف الأئمة»: واستدامة الرهن عند المرتهن ليست شرطًا عند الشافعي، وهي شرط عند أبي حنيفة ومالك، فمتى خرج الرهن من يد المرتهن على أي وجه كان بطل الرهن، إلا أن أبا حنيفة يقول: إن عاد إلى الراهن بوديعة أو عارية لم يبطل، وعن أحمد: أن استدامته في المتعين ليست بشرط، واختاره في «الفائق» ويزيل لزومه تخمر عصير رهن، لمنعه من صحة العقد عليه، فأولى أن يخرجه عن اللزوم، وتجب إراقته، ويعود لزوم رهن أخذه راهن بإذن مرتهن برده إلى مرتهن، أو من اتفقا عليه بحكم العقد السابق؛ لأنه يعود ملكًا بحكم الأول، فيعود به حكم الراهن، وإن استحال خمرًا قبل قبضه بطل رهنه، ولم يعد بعوده، لضعفه بعدم لزومه، كإسلام أحد الزوجين قبل الدخول.

إذا أجر الرهن راهن لشخص أو إعارة
س78: تكلم بوضوح عما يلي: إذا أجر الرهن راهن لشخص، أو أعاره أو وهبه أو باعه، أو شرط في مؤجل رهن ثمنه مكانه، أو شرط تعجيل الدين المؤجل، أو رجع مرتهن فيما أذن فيه لراهن، أو اختلفا في إذن، أو أعتق الرهن ران، أو أقر بالعتق، أو أحبل الأمة، أو ضرب الرهن فتلف، فما الحكم؟ وإذا اختلفا في إذن، فمن القول قوله؟ ومتى تعتبر قيمة التالف؟ واذكر الدليل والتعليل، والتفصيل والخلاف والترجيح.

ج: إذا أجر الرهن راهن لشخص، أو أعاره راهن لمرتهن، أو لغيره بإذن المرتهن، فلزوم الرهن باق؛ لأنه تصرف لا يمنع البيع، فلم يفسد القبض، وإن وهب راهن الرهن أو وقفه أو رهنه أو جعله عوضًا في صداق ونحوه بإذن مرتهن، صح تصرفه؛ لأن منعه من تصرفه فيه لتعلق حق المرتهن فيه، وقد أسقطه بإذنه، وبطل الرهن؛ لأن هذا التصرف يمنع الرهن ابتداءً، فامتنع دوامًا، وإن باع راهن الرهن بإذن المرتهن، والدين حالُّ، صح البيع للإذن فيه، وأخذ الدين من ثمنه؛ لأنه دلالة له في الإذن في البيع على الرضا بإسقاط حقه من الرهن، ولا مقتضى لتأخير وفاته، فوجب دفع الدين من ثمنه، وإن شرط في إذن في بيع رهن بدين مؤجل رهن ثمنه مكانه، وجب الوفاء بالشرط، فإذا بيع كان ثمنه رهنًا مكانه لرضاهما بإبدال الرهن بغيره، وإلا يشترط كون ثمنه رهنًا مكانه والدين مؤجل، بطل الرهن، كما لو أذن له في هبته. وإن شرط تعجيل مؤجل من ثمنه؛ صح البيع، وشرط تعجيل الدين المؤجل لاغٍ؛ لأن التأجيل أخذ قسطًا من الثمن، فإذا أسقط بعض مدة الأجل في مقابلة الإذن، فقد أذن بعوض، وهو المقابل لباقي مدة الأجل من الثمن، ولا يجوز أخذ العوض عنه، فيلغو الشرط، ويكون ثمنه رهنًا مكانه. وإن اختلفا في إذن، فقول مرتهن بيمينه؛ لأنه منكر، وإن اتفقا عليه، واختلفا في شرط رهن ثمنه مكانه ونحوه، فقول راهن؛ لأن الأصل عدم الشرط.
وللمرتهن الرجوع فيما أذن فيه لراهن من التصرفات قبل وقوعه، لعدم لزومه كعزل الوكيل قبل فعله؛ فإن رجع بعد تصرفه، وقال راهن بعده، فقيل: يقبل قول مرتهن، اختاره القاضي، واقتصر عليه في «المغني»، وقيل: قول راهن، قال في «الإنصاف»: وهو الصواب، وجزم بمعناه في «الإقناع».
وينفذ عتق الراهن لرهن مقبوض، ولو بلا إذْنِ مُرتهن، موسرًا كان الراهن أو معسرًا، نصًا، وهو قول أبي حنيفة. ويسعى العبد المرهون في قيمته للمرتهن، وأرجح الأقوال عند الشافعي أنه ينفذ من الموسر، ويلزمه قيمته يوم عتقه ثمنًا، وإن كان معسرًا لم ينفذ، وهذا هو المشهور عن مالك. وقال مالك أيضًا: إن طرأ له مال، أو قضى المرتهن ما عليه، نفذ العتق. وعن أحمد: لا ينفذ عتق الراهن للمرهون مطلقًا، موسرًا كان أو معسرًا، وهو اختيار الشيخ تقي الدين، وهو الذي تطمئن إليه النفس. والله أعلم. قالوا: لأنه تعلق به حق المرتهن تعليقًا منع صاحبه التصرف فيه قبل انفكاكه؛ ولأن تجويز عتقه قد يفضي إلى مفسدة؛ لأنه لا تحصل الثقة التامة والتوثقة برهن المماليك؛ لأنه قد يعتقه، فيكون معسرًا أو مماطلاً، فتضيع التوثقة، ويضيع حقه؛ ولأن العتق قربة إلى الله كالوقف، فكما لا ينفذ وقف المرهون، فلا ينفذ عتقه.
ويحرم عتق راهن لرهن بلا إذن مرتهن؛ لإبطاله حقه من عين الرهن، ويعايا بها، فيقال: مالك رقة كلها يحرم عليه عتقها؛ فإن نجز العتق راهن بلا إذن مرتهن، أو أقر راهن بعتقه قبل رهن، فكذبه مرتهن، أو أحبل راهن الأمة المرهونة بلا إذن مرتهن في وطء، وبلا اشتراطه في رهن، أو ضرب الرهن راهن بلا إذن المرتهن، فتلف به رهن، فعلى راهن مُوْسِرٍ ومُعسْرٍ أيسر قيمة الرهن الفائت على المرتهن بشيء مما سبق تكون رهنًا مكانه، كبدل أضحية ونحوها، لإبطاله حق مرتهن من الوثيقة، ويصدق مرتهن بيمينه، ويصدق وارثه يمينه في عدم الإذن إن اختلفا في إذن؛ لأنه الأصل، وتُعْتَبَرُ قِيْمَةُ رهنٍ حَالَ إعتاقِهِ، أوْ إقْرارٍ بِهِ، أوْ إحبال، أو ضرب، وكذا لو جرحه فمات، اعتبرت قيمته حال جرح، وإن كان الدينُ حالاً، أو حَلَّ طُوْلِبَ به خاصة لبراء ذمته به من الحقين معًا؛ فإن كان ما سبق بإذن مرتهن، بطل الرهن ولا عوض له حتى في الإذن في الوطء؛ لأنه يفضي إلى الإحبال، ولا يقف على اختياره، فإذن في سببه إذن فيه.

إذا وطئ راهن مرهونة وغرس الأرض المرهونة
س79: تكلم بوضوح عما يلي: إذا ادعى راهن أن الولد منه. إذا وطئ راهن مرهونة ولم تحبل. هل للراهن غرس الأرض المرهونة، والانتفاع بها، ووطء المرهونة، وسقي الشجر، والتلقيح وإنزاء الفحل على المرهونة، والمداواة والفصد والختان، وقطع السلعة، والانتفاع بالرهن باستخدام أو نحوه، ولمن نماؤه؟ ووضح حكم الأرش أين يكون؟ وإذا أسقط مرتهن عن جان أرشًا، أو أبرأه منه، فما الحكم؟ وعلى من مؤونة الرهن؟ وإذا تعذر إنفاق عليه فما الحكم؟

ج: إن ادعى راهن بعد ولادة مرهونة، والراهن ابن عشر فأكثر أن الولد منه، وأمكن كونه منه، بأن ولدته لستة أشهر فأكثر منذ وطئها، وأقر مرتهن بوطء الراهن لها، وأقر مرتهن بإذنه لراهن في وطء، وأقر بأن المرهونة ولدت؛ قُبل قوله بلا يمين؛ لأنه ملحق به شرعًا لا بدعواه، وإلا يمكن كونه من راهن، بأن ولدته لدون ستة أشهر من وطئه، وعاش أو أنكر مرتهن الإذن، أو قال: أذنت ولم يطأ، أو أذنت ووطئ، لكنه ليس ولدها بل استعارته، فلا يقبل قول راهن في بطلان رهن الأمة، وعدم لزوم وضع قيمتها مكانها؛ لأن الأصل عدم ما ادعاه، وبقاء التوثقة حتى تقوم البينة بخلافه، وإن أنكر مرتهن الإذن، وأقر بما سواه، خرجت الأمة من الرهن، وعلى الراهن قيمتها مكانها، وإن وطئ راهن مرهونة بغير إذن مرتهن، ولم تحبل، فعليه أرش بكارة فقط، يجعل رهنًا معها كجناية عليها، وإن أقر راهن بوطء حال عقد، أو قبل لزومه، لم يمنع صحته؛ لأن الأصل عدم الحمل؛ فإن بانت حاملاً منه بما تصير به أم ولد، بطل الرهن، ولا خيار لمرتهن ولو مشروطًا في بيع لدخول بائع عالمًا بأنها قد لا تكون رهنًا، وبعد لزومه وهي حامل، أو ولدت، لا يقبل على مرتهن أنكر الوطء، ويأتي.
ولراهن غَرسُ أرْضٍ رَهْنٌ على دين مؤجل؛ لأن تعطيل منفعتها إلى حلول الدين تضييع للمال، وقد نهي عن إضاعة المال، بخلاف الدين الحال؛ لأنه يجبر على فك الرهن بالوفاء أو بيعه، فلا يعطل نفعها، ويكون الغرس رهنًا معها؛ لأنه من نمائها، سواء نبت بنفسه أو بفعل الراهن، ولراهن انتفاع برهن مطلقًا بإذن مرتهن. وله وطء مرهونة بشرط وطئها، أو إذن مرتهن فيه؛ لأن المنع لحقه، وقد أسقطه بإذنه فيه أو الرضا به؛ فإن لم يكن إذن ولا شرط، حرم ذلك.
ولراهن سَقْيُ شجر، وتلقيح نخل، وإنزاء فحل على مرهونة، ومداواة وفصد ونحوه، كتعليم فن صناعة، ودابة سَيْرًا؛ لأنه مصلحة لرهن، وزيادة في حق مرتهن بلا ضرر عليه، فلا يملك المنع منه؛ إن كان فحلاً، فليس لراهنٍ إطراقه بلا إذن؛ لأنه انتفاع به، إلا إذا تضرر بترك الإطراق، فيجوز؛ لأنه كالمداواة له، والرهن مع ذلك بحاله؛ لأنه لم يطرأ عليه مفسد ولا مزيل للزومه، ولا يجوز لراهن ختان مرهون غير ما على دين مؤجل يبرأ جرحه قبل أجل الدين؛ لأنه يزيد به ثمن، ولا يجوز لراهن قطع سلعة خطرة من مرهون؛ لأنه يخشى عليه من قطعها، بخلاف أكلة؛ فإنه يخاف عليه من تركها؛ إن لم تكن السلعة خطرة فله قطعها.
وليس لراهن أن ينتفع بالرهن بلا إذن مرتهن باستخدام ووطء أو سكنى أو غيرها، وتكون منافعه معطلة إن لم يتفقا على نحو إجارته حتى ينفك الرهن، ونماء الرهن المتصل كسمن وتعلم صنعة، والمنفصل ولو صوفًا ولبنًا وَورَق شجرٍ مَقْصُوْدٍ رَهْنٌ؛ لحديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غرمه» رواه الشافعي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والدارقطني، وكَسْبُ الرَّهْنِ رَهْنٌ؛ لأنه حكم يثبت في العين بعقد المالك، فيدخل فيه النماء والمنافع، كالملك بالبيع وغيره؛ ولأن النماء حادث من عين الرهن، فيدخل فيه كالمتصل، ولأنه حق مستقر في الأم، ثبت برضا المالك، فسرى إليه حكم الرهن كالتَّدبير والاستيلاد، وهو من المفردات.

قال ناظمها:
وكسب مرهون فكإنماء ... يدخل في الرهن بلا امتراء

وقال الشافعي: لا يدخل في الرهن شيء من النماء المنفص، ولا من الكسب؛ لأنه حق تعلق بالأصل يستوفى من ثمنه، فلا يسري إلى غيره كحق جنايته، وقال أبو حنيفة: يتبع النماء لا الكسب؛ لأن الكسب لا يتبع في حكم الكتابة والاستيلاد والتدبير، فلا يتبع في الرهن كإعتاق مال الراهن، وقال مالك: يتبع الولد في الرهن خاصة دون سائر النماء؛ لأن الولد يتبع الأصل في الحقوق الثابتة، كولد أم الولد، ومهر الرهن إن كان أمة حيث وجب رهن؛ لأنه تابع له، وأرش الجناية على الرهن رهن؛ لأنه بدل جزئه، فكان نه كقيمته لو أتلف، وإن أسقط مرتهن عن جان على رهن أرشًا، لزمه أو أبرأه منه سقط حق المرتهن من الأرش، بمعنى أنه لا يكون رهنًا مع أصله دون حق راهن، فلا يسقط؛ لأنه ملكه، وليس لمرتهن تصرف عليه فيه.
ومؤنة الرهن، وأجرة مخزنه إن احتاج إلى مخزن على مالكه، ومؤنة رده من إباقه، أو شروده إن وقعا على مالكه؛ لحديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعًا: «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غرمه» رواه الشافعي والدارقطني، وقال: إسناده حسن متصل، كَكفَنِهِ إن مات، فعلى مالكه؛ لنه تابع لمؤنته؛ فإن تعذر إنفاق عليه، أو أجرة مخزنه، أو رده من إباقه ونحوه من مالكه لعسرته أو غيبته ونحوه، بيع من رهن بقدر حاجته إلى ذلك، أو بيع كله إن خيف استغراقه لثمنه؛ لأنه مصلحة لهما.

من النظم ومختصره فيما يتعلق بتصرف الراهن في الرهن
ولراهن احظر دون إذن تصرفًا ... ونفعًا كتزويج الإماء بأجود
وقيل له تزويجها دون بذلها ... لزوج ومنه المهر في الرهن أورد
فإن أبيا نفعًا تعطل نفعه ... إلى فكه إلا أن يشاء بأوطد
وألغ بلا إذن سوى عتق راهن ... وقيمته خذ منه رهنًا تؤيد
كذلك إن من متلف رهنه ومن ... مولده أنشاه بلا إذن ذي اليد
ويقبل في استحقاقه قبل رهنه ... على نفسه إقراره حسب أفرد
وإن يهب المرهون أو يرهننه أو ... يقفه بإذن المستحق فأطد
وبيعك صحح مع حلول بإذنه ... ليوفيه أو يرهن الثمن انقد
كذا الحكم مع إطلاق إذن وقيل لا ... يصير الثمن رهنًا بل الرهن أفسد
وعند اختلاف في اشتراط الذي مضى ... من الراهن اقبل لا الغريم بأجود
وبيعكه مع شرط تعجيل آجل ... لغا مع بقاء الرهن بل شرطه قد
ووجهان في استرهان أثمانه إذا ... وجوز رجوع الإذن قبل التوكد
ووجهين فيما قد تصرف راهن ... مع الجهل منه بالرجوع فأسند
وكل نماء الرهن رهن وكسبه ... وأرش الذي يجني عليه لينقد
وفي الرهن ما في البيع يدخل بيعه ... الأراضي ودور والغراس بأوطد
وكلفته جمعًا فمن راهن فخذ ... وأجرة مخزون وتكفين ملحد
وإن حل دين والثمار رهينة ... أجب مبتغي قطع وإن تفسد اردد
وإطراق فحل والدوا ليس لازمًا ... وليس عليه فعل شيء مزيد
ومرتهن الأموال مؤتمن بها ... فلا يضمنن من غير تفريط معتد
فإن لم يفرط فهو من مال راهن ... ويقضيه كل الحق إذ حل فاعهد
وإن يتو بعض الرهن فالدين ثابت ... على أيسر الباقي وثيق التأكد

كون الرهن بيد مرتهن أو من اتفقا عليه
س80: ما حكم الرهن بيد المرتهن أو من اتفقا عليه؟ ومتى يدخل في ضمان المرتهن؟ وإذا دخل في ضمانه، فهل يبطل الرهن؟ وإذا تلف الرهن فهل يسقط شيء من الدين؟ واذكر ما يماثله من المسائل، وإذا تلف بعض الرهن، أو ادعى تلفه بحادث، أو ادعى راهن تلفه بعد قبض في بيع شرط فيه، وإذا أدى المدين بعض الدين، فهل ينفك مقابله؟ وإذا قضى إنسان بعض دين عليه، أو أسقط عن مدينه بعض دينه، وببعض الدين رهن أو كفيل، فما الحكم؟ وإذا رهن واحد عن اثنين شيئًا أو بالعكس، فوفى أحدهما، أو رهن اثنان عبدًا لهما عند اثنين بألف، فقضاها أحدهما، أو أبي مدين وفاء دين عليه، وقد أذن في بيع الرهن، أو أبى راهن بيعًا، فما حكم ذلك؟

ج: الرهن بيد مرتهن، أو من اتفقا عليه أمانة ولو قيل عقد عليه كبعد وفاء دين، أو إبراء منه؛ لحديث: «أد الأمانة إلى من ائتمنك» ولأنه لو ضمن لامتنع الناس منه خوف ضمانه، فتتعطل المداينات، وفيه ضرر عظيم، ويدخل في ضمان المرتهن أو نائبه بتعد أو تفريط فيه كسائر الأمانات، ولا يبطل الرهن بدخوله في ضمانه؛ لجمع العقد أمانة واستيثاقًا، فإذا بطل أحدهما بقي الآخر، ولا يسقط بتلف الرهن شيء من حق المرتهن، لثبوته في ذمَّة الراهن قبل التلف، ولم يوجد ما يسقطه، فبقي حاله، وحديث عطاء: أن رجلاً رهن فرسًا، فنفق عند المرتهن، فجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بذلك، فقال: «ذهب حقك» مرسل، وكان يفتي بخلافه؛ فإن صح، حمل على ذهاب حقه من التوثقة، ومعنى نفق، أي: مات.
ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «حجوا قبل أن لا تحجوا، قبل أن لا تنبت شجرة في البادية، ما أكلت منها دابة إلا نفقت» وكدفع عين لغريمه ليبيعها ويستوفي حقه من ثمنها، وكحبس عين مؤجرة بعد فسخ إجارة على الأجرة المعجلة، فتتلف العينان، والعلة الجامعة أنها عين محبوسة بيده بعقد على استيفاء حق له عليه، وإن تلف عليه بعض الرهن، فباقيه رهن بجميع الحق، لتعلق الحق كله بجميع أجزاء الرهن، وإن ادعى مرتهن تلف الرهن بحادث، وقامت بينة بوجود حادث ظاهر ادعى التلف به كنهب وحريق، حلف أنه تلف به وبرئ، وإن لم تقم بينة بما ادعاه من السبب الظاهر، لم يقبل قوله؛ لأن الأصل عدمه، ولا يتعذر إقامة البينة عليه، وإن ادعى تلفه بسبب خفي كسرقة، أو لم يُعيِّن سببًا، حلف وبرئ منه؛ لأنه أمين، فإن لم يحلف فليس عليه بالنكول، وإن ادعى راهن تلف الرهن بعد قبض في بيع شرط الرهن فيه قبل قول مرتهن: إنه تلف قبله، فلو باع سلعة بثمن مؤجل، وشرط على مشتر رهنًا معينًا بالثمن، ثم تلف الرهن، فقال بائع: تلف قبل أن أقبضه، فلي فسخ البيع، لعدم الوفاء بالشرط، وقال مشتر: تلف بعد التسليم، فلا خيار لك للوفاء بالشرط، فقول مرتهن وهو البائع؛ لأن الأصل عدم القبض. ولا ينفك بعض الرهن حتى يقضي الدين كله، لتعلق حق الوثيقة بجميع الرهن، فيصير محبوسًا بكل جزء منه، ولو مما ينقسم إجبارًا، أو قضى أحد الوراثين حصته من دين مورثه، فلا يملك أخذ حصته من الرهن. ومَن قضى بعض دين عليه، أو أسقط عن مدينه بعض دين عليه، وببعض الدين المذكور رهن أو كفيل، وقع قضاء البعض أو إسقاطه عما نواه قَاضٍ ومُسقط؛ لأن تعيينه له، فينصرف إليه؛ فإن نواه عما عليه الرهن، أو به الكفيل وهو بقدره، انفك الرهن وبرئ الكفيل، ويقبل قوله في نيته؛ لأنها لا تعلم إلا من جهته فإن أطلق قاضٍ ومُسقط نيةَ القضاء والإسقاط بأن لم ينو شيئًا، صرف البعض بعده لما شاء، لملكه ذلك في الابتداء، فملكه بعد كمن أدى قدر زكاة أحد ماليه الحاضر والغائب، فله صرفها إلى أيهما شاء. وإن رهن ما يصح رهنه من عبد أ غيره عند اثنين بدين لهما، فوفى راهن أحدهما دينه، انفك نصيبه من الرهن؛ لأنه عقد واحد مع اثنين بمنزلة عقدين، أشبه ما لو رن كل واحد النصف منفردًا؛ فإن كان الرهن لا تنقصه القسمة، كمكيل، فلراهن مقاسمة من لم يوف، وأخذ نصيب من وفاه، وإلا لم تجب قسمته، لضرر المرتهن، ويبقى بيده نصفه رهن، ونصفه وديعة، وإن رهن اثنان واحدًا شيئًا، فوفاه أحدهما ما عليه، انفك الرهن في نصيب الموفي لما عليه، لما تقدم؛ ولأن الرهن لا يتعلق بملك الغير إلا بإذنه ولم يوجد، وإن رهن اثنان عبدًا لهما عند اثنين بألف، فهذه أربعة عقود، وكل ربع من العبد رهن بمائتين وخمسين، فمتى قضاها أحدهما انفك من الرهن ذلك القدر، ومن أبى وفاء دين عليه، وقد أذن في بيع رهن، ولم يرجع عن إذنه، باع الرهن مأذون له في بيعه من مرتهن أو غيره بإذنه، ووفى مرتهن دينه من ثمنه؛ لأنه وكيل ربه. وإن لم يكن أذن في بيعه، أو كان أذن ثم رجع، لم يبع، ورفع الأمر إلى الحاكم، فأجبر راهنًا على بيع رهن ليوفي من ثمنه.
وقال في «المغني»: وقياس المذهب أنه متى عزله عن البيع، فللمرتهن فسخ البيع الذي جعل الرهن في ثمنه، كما لو امتنع الراهن من تسليم الرهن المشروط في البيع. انتهى. أو أجبره على وفاء الدين من غير الرهن؛ لأنه قد يكون له غرض فيه، والمقصود الوفاء، فإن أبى راهن بيعًا حبس أو غزز، بأن يحبسه الحاكم أو يعزره حتى يفعل ما أمر به؛ فإن أصر على امتناع من كل منهما، باع الرهن حاكم بنفسه أو أمينه، لتعينه طريقًا لأداء الواجب، ووفى حاكم الدين لقيامه مقام الممتنع، ولو غاب راهن، باع حاكم الرهن ولا يبيعه مرتهن إلا بإذن ربه والحاكم. قال الشيخ تقي الدين: فلو لم يمكن بيع رهن إلا بخروج ربه من الحبس، أو كان في بيعه ضررًا عليه إذا كان محبوسًا، وجب إخراجه من الحبس ليبيعه، ويوفي ما عليه، أو يمشي معه هو أو وكيله إن خيف هربه دفعًا للضرر. «إقناع وشرحه».

جعل الرهن بيد عدل وإذا تغير حال من جعل الرهن بيده
س81: ما حكم جعل الرهن بيد عدل أو أكثر من واحد؟ وإذا تغير حال من جعل الرهن بيده، فهل ينقل عنه؟ فإن قلت: نعم، فما صفة نقله؟ وماذا يعمل معهما إذا امتنعا أو تغيبا، أو لم يوجد حاكم؟ ووضح ما يتفرع عن ذلك من المسائل وأحكامها، وهل للعدل أن يرده إلى أحدهما؟ فإن قلت: لا وفعل، فما الحكم؟ وإذا غصبه مرتهن من العدل، أو سافر فيه، ثم رد، فما الحكم فيما قبل الرد وما بعده؟ وإذا اختلفا في تغير حال العدل أو المرتهن، أو أذن الراهن أو المرتهن في بيع الرهن، أو عين نقد أو لم يعين أو تلف عند عدل، واذكر التمثيل والتفصيل، والدليل والتعليل.

ج: ويصح جَعْلُ رَهْنٍ بِيَدِ عَدْلٍ جائز التصرف من مسلم، أو كافر عدل، أو فاسق ذكر أو أنثى؛ لأنه توكيل في قبض في عقد، فجاز كغيره، فإذا قبضه قام مقام قبض مرتهن، بخلاف صبي وعبد بلا إذن سيده، ومكاتب بلا جعل، وإن شرط جعل رهن بيد أكثر من عدل، كاثنين أو ثلاثة، جاز، فيجعل في مخزن عليه لكل منهما قفل، ولم ينفرد واحد منهم بحفظه؛ لأن المتراهنين لم يرضيا إلا بحفظ العدد المشترط، كالإيصاء لعدد وتوكيله، ولا ينقل رهن عن يد من شرط كونه بيده مع بقاء حاله، أي: أمانته إلا باتفاق راهن ومرتهن؛ لأن لحق لا يعدوهما، وللمشروط جعله تحت يده رده على راهن ومرتهن لتطوعه بالحفظ، وعليهما قبوله منه؛ فإن امتنعا أجبر؛ فإن تغيبا نصب حاكم أمينًا يقبضه لهما، لولايته على ممتنع من حقه عليه؛ فإن لم يجد العدل حاكمًا، تركه عند عدل آخر، لم يضمن. وإن لم يمتنعا، ودفعه عدل أو حاكم إلى آخر، ضمنه دافع وقابض آخر، وإن غاب متراهنان، وأراد المشروط جعله عنده، رده؛ فإن كان له عذر كسفر ومرض، دفعه إلى حاكم فيقبضه منه، أو ينصب له عدلاً؛ فإن لم يجد حاكمًا أودعه ثقة. وإن لم يكن له عذر، وغيبتهم مسافة قصر، قبضه حاكم؛ فإن لم يجده، دفعه إلى عدل. وإن غابا عن المسافة، فكحاضرين، وإن غاب أحدهما، فكما لو غابا، ولا يملك العدل رده إلى أحدهما بغير إذن الآخر، سواء امتنع أو سكت؛ لأنه تضييع لحظ الآخر؛ فإن فعل بأن رده إلى أحدهما بلا إذن الآخر، وفات الرهن على الآخر، ضمن العدل حق الآخر من المتراهنين؛ لأنه فوته عليه، أشبه ما لو أتلفه، وإن لم يفت رده الدافع إلى يد نفسه، ليوصل الحق إلى مستحقه، ويضمن الرهن مرتهن بغصبه من العدل، لتعديه عليه، ويزول الغصب والضمان برده إلى العدل، لنيابة يده عن يد مالكه، كما لو رده لمالكه، ولا يزول حكم ضمانه برد رهن ممن هو بيده من عدل أو مرتهن، فلو سافر أحدهما بالرهن بلا إذن مالكه، صار ضامنًا له؛ فإن عاد من سفره لم يزل ضمانه بمجرد عوده، ولا بزوال تعديه على الرهن، كما لو لبِس المرهون لا لمصلحته، ثم خلعه لزوال استئمانه، فلم يعد يفعله مع بقائه بيده؛ فإن رده لمالكه ثم عاد له، زال الضمان، وعلم منه أنه ليس له السفر برهن، بخلاف وديعة، لما يتعلق ببلد الرهن من البيع بنقده، وبيعه فيه لوفاء الدين ونحوهما، وإن حدث لمن شرط جعل الرهن عنده فسق، أو ضعف عن حفظ، أو تعادى العدل مع أحد المتراهنين، أو مات العدل، أو مات مرتهن عنده الرهن، ولم يرض راض بكون الرهن بيد ورثة، أو بيد وصي له، أو حدث للمرتهن فسق ونحوه والرهن بيده، جعله حاكم بيد أمين، لما فيه من حفظ حقوقهما، وقطع نزاعهما، ما لم يتفقا على وضعه بيد آخر، وإن اختلفا في تغير حال عدل، أو مرتهن بحث حاكم عنه، وعمل بما بان له، وإن أذن الرَّاهنُ والمرتهن للعدل في بيع الرهن، أو أذن راهن لمرتهن في بيع رهن، وعين لعدل أو مرتهن نقد، تعين، فلا يصح بيعه بغيره، وإلا يعين له نقد، بيع رَهْنٌ بنقد البلد إن لم يكن إلا نقدًا واحدًا؛ لأنه الحظ له لرواجه؛ فإن تعدد نقد البلد فبالأغلب رواجًا، لما سبق؛ فإن لم يكن فيه أغلب، فإنه يباع بجنس الدين؛ لأنه أقرب إلى وفاء الحق؛ فإن لم يكن فيه جنس الدين، فإنه يباع بما يراه مأذون له في بيع أصْلَح؛ لأن الغرض تحصيل الحظ؛ فإن تردد رأيه أو اختلف راهن ومرتهن على عدل في تعيين نَقْدٍ، عيَّن النقد حاكم؛ لأنه أعرف بالأحظ، وأبعد عن التُّهْمَة، وتلف ثمن رهن بيد عدل بلا تفريط، من ضمان راهن؛ لأنه وكيله في البيع، والثمن ملكه وهو أمين في قبضه، فيضيع على موكله، كسائر الأمناء، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك: يكون من ضمان المرتهن؛ لأن البيع لأجله، وإن أنكر راهنه ومرتهن قبض عدل ثمنًا، وادعاه، فقوله؛ لأنه أمين.

إذا استحق رهن بيع
س82: إذا استحق رهن بيع، فعلى من يرجع مشتر؟ وما الحكم إذا قضى عدل بثمن رهن مرتهنًا دينه في غيبة راهن فأنكر مرتهن القضاء؟ ومن الذي يحلف؟ ومن الذي يرجع عليه؟ وهل يصدق العدل على الراهن والمرتهن؟ وما حكم شرط ما يقتضيه العقد، وما مثاله؟ وإذا عزل الراهن العدل أو المرتهن اللذين أذن في بيع الرهن، أو مات الراهن، فهل ينعزلان؟ وما حكم شرط ما لا يقتضيه عقد الرهن، أو ما ينافيه، أو أن لا يقبضه، أو أن لا يبيعه عند حلول دين، أو كونه من ضمان مرتهن؟ وهل يفسد العقد بفساد الشرط؟ مثل لما لا يتضح إلا بالتمثيل ، وفصل لما يحتاج إلى تفصيل، واذكر الدليل والتعليل، والخلاف والترجيح.

ج: إن استحق رهن بيع بأن بان مستحقصا لغير راهن، رجع مشتر أعلمه بائع من عدل أو مرتهن أنه مأذون في بيعه على راهن، ولو كان الثمن بيد العدل؛ لأن المباشر نائب عنه. وكذا كل من باع مال غيره، وأعلم المشتري بالحال، ولا يرجع على العدل؛ لأنه سله إليه على أنه أمين ليسلمه للمرتهن، وإن كان المرتهن قبض الثمن رجع المشتري عليه به؛ لأنه عين ماله صار إليه بغير حق، وبان للمرتهن فساد الرهن، فله فسخ بيع شرط فيه، وإن رده مشتر بعيب، لم يرجع على مرتهن؛ لأنه قبضه بحق، ولا على عدل؛ لأنه أمين، فيتعين راهن، وإلا يعلم عدل أو مرتهن مشتريًا أنه وكيل، فعلى بائع يرجع مشتر؛ لأنه غره، ويرجع بائع على راهن إن أقر، أو قامت بينة بذلك.
وإن تلف رهن بيع بيد مشتر، ثم بان مستحقًا قبل دفع ثمنهن فلربه تضمين من شاء من غاصب وعدل ومشتر. وفي «المغني»: والمرتهن يعني إن كان حصل بيده، وإلا فلا وجه لتضمينه، وقرار ضمانه على مشتر، لتلفه بيده، ودخوله على ضمانه، وإن قضى عدل بثمن رهن مرتهنًا دينه في غيبة راهن، فأنكر مرتهن القضاء، ولا بينة به للعدل، ضمن لتفريطه بعدم الإشهاد، وإن لم يأمره به مدين؛ فإن حضر راهن القضاء، لم يضمن العدل، وكذا إن شهد العدل ولو غاب شهوده أو ماتوا إن صدقه راهن، ولا يصدق العدل على الراهن والمرتهن؛ أما الراهن، فلأنه إنما أذن في القضاء على وجه يبرأ به، وهو لم يبرأ بهذا؛ وأما المرتهن، فلأنه وكيله في الحفظ فقط، فلا يصدق عليه فيما ليس بوكيله فيه، فيحلف مرتهن أنه ما استوفى دينه، ويرجع بدينه على من شاء من عدل وراهن؛ فإن رجع على العدل، لم يرجع العدل على أحد، لدعواه ظلم مرتهن له، وأخذ المال منه ثانيًا بغير حق.
وإن رجع مرتهن على راهن، رجع الراهن على العدل، لتفريطه بترك الإشهاد، كما لو تلف الرهن بتفريطه، وكذا وكيل في قضاء دين إذا قضاه في غيبة موكل ولم يشهد فيضمن لما تقدم. ويصح شرط كل ما يقتضيه العقد فيه، كشرط بيع مرتهن لرهن، وكشرط بيع عدل لرهن عند حلول بيع، وكشرط جعله بيد معين فأكثر.
وينعزل المرتهن والعدل المأذون لهما في بيع الرهن بعزل راهن لهما، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك: لا ينعزل؛ لأن وكالته صارت من حقوق الرهن، فلم يكن للراهن إسقاطه كسائر حقوقه، وقال ابن أبي موسى: ويتوجه لنا مثل ذلك؛ فإن أحمد قد منع الحيلة في غير موضع من كتبه، وهذا يفتح باب الحيلة للراهن.
وهذا القول قوي جدًا فيما أرى، والله أعلم. وبموته وحجر عليه لسفه، وإن لم يعلما كسائر الولايات والوكالات، فلا يملكان البيع.
ولا يصح شرط ما لا يقتضيه عقد الرهن، ككون منافع الرهن لمرتهن؛ لأنه ملك الراهن، فلا تكون منافعه لغيره. أو إن جاءه بحقه في محله، وإلا فالرهن له، أو إن لم يأته في محله، فالرهن مبيع له بالدين الذي له عليه، أو شرط ما ينافي مقتضى عقد الرهن، كتوقيته بأن قال: هو رهن لسنة مثلاً، وكونه يومًا رهنًا ويومًا لا يكون رهنًا، أو شرط أن لا يباع إلا بثمن يرضاه راهن، أو بشرط الخيار له، أي: الراهن، أو شرط كون رهنه بيده، أي: الراهن، أو شرط أنه غير لازم في حقه، أي: الراهن، أو لا يباع عند حلول الحق، أو لا يباع ما خيف تلفه مما يسرع إليه الفساد، أو شرط كونه من ضمان مرتهن، أو من ضمان عدل، أو شرط الراهن أن لا يستوفي الدين من ثمنه، فلا يصح في هذه الصور كلها، لمنافاته الرهن، ولا يفسد عقد الرهن بذلك، بل يفسد الشرط فقط؛ لحديث: «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غرمه» رواه الشافعي والدراقطني، وقال: إسناده حسن متصل، ورواه الأثرم بنحوه. قال الإمام: لا يدفع رهنًا إلى رجل، ويقول: إن جئتك بالدرهم إلى كذا، وإلا فالرهن لك. ووجه الدلالة منه أنه - صلى الله عليه وسلم - نفى غلق الرهن دون أصله، فدل على صحته، وقيس عليه سائر الشروط الفاسدة؛ لكن إن كان الرهن مجهولاً، أو كان محرمًا ونحوه، كالمعدوم، وسائر ما لا يصح بيعه مما لا يقدر على تسليمه ونحوه، فباطل، لعدم حصول المقصود منه.



المجلد الرابع 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 9:10 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المجلد الرابع Empty
مُساهمةموضوع: رد: المجلد الرابع   المجلد الرابع Emptyالثلاثاء 24 نوفمبر 2015, 8:59 am

اختلاف الراهن والمرتهن في صفة الرهن
س83: تكلم بوضوح عن اختلاف الراهن والمرتهن في صفة الرهن وقدره، وعما إذا قال: قبضت الرهن بإذنك، فقال: بغير إذني، أو قال: هو رهن بالمؤجل، وقال المرتهن: بالحال، أو قال من بيده رهن لربه: أرسلت زيدًا ليرهنه بعشرين، وقبضها زيد وصدقه، أو أقر بعد لزومه بوطء، أو أقر راهن أن الرهن جني، أو أنه كان غصبه، واذكر الدليل والتعليل والتفصيل، ومثل لما لا يتضح إلا بالتمثيل.

ج: إذا اختلف الراهن والمرتهن في أن الرهن عصير أو خمر في عقد شرط فيه رهنه، وصورته أن يبيعه بثمن مؤجل، ويشترط أن يرهنه به هذا العصير وقبضه، ثم علمه خمرًا، فقال مشتر: أقبضتك عصيرًا وتخمر عندك، فلا فسخ لك، لأني وفيت بالشرط، وقال بائع: كان تخمر قبل قبضي، فلي انفسخ للشرط، فقول راهن؛ لأن الأصل السلامة. أو اختلفا في رد رهن، بأن ادعاه مرتهن، وأنكره راهن، فقوله؛ لأن الأصل عدمه، والمرتهن قبض الرهن لمنفعته، فلم يقبل قوله في الرد، كمستعير ومستأجر. أو اختلفا في عين الرهن، بأن قال: رهنتك هذا العبد، فقال: بل هذه الجارية، فقول راهن بيمينه أنه ما رهنه هذه الجارية، وخرج العبد أيضًا من الرهن، لاعتراف المرتهن بأنه لم يرهنه، أو اختلفا في قدره، بأن قال: رهنتك هذا العبد، فقال مرتهن: بل هو وهذا الآخر، فقول راهن بيمينه؛ لأنه منكر، أو اختلفا في قدر دين به، بأن يقول راهن: رهنتك بألف، فقال مرتهن: بل بألفين، فقول راهن بيمينه؛ لأن الراهن منكر للزيادة التي يدعيها المرتهن، والقول قول المنكر؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لو يُعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم؛ ولكن اليمين على المدعى عليه» رواه مسلم. وبه قال النخعي والثوري والشافعي وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وحكي عن الحسن وقتادة أن القول قول المرتهن، ما لم يجاوز ثمن الرهن أو قيمته ونحوه، وهو قول مالك، واختاره الشيخ تقي الدين –رحمه الله-؛ لأن الظاهر أن الرهن يكون بقدر الحق، سواء اتفقا على أن الدين ألفان، أو اختلفا في صفة دي بالرهن، كرهنتك بنصف الدين، أو رهنتك بالمؤجل منه، فقول راهن بيمينه؛ لأنه منكر لرهنه بالزائد، أو اختلفا في قبض الرهن، وليس بيد مرتهن عند الاختلاف، وصورة الاختلاف أن يقول الراهن: قبضته بغير إذني، وقال المرتهن: بل بإذنك، فقول الراهن بيمينه؛ لأن الأصل عدمه. وإن كان بيد مرتهن، فقوله بيمينه؛ لأن الظاهر معه، ولو كان الدين ألفين، أحدهما حال، والآخر مؤجل، وقال الراهن: هو رهن بالمؤجل، وقال المرتهن: بل بالحال، فقول راهن؛ لأنه يقبل قوله في أصل الرهن، فكذا في صفته، وإن قال: رهنتك ما بيدك بألف، فقال ذو اليد: بل بعتنيه بها، أو قال: بعتكه بها، فقال: بل رهنتيه، حلف كل على نفي ما ادعاه عليه، وأخذ راهن رهنه، وبقي الألف بلا رهن. وإن قال من بيده رهن لربه: أرسلت زيدًا ليرهنه بعشرين، وقبضها زيد، وصدق المرتهن زيدٌ أنه قبض منه العشرين، وأنه سلمها لرب الرهن، قبل قول الراهن الذي أرسل زيدًا بيمينه أنه لم يرسل زيدًا ليرهنه إلا بعشرة، ولم يقبض سواها، فإذا حلف برئ من العشرة، ويغرمها الرسول للمرتهن، وإن صدق زيدٌ راهنًا، حلف زيد أنه ما رهنه إلا بعشرة، ولا قبض إلا عشرة، ولا يمين على راهن؛ لأن الدعوى على غيره، فإذا حلف زيد برئا معًا، وإن نكل غرم العشرة المختلف فيها، ولا يرجع بها على أحد، وإن عدم الرسول، حلف راهن أنه ما أذن في رهنه إلا بعشرة، ولا قبض أكثر منها، ويبقى الرهن بها، وإن أقر راهن بعد لزوم الرهن بوطء مرهونة قبل رهنها حتى يترتب عليها أنها صار أم ولد إن كانت حاملاً، قبل على نفسه؛ لأنه لا عذر، كما لو أقر بدين، ولا يقبل إقراره بذلك على مرتهن أنكره؛ لأنه متهم ي حق مرتهن، وإقرار الإنسان على غيره غير مقبول، ثم إن أنكر ولي الجناية أيضًا لم يلتفت إلى قول راهن، وإن صدقه لزمه أرشها إن كان موسرًا، لحيلولته بين المجني عليه والجاني يرهنه، كما لو قتله، وإن كان معسرًا تعلق برقبة الجاني إذا انفك الرهن. وكذا يأخذ مشتر ومغصوب منه الرهن إذا انفك، لزوال المعارض، وعلى مرتهن اليمين أنه لا يعلم ذلك؛ فإن نكل قضى عليه ببطلان الرهن، وسلم المقر له به.

الانتفاع بالرهن
س84: تكلم بوضوح عن الانتفاع بالرهن،وما يفضل من لبن أو نفقة، وتعرض لما يتعلق بذلك من تقدير أو ضمان أو نفقة على الرهن أو استئذان أو تعذره، وحكم حيوان معار ومؤجر ومودع ومشترك بيد أحدهما بإذن الآخر، إذا أنفق عليه مستعير ومستأجر ووديع وشريك، وبم يرجع من عمّر الرّهْنَ وما لا يرجع به؟ واذكر الدليل والتعليل، والتفصيل، ومثل لما لا يتضح إلا بالتمثيل، واذكر الخلاف.

ج: لمرتهن ركوب حيوان مرهون، كفرس وبعير بقدر نفقته، وله حلبة واسترضاع أمة بقدر نفقتها متحريًا للعدل؛ لما ورد عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة» رواه الجماعة إلا مسلمًا، والنسائي، وفي لفظ: «إذا كانت الدابة مرهونة، فعلى المرتهن علفها؛ ولبن الدر يشرب، وعلى الذي يشرب نفقته» رواه أحمد.
ولا يعارضه حديث: «لا يغلق الرهن من راهنه، له غنمه، وعيه غرمه» لأنا نقول: النماء للراهن، لكن للمرتهن ولايةو صرفه إلى نفقته، لثبوت يده عليه، ولوجوب نفقة الحيوان، وللمرتهن فيه حق، فهو كالنائب عن المالك في ذلك وقد أمكن القيام به من نماء الرهن واستيفائه من منافعه، فجاز كما يجوز للمرأة أخذ مؤونتها من مال زوجها عند امتناعه بغير إذنه، وقيس على ذلك الأمة تسترضع بقدر نفقتها، ومحله إن أنفق بنية الرجوع، وإلا لم ينتفع، وهذا من المفردات.

قال ناظمها:
مُرتهنٌ لِرَّهْنِ نَصًا يَرْكَبُ ... بقدر ما أنفق أيضًا يَحْلِبُ
سيان بذل مالك للنفقة ... أو منعها والإذن فيها مُطْلَقَه


وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لا يحتسب له بما أنفق، وهو متطوع به، ولا ينتفع من الرهن بشيء؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لا يغلق الرهن من راهنه، له غنمه، وعليه غرمه» ولأنه ملك غيره، لم يأذن له في الانتفاع به، ولا الإنفاق عليه، فلم يكن له ذلك. ولا ينهك المركوب والمحلوب بالركوب والحلب؛ لأنه إضرار به بلا إذن راهن، ومعنى إنهاكه: المبالغة في ذلك حتى يُهْزِلَهُ، ولو كان الراهن حاضرًا، ولم يمتنع من النفقة عليه؛ لأنه مأذون فيه شرعًا. فإن كان الرهن غير مركوب ولا محلوب، كعبد وثوب، لم يجز لمرتهن أن يَنْتَفِع به بقدر نفقته، لاقتضاء القياس أن لا ينتفع المرتهن من الرهن بشيء غيْرَ ما ذكر للخبر، فلا يجوز أن يستعمله في حرث وسقي. قال في «المغني» و«الشرح»: ليس للمرتهن أن ينفق على العبد والأمة ويستخدمهما بقدر النفقة. قال في «الإنصاف»:
وهو المذهب، وعليه أكثر الأصحاب، ويبيع مرتهن فضل لبن مرهون بإذن راهن؛ لأنه ملكه، وإلا يأذن لامتناعه أو غيبته، فحاكم، لِقَيامه مقامَه، ويرجع مرتهن بفضل نفقة من ركوب وحلب واسترضاع على راهن بنية رجوع.
ولمرتهن أن ينتفع بالرهن بإذن راهن مجانًا بلا عوض، وإن انتفاع المرتهن بالرهن بغير إذن الراهن، فعليه أجرته في ذمته، وإن تلف ضمنه، لتعديه بانتفاعه بغير إذن ربه، وله أن ينتفع بالرهن بعوض، وله أن ينتفع به بإذن راهن مجانًا، ولو بمحاباة لِطِيب نفس رَبِّهِ به، ما لم يكن الدين قرضًا فيحرم ، لجره النفع، ويصير الرهن المأذون في استعماله مجانًا مضمونًا بالانتفاع به، لصيرورته عارية، ولا يصير مضمونًا قبل الانتفاع به، وإن أنفق مرتهن على الرهن بغير إذن الراهن مع إمكان استئذانه، لم يرجع على الراهن، ولو نوى الرجوع؛ لأنه متبرع أو مفرط، حيث لم يستأذن المالك مع قدرته عليه، وإن تعذر استئذانه، لتخفيه أو غيبته ونحوها، وأنفق بنية الرجوع، فله الرجوع على راهن بالأقل مما أنفق على رهن، أو أنفقه مثله، ولو لم يستأذن حاكمًا مع قدرته عليه، أو لم يشهد أنه أنفق، ليرجع على ربه لاحتياجه إلى الإنفاق لحراسة حقه، أشبه ما لو عجز عن استئذان حاكم.
وحيوان معار ومؤجر ومودع، ومشترك بيد أحدهما بإذن الآخر، إذا أنفق عليه مستعير ومستأجر وديع وشريك كرهن، فيما سبق تفصيله.
وإن مات قن فكّفَّنَهُ، فكذلك ذكره في «الهداية» وغيرها، وإن عَمَّرَ مُرتهن الرهن، كدار انهدمت، ورجع مُعمَّرٌ بآلته فقط، ولا يرجع بما يحفظ به مالية الدار، كثمن ماء ورماد وطين وجص ونورة وأجرة معمرين، إلا بإذن مالكها، لعدم وجوب عمارتها، بخلاف نفقة حيوان، لحرمته وعدم بقائه بدونها. وقال في «الإنصاف»: وجزم القاضي في «الخلاف الكبير» أنه يرجع بجميع ما عمَّر في الدار؛ لأنه من مصلحة الرهن، وجزم به في «النوادر»، وقاله الشيخ تقي الدين –رحمه الله- فيمن عمَّر وقفًا بالمعروف ليأخذ عوضه، فيأخذه من مغله. وقال ابن عقيل: ويحتمل عندي أنه يرجع بما يحفظ أصل مالية الدار، لحفظه وثيقته. وقال ابن رجب في «القواعد»: ولو قيل: إن كانت الدار بعد ما خرب منها تحرز قيمة الدين المرهون به لم يرجع، وإن كان دون حقه، أو وقف حقه، ويخشى من تداعيها للخراب شيئًا فشيئًا حتى تنقص عن مقدار الحق، فله أن يعمرويرجع، لكان متجهًا. قلت: وهو قوي. انتهى.

من النظم فيما يتعلق في اختلاف المتراهنين
ورهنك عند اثنين إن توف واحدًا ... فحصته انفكت كعكس بأوطد
وإن رهن الشخصان عندهما إذًا ... لجاريهما فالريع بالريع قيد
وإن حَلَّ دينٌ لم يُوفَّ يَبعْهُ مَن ... رَضِي به طوعًا وإلَّا لِيُطهد
على بيعه إن لم يوفّ فإن أبى ... فبعه ووف الدَّيْنَ لا تَتَزَيَّدِ
ويملك قبل البيع عزلاً بأجود ... فيختار رب الدين في فسخ معقد
وبعه بنقد العرف إن كان واحدًا ... وإلا بجنس الدين إن كثرت قد
فإن لم يكن بع بالأحظ فإن توى ... لدى العدل من مال الذي رهن اعدد
فإن خالف المشروع فالبيع باطل ... ويضمن كأحكام الموكل يعتد
وإن أنكراه قبضه ممن اشترى ... على راهن في الرهن خصم ويقصد
وإن بان مغصوبًا ليرجع من اشترى ... فمنه ليقبل في الأصح المجودِ
إذا علم التوكيل لكن متى يكن ... به جاهلاً فالخصم من باعه اشهد
ودعوى قضاء الدين من ثمن فلا ... يفيد مع الإنكار من غير شهد
وكل وكيل في قضا الدين هكذا ... إذا أنكر الخصم القضاء فقيد
ويرجع بالإيلاء مرتهن على ... ذوي الرهن ثم العدل بالغُرْمِ أفرد
وقيل على ذي الدين يقبل قوله ... وقيل على ذي الرهن إن لم يُقيَّدِ
وشرطك أخذ الرهن عند حلوله ... وإلا يُباعُ ارْدُدْ كَعَقْد بأبعدِ
ومن راهن في قدر دين ورهنه ... ورد خذ الإيمان مع فقد شهد
كذلك دعوى رد خمر ونحوه ... فقال عصير رهني احفظه واشهد
وفي قيمة المرهون والتلف اقبلن ... من المرتهن مع رده في مبعدِ
كذا حكم الاستئجار أو مع مضارب ... وموصى بجعل والوكيل به اعدد
ودعوى أمين المال من غير أجره ... هلاكًا وردًا فاقبلن لا تردد
ومن يدعي هلكًا بظاهر حادث ... بلا شهد بالحادث امنعه واردد

أرش جناية الرهن
س85: بأي شيء يتعلق أرش جناية الرهن؟ ومتى يخير سيده؟ وبأي شيء يخير؟ وإذا فدى الرهن مرتهن، فهل يرجع؟ وإذا جني على الرهن، فمن الخصم؟ وإذا اخر الطلب الخصم، فمن الخصم؟ وهل للسيد أن يعفو على ما، أو يقتص، ووضح ما يترتب على ذلك. وإذا جنى على سيد، أو عفا عن مال، أو وطئ مرتهن مرهونة، فما الحكم؟ وما الذي يترتب على ذلك من المسائل والأحكام؟ واذكر الدليل والتعليل والتفصيل.

ج: إن جَنَى رقيقٌ رُهِنَ على نفسٍ أو مالٍ خطأً أو عَمْدًا لا قود ليه، أو فيه قود، واختير المال تعلق الأرش برقبته، وقدِّمت على حق مرتهن لتقدمها على حقِّ مالكٍ مع أنه أقوى، وحق المرتهن ثبت من جهة المالك بعقده، بخلاف حق الجناية، فقد ثبت بغير اختياره مقدمًا على حقه، فقدم على ما ثبت بعقده. ولاختصاص حق الجناية بالعين، فيفوت بفواتها؛ فإن استغرق الرهن أرش الجناية، بأن ساوى قيمته أو زاد، خُير سيده بين ثلاثة أمور:
1-  فداء القن المرهون بالأقل من الأرش، ومن قيمة الرهن؛ أن الأرش إن كان أقل، فالمجني عليه لا يستحق أكثر نه، وإن كانت القيمة أقل، فلا يلزم السيد أكثر منها؛ لأن ما يدفعه عوض الجاني، فلا يلزمه أكثر من قيمته، كما لو أتلفه، ما لم تكن الجناية بإذن السد، او أمره مع كون المرهون صبيًا أو أعجميًا لا يعلم تحريم الجناية، أو كان يعتقد وجوب طاعة سيده في ذلك؛ فأن كان كذلك، فالجاني السيد، فيتعلق به أرش الجناية، ولا يباع العبد فيها والرهن بحاله، لقيام حق المرتهن لوجود سببه، وإنما قدم حق المجني عليه لقوته وقد زال.
2-  أو بيع الرهن في الجناية.
3-  أو تسليم الرهن لولي الجناية، فيملكه ويبطل الرهن فيما إذا باعه في الجناية، وفيما إذا سلمه فيها، لاستقرار كونه عوضًا عنها بذلك، فيبطل كونه محلاً للرهن، كما لو تلف أو بان مستحقًا، وإن لم يستغرق أرشُ الجناية رهنًا، بيع من الرهن إن لم يفده سيده بقدر الأرش؛ لأن البيع للضرورة، فيتقدر بقدرها وباقيه رهن؛ لأنه لا معارض له؛ فإن تعذر بيع بعضه، فكله يباع للضرورة، وباقي ثمنه رهن، وكذا إن نقص بتشقيص، فيباع كله، وإن فدى الرهن مرتهنٌ لم يرجع على راهن إلا إن نوى الرجوع، وأذن له راهن في فدائه؛ لأنه إن لم ينو رجوعًا فمتبرع، وإن نواه ولم يأذن راهن فمتآمر عليه؛ لأنه لا يتعين فداؤه، وإن جُني على الرهن، فالخصم في الطلب بما توجبه الجناية عليه سيد كمستأجر ومستعار؛ أنه ليس المرتهن فيه إلا حق الوثيقة؛ فإن أخر سيده الطلب لغيبة أو غيرها لعذر أو غيره، فالخصم المرتهن، لتعلق حقه بموجب الجناية، فيملك الطلب كما لو جنى عليه سيد، ولسيد أن يعفو على مال، وله أن يقتص من جان عليه عمدًا؛ لأنه حق له إن أذن له فيه مرتهن، أو أعطى الراهنُ المرتهن شيئًا يكون رهنًا، لئلا يفوت حقه من التوثق بقيمته بلا إذنه؛ فإن اقتص السيد بدون الإذن، أو إعطاء ما يكون رهنًا في نفس أو دونها من طرف أو جرح، فعليه قيمة أقلهما تجعل مكانه؛ لأنه أتلف مالاً استحق سبب إتلاف الرهن، لزمه غرمه، كما لو أوجبت الجناية مالاً، أو عفا السيد على مال عن الجناية كثير أو قليل، فعليه قيمة أقلهما، أي: الجاني والمجني عليه، تجعل رهنًا مكانه، فلو كان الرهن يساوي مائةً، والجاني تسعين، أو بالعكس، لم يلزمه إلا تسعون؛ لأنه في الأولى لم يفت على المرتهن إلا ذلك القدر، وفي الثانية لم يتعلق حق المرتهن إلا به. والمنصوص: إن عليه قيمة الرهن، أو أرشه الواجب بالجناية يجعل رهنًا مكانه؛ لأنهما بدل ما فات على مرتهن، والمفتى به الأول. قاله في «شرحه»، وكذا لو جنى رهن على سيده، فاقتص السيد منه أو اقتص منه وارثه، فعليه قيمته أو أرشه تجعل رهنًا إن لم يأذن مرتهن، وإن عفا السيد عن المال الواجب بالجناية على الرهن، صح عفوه في حقه لملكه إياه، ولا يصح في حق مرتهن؛ لأن الراهن لا يملك تفويته عليه، فيؤخذ من جان، ويكون رهنًا؛ فإن انفك الرهن بأداءٍ أو إبراءٍ، رد ما أخذه من جان إليه، لسقوط التعلق به، وإن استوفى الدين من الأرش، رجع جان على راهن، لذهاب ماله في قضاء دينه، كما لو استعاره فرهنه فبيع بالدين، وإن وطئ مرتهنٌ أمةً مرهونة، ولا شبهة له في وطئها، حُدَّ لتحريمه إجماعًا؛ لقوله تعالى: {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:5].
وليست زوجة ولا ملك يمين، وكالمستأجر مع ملكه نفعها، فهنا أولى، وَرَقَّ وَلَدُه إن ولدتْ منه؛ لأنه تبع لأمه، وهو ولد زنى، وسواء أذن راهن أو لا. ولزم المرتهن المهر إن لم يأذن راهن بوطئها، أكرهها عليه أو طاوعت، ولو اعتقد الحل أو اشتبهت عليه؛ لأن المهر يجب للسيد، فلا يسقط بمطاوعتها، كإذنها في قطع يدها، وكأرش بكارتها إن كانت بكرًا، وإن أذن راهنٌ مرتهنًا في وطئها، فلا مهر لإذن المالك في استيفاء المنفعة، كالحرة المطاوعة. وكذا لا حدَّ بوطء مرتهن مرهونة إن ادعى مرتهن جهل تحريم الوطء، ومثله يجهلُ التحريم، لكونه حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، سواء أذنه فيه أو لا. وولد المرتهن من وطء جهل تحريمه حُرُّ؛ لأنه من وطء شبهة، أشبه ما لو ظنها أمته، ولا فداء على مرتهن أذن له راهن في وطء؛ لحدوث الولد من وطء مأذون فيه، والإذن في الوطء إذن فيما يترتب عليه؛ فإن لم يأذن راهن في الوطء، ووطئ بشبهة، فولد حر، وعليه فداؤه.

من النظم فيما تعلق بجناية الرهن
وإن يجن رَهْنٌ مُوْجِبَ المال فالذي ... عليه جنى أولى به ولسيد
فداه بأرش أو بقيمة ناقص ... أو البيع أو تمليكهم رق معتد
وعنه عليه الأرش أجمع إن فدى ... ويبطل بالتسليم رهن الفتى قد
وما زاد عن أرش رهين بدينه ... وبع منه قدر الأرش حسب بأوطد
ويرجع ذو دين بإذن فدى فإن ... فداه بلا إذن فلا في المؤكد
إذا قيل قاضي الدين يرجع إن نوى ... وإن زاد عن قدر الفدا لم يردد
وإن كان مجنيًا عليه فصاحب ... الخصومة مولاه وفي الرهن ما ودي
وخذ منه أدنى القيمتين رهينة ... إذا اقتص من جان بلا إذن ذي اليد
كذا الحكم إن يقتص هو أو وليه ... من الرهن إن يجني عليه لينقد
ولا شيء في وجه مقوي على امرئ ... إذا اقتص من جان على رهنه طد
أو اقتص إن يجني عليه وإن جنى ... اقتضاء لمال فاهدرنه ترشد
وما خير من مال بعفو عليه أو ... أصالةً ارهنه مكان المفقدِ
وفي حق مولاه يصح إذا عفا ... عن المال لا في حق مرتهن صدي
فرد إلى الجاني إذا فك رهنه ... وقد كنت حزت المال يا ذا التأيد
ويختار مثل الشافعي لغو عفوه ... موفق دين الله غير مقيدِ
وقيل يصح العفو يا صاح مطلقًا ... وقيمته ممن عفا خذ وقيد
ومن يرتهن أنثى فيولج فحده ... ورق بنيه إن زنا مع تعمُّد
وإن يدعي جهلاً يسوغ فأعفه ... وأولاده حَزِّرْ ولكن ليفتد
ووجهان فيما مر مع إذن راهن ... ولا مهر إلا دون إذن المسود
وإن كنت ذا دين عليك ببعضه ... كفيلاً ورهنًا ما تشا بالوفا اقصد
ويقبل فيه القول فيما نويته ... وإن تطلقن فاختر وقيل اقسمن قد
ورهنك أنثى دون أولادها أجز ... وبينهما اجمع إن تبع لا تُبَدَّدِ
ويشرط في رهن النساء انضمامها ... إلى امرأة أو حرم ذي تَوَدُّدِ
وإلا إلى ذي زوجة أو عديلها ... أو الأم وامنع رهنها العُزْبَ واصدد
كذا رهن أنثى العبد خشيةَ خلوة ... بها إن تأتي الحِرْز أولى فافسدِ

باب الضمان
س86: ما هو الضمان لغة واصطلاحًا؟ ومن أين اشتقاقه؟ وما أركانه؟ وما سنده؟ وما هي الوثائق المعتبرة شرعً، وما فائدتها؟

ج: الضمان:مصدرِ ضمنَ الشيءَ ضمانًا، فهو ضَامن وضمين: إذا كفل به. وقال ابن سيده: ضمن الشيء ضمنًا وضمانًا، وضَمَّنَهُ إياه: كفَّلهُ إياه، وهو مشتق من التضمين؛ لأن ذمة الضامن تتضمَّنُ، قاله القاضي أبو يعلى، وقال ابن عقيل: الضمان مأخوذ من الضمن، فتصير ذمة الضامن في ذمة المضمون عنه.
وقيل: هو مشتق من الضم؛ لأن ذمة الضامن تنضم إلى ذمة المضمون، والصواب الأول؛ أن لام الكلمة في الضم ميم، وفي الضمان نون، وشرط صحة الاشتقاق: كون حروف الأصل موجود في الفرع. اهـ. «مُطْلِع». وشرعًا: التزام ما وجب على غيره مع بقائه، وما قد يجب، غير جزية فيهما.

قال بعض الأدباء:
ضادُ الضَّمانِ بِصَادِ الصَّكِ مُلْتَصِقٌ ... فإنْ ضَمِنْتَ فَحَاءُ الحَبْسِ في الوَسَطِ

وأركان الضمان أربعة: ضامنٌ، ومضمونٌ، ومضمونٌ له، وصيغة.
والأصل في جوازه: الكتاب، والسُّنة، والإجماع؛ أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]، والزعيم: الكفيل، قاله ابن عباس. وأما السُّنة: فما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «الزعيم غارم» رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن. وروى البخاري عن سلمة بن الأكوع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى برجل ليصلي عليه، فقال: «هل عليه دين؟» قالوا: نعم، ديناران. قال: «هل ترك لهما وفاءً؟» قالوا: لا، فتأخر، فقيل: لِمَ لا تصلي عليه؟ فقال: «ما تنفعه صلاتي وذمته مرهونة، إلا أن قام أحدكم فضمنه»، فقام أبو قتادة، فقال: هما علي يا رسول الله، فصلى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأجمع المسلمون على جواز الضمان في الجملة. والوثائق المعتبرة شرعًا أربع: الرهن، والضمان، والكفالة، والشهادة.

وقد جمعتها في بيت:
وثائقنا شرعًا لدى العد أربع ... ضمان فرهن فالكفالة فاشهد

فالضمان يكون للدين، والكفالة لإحضار بدن الغريم وفائدتها إلزام الضامن بالوفاء، مع إلزام صاحب الحق، فيتعلق الحق بذمة كل واحد منهما؛ وأما الشهادة: فيثبت بها الحق، وهي أوسع الوثائق دائرة، وأعظمها مصلحة، وأقطع للنزاع، وهي تثبت الحقوق في الذمم، وتسقط ما ثبت بوفاء أو إبراء أو نحو ذلك، والحق لا يستوفي منها، وإنما هي آلة وسلاح للاستيفاء ممن عليه الحق، ورد الظالم عن ظلمه؛ وأما الرهن: فهو وثيقة يطمئن إليه، ويأمن من غدر صاحبه، وليستوفي منه الحق إذا تعذر الوفاء من
الغريم.

الألفاظ التي يصح بها الضمان والتي لا يصح
س87: تكلم بوضوح عن الضمان، وما الألفاظ التي يصح بها؟ وما مثال ما لا يصح بها؟ ومن الذي يصح منه الضمان، والذي لا يصح منه؟ وهل يصح ضمان الأخرس بالإشارة، أو الكتابة، ومن الذي يطالبه صاحب الحق؟ وفصل لما يحتاج إلى تفصيل ومثل لما يحتاج إلى تمثيل، واذكر الدليل والتعليل.

ج: تقدم لنا بعض الكلام على الضمان، وأنه التزام من يصح تبرعه، وهو الحر غير المحجور عليه، أو التزام مفلس برضاهما ما وجب على غيره أو ما يجب على غيره مع بقاء ما وجب، أو يجب على الغير غير ضمان مسلم أو كافر جزية، فلا يصح ولو بعد الحول؛ لأنها إذا أخذت من الضامن فات الصغار المضمون عنه، وغير كفالته، أي: كفالة مسلم، وكذا كفالة كافر من الجزية عليه، فلا تصح الكفالة ولو بعد الحول، لفوات الصغار إذا استوفيت من الكفيل، فلا يصح الضمان ولا الكفالة في جزية وجبت، ولا جزية ستجب، كما تقدم.
ويصح الضمان بلفظ: أنا ضمين، وكفيل، وقبيل، وحميل، وصبير، وزعيم بما عليه. ويصح الضمان أيضًا بلفظ: ضمنت دينك أو تحملته، وضمنت إيصاله، أو: دينك علي، ونحوه من كل ما يؤدي معنى التزام ما عليه؛ فإن قال شخص: أنا أؤدي ما عليه، أو: أنا أحضر ما عليه، لم يصر ضامنًا بذلك؛ لأنه وعد وليس بالتزام، وقال الشيخ: قياس المذهب يصح بكل لفظ فهم منه الضمان عرفًا، مثل قوله: زوجه، وأنا أؤدي الصداق، أو قال: بعه، وأنا أعطيك الثمن. أو قال: اتركه ولا تطالبه، وأنا أعطيك ما عليه، ونحو ذلك مما يؤدي هذا المعنى؛ لأن الشرع لم يحد ذلك بحد، فرجع إلى العرف كالحرز والقبض.
وإن ضمن إنسان وهو مريض مرضًا غير مخوف، كصداع وحمى يسيرين، ولو صارت مخوفًا ومات به، أو وهو مريض مرضًا مخوفًا، ولم يتصل به الموت، فهو كالصحيح، وإن كان الضامن وقت الضمان مريضًا مرض الموت المخوف، حسب ما ضمنه من ثلثه؛ لأنه تبرع وكالوصية.
ويصح ضمان من أخرس بإشارة مفهومة كسائر تصرفاته؛ لأنها كاللفظ في الدلالة على المراد، ولا يثبت الضمان بكتابة الأخرس حال كونها منفردة عن إشارة يفهم بها عنه أن قصد الضمان؛ لأنه قد يكتب عبثًا أو تجربة قلم، فلا يكون ضامنًا بالاحتمال، ومن لا تفهم إشارته لا يصح ضمانه ولو بكتابة، وكالضمان سائر تصرفاته، فتصح بإشارة مفهومة لا بكتابة مفردة عن إشارة يفهم بها المقصود، ولا ممن ليس له إشارة مفهومة.
ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما؛ فإن أراد مطالبة الضامن، وإن أراد مطالبة المضمون عنه، لثبوت الحق في ذمتيهما جميعًا، لصحة هبته لهما؛ وأن الكفيل لو قال: تكفلت بالمطالبة دون أصل الدين، لم يصح اتفاقًا. ولصاحب الحق مطالبة الضامن والمضمون عنه معًا في الحياة والموت، ولو كان المضمون عنه مليئًا باذلاً للدين، لما تقدم، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «الزعيم غارم».

إذا أحال رب الحق أو أحيل
س88: تكلم بوضوح عما يلي: إذا أحال رب الحق أو أحيل، أو زال عقد أو ورث الحق، وعما إذا أحال رب دين ثالثًا على اثنين، كل منهما ضامن الآخر، أو أبرئ أحدهما من الكل، أو برئ مديون، أو لحق ضامن بدار حرب، أو تعدد ضامن، أو ضمن أحد الضامنين الآخر، وهل يبرأ مدين ببراءة ضامه؟ وإذا قال رب دين لضامن: برئت إلي، أو: أبرأتك فما الحكم؟

ج: إن أحال رب الحق على مضمون أو راهن، أو أحيل رب الحق بدينه المضمون له أو الذي به الرهن، أو زال عقد وجب به الدين بتقايل أو غيره، برئ ضامن وكفيل، وبطل رهن؛ لأن الحوالة كالتسليم لفوات المحل، ولا يبرأ ضامن وكفيل، ولا يبطل رهن إن وَرث الحق؛ لأنها حقوق للميت، فتورث كسائر حقوقه؛ لكن لو أحال ربد دين على اثنين مدينين له، وكل منهما ضامن على الآخر ثالثًا، ليقبض المحال من أيهما شاء؛ لأنه لا فضل هنا في نوع ولا أجل ولا عدد، وإنما هو زيادة استيثاق، وكذا إن لم يكن كل منهما ضامن الآخر، وأحاله عليهما؛ لأنه إذا كان له أن يستوفي الحق من واحد، جاز أن يستوفيه من اثنين، وإن أحاله في الأولى على أحدهما بعينه، صح، لاستقرار الدين على كل منهما؛ لكن من لم يحل عليه، فالظاهر براءة ذمته من المحيل، لانتقال حقه عنه؛ لأن الحوالة استيفاء ينتقل الدين إلى المحال عليه؛ لأنه في المعنى كأنه قد استوفى منه؛ ولكن لا يطالب الآخر حتى يؤدي كما في ضمان الضامن، قاله ابن نصر الله.
ويصح إبراء المضمون قبل أداء الدين، لإبراء محتال له، وإن أبرئ أحدهما بأن أبرأه رب الدين من الكل؛ برئ مما عليه أصالة وضمانًا، وبقي ما على الآخر أصالة؛ لأن الإبراء لم يصادفه، وأما ما كان عليه كفاة، فقد برئ بإبراء الأصيل. وإن برئ مديون بوفاء أو إبراء أو حوالة، برئ ضامنه؛ لأنه تبع له، والضمان وثيقة، فإذا برئ الأصيل زالت الوثيقة كالرهن، ولا يبرأ مدين ببراءة ضامنه، لعدم تبعيته له.
وإن تعدد ضامن لم يبرأ أحدهم بإبراء غيره سواء ضمن كل واحد منهم جميع الدين أو جزءًا منه، ويبرؤون بإبراء مضمون، ولا يصح أن يضمن أحد الضامنين الآخر، لثبوت الحق في ذمته بضمانه الأصلي، فهو أصل، فلا يصح أن يصير فرعًا، بخلاف الكفالة؛ لأنها ببدنه، فلو سلمه أحدهما، برئ وبرئ كفيله به، لأمن إحضار مكفول به.
وإذا لحق ضامن بدار حرب مرتدًا، أو كان كافرًا أصليًا، فضمن ولحق بدار حرب مرتدًا، أو كان كافرًا أصليًا، فضمن ولحق بدار حرب، لم يبرأ من الضمان كالدين الأصلي. وإن قال رب دين لضامن: برئتَ إلي من الدين، فقد أقر بقبضه الدين؛ لأنه إخبار بفعل الضامن، والبراءة لا تكون ممن عليه الحق إلا بأدائه، ولا يكون قوله له: أبرأتك من الدين، أو: برئت منه، إقرارًا بقبضه؛ أما في: أبرأتك، فظاهر؛ وأما في: برئت منه؛ فلان البراءة قد تضاف إلى ما لا يتصور الفعل منه، كبرِئت ذمتُك، فهو أعم من أن تكون البراءة بفعل الضامن أو المضمون له، فلا دلالة فيه على القبض.

إذا وهب رب الدين للضامن الدين
س89: إذا قال رب دين لضامن: وهبتكه، أو ضمن ذمي عن ذمي خمرًا، فأسلم مضمون له، أو أسلم مضمون عنه، أو أسلم ضامن في خمر، فما الحكم؟ ومن الذي يعتبر رضاه، والذي لا يعتبر رضاه؟ وما حكم معرفة الضامن للمضمون له أو عنه؟ وهل يعتبر وجوب الحق أو العلم من الضامن بالحق؟ وإذا قال: ضمنت لزيد على بكر، أو ضمنت ما يلزم التاجر من دين، أو ما يقبضه من عين، أو ضمن دين ضامن، أو ضمن دين ميت أو مفلس مجنون، أو نقص صنجة أو نقص كيل، أو ادعى قابض نقصًا، فما حكم ذلك؟ واذكر الدليل والتعليل، والخلاف والترجيح.

ج: إذا قال رب دين لضامن: وهبتك الدين، فهو تمليك للضامن، فيرجع به على مضمون عنه، كما لو دفعه عنه، أو وهبه إياه. ولو ضمن ذمي عن ذمي خمرًا، فأسلم مضمون له، برئ مضمون عنه كضامنه؛ لأن مالية الخمر بطلت في حقه، فلم يملك المطالبة بها، أو أسلم مضمون عنه، برئ المضمون عنه؛ لأنه صار مسلمًا، ولا يجوز وجوب الخمر على المسلم، والضامن فرعه.
وإن أسلم ضامن في خمر وحده، برئ؛ لأنه لا يجوز طلب مسلم بخمر، ولا يبرأ الأصل ببراءته، ويُتبر لصحة ضمان رضا ضامن؛ لأن الضمان تبرع بالتزام الحق، فاعتبر له الرضى كالتبرع بالأعيان، ولا يُعتبر رضى من ضمن، وهو المضمون عنه؛ لأن أبا قتادة ضمن الميت في الدينارين، وأقره الشارع. رواه البخاري.
ولصحة قضاء دينه بغير إذنه، فأولى ضمانه. ولا يُعتبر رضا من ضُمِنَ له؛ لأنه وثيقة لا يعتبر لها قبض، فلم يعتبر لها رضى كالشهادة، ولا يعتبر لضامن أن يعرف المضمون له، والمضمون عنه ضامنٌ؛ لأنه لا يعتبر رضاهما، فكذا معرفتهما، ولا يعتبر العلم من الضامن بالحق؛ لقوله تعالى: {وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] وهو غير معلوم؛ لأنه يختلف، ولا يعتبر وجوب الحق إن آل إلى العلم به في المسألة الأولى، وإلى الوجوب في الثانية للآية؛ لأن حمل البعير فيهما يؤول إلى الوجوب؛ فإن قيل: الضمان ضم ذمة إلى ذمة، فإذا لم يكن على المضمون حق فلا ضم، أجيب بأنه قد ضم ذمته إلى ذمة المضمون عنه في أنه يلزمه ما يلزمه، وهذا كاف، فيصح: ضمنت لزيد ما على بكر، وإن جهله الضامن. ويصح: أنا ضامن لك ما لك على فلان، أو ما يُقضى به عليه، أو ما تقوم به البينة، أو ما يقر به لك، أو ما يخرجُ في روز مَانِجك. وبهذا قال أبو حنيفة ومالك، وقال الثوري والليث وابن أبي ليلى والشافعي وابن المنذر: لا يصح؛ لأنه التزام مال، فلم يصح مجهولاً كالثمن، ودليل القول الأول قوله تعالى: {وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف : 72].
ولأنه التزام حق في الذمة من غير معاوضة، فصح في المجهول كالنذر والإقرار، ولأنه يصح تعليقه بضرر وخطر، وهو ضمان العهدة. وإذا قال: ألق متاعك في البحر، وعلي ضمانه، أو قال: ادفع ثيابك إلى هذا الوفاء، وعلي ضمانها، فصحَّ المجهول كالعتق والطلاق. ولضامن ما لم يجب إبطال الضمان قبل وجوب الحق؛ لأنه إنما يلزم بالوجوب، فيؤخذ منه أنه يبطل بموت ضامن، ومن ضمان ما يؤول إلى الوجوب ضمان السوق، وهو أن يضمن ما يلزم التاجر من دين، وما يقبضه من عين مضمون، قاله الشيخ.
وقال الشيخ: تجوز كتابته والشهادة به لمن لم ير جوازه؛ لأنه محل اجتهاد. وقال: وأما الشهادة على العقود المحرمة على وجه الإعانة عليها، فحرام. واختار الشيخ صحّضة ضمان حارس ونحوه، وتجار حرب ما يذهب من البلد أو البحر، وأنه غايته ضمان ما لم يجب. وضمان المجهول كضمان السوق، وهو أن يضمن الضامن ما يجب على التجار للناس من الديون، وهو جائز عند أكثر العلماء، كمالك وأبي حنيفة وأحمد.
وقال الشيخ أيضًا: الطائفة الواحدة الممتنعة من أهل الحرب التي ينصر بعضهم بعضًا تجري مجرى الشخص الواحد في معاهداتهم. وإذا شورطوا على أن تجارهم يدخلون دار الإسلام بشرط أن لا يأخذوا للمسلمين شيئًا، وما أخذوه كانوا ضامنين له، والمضمون يؤخذ من أموال التجار، جاز ذلك، ويجب على ولي الأمر إذا أخذوا مالاً لتجار المسلمين أن يطالبهم بما ضمنوه، ويحسهم على ذلك كسائر الحقوق الواجبة. انتهى.
وإن قال: ما أعطيته فهو علي ولا قرينة، فقيل: هو لما وجب ماضيًا، جزم به في «الإقناع» وصوب في «الإنصاف» أنه للماضي والمستقبل، ومعناه للزركشي، ويصح ضمان ما صح أخذ رهن به من دين وعين لا عكسه، لصحة ضمان العهدة دون أخذ الرهن بها، ويصح ضمان دين ضامن، بأنه يضمن ضامن آخر، وكذا ضامن الضامن فأكثر؛ لأنه دين لازم في ذمة الضامنن فصح ضمانه كسائر الديون، فيثبت الحق في ذمة الجميع أيهم قضاه برئ، وإن برئ المدين برئ الكل، وإن أبرأ مضمون له أحدهم برئ ومن بعده لا من قبله.
ويصح ضَمَانُ دَيْنِ ميِّت وإن لم يحلف وفاء؛ لحديث سلمة بن الأكوع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتي برجل ليصلي عليه، فقال: «هل عليه دين؟» فقالوا: نعم، ديناران، قال: «هل ترك لهما وفاء؟» قالوا: لا، فتأخر، فقالوا: لم لا تصلي عليه؟ فقال: «ما تنفعه صلاتي وذمته مرهونة، وألا قام أحدُكم فَضَمَنُه!» فقام أبو قتادة، فقال: هما علي يا رسول الله، فصلى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولأنه دين ثابت، فصح ضمانه، ودليل ثبوته أنه لو تبرع رجل بقضاء دينه، جاز لصاحب الحق اقتضاؤه؛ ولو ضمنه حيًا ثم مات، لم يبرأ منه الضامن، ولو برئت ذمة المضمون عنه برئت ذمة الضامن، وفي هذا انفصال عما ذكروه. قاله في «الشرح» وبهذا قال أكثر العلماء، وقال أبو حنيفة: لا يصح ضمن دين الميت، إلا أن يُخَلِّف وفاء؛ فإن خلف بعض الوفاء، صح ضمانه بقدر ما خلف؛ لأنه دين ساقط فلم يصح ضمانه، كما لو سقط بالإبراء؛ ولأن ذمته قد خربت خرابًا لا يعمر بعد، فلم يبق فيه دين، والضمان ضم ذمة إلى ذمة، ولا تبرأ ذمة الميت قبل قضاء دينه؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه» ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل أبا قتادة عن الدينارين اللذين ضمنهما، فقال: قد قضيتهما، فقال: «الآن بردت عليه جلدته» رواه أحمد. ولأنه وثيقة بدين أشبه الرهن، وكالحي.
والرواية الثانية: أنه يبرأ بمجرد الضمان؛ لما روى أبو سعيد -رضي الله عنه- قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في جنازة، فلما وضعت قال: «هل على صاحبكم من دين؟» قالوا: درهمان، فقال: «صلوا على صاحبكم»، فقال عَليٌّ: هما عَليَّ يا رسول الله، وأنا لهما ضامن، فقام فصلى عليه، ثم أقبل على عَليٍ، فقال: «جزاك الله عن الإسلام خيرًا، وفكَ رهانَك كما فككت رهان أخيك» رواه الدارقطني. فدل على أن المضمون عنه برئ بالضامن، ولذلك صلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وروى الإمام أحمد في «المسند» عن جابر قال: توفي صاحب لنا، فأتينا به النبي - صلى الله عليه وسلم - ليصلي عيه، فخطا خطوة، ثم قال: «أعليه دين؟» قلنا: ديناران، فانصرف، فتحملهما أبو قتادة، فقال: الديناران علي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «وجب حق الغريم، وبرئ الميت منهما» قال: نعم، فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيوم: «ما فعل الديناران؟» قال: إنما مات أمس، قال: فعاد إليه من الغد، فقال: قد قضيتهما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «الآن بردت جلدته» وهذا صريح في براءة المضمون عنه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «وبرئ الميت منهما» ولأنه دين واحد، فإذا صار في ذمة ثابتة برئت الأولى منه كالمحال به؛ لأن الدين الواحد لا يحل في محلين. وقال أهل القول الأول: وأما صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- على المضمون عنه؛ فلأنه بالضمان صار له وفاء، وإنما كان –عليه الصلاة والسلام- يمتنع من الصلاة على مدين لم يخلف وفاء، وأما قوله لعلي: «فك الله رهانك كما فككت رهان أخيك»؛ فإنه كان بحالة لا يصلي عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما ضمنه فكه من ذلك، أو ما في معناه. قوله: «برئ الميت منهما» أي: صرت أنت المطالب بهما، وهذا على وجه التأكيد لثبوت الحق في ذمته، ووجوب الأداء عنه، بدليل قوله حين أخبره بالقضاء: «الآن بردت عليه جلدته».
وفارق الضمان الحوالة؛ فإن الضمان مشتق من الضم بين الذمتين في تعلق الحق بهما وثبوته فيهما، والحوالة: من التحول، فيقتضي تحول الحق عن محله إلى ذمة المحال عليه، وقولهم: إن الدين الواحد لا يحل في محلين، قلنا: يجوز تعلقه في محلين على سبيل الاستيثاق، كتعلق دين الرهن به وبذمة الراهن، كذلك هذا. انتهى من «الشرح الكبير». والقول الثاني: هو الذي تميل إليه النفس، والله أعلم.
ويصح ضمان دين مفلس مجنون؛ لعموم: «الزعيم غارم»، وكالميت ويصح ضمان نقص صنجة، أو نقص كيل، أي: مكيال في بذل واجب أو مآله إليه ما لم يكن دين سلم؛ لأن النقص باق في ذمة باذل، فيصح ضمانه كسائر الديون؛ ولأن غايته أنه ضمان معلق على شرط، فصح كضمان العهدة، ويرجع قابض بقوله مع يمينه في قدر نقص؛ لأنه منكر لما ادَّعاه باذل، والأصل بقاء اشتغال ذمة باذل، ولرب الحق طلب ضامن به للزومه ما يلزم المضمون.



المجلد الرابع 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 9:11 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المجلد الرابع Empty
مُساهمةموضوع: رد: المجلد الرابع   المجلد الرابع Emptyالثلاثاء 24 نوفمبر 2015, 9:11 am

ضمان العهدة وألفاظه وصورته وضمان العين وغيرها
س90: ما هي العهدة؟ وما حكم ضمان العهدة؟ وما ألفاظ ضمانها؟ وما صورة ضمان العهدة؟ وما الذي يدخل في ضمانها؟ ولِمَ يدخل فيها؟ وما حكم ضمان العين المضمونة، والعارية، والمقبوض على وجه السوم، وضمان أحد دينيه وضمان دين الكتابة والأمانات، والتعدي فيها؟ وإذا باع شيئًا بشرط ضمان دركه، أو شرط خيارًا في ضمان، أو كفالة، أو قال: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه، أو ألق متاعك في البحر، فألقاه، أو قال: ألقه في البحر، وأنا ضامنه، أو: وأنا وركبان السفينة ضامنون، أو: وكل منا ضامن لك متاعك، أو قيمته؟

ج: عهدة المبيع لغة: الصك يكتب فيه الابتياع. واصطلاحًا: ضمان الثمن ويصح ضمان العهدة لدعاء الحاجة إلى الوثيقة، والوثائق قيل: إنها أربع كما تقدم، وقيل: ثلاثة: الشهادة، والرهن والضمان؛ والشهادة لا يستوفي منها الحق، والرهن لا يجوز فيه إجماعًا، لما تقدم، فلم يبق غير الضمان فلو لم يصح لامتنعت المعاملات مع من لم يعرف، وفيه ضرر عظيم. وألفاظ ضمان العهدة: ضمنت عهدته، أو ثمنه، أو دركه أو يقول لمشتر: ضمنت خلاصك منه، أو: متى خرج المبيع مستحقًا، فقد ضمنت لك
الثمن.
وصورة ضمان العهدة: أن يضمن عن بائع لمشتر، بأن يضمن الضامن عن البائع الثمن ولو قبل قبضه؛ أنه يؤول إلى الوجوب إن استحق المبيع، بأن ظهر مستحقًا لغير بائع، أو رد المبيع على بائع بعيب أو غيره، أو يضمن أرشه إن اختار مشتر إمساكه مع عيب، ويكون ضمان عن مشتر لبائع بأن يضمن الضامن الثمن الواجب في البيع قبل تسليمه، أو إن ظهر به عيب، أو ظهر الثمن مستحقًا، فضمان العهدة في الموضعين هو ضمان الثمن، أو جزء منه عن أحدهما للآخر. ولو بنى مشتر في مبيع، ثم بان مستحقًا فهدمه مستحق، فالأنقاض لمشتر؛ لأنه ملكه ولم يزل عنها، ويرجع مشتر بقيمة تالف من ثمن ماء ورماد وطين وجص ونورة ونحوه على بائع؛ لأنه غره، وكذا أجرة مبيع مدة وضع يده عليه، ويدخل ذلك في ضمان العهدة، فلمشتر رجوع به على ضامنها؛ لأنه من درك المبيع، ويصح ضمان عين مضمونة، كغصب وعارية ومقبوض على وجه السوم، وولد المقبوض على وجه سوم؛ لأنه تبع له في الضمان في بيع وإجارة؛ لأن هذه الأعيان يضمنها من هي بيده لو تلفت، فصح ضمانها كعهدة المبيع، وإنما يضمن المقبوض على وجه السوم إن ساومه وقطع ثمنه أو أجرته، أو ساومه بلا قطع ثمن أو أجرة، ليريه أهله إن رضوه، وإلا رده، فهو في حكم المقبوض بعقد فاسد؛ لأنه قبضه على وجه البدل والعوض، ولا ضمان على آخذه إن أخذه ليريه أهله بلا مساومة ولا قطع ثمن؛ لأنه لا سوم فيه، فلا يصح ضمانه. ومعنى ضمان غصب ونحوه ضمان استنقاذه، والتزام تحصيله أو قيمته عند تلفه، فهو كعهدة المبيع، ولا ضمان بعض لم يقدر من دين لجهالته حالاً ومآلاً، وكذا لو ضمن أحد دينيه.
ولا يصح ضمان دين كتابة؛ لأنه ليس بلازم ولا مآله إلى اللزوم؛ لأن للمكاتب تعجيز نفسه والامتناع من الأداء، فإذا لم يلزم الأصل فالضامن أولى، وهو قول الشافعي، وأكثر أهل العلم، والأخرى: يصح؛ لأنه دين على مكاتب، فصح ضمانه كسائر ديونه. ولا يصح ضمان الأمانات، كالوديعة، والعين المؤجرة، والشركة، والمضاربة، والعين المدفوعة إلى الخياط والقصار؛ لأنها غير مضمونة على صاحب اليد، فكذا على ضامنه.
ويصح ضمان التعدي في الأمانات؛ لأنها إذن مضمونة على من هي بيده، أشبهت المغصوب. ولا يصح ضمان الدلالين فيما يعطونه لبيعه إلا أن يضمن تعديهم فيه أو هربهم ونحوه، ومن باع شيئًا بشرط ضمان دركه إلا من زيد، لم يصح بيعه له؛ لأن استثناء زيد من ضمان دركه يدل على حق له في المبيع، وأنه لم يأذن له في بيعه، فيكون باطلاً، ثم إن ضمن دركه منه أيضًا، لم يعد البيع صحيحًا؛ لأن الفاسد لا ينقلب صحيحًا، وإن شُرطَ خيارٌ في ضمان أو في كفالة، بأن قال: أنا ضمين بما عليه، أو كفيل ببدنه، ولي الخيار ثلاثة أيام مثلاً، فسد الضمان والكفالة، لمنافاته لهما. ويصح قول جائز التصرف لمثله: ألق متاعك في البحر، وعلي ضمانه، لصحة ضمان ما لم يجب، فيضمنه القائل.
وإن قال: ألقه في البحر وأنا ضامنه، ضمن الآمر به الجميعَ وحده؛ لأن ضمان مَا لم يجب صحيح. وإن قال: ألقه في البحر وأنا وركبان السفينة ضامنون، وأطلق ضمن الآمر وحده بالحصة؛ لأنه لم يضمن الجميع، وإنما ضمن حصته، وأخبر عن سائر ركبان السفينة بضمان سائره، فلزمته حصته، ولم يسر قوله على الباقين، وإن قال: ألقه في البحر، وكلُّ واحدٍ منا ضامن لك متاعك أو قيمته، ضمن القائل وحده ضمان الجميع، سواء سمع الباقون فسكتوا، أو قالوا: لا نفعل، أو لم يسمعوا؛ لأن سكوتهم لا يلزمهم به حق، وإن رضوا بما قال لزمهم الغرم، ويوزع على عددهم لاشتراكهم في الضمان، ولو خيف من غرق السفينة، فألقى بعض من فيها متاعَه في البحر لتخفَّ، لم يرجع بمتاعِه على أحدٍ، ولو نوى الرجوع؛ لأن أتلف مال نفسه باختياره من غير ضمان، ويجب إلقاء ما لا روح فيه من السفينة إن خيف تلف الركاب بالغرق؛ لأن حرمة ذي الروح آكد؛ فإن خيف الغرق بعد ذلك، ألقي الحيوان غير الآدمي؛ لأن حرمته آكد.

قضاء الضامن الدين وإذا ضمن الحال مؤجلاً
س91: تكلم بوضوح عما إذا قضى الدين ضامن بإذن أو بغير إذن، وبِمَ يرجع؟ وعما إذا أدى الإنسان عن غيره دينًا واجبًا، أو زكاة، ووضح ما في ذلك من تفصيل؟ وإذا أنكر مقضي القضاء فعلى من يرجع؟ وإذا اعترف مضمون له بالقضاء، وأنكر مضمون عنه، أو أرسل إنسان آخر إلى من له عنده مالآ لأخذ دينار، فأخذ أكثر من دينار، أو ضمن الحال مؤجلاً أو بالعكس. أو مات مضمون عنه قبل حلول دين، أو مات ضامن أو ضمن إنسان شخصًا أو كفله، ثم قال: لم يكن عليه حق، فما حكم ذلك؟ واذكر ما لذلك من دليل أو تعليل أو خلاف أو ترجيح؟

ج: إذا قضى الدين ضامن، أو أحال ضامن رب دين به، ولم ينو ضامن رجوعًا على مضمون عنه بما قضاه؛ لم يرجع؛ لأنه متطوع، سواء ضمن بإذنه أو لا. وإن نوى الرجوع؛ ففي ذلك أربع مسائل: إحداهما: أن يضمن بإذنه ويقضي بإذنه، فيرجع بلا نزاع. الثانية: أن يضمن بإذنه ويقضي بغير إذنه، فيرجع أيضًا بلا نزاع. الثالثة: أن يضمن بغير إذنه، ويقضي بإذنه، فيرجع على الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب. الرابعة: أن يضمن بغير إذنه، ويقضي بغير إذنه. فهذه فيها الروايتان، إحداهما: يرجع، وهو المذهب.
قال في «الفائق»: واختاره الشيخ تقي الدين. والرواية الثانية: لا يرجع بشيء، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وابن المنذر، بدليل حديث علي وأبي قتادة؛ فإنهما لو كانا يستحقان الرجوع على الميت صار الدين لهما، فكانت ذمة الميت مشغولة بدينهما، كاشتغالها بدين المضمون لهن ولم يصل عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه تبرع بذلك، أشبه ما لو أعلف دوابه، وأطعم عبيده بغير أمره.
ووجه الأولى أنه قضاء مبرئ من دين واجب، فكان من ضمان منَ هو عليه، كالحاكم إذا قضى عنه عند امتناعه، فأما عليٌ وأبو قتادةَ، فإنهما تبرعا بالقضاء والضمان، فإنهما قضيا دينه قصدًا لتبرئة ذمته ليصلي عليه -صلى الله عليه وسلم-، مع علمهما أنه لم يترك وفاء، والمتبرع لا يرجع بشيء، وإنما الخلاف في المحتسب في الرجوع. قاله في «الشرح» وحيث رجع ضامن فبالأقل مما قضى ضامنٌ، ولو كان ما قضاه به قيمةَ عرضٍ عوضه الضامن به أو قدر الدين، فلو كان الدين عشرة، فوفاه عنه ثمانية، أو عوضه عنه عرضًا قيمته ثمانية أو بالعكس، رجع بالثمانية؛ لأنه إن كان المقضي أقل، فإنما يرجع بما غرم، ولهذا لو أبرأه غريمه لم يرجع بشيء، وإن كان الأقل الدين فالزائد غير لازم للمضمون، فالضامن متبرع به.
وكذا في الرجوع وعدم كفيلٌ وكلٌ مؤد عن غيره دينًا واجبًا، فيرجع إن نوى الرجوع، وإلا فلا، ولا يرجع مؤدٍ عن غيره زكاة ونحوها؛ لأنها تحتاج إلى نية من صاحبها أو توكيل ولم يوجد ذلك، ولهذا لم تقع الموقع؛ لكن يرجع ضامن الضامن على الضامن وجوبًا؛ لأنه إنما قصد الدفع عن الذي ضمنه دون الأصيل، والضامن للأصيل يرجع على الأصيل المضمون عنه، وإن أحال رب الدين به على الضامن، توجه أن يقال: للضامن طلب مضمون عنه بمجرد الحوالة؛ أنها كالاستيفاء منه؛ فإن مات الضامن قبل أداء المحتال عليه، ولم يخلف تركة، وطالب الضمان ورثته؛ فلهم أن يطلبوا من الأصيل ويدفعوا، ولهم الدفع عن أنفسهم، لعدم لزوم الدين لهم، فيرفع المحتال الأمر للحاكم ليأخذ من الأصيل، ويدفع للمحتال، ولا يقال: يسقط حق المحتال لعدم التركة؛ لأن الضامن له تركة بالنسبة إلى هذا الدين، وهو ما يستحقه في ذمة الأصيل، وكذا إذا أدى ضامن الضامن، ومات الضامن قبل أدائه إلى ضامنه، ولم يترك شيئًا. ذكره ابن نصر الله بحثًا.
وإن أنكر مَقْضِي القضاء، أي: أنكر رب الدين أخذه من نحو ضامن، وحلف رب الحق، لم يرجع مدعي القضاء على مدين، لعدم براءته بهذا القضاء، ولو صدقه مدين على دفع الدين؛ لأن عدم الرجوع لتفريط الضامن ونحوه بعدم الإشهاد، فلا فرق بين تصديقه وتكذيبه، إلا إن ثبت القضاء بينة، أو حَضَر القضاء مضمون عنه؛ لأنه المفرط بترك الإشهاد، أو شهد دافع الدين ومات شهوده، أو غاب شهوده وصدق الدافع مدين على حضوره أو غيبة شهوده أو موتهم؛ لأنه لم يفرط، وليس الموت أو الغيبة من فعله؛ فإن لم يصدقه مدين على أنه حظر، أو أنه أشهد من مات أو غاب؛ فقول مدين؛ لأن الأصل معه، ومتى أنكر مقضي القضاء، وحلف ورجع، فاستوفى من الضامن ثانية، رجع على مضمون بما قضاه عنه ثانيًا؛ لبراءة ذمته به ظاهرًا، وإن اعترف مضمون له بالقضاء، وأنكر مضمون عنه، لم يسمع إنكاره، لاعتراف رب الحق بأن الذي له صار للضامن، فوجب قبول قوله؛ لأنه إقرار على نفسه. ومَن أرسل آخر إلى من له عنده مال لأخذ دينار من المال، فأخذ الرسول من المرسل إليه أكثر من دينار، ضمن المأخوذ مُرْسِلٌ؛ لأنه المسلط للرسول، ورجع مرسل بالمأخوذ على رسوله لتعديه بأخذه. وإذا ضمن الدين الحال مؤجلاً صح، ويكون حالاً على المضمون، مؤجلاً على الضامن، يملك مطالبة المضمون عنه دون الضامن، وبه قال الشافعي.
قال أحمد في رجل ضمن ما على فلان أنه يؤديه في ثلاث سنين: فهو عليه، ويؤديه كما ضمن، ووجه ذلك ما روى ابن عباس أن رجلاً لزم غريمًا له بعشرة دنانير على عهد رسول -صلى الله عليه وسلم-، فقال: ما عندي شيء أعطيكه، فقال: والله لا أفارقك حتى تعطيني، أو تأتيني بحميل، فجره إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كم تستنظره؟» فقال: شهرًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فأنا أحمل» فجاء به في الوقت الذي قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من أين أصبت هذا؟» قال: من معدن. قال: «لا خير فيها» وقضاها عنه. رواه ابن ماجه. ولأنه ضمن مالاً بعقد مؤجل، فكان مؤجلاً كالبيع، ولا يقال: الحال لا يتأجل، وكيف يثبت في ذمتيهما مختلفًا؛ لأن الحق يتأجل في ابتداء ثبوته بعقد، وهنا كذلك؛ لأنه لم يكن ثابتًا عليه حالاً، ويجوز تخالف ما في الذمتين، وإن ضمن الدين المؤجل حالاً، لم يلزمه أداه قبل أجله؛ لأنه فرع المضمون عنه، فلا يلزمه ما لا يلزم المضمون عنه، كما أن المضمون لو ألزم نفسه تعجيل المؤجل، لم يلزم تعجيله، وإن عجل المؤجل ضامن لم يرجع ضامن على مضمون عنه حتى يحل الدين؛ لأن ضمانه لا يغيره عن تأجيله، وإن أذنه مضمون عنه بتعجيله ففعله، فله الرجوع عليه؛ لأنه أدخل لضرر على نفسه، ولا يحل دين مؤجل بموت مضمون عنه، ولا بموت ضامن؛ لأن التأجيل من حقوق الميت، فلم يبطل بموته كسائر حقوقه، ومحله إن وثق الورثة. قاله في «شرحه». ومن ضمن أو كفل شخصًا، ثم قال: لم يكن عليه حق المضمون أو المكفول له، صدق خصمه، وهو المضمون أو المكفول له، لادعائه الصحة بيمينه، لاحتمال صدق دعواه؛ فإن نكل مضمون أو مكفول له قضي عليه ببراءة الضمين والأصيل.

من النظم فيما يتعلق بالضمان
وملتزم حقًا وما سيؤول عن ... فتى ضامن لم يبر قبل التنفد
سوى مفلس ميت ضمنت بأبعد ... فتبرأ منه ذمة بالمجود
وذو الدين يستوفيه ممن يشاؤه ... ومن إرثه إن مات غير مبعد
وما صح إلا من صحيح تبرع ... وذي حجر إفلاس وفي غير ارشد
وعبد بلا إذن مقال وكلهم ... به بعد فك الحجر عنه ليقصد
وفي نفس مأذون الرقيق ضمانهم ... وعن أحمد قول بذمة سيد
وقولان في تصحيحه من مميز ... ومن أخرس صححه مع فهم مقصد
ومن ناطق من مفهم أنا ضامن ... زعيم كفيل أو قبيل ليعقد
وإن يبرأ المضمون عنه فد برئ ... الزعيم بلا عكس بغير تردد
وأيهما يقضيه أو إن يحل به ... فقد برآ منه لفقد التعدد
وتسقط عمن أسلم الخمر أوله ... فينقطع التطلاب لا بتقيد
ولابد فيه من رضا ضامن فقط ... ولا يشترط علم الخصوم بأوطد
وقيل بلى بل علم ذي الدين وحده ... وليس مضرًا جهل دين مؤكد
إذا آل للإيجاب والعلم أمره ... ويرجع قبل الدين إن شا بأوكد
وقولك ما أعطيته أنا ضامن ... لما آل في الأقوى أوان التجردِ
ووجهان إن يضمن مكاتبه ولو ... بإذن ومن ثلث ضمان المجهد
وكل الديون اضمن ولو دين ضامن ... سوى سلم أو دين من كوتب اعضد
وينفذ في أعيان كل مضمن ... كعارية والغصب والسوم في اليد
وفي عهدة المبتاع عن كل عاقد ... في الأقوى أجز لا مبهم في معددِ
وليس على حر يقر برقه ... فيبتاعه من عهدة مطلقًا طد
وليس صحيحًا في الأمانات كلها ... سوى ضامن فيها تعدي مفسد
وصحح ضمان الحل صاح مؤجلاً ... كعكس في الأقوى ثم أجل بأجود
وما للضمين الاقتضا قبل يقتضي ... في الأقوى وبعد الدفع من إذن اطهدِ
ومن يقض عنه أو يحل بيع عوده ... يعد مثل قول اضمنه عني وانقد
وعن أحمد لا يرجعنَّ بما قضى ... بلا الإذن في فرد كقاض مجود
وإن يقض عن دين عروضًا ليرجعن ... بأدناهما في القدر لا بالمزيد
وإن يقض ذا التأجيل قبل حلوله ... فلا يرجعن حتى يحل فقيد
وإن أنكر الخصمان إيفاء ضامن ... لغا وبتصديق الموفَّى بمبعد
وإن أنكر استحلف ومن شاء بينهما ... يطالب فإن يقضيه من ضامن صدي
فليس على المضمون عنه لضامن ... سوى أحد المالين خذ مع تردد
وإن صدق المديون وفاه ما قضى ... بمرآه في الأقوى كقاض بشهد
وليس له شيء بتكذيبه ولا ... بتصديقه إن فرطن بأوكد
ووجهان هل يرجع لإشهاد فسق ... خفوا ولمن فيه اختلاف كأعيد
وليس يحل الدين مع موت واحد ... ولا موت كل منهما في المؤكد
وأيهما يحلل عليه فليس ذا ... بموجب تحليل على الآخر اشهد
وقول بري منه إلي لضامن ... كقبض وإن يفقد إليَّ تردد
وما لضمين والكفيل الخيار وألزم ... الأب يضمن مهر زوجة فوهد
وإن قال شخص ألق في اليم مثقلاً ... سفينتنا إضمن فألقى لينقد
وإن لم يقل إضمن فألقى فمهدر ... وإن قال يضمن وحده الزم بأجود

فصل في الكفالة
س92: ما هي الكفالة؟ وبم تنعقد؟ ومن الذي تصح منه؟ وما هي الألفاظ التي تنعقد بها الكفالة؟ وإذا ضمن معرفة شخص، أو قال: ضمنت لك حضوره متى أردت، أو عجز عن إحضاره. أو قال: أعط فلانًا ألفًا، ففعل، فما حكم ذلك؟ وبم تصح الكفالة، وما الذي لا تصح به؟ وهل يكتفي بذكر الاسم والمكان؟ وما الفرق بينها، وبين الضمان؟ وما الحكم فيما إذا قال: أبرئ الكفيل وأنا كفيل؟ أو قال: كلفت هذا الدين على أن تبرئني من الكفالة بفلان، أو ضمنت لك هذا الدين شرط أن تبرئني من ضمان الدين الآخر؟ أو شرط في كفالة أو ضمان أن يتكفل له أو به بآخر، فما الحكم؟ واذكر الدليل والتعليل، والتفصيل والخلاف؟

ج: الكفالة شرعًا: التزام رشيد إحضار من عليه حق مالي إلى ربه، والجمهور على جوزها، قال الله تعالى حاكيًا عن يعقوب قال: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف: 66].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً لزم غريمًا له حتى يقضيه، و يأتيه بجميل، فقال: كم تستنظره؟ قال: شهرًا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «فأنا أحمل» رواه أبو داود والترمذي وغيرهما. ومعنى قوله: «جميل» أي: كفيل، وقوله: «أحمل» أي: أكفل. وفيه: فقضاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فدل على صحة الكفالة؛ ولعموم حديث: «الزعيم غارم» ولدعاء الحاجة إلى الاستيثاق بضمان المال والبدن، وكثير من الناس يمتنع من ضمان المال، فلو لم تجز الكفالة لأدى إلى الحرج وتعطل المعاملات المحتاج إليها.
وتنعقد الكفالة بلفظ ينعقد به ضمان؛ لأنها نوع منه، فانعقدت بما ينعقد به، فيؤخذ به صحتها ممن يصح منه الضمان، وصحتها ببدن من يصح ضمانه، وإن ضمن رشيد معرفته أخذ به، فلو جاء إنسان يستدين من آخر، فقال: أنا لا أعرفك، فلا أعطيك، فضمن آخر معرفته لمن يريد أن يداينه، فداينه، وغاب مستدين أو توارى، أخذ ضامن المعرفة به، كأنه قال: ضمنت لك حضوره متى أردت، لأنك لا تعرفه، ولا يمكنك إحضار من لا تعرفه، فهو كقوله: كفلت ببدنه، فيطالبه به؛ فإن عجز عن إحضاره مع حياته، لزمه ما عليه لمن ضمن معرفته له، ولا يكفي أن يعرف رب المال اسمه ومكانه. وقال الشيخ تقي الدين في «شرح المحرر»: ضمان المعرفة معناه: إني أعرفك من هو وأين هو، وفي «الغاية».
ومن ضمن معرفة شخص أخذ بتعريفه لا بحضوره خلافًا لـ «المنتهى» وكلامه في «الغاية» موافق لكلام شيخ الإسلام؛ وأما لو قال: أعط فلانًا ألفًا، ففعل، لم يرجع على الآمر، ولم يكن ذلك كفالة ولا ضمانًا إلا أن يقول: أعطه عني. وتصح الكفالة ببدن من عنده عين مضمونة كعارية وغصب، أو عليه دين كالضمان، فتصح ببدن كل من يلزمه الحضور لمجلس الحكم بدين لازم ولو مالاً، فتحص بصبي ومجنون؛ لأنه قد يجب إحضارهما لمجلس الحكم للشهادة عليهما بالإتلاف وببدن محبوس وغائب.
ولا تصح ببدن من عليه حد الله تعالى؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: «لا كفالة في حدٍ» ولأن مبناها على الإسقاط والدرء بالشبهة، فلا يدخله الإستيثاق، ولا يمكن استيفاؤه من غير الجاني، وسواء كان حقًا لله تعالى كحد الزنا والسرقة، أو لآدمي كحد القذف والقصاص. قال في «المغني»: وهذا قول أكثر أهل العلم، منهم شريح والحسن، وبه قال إسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي، وبه قال الشافعي في حدود الله تعالى، واختلف قوله في حدود الآدمي، وقال الشيخ تقي الدين –رحمه الله-: تصح كفالة من عليه حد أو قصاص، واختاره في «الفائق»، وكون من عليه حد أو قصاص لا تصح كفالته من «مفردات المذهب».

 قال ناظمها:
ومن عليه الحد ليس بكفل

ولا تصح بزوجة لزوجها في حق الزوجية له عليها، ولا بشاهد؛ لأن الحق عليهما لا يمكن استيفاؤه من الكفيل، ولا تصح الكفالة بمكاتب لدين كتابة؛ لأن الحضور لا يلزمه إذ له تعجيز نفسه، ولا تصح الكفالة إلى أجل مجهول أو بشخص مجهول؛ أما عدم صحتها إلى أجل مجهول؛ فلأن المكفول ليس له وقت يستحق المطالبة فيه؛ وأما عدم صحتها بشخص، فلأنه غير معلوم في الحال ولا في المآل، فلا يمكن تسيلمه، بخلاف ضمان دين مجهول يؤول إلى العلم، ولو في ضمان كإلى مجيء المطر ونحوه، أو قال: ضمنت أحد هذين، فلا يصح الضمان لما تقدم.
وإن كفل رشيد بجزءٍ شائع، كثلث من عليه حق أو رُبُعِهِ، أو كفل بعضو منه ظاهر كرأسه ويده، أو باطن كقلبه وكبده، صح؛ لأنه لا يمكن إحضاره إلا بإحضار الكل، أو تكفل بشخصٍ على أنه إن جاء بالكفيل، قد برئن وإلا يجيء به فهو كفيل بآخر معين، أو فهو ضامن ما عليه من المال، صح؛ لصحة تعليق الكفالة والضمان على شرط كضمان العهدة.
وإذا قال: إذا قدم الحاج، فأنا كفيل بزيد شهرًا، صح؛ لجمعه تعليقًا وتوقيتًا، وكلاهما صحيح. ويبرأ من كفل شهرًا أو نحوه إن لم يطالبه مكفول له بإحضاره في الشهر ونحوه؛ أنه بمضيه لا يكون كفيلاً، وإن قال رشيد لرب دين: أبرئ الكفيل، وأنا كفيل، فسد الشرط، وهو قوله: أبرئ الكفيل؛ لأنه لا يلزم الوفاء به، فيفسد عقد الكفالة؛ لأنه معلق عليه. ولو قال: كفلتُ هذا الدين على أن تبرئني من الكفالة بفلان، أو ضمنت لك هذا الشرط بشرط أن تبرئني من ضمان الدين الآخر، لم يصح؛ لأنه فسخ عقد في عقد، كالبيع بشرط فسخ بيع آخر، وكذا لو شرط في كفالة ضمان أن يتكفل له أو به بآخر، أو يضمن دينًا عليه، أو يبيعه شيئًا، أو يؤجره داره، لم يصح.

ما يعتبر لصحة الكفالة
س93: ما الذي يعتبر لصحة كفالة؟ وإذا سلم كفيل مكفولاً به، أو سلم مكفول نفسه، أو مات مكفول، أو تلِفتَ العين التي تكفل ببدن من هي عليه، فما الحكم؟ وإذا تعذر إحضار مكفول على الكفيل، أو غاب، أو مضى زمن عينه كفيل لإحضار المكفول، أو شرط البراءة منه، أو ثبت موت المكفول الغائب ونحوه، أو هرب المحبوس من السجان، واذكر الدليل والتعليل والخلاف.

ج: يعتبر لصحة كفالة رضى كفيل لا مكفول به ولا مكفول له كضمان، ومتى سلم كفيل مكفولاً به لمكفول له بمحل عقد، وقد ل أجل الكفالة إن كانت الكفالة مؤجلة؛ برئ الكفيل؛ لأن الكفالة عقد على عمل، فبرئ منه بعمله كالإجارة، وسواء كان عليه فيه ضرر أو لا؛ فإن سلمه في غير محل العقد، أو غير موضع شرطه، أو لكون الدين مؤجلاً لا يمكن اقتضاؤه منه، لم يبرأ؛ لأن رب الحق قد لا يقدر على إثبات الحجة فيه لنحو غيبة شهوده، وإن سلمه، ولم يحل الأجل، ولا ضرر على مكفول له في قبض المكفول، برئ الكفيل؛ لأنه زاده خيرًا بتعجيل حقه؛ فإن كان فيه ضرر لغيبه حجته، أو لم يكن يوم مجلس الحكم، لم يبرأ الكفيل.
ومحل براءة الكفيل بتسليمه ما لم تكن هناك يد حائلة ظالمة تمنعه منه؛ فإن كانت لم يبرأ الكفيل؛ لأنه كلا تسليم. إن سلم مكفول نفسه لرب الحق بمحل عقد برئ الكفيل؛ لأن الأصيل أدى ما عليه، كما لو قضى مضمون عنه الدين، أو مات المكفول برئ الكفيل، سواء توانى الكفيل في تسليمه حتى مات أو لا، لسقوط الحضور عنه بموته، وبه قال شريح والشعبي وأبو حنيفة والشافعي.
وقيل: لا يبرأ مطلقًا، فيلزمه الدين، وهو قول الحكم والليث، واختاره الشيخ تقي الدين، ذكره عنه في «الفائق». لأن الكفيل وثيقة بحق، فإذا تعذرت من جهة من عليه الدين استوفى من الوثيقة كالرهن، ومحل الخلاف إذا لم يشترط، فإذا شرط الكفيل أنه لا شيء عليه إن مات، برئ بموته قولاً واحدًا؛ وأما إذا تلفت العين التي تكفل بدن من عنده بفعل الله تعالى قبل طلب، برئ كفيل؛ لأنه بمنزلة موت المكفول، ولا يبرأ بتلفها بعد طلبه بها، ولا بتلفها بفعل آدمي، ولا بغصبها؛ فإن تلفت بفعل آدمي، فعلى المتلف بدلها، ولو قال كفيل: إن عَجَزتُ عن إحضاره، أو: متى عَجَزت عن إحضاره، كان علي القيام بما أقر به، فقال ابن نصر الله: لم يبرأ بموت المكفول، ويلزمه ما عليه.
ولا يبرأ كفيل إن مات هو أو مات مكفوله؛ لأن الكفالة أحد نوعي الضمان، فلم تطبل بموت كفيل ولا مكفول له كضمان، وإن تعذر إحضار المكفول على الكفيل مع بقائه، أو غاب ومضى زمن يمكن رده فيه، أوعيته لإحضاره، ضمن ما عليه؛ لعموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: «الزعيم غارم»؛ ولأنها أحد نوعي الضمان، فوجب الغرم بها كالكفالة. وقال ابن عقيل: قياس المذهب لا يلزمه إن امتنع بسلطان، وألحق به معسرًا أو محبوسًا ونحوهما لاستواء المعنى، وكون الكفيل يضمن ما على المكفول به إذا لم يسلمه من «مفردات المذهب».

قال ناظمها:
إن لم يُسلِم كافلٌ من كَفَلا ... يضمن ما على الأصيل أصلاً

سواء المطلق والمؤجل ولا يضمن كفيل ما على مكفول تعذر عليه إحضاره إذا شرط البراءة من المال عند تعذر إحضاره عليه؛ لحديث: «المسلمون عند شروطهم»؛ ولأنه التزام إحضاره على هذا الوجه، فلا يلزمه غير ما التزمه، وإن ثبت موت المكفول الغائب ونحوه ببينة أو إقرار مكفول له، قبل غرم الكفيل المال، لانقطاع خبره، استرد ما غرمه كفيل لتبين براءة الكفيل بموت المكفول، فلا يستحق الأخذ منه، وإن قدر على المكفول بعد أدائه عنه ما لزمه، فقال في «شرح المنتهى»: فظاهر كلامهم أنه في رجوعه كضامن، وأنه لا يسلمه إلى المكفول له، ثم يسترد ما أداه، بخلاف مغصوب تعذر إحضاره مع بقائه لامتناع بيعه، قاله في «الفروع» اهـ.
والسجان كالكفيل، عليه إحضار الخصم؛ فإن تعذر إحضاره، ضمن ما علين، قاله الشيخ تقي الدين، واقتصر عليه في «الفروع». وقال ابن نصر الله: الأظهر أنه كالوكيل يجعل في حفظ الغريم، إن هرب منه بتفريطه، لزمه إحضاره، وإلا فلا. وقال الشيخ: وإذا لم يكن الوالد ضامنًا لولده؛ ولا له عنده مال، لم يجز لمن له على الولد حق أن يطالب والده بما عليه؛ لكن إن أمكن الوالد معاونة صاحب على إحضاره ولده بالتعريف بمكانه ونحوه، لزمه التعريف بمكانه ونحوه؛ لأن من قبيل نصحه له.

إذا طالب كفيل مكفولاً به أن يحضره معه
س94: تكلم بوضوح عما يلي: إذا طالب كفيل مكفولاً به أن يحضره معه، أو ضامن مضمونًا بتخليصه. من كفله اثنان، فسلمه أحدهما أو سلم نفسه. إذا كفل كل واحد من الكفيلين الآخر، فأحضر المكفول به. من كفل الاثنين، فأبرأه أحدهما من الكفالة، أو كفل الكفيل آخر والآخر آخر. أو ضمن اثنان واحدًا، وقال كل لرب الحق: ضمنت لك الدين، أو قالاك ضمنا لك الدين، أو قال شخص لآخر: اضمن فلانًا، أو قال: اكفل فلانًا، أو: اضمن عن فلان، أو اكفل عنه، ففعل فما حكم ذلك؟

ج: إذا طالب كفيل مكفولاً به أن يحضر معه ليسلمه لغريمه ويبرأ منه، لزمه الحضور بشرطه، أو طالب ضامن مضمونًا بتخليصه من ضمانه بتوفية الحق إلى ربه، لزمه إن كفل أو ضمن بإذن المكفول أو المضمون، وطولب كفيل وضامن بذلك؛ لأنه شغل ذمته من أجله بإذنه، فلزمه تخليصها، كما لو استعار عبده فرهنه بإذنه، ثم طلبه سيده بفكه، ويكفي في لزوم الحضور في مسألته الكفالة الإذن أو مطالبة رب الدين الكفيل؛ أما مع الإذن فلما تقدم؛ وأما مع المطالبة فلأن حضور المكفول حق للمكفول له، وقد استناب الكفيل في ذلك بمطالبته به، أشبه ما لو صرح بالوكالة.
ومن كفله اثنان معًا أولاً، فسلمه أحدهما، ولم يبرأ الآخر بذلك؛ لأن إحدى الوثيقتين انحلت من غير استيفاء، فلا تنحل الأخرى، كما لو أبرأ أحدهما، أو انفك أحد الرهنين بلا قضاء. وإن سلم مكفول نفسه برئ هو ومن تكفل به من الكفيلين؛ لأدائه ما عليهما، كما لو سلم من تكفل به دون الكفيل الثاني وكفيله.
وإن تكفل ثلاثة بواحد، وكل منهم كفيل بصاحبه، صح، ومتى سلمه أحدهم، برئ هو وصاحباه من كفالتهما به خاصة؛ لأنه أصل لهما وهما فرعان ويبقى على كل واحد منهما الكفالة بالمدين؛ لأنهما أصلان فيها. ومن كفل لاثنين فأبرأه أحدهما من الكفالة، وسلم المكفول به لأحدهما، لم يبرأ الآخر، لبقاء حقه، كما لو ضمن دينًا لاثنين، فوفى أحدهما، وإن كفل الكفيل شخص آخر، وكفل الآخر آخر، وهكذا برئ كل من الكفلاء ببراءة من قبله، فيبرأ الثاني ببراءة الأول، والثالث ببراءة الثاني، وهكذا لأنه فرعه ولا عكس، فلا يبرأ واحد ببراءة من بعده؛ لأنه أصله كضمان. ومتى سلم أحدهم المكفول برئ الجميع؛ لأن أدى ما عليهم، كما لو سلم مكفول به نفسه.
ولو ضمن اثنان واحدًا في مال، وقال كل لرب الحق: ضمنت لك الدين، فهو ضمان اشتراك في التزام في انفراد بالطلب، فكل واحد منهما ضامن لجميع الدين على إنفراده، فلرب الدين طلب كل منهما بالدين كله لالتزامه به، وإن قال الاثنان: ضمنا لك الدين، فهو بينهما بالحصص على كل منهما نصف، وإن كانوا ثلاثة، فعلى كل واحد ثلث.
وإن قال أحدهم: أنا وهذان ضامنون لك الألف مثلاً، فسكت الآخران، فعليه ثلث الألف، ولا شيء عليهما، أو قال شخص لآخر: اضمن فلانًا، أو قال: اكفل فلانًا، أو اضمن عن فلان، أو اكفل عنه ففعل، لزم الضمان أو الكفالة المباشر لا الآمر؛ لأنه كفيل باختيار نفسه، وإنما الآمر للإرشاد فلا يلزمه به شيء.

من النظم فيما يتعلق بالكفالة
وإن يلتزم إحضار مضمون أعين ... ومديونها يلزم وقيل إذا قد
وإن صح لم يلزمه معكم الحضور بل ... متى تدعي أو يأذن الزمه واطهد
ومن فيه حدُّ أو قصاص فلا تجز ... كفالته أو مبهم العين تعتدي
وإن كان عن مال الديات وأخذها ... عليه من الأموال من سُرَّق طد
وكافل وجه الشخص كافله كذا ... سوى الوجه أو جزءٍ سيتبع بأجود
ومن قال أبرئ ذا الكفيل وما به ... تكفَّل عن زيد عليَّ به اشهد
فوجهان في تصحيحه وفساده ... وتعليق ذا بالشرط والوقت جود
كذلك تعليق الضمان وقيل لا ... تجز بسوى أسباب حق مؤكد
وأفسده القاضي وصحح مطلقًا ... أبو جعفر والكلوذانيُّ فاقتد
ومن قال إني كافل لك خالدًا ... متى لم أسلمه كفلت بمَخْلَدِ
وإني ضمنينٌ ما على مَخْلَد ... فصحح والزم فيهما في المجود
وتبرأ مما قد كفلت به متى ... تسلَّمه ذو الحق دون تقيد
وألزمه بالقاضي السليم وإن أبى ... وأشهد لفقد القاضي تبرأ وترشد
ولو جاءه من نفسه قبل وقته ... وإن ضر قبل الوقت لم يجبر اشهد
كذا بتلاف العين من فعل ربنا ... وموت الفتى المكفول تبرأ بأوطد
ولابد من تعيين وقت حضوره ... وكالسلم احكم في المكان تسدد
وإن عينا عند الكفالة موضعًا ... تعين وإلا موضع العقد أورد
ويبرئه التسليم في كل موضع ... به حاكم مع شاهديه بأجود
وإن يتعذر مع بقاء حضوره ... أو اجتاز وقتًا عيناه لِينْقُد
المبقَّى على المكفول أو قيمة الذي ... كفلت من الأعيان لما يصرد
كذا إن مضى وقت يوافيك رده ... ولم تشترط منه البراءة فارفد
فإن يرددن العين بعد ضمانها ... ليرجع إليه ماله ويردد
ومن يَشْتَرِطْ وقْتَ التَّكَفٌّل بَراءَةً ... مِن المالِ يَبْرأ مُطلقًا لا تَرَدَّدِ
ومَن يكتَفِلْ بالنفس والمال إن يَمُتْ ... غريمٌ بَري منه وللمال فليد
ومن كفل الشخصين أو كفلاه إن ... بري من فتى تبقى كفالة مفرد
وبعد لزوم الحق إن مات كافل ... فدين وقيل إن مات يبرأ فَقَيُدِ
وليس بإقرار يقبض برئت يا ... كفيل العلى مما كفلت بأجود
وإن قلت قد أبرأته من كفالتي ... بري هو ولم تقرر بغير تردد
ومن قال عن ذا اضمن أو أقرضه ألفًا أو ... تكفل به لا عَيَّنَ الفاعل افرد

باب الحوالة
س95: ما معنى الحوالة لغةً واصطلاحًا؟ ومن أين اشتقاقها؟ ولم أتبعها الفقهاء بالضمان؟ وبأي شيء ثبتت، وهل هي بيع؟ فإن قلت: لا فما وجه ذلك؟ وما هي الألفاظ التي تنعقد بها؟ وما مقتضاها؟ وما شروطها؟ وما أركانها؟ وما الذي تصح عليه، والذي لا تصح عليه؟ وضحهما باستقصاء، واذكر الدليل والتعليل والتفصيل، ومثل لما يحتاج إلى تمثيل.

ج: الحوالة -بفتح الحاء وكسرها-: مأخوذة من التحول، يقال: حول الشيء من مكانه: نقله منه إلى مكان آخر، وحول وجهه: لفته، وقال في «المغني»: واشتقاقها من تحويل الحق من ذمة إلى ذمة. اهـ.
ولما كان الضمان والحوالة متشابهين، لما بينهما من حمالة الدين، اعقبَ بها، وهي ثابتة بالسُّنة والإجماع، فمنها ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَطل الغني ظلم، وإذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع»، وفي لفظ: «من أحيل بحقه على مليء فليحتل» وهي عقد إرفاق منفرد بنفسه، ليس محولاً على غيره ولا خيار فيها، وليست بيعًا؛ لأنها لو كانت بيعًا لكانت بيع دين بدين، ولما جاز التفرق قبل القبض؛ لأنها بيع مال بجنسه، ولجازت بلفظ البيع، وبين جنسين كالبيع كله؛ ولأن لفظها يشعر بالتحول، وليست بمعنى البيع، لعدم العين فيها، بل الحوالة: انتقال مال من ذمة إلى ذمة.
والألفاظ التي تنعقد بها لفظ الحوالة كأحلتك بدينك، أو بمعناها الخاص، كأتبعتك بدينك على زيد ونحوه، ومقتضى إلزام المحال عليه بالدين مطلقًا، وشُرِط لحوالة خمسة شروط:
أحدها: رضى محيل؛ أن الحق عليه، فلا يلزمه أداؤه من جهة الدين على المحال عليه.
والثاني: إمكان المقاصة، بأن يتفق الحقان جنسًا وصفة، وحلولاً وأجلاً وقدرًا، فلا تصح بدنانير على دراهم، ولا بصحاح على مكسرة، ولا بحال على مؤجل، ولا مع اختلاف أجل؛ لأنها عقد إرفاق كالقرض، فلو جوزت مع الاختلاف لصار المطلوب منها الفضل فتخرج عن موضوعها.
والثالث: علم المال المحال به وعليه لاعتبار التسليم، والجهالة تمنع منه.
والرابع: استقرار المحال عليه، كبدل قرض، وثمن مبيع بعد لزوم بيع؛ أن غير المستقر عرضة للسقوط. ومقتضى الحوالة إلزام المحال عليه بالدين مطلقًا، فلا تصح على مال سلم، أو على رأس مال سلم بعد فسخ؛ لأنه لا مقاصة فيه، وتقدم الكلام في «باب السلم».
ولا تصح على صداق قبل دخول ونحوه مما يقر الصداق، لعدم استقراره، ولا تصح الحوالة على مال كتابة؛ لأنه ليس بمستقر، ولا على أجرة قبل استيفاء منفعة فيما إذا كانت الإجارة لعمل، أو قبل فراغ مدة إن كانت الإجارة إلى مدة، لعدم استقرارها.
ولا تصح الحوالة على ثمن مبيع على مشتر في مدة خيار مجلس أو شرط، ولا تصح الحوالة على عين من نحو وديعة، ولا استحقاق في وقف أو على ناظره، أو على ناظر بيت المال، لعدم الاستقرار في كُلٍّ، فلو أحال ناظر وقف ونحوه بعض المستحقين في الوقف على جهة من جهات الوقف، لم تصح الحوالة؛ لكن ذلك وكالة كالحوالة على ماله في الديوان، وتصح إن أحال مكاتب سيده بمال كتابته، أو أحال زوج امرأته بصداقها قبل دخول على مستقر؛ لأنه لا يشترط استقرار محال به. ولا تصح الحوالة بجزية على مسلم أو ذمي، لفوات الصغار عن المحيل، ولا تصح الحوالة عليها لذلك، ولا يصح أن يحيل ولدٌ على أبيه إلا برضى الأب؛ لأنه لا يملك طلب أبيه.
قال في «الاختيارات الفقهية»: وليس للابن أن يحيل على الأب، ولا يبيع دينه إذا جوزنا بيع ما على الغريم إلا برضى الأب. اهـ. ولا يلزم رب الدين أن يحتال على والد المحيل، وتصح الحولة على الضامن.
والخامس: كون المحال عليه يصح السلم فيه من مثلي، كمكيل وموزون لا صناعة فيه، غير جوهر وغيره، وغير المثلي كمعدود ومذروع ينضبطان بالصفة، فتصح الحوالة بإبل الدية على إبل القرض إن قي: يرد فيه المثل، وإن قلنا: يرد القيمة، فلا؛ لاختلاف الجنس، وإن كان بالعكس لم تصح مطلقًا. ذكر معناه في «المغني» و«الشرح» و«المبدع»، قاله في «شرح المنتهى».

قال العمريطي ناظمًا لشروط الحوالة
وجوزن حوالة الإنسان ... غريمه على غريم ثان
بكل دين لازم معلوم ... لا الإبل في الديات والنجوم
والشرط أن يرضى به المحيل ... ومن محال يوجد القبول
كذا اتفاق الجنس في دينهما ... والنوع والأوصاف مع قدريهما
كذلك الحلول والتأجيل ... وحيث صحت يبرأ المحيل
ودينه الذي على المحال ... عليه صار الآن للمحال

حكم رضى محال عليه ومحتال ومن ظنه مليئًا فبان مفلسًا
س96: تكلم بوضوح عما يلي: استقرار محال به. رضى محال لا رضى محال عليه، رضى محتا، ومتى يبرأ المحيل. إذا أفلس محال عليه، أو جحد الحوالة، أو مات. من هو المليء إذا ظنه مليئًا فبان ملفسًا، أو جهل حاله إذا رضيا بدفع خير من المحال به، أو بأخذ دونه أو بتعجيل أو تأجيل، أو بعوضه فما الحكم؟ ووضح ما يحتاج إلى تمثيل أو تفصيل، واذكر الدليل والتعليل والخلاف.

ج: لا يشترط استقرار محال به، فتصح بجعل قبل عمل؛ لأن الحوالة بمنزلة وفائه، ويصح الوفاء قبل الاستقرار، و لا يعتبر رضى المحال عليه، ولا رضى المحتال إن كان المحال عليه مليئًا؛ أما كونه لا يعتبر رضى المحال عليه، فلأن للمحيل أن يستوفي الحق بنفسه وبوكيله، وقد أقام المحتال مقام نفسه في القبض، فلزم المحال عليه الدفع إليه كالوكيل؛ وأما المحتال على مليء، فلحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- يرفعه: «مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع» متفق عليه.
وفي لفظ: «من أحيل بحقه على مليء فليحتل»؛ ولأن للمحيل وفاء ما عليه من الحق بنفسه وبمن يقوم مقامه، وقد أقام المحال عليه مقام نفسه في التقبيض، فلزم المحتال القبول كما لو وكل رجلاً في إيفائه، وفارق إعطاء عرض عما في ذمته؛ لأنه غير ما وجب له. وقال أبو حنيفة: يعتبر رضاهما؛ لأنه معاوضة فيعتبر الرضى من المتعاقدين. وقال مالك والشافعي: يعتبر رضى المحتال؛ لأن حقه في ذمة المحيل، فلا يجوز نقله إلى غيرها بغير رضاه، كما لا يجوز أن يجبره على أن يأخذ بالدين عوضًا؛ فأما المحال عليه، فقال مالك: لا يعتبر رضاه إلا أن يكون المحتال عدوه.
وإن كان المحال عليه مفلسًا، ولم يكن المحتال راضيًا بالحوالة عليه، رجع بدينه على المحيل؛ لأن الفلس عيب، ولم يرض به فاستحق الرجوع كالمبيع المعيب؛ فإن رضي بالحوالة عليه، فلا رجوع له إن لم يشترط الملاءة، لتفريطه. والمليء: هو القادر بماله، وقوله، وبدنه.
فماله: القدرة على الوفاء، وقوله: أن لا يكون مماطلاً، وبدنه: إمكان حضوره إلى مجلس الحكم، فلا يلزم رب الدين أن يحتال على والده؛ لأنه لا يمكنه إحضاره إلى مجلس الحكم؛ وأما الصحة، فيصح إذا رضى؛ لأن دينه يثبت في ذمة أبيه. وإن ظن المحتال المحال عليه مليئًا أو جهله فلم يدر أمليء أم لا، فبان مفلسًا وكان رضى، فقيل: لا يرجع؛ لأنه رضي بدون حقه، ويحتمل أن يرجع، وهو رواية عن الإمام أحمد؛ لأن الفلس عيب في الذمة، فأشبه ما لو اشترى شيئًا يظنه سليمًا، فبان معيبًا. وهذا فيما أرى أنه أقوى من الأول، والله أعلم.
وإذا صحت الحوالة باجتماع شروطها نقلت الحق المحال به إلى ذمة المحال عليه، وبرئ المحيل بمجرد الحوالة. قال الموفق وغيره: في قول عامة أهل العلم. ومتى لم يكن المحال عليه قادرًا بماله وقوله وبدنه، لم يلزم الاحتيال عليه، لما في ذلك من الضرر على المحال، والنبي -صلى الله عليه وسلم- إنما أمر بقبولها على المليء.
ومتى صحت فرضي المحتال والمحال عليه بدفع خير من المحال به بالصفة، أو رضيا بأخذ دونه في الصفة والقدر، أو رضيا بتعجيل المؤجل، أو رضيا بتأجيله وهو حال، جاز أو رضيا بعوضه جاز ذلك؛ لأن الحق لهما؛ لكن إن جرى بين العوضين رباء نسيئة، بأن عوضه عن موزون موزونًا، أو مكيل مكيلاً، اشترط القبض بمجلس التعويض.



المجلد الرابع 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 9:11 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المجلد الرابع Empty
مُساهمةموضوع: رد: المجلد الرابع   المجلد الرابع Emptyالثلاثاء 24 نوفمبر 2015, 5:53 pm

حكم ما إذا بطل بيع وقد أحيل بائع أو أحال بالثمن
س97: إذا بطل بيع وقد أحيل بائع، أو أحال بالثمن، أو انفسخ البيع، أو أحال بائع المشتري على من أحاله عليه، أو أحال مشتر محالاً عليه، أو اتفقا على قول مدين لرب دين: أحلتك على زيد، أو: أحلتك بديني على زيد، أو ادعى أحدهما إرادة الوكالة، وادعى الآخر إرادة الحوالة أو اتفقا على قول مدين لرب الدين: أحلتك بدينك، وادعى أحدهما إرادة الحوالة، والآخر إرادة الوكالة، فما حكم ذلك؟ واذكر الدليل والتعليل؟

ج: إذا بطل بيع كأن بان مبيع مستحقًا أو حرًا، وقد أحيل بائع بالثمن، أي: أحاله مشتر به على من له عنده دين مماثل له، بطلت أو أحال بائع مدينًا له على المشتري بالثمن، بطلت الحوالة؛ لأنا تبينا أن لا ثمن على المشتري لبطلان البيع، فيرجع مشتر على من كان دينه عليه في الأولى، وعلى المحال عليه في الثانية لا على البائع، لبقاء الحق على ما كان بإلغاء الحوالة، ويعتبر ثبوت ذلك ببينة أو اتفاقهم؛ فإن اتفقا على حرية العبد، وكذبهما محتال، لم يقبل قولهما عليه، ولا تسمع بينتهما؛ لأنهما كذباها بالدخول في التبايع، وإن أقامها العبد قلت وبطلت الحوالة، وإن صدقهما المحتال، وادعى أنها بغير ثمن العبد، فقوله بيمينه، وإن أقر المحيل والمحتال، وكذبهما المحال عليه، لم يقبل قولهما عليه، وتبطل الحوالة، وإن اعترف المحتال والمحال عليه، عتق، لاعتراف من هو بيده بحريته، وبطلت الحوالة بالنسبة إليهما، ولا رجوع للمحتال على المحيل؛ لأن دخوله معه في الحوالة اعتراف ببراءته، ولا تبطل الحوالة إن فسخ البيع بعد أن أحيل بائع، أو أحال بالثمن على أي وجه الفسخ بعيب، أو تقايل أو غيرهما، وإن لم يقبض المحتال الثمن؛ لأن البيع لم يرتفع من أصله، فلا يسقط الثمن. ولمشتر الرجوع على بائع فيهما؛ لأنه لما رد المعوض استحق الرجوع بالعوض، وقد تعذر الرجوع في عينه، للزوم الحوالة، فوجب بدله، وكذا نكاح فسخ وقد أحيلت الزوجة بالمهر، وكذا نحو كإجارة فسخت وقد أحيل مؤجر، أو أحال بأجرة، ولبائع أحيل بثمن ثم فسخ البيع، أن يحيل المشتري بالثمن الذي عاد إليه بالفسخ على من أحاله المشتري عليه في المسألة الأولى، لثبوت دينه على من أحاله المشتري عليه أشبه سائر الديون المستقرة. ولمشتر أن يحيل محالاً عليه من قبل بائع على بائع في المسألة الثانية، وهي ما إذا كان البائع أحال المشتري بالثمن، لاستقرار الدين عليه كما تقدم. وإن اتفق رب دين ومدين على قول مدين لرب دين: أحلتك على زيد، أو على قوله له: أحلتك بديني على زيد، وادعى أحدهما إرادة الوكالة، وادعى الآخر إرادة الحوالة، صدق مدعي إرادة الوكالة بيمينه؛ لأن الأصل بقاء الدين على كل من المحيل والمحال عليه، ومدعي الحوالة يدعي نقله، ومدعي الوكالة ينكره، ولا موضع للبينة هنا؛ لأن الاختلاف في النية. وإن اتفقا على قول مدين لرب الدين: أحلتك بدينك، وادعى أحدهما إرادة الحوالة، والآخر إرادة الوكالة، فقول مدعي الحوالة؛ لأن الحوالة بدينه لا تحتمل الوكالة، فلا يقبل قول مدعيها.

إذا اختلفا في لفظ الحوالة هل جرى بينهما
س98: إذا قال زيد لعمرو: أحلتني بديني على بكر، واختلف زيد وعمرو: هل جرى بينهما لفظ الحوالة أو غيره، فمن المصدق منهما. وما الذي يترتب على ذلك؟ وهل يحلف المصدق منهما ومن مال من التالف بيد أحدهما؟ وإذا قال عمرو لزيد مثلاً: أحلتك، وقال زيد: وكلتني، فمن المصدق منهما؟ وما حكم الحوالة من المدين على ماله في الديوان، وإحالة من لا دين عليه شخصًا على من دينُه عليه، ومن لا دين عليه على من لا دين عليه؟ وما الذي يترتب على ذلك؟ واذكر الدليل والتعليل.

ج: إذا قال زيد لعمرو: أحلتني بديني على بكر، واختلف زيد وعمرو: هل جرى بينهما لفظ الحوالة أو غيره كالوكالة بأن قال زيد: أحلتني، بلفظ الحوالة، وقال عمرو: وكلتك بلفظ الوكالة؛ فإن كان لأحدهما بينة عمل بها؛ لأن الاختلاف هنا في اللفظ، وإن لم يكن لأحدهما بينة صدِّق عمرو بيمينه؛ لأنه يدعي بقاء الحق على ما كان، وهو الأصل، فلا يقبض زيد من بكر لعزله نفسه بإنكار الوكالة، وما قبضه زيد من بكر قَبْلُ، وهو المقبوض، قائم لم يتلف، لعمرو أخذه من زيد؛ لأنه وكيله فيه، والتالف بيد زيد مما قبضه من بكر بلا تفريق ما مال عمرو، لدعواه أنه وكيله، ولزيد طلب عمرو بدينه عليه لاعترافه ببقائه في ذمته بإنكاره الحوالة، وإن قال عمرو لزيد مثلاً: أحلتك بلفظ الحوالة، وقال زيد: وكلتني في قبضه بلفظ الوكالة، ولا بينة لأحدهما، صدق زيد بيمينه لما تقدم، ولزيد القبض؛ لأنه إما وكيل وإما محتال؛ فإن قبض منه بقدر ماله على عمرو فأقل قبل أخذ دينه، فله أخذه لنفسه لقول عمرو: هو لك، وقول زيد: هو أمانة في يدي، ولي مثله على عمرو، فإذا أخذه لنفسه حصل غرضه، وإن كان زيد قبضه وأتلفه، أو تلف في يده بتفريطه سقط حقه وبلا تفريط، فالتالف من عمرو، ولزيد طلبه بحقه، وليس لعمرو الرجوع على بكر لاعترافه ببراءته، والحوالة من مدينٍ على ماله في الديوان، أو في الناظر للمستحق على ما في الوقف إذن له في الاستيفاء فقط لا حوالة حقيقة؛ لأن الحوالة إنما تكون على ذمة، فلا تصح بمال الوقف ولا عليه حينئذ، فللمحتال بذلك طلب محيله بحقه؛ لأنه لم يبرأ منه بوفاء ولا إبراء ولا حوالة صحيحة، وإحالة من لا دين عليه شخصًا على من دينه عليه وكالة في الاستيفاء، ولو جرت بلفظ الحوالة، إذ ليس فيها تحويل حق من ذمة إلى ذمة، وإنما جازت الوكالة بلفظ الحوالة لاشتراكهما في المعنى، وهو استحقاق الوكيل مطالبة من عليه الدين كاستحقاق المحتال مطالبة المحال عليه، وتثبت فيها أحكام الوكالة من عزل الوكيل بموت الموكل وعزله ونحوه، وإحالة من لا دين عليه على مثله، أي: من لا دين عليه وكالة في اقتراض، وكذا إحالة مدين على بريء وكالة في اقتراض، فلا يصارفه المحتال؛ لأنه وكيل في الاقتراض لا في المصارفة. ومن طالب مدينه فقال: أحلت علي فلانًا الغائب، وأنكره الدائن، فقوله، ويعمل بالبينة.

من نظم ابن عبد القوي فيما يتعلق بالحوالة
ومعلوم دين مسقر بأجود ... يصح السلم فيه على مثله قد
ومن يرتضي لما أحيل بحقه ... على من عليه مثل دين الفتى اشهد
بأن ذمة المرء المحيل بريئة ... من الحق في طول الزمان المؤبد
بشرط اتفاق الجنس والوصف والنساء ... كذاك حلول فيهما اشرط وأكد
مَتَى لم يبن إفلاسُ مَن قَد شَرَطتَهُ ... مليًا فلا يبرا فإن شئت فاردد
ووجهين في راض لجهل بعسرة ... ومن ظنَّ ذا الإعسار ذا يسرة طد
ولا يجبرن إلا على ذي ملاءة ... بمل وقول ومع حضور لمقصد
وبيرا بها من قبل إجبار حاكم ... محالاً على المشهور من نص أحمد
وليس رضى المرء المحال عليه في ... الْحَوالة شرطًا عند كل مسدد
وشرط يقرر ما أحيل عليه لا ... به غير ما أسلمت فيه ليفرد
وإن يحل المبتاع وقت الخيار والْمكاتب ... أو عرس قبيل التأطد
بمهر وأثمان ودين كتابة ... يصح في الأقوى لا عليها بل اصدد
وإن يحل أو يحتلْ بأثمان مشترٍ ... عليك فيظهر مستحقًا فأفسد
وإن ترددن بالعيب أو بمجوز ... ولم تقتض الأثمان وجهين أورد
كذا كل دين قد أحلت به ولم ... يَكن مستقرًا بعد فسخ ليعدد
وأبطلها القاضي به لا عليه بل ... إذا فيهما صحت فللبائع امهدِ
إذا اختار يومًا أن يحيل محيله ... على من عليه قد أحيل فأرشدِ
وللمشتري حقًا إحالة متبع ... عليه على المرء المحيل فقَيِّدِ
ومَن قال قبضي المال قبض حوالة ... فقال غريم بل وكالة مسعد
وبالعكس فاقبل قول ثاني حوالة ... وإن عينا لفظ الحوالة فاشهد
إذا قال شخص قد أريدت وكالة ... بهذا ففي المقبول وجهين أسند
وإن قال في ذا قد أحلت بدينه ... فذاك حوالة بغير تردد
وقل بيع أو عقد لرق حوالة ... فوجهان في تخيير مجلس معقد

باب الصلح
س99: ما معنى الصلح لغةً واصطلاحًا؟ وما هي أقسامه؟وبأي شيء ثبت؟ وما حكمه؟ وما حكم الصلح بلفظ الصلح، أو بشرط أن يعطيه الباقي، أو يمنعه حقه بدونه، أو ممن لا يصح تبرعه، أو مما ادعى على مولاه؟ واذكر الدليل والتعليل والخلاف والتفصيل.

ج: الصلح لغةً: التوفيق والسَّلْم، أي: قطع المنازعة.
واصطلاحًا: معاقدة يتوصل بها إلى موافقة بين مختلفين، أي متخاصمين. وهو ثابت بالكتاب والسُّنة والإجماع. قال الله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} [الحجرات: 9]، وقال: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]، وقال: {وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 120]، وقال: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 114].
وللترمذي وغيره، وصححه: قال: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة!؟» قلنا: بلى، قال: «إصلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين الحالقة»، وقال لأبي أيوب: «ألا أدلك على تجارة؟» قال: بلى، قال: «تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا». وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا حرم حلالاً، أو أحل حرامًا» رواه أبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح، وصححه الحاكم. وأجمعوا على جوازه لما تقدم.
والصلح خمسة أنواع:
أحدها: يكون بين مسلمين وأهل حرب وتقدمت أقسامه في الجهاد. والثاني: بين زوجين خيف شقاق بينهما، أو خافت الزوجة إعراض زوجها عنها، ويأتي إن شاء الله تعالى في عشرة النساء. والثالث: بين أهل عدل وأهل بغي، ويأتي إن شاء الله في قتال أهل البغى. والرابع: بين متخاصمين في غير مال. والخامس: بين متخاصمين في المال، وهو المقصود بالباب.
والصلح في الأموال قسمان: صلح على إقرار، وصلح على إنكار. والصلح على الإقرار نوعان: نوع يقع على جنس الحق، مثل أن يقر جائز التصرف لمن يصح تبرعه بدين معلوم، أو يقر له بعين بيده، فيضع المقر له عن المقر بعض الدين، كنصفه أو ثلثه أو ربعه، أو يهب له البعض من العين المقر بها، ويأخذ المقر له الباقي من الدين أو العين، فيصح ذلك؛ لأنه جائز التصرف لا يمنع من إسقاط بعض حقه أوهبته، كما لا يمنع من استيفائه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد كلم غرماء جابر ليضعوا عنه، وفي الذي أصيب في حديقته، فمر به النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو ملزوم فأشار إلى غرمائه بالنصف، فأخذوه منه، وقد روى عبد الله ابن كعب عن أبيه أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينًا كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فخرج إليهما، ثم نادى: «يا كعب!» فقال: لبيك يا رسول الله، فأشار إليه أن ضع الشطر من دينك، قال: قد فعلت، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «قم فأعطه» متفق عليه. ومحل صحة الإسقاط ونحوه أن لا يمنع من عليه الحق ربه بدون الإسقاط ونحوه؛ أن منعه أكل المال الغير بالباطل، إلا إن أنكر من عليه الحق ولا بينة؛ فإنه يصح الصلح مما ذكر ونحوه، ومتى اصطلحا، ثم ظهرت بينة؛ فاختار الشيخ نقض الصلح؛ لأنه إنما صالح مكرهًا في الحقيقة، إذ لو علم البينة لم يسمح بشيء من حقه، ولا يصح بلفظ الصلح؛ لأنه هضم للحق، وهذا المشهور، وهو من المفردات.

قال ناظمها:
من قال صالحني بلفظ الصلح ... فلا تصح فانتبه للشرح

وعنه: يصح بلفظ الصلح، وهو ظاهر ما في «الموجز» و«التبصرة» واختاره ابن البنا في «خصاله» قال في «شرح الإقناع»: وبالجملة فقد منع الخرقي وابن أبي موسى الصلح على الإقرار، وأباه الأكثر، فعلى الأولى إن وفاه من جنس حقه فهو وفاء، ومن غير جنسه معاوضة وإن أبرأه من بعضه فهو إبراء، وإن وهبه بعض العين فهو هبة، ولا يسمى صلحًا، فالخلاف إذن في التسمية، قاله في «المغني» و«الشرح»؛ وأما المعنى فمتفق عليه. اهـ. ولا يصح إن كان بشرط، مثل أن يقول: أبرأتك، أو: وهبتك على أن تعطيني الباقي، وإن لم يذكر لفظ الشرط، ولا يصح الصلح ممن لا يصح تبرعه، كمكاتب وقن مأذون له في تجارة، وولي نحو صغير وسفيه وناظر وقف؛ لأنه تبرع، وهم لا يملكونه إلا إن أنكر من عليه الحق ولا بينة لمدعيه، فيصح؛ لأن استيفاء البعض عند العجز عن استيفاء الكل أولى من الترك، ويصح الصلح من ولي ويجوز له على ما ادعى من دين أو عين وبه بينة، فيدفع البعض ويقع الإبراء أو الهبة في الباقي؛ لأنه مصلحة؛ فإن لم تكن به بينة لم يصالح عنه.

الصلح عن المؤجل ببعضه حالاً
س100: تكلم بوضوح عما يلي: الصلح عن المؤجل ببعضه حالاً. إذا وضع رب الدين بعض دين حال وأجل باقيه. الصلح عن حق كدية خطأ أو شبه عمدًا أو قيمة متلف بأكثر من حقه. الصلح عن متلف مثلي بأكثر من قيمته، أو عن مثلي بعرض أكثر فيهما. إذا صالح عن بيت أقر به على بعضه أو على سكناه، أو على بناء غرفة له فوقه، أو ادعى رق مكلف أو زوجية مكلفة. إذا بذل المدعي عليه العبودية والمدعى عليه الزوجية مالاً للمدعي صلحًا عن دعواه، أو بذلت امرأة مالاً لمبينها ليقر لها ببينونتها. واذكر الدليل والتعليل، والتفصيل والخلاف؟

ج: لا يصح الصلح عن دين مؤجل ببعضه حالاً؛ لأن المحطوط عوض عن التعجيل، ولا يجوز بيع الحلول والأجل، هذا المذهب وكره ذلك زيد بن ثابت وابن عمر - رضي الله عنهما - ، وقال: نهى عم رأن يباع العين بالدين، وكره ذلك سعيد بن المسيب والقاسم وسالم والحسن ومالك والشافعي والثوري وابن عيينة وأبو حنيفة وإسحاق، وفي «الإرشاد» و«المبهج» رواية: يصح، واختاره الشيخ تقي الدين –رحمه الله تعالى- وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وابن سيرين والنخعي أنه لا بأس به، وهذا القول هو الذي يترجح عندي ومما يؤيده ما روى البيهقي والطبراني عن ابن عباس قال: لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإخراج بني النضير من المدينة أتاه ناس منهم، فقالوا: إن لنا ديونًا لم تحل، فقال: «ضعوا وتعجلوا» ولأن في ذلك مصلحة للقاضي والمقتضي، فقد يحتاج من عليه الحق إلى الوفاء قبل حلوله، وقد يحتاج صاحب الحق إلى حقه لعذر من الأعذار، وفي تجويز هذا مصلحة.
وعن الحسن وابن سيرين أنهما كانا لا يريان بأسًا بالعروض أن يأخذها من حقه قبل محله؛ لأنهما تبايعا العروض بما في الذمة، فصح كما اشتراها بثمن مثلها، ويصح في دين كتابة إذا عجل المكاتب البعض وأبرأه السيد؛ لأن الربا لا يجري بين المكاتب وسيده في دين الكتابة، وإن وضع رب دين بعض دين حال، وأجل باقيه، صح الإسقاط دون التأجيل؛ لأن الحال لا يتأجل، ولأنه وعده، فلا يلزم الوفاء به. قال في «الإنصاف»: وذكر الشيخ تقي الدين رواية بتأجيل الحال في المعاوضة لا التبرع، قال: واعلم أن أكثر الأصحاب، قالوا: لا يصح الصلح في هذه المسألة، وصححه في «الهداية» و«المذهب» و«المستوعب» و«الخلاصة» وغيرهم، وجزم به في «الكافي» وغيره.

وقدمه ناظم «المفردات»، فقال:
والدين إن يوصف بالحلول ... فالصلح لا يصح في المنقول
عليه بالبعض مع التأجيل ... رجحه الجمهور بالدليل
وقال بالجزم به في الكافي ... وفصل المقنع للخلاف
فصحح الإسقاط دون الأجل ... وذاك نص الشافعي ينجلي

مثال لما تقدم:
لو كان عليه مائة حالة أبرأه منها بخمسين مؤجلة، وكذا لو صالحه عن مائة صحاح بخمسين مكسرة، وهو إبراء في الخمسين، ووعد في الأخرى، وقال ابن القيم –رحمه الله-: يصح الإسقاط والتأجيل، وهو الصواب بناء على تأجيل القرض والعارية، وهو مذهب أهل المدينة، واختاره شيخنا، وقال: وإن صالحه ببعضه حالاً مع الإقرار والإنكار، جاز، وهو قول ابن عباس وإحدى الروايتين عن أحمد، واختاره شيخنا؛ فإن هذا عكس الربا؛ فإن الربا يتضمن الزيادة في أخذ الموضعين في مقابلة الأجل، وهذا يتضمن براءة ذمته من بعض العوض في مقابلة سقوط الأجل، فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل، فانتفع به كل منهما، ولم يكن هنا ربا لا حقيقة ولا لغة ولا عرفًا، والذين حرموا ذلك إنما قاسوه على الربا، ولا يخفى الفرق الواضح بينهما. اهـ.
ولا يصح الصلح عن حق كدية خطأ، أو شبه عمد لا قود فيه، كجائفة ومأمومة، أو قيمة متلف غير مثلي، كمعدود، ومزروع بأكثر من حقه المصالح عنه من جنسه؛ لأن الدية والقيمة تثبت في الذمة بقدره، فالزائد لا مقابلة له، فيكون حرامًا؛ لأنه من أكل المال بالباطل كالثابت عن قرض.
ويصح الصلح عن متلف مثلي كبر بأكبر من قيمته من أحد النقدين، ويصح الصلح عن حق كدية خطأ، وقيمة متلف، وعن مثلي بعرض قيمته أكثر من الدية، وقيمة المتلف والمثلي في المسألتين؛ لأنه لا ربا بين العوض والمعوض عنه، فصح كما لو باعه ما يساوي عشرة بدرهم، وإذا ادعى على رجل بيتًا، فصالحه على بعضه، أو على أن يبني له فوقه غرفة، أو على أن يسكنه مدة معلومة كسنة كذا، أو مجهولة، كأن يصالحه على مدة عيشه، أي: عمره، لم يصح الصلح؛ لأنه صالحه عن ملكه على ملكه، أو على منفعة مالكه؛ فإن فعلى على سبيل المصالحة معتقدًا أنه وجب بالصلح، رجع عليه بأجرة ما سكن، أو أخذه من البيت؛ لأنه أخذه بعقد فاسد، وإن بنى فوق البيت غرفة، أجبر على نقضها، وإذا أجر السطح مدة مقامه بيده، وله أخذ آلته؛ فإن صالحه عنها رب البيت برضاهما جاز، وإن كانت آلة البناء والتراب من البيت فالغرفة لربه، وعلى الباني أجرتها مبينة، وليس له نقضها إن أبرأه رب البيت من ضمان ما يتلف بها.
وإن أسكنه أو أعطاه البعض غير معتقد وجوبه كان متبرعًا، ومتى شاء انتزعه. وإن صالح شخص إنسانًا مكلفًا ليقر له بالعبودية، أي: بأنه مملوكه، أو صالح امرأة لتقر له بالزوجية، لم يصح الصلح؛ لأن ذلك صلح يحل حرامًا؛ لأن إرقاق النفس وبذل المرأة نفسها بعوض لا يجوز، وإن بذل المدعى عليه بالعبودية، أو بذلت المدعى عليها الزوجية مالاً للمدعي صلحًا عن دعواه، صح؛ لأن المدعي يأخذه عن دعواه الرق أو النكاح، والدافع يقطع به الخصومة عن نفسه، فجاز كعوض لكن يحرم الأخذ إن علم كذب نفسه لأخذه بغير حق ولو ثبتت زوجيتها بعد لم تبن بأخذ العوض؛ لأنه لم يصدر منه طلاق ولا خلع. وإن بذلت امرأة مالاً لمبينها ليقر لها ببينونتها، صح؛ لأنه يجوز لها بذلك المال ليبينها، ويحرم عليه أخذه. وإن طلقها وأنكر، فدفعت إليه مالاً ليقر لها بما وقع من طلاقها، صح. ولو طلقها ثلاثًا أو أقل من ثلاث فصالحها على مال لتترك دعواها الطلاق، لم يجز الصلح؛ لأنه يحل حرامًا.
ومن قال لغريمه: أقر بديني، وأعطيك منه مائة، أو: أقر لي بديني وخذ منه مائة مثلاً، فأقر، لزمه ما أقر به؛ لأنه لا عذر لمن أقر، ولم يصح الصلح لوجوب الإقرار عليه بما عليه من الحق، فلم يبح له العوض عما يجب عليه.

النوع الثاني من قسمي الصلح
س101: تكلم بوضوح عن النوع الثاني من قسمي الصلح، مبينًا حكم ما إذا كان على غير جنسه، أو بلفظ الصلح أو بنقد عن نقد وبعوض أو عنه بنقد أو عرض أو بمنفعة وحكم ما إذا تلف قبل استيفاء المنفعة، أو ظهر مستحقًا أو معيبًا، وإذا صالحه بتزويج أمته، أو عن دين أو بشيء في الذمة، أو صالح الورثة من وصي له، أو صالح عن عيب من مبيعه بشيء أو صالحت المرأة عن دين أو عين أقرت به بتزويجها، وعما إذا كان الصلح بتزويجها عن عيب أقرت به في مبيعها، أو عما تعذر علمه، واذكر ما تستحضره من دليل أو تعليل أو تفصيل، ومثل لما يحتاج إلى تمثيل.

ج: النوع الثاني من أقسام الصلح على إقرار: أن يصالح على غير جنسه، بأن أقر له بعين أو دين، ثم صالحه عنه بغير جنسه، فهو معاوضة، ويصح بلفظ الصلح كسائر المعاوضات بخلاف ما قبله؛ لأن المعاوضة عن الشيء ببعضه محظورة، فالصلح عن نقد بنقد بأن أقر له بدينار، فصالحه عنه بعشرة دراهم مثلاً أو عكسه، فهو صرف يعتبر فيه التقابض قبل التفرق، والصلح عن نقد بأن أقر له بدينار، فصالحه عنه بعرض كثوب بيع، أو صالحه عن عرض أقر له به، كفرس بنقد ذهب أو فضة بيع، أو صالحه عن عرض أقر له به، كفرس بنقد ذهب أو فضة بيع، أو صالحه عن عرض كثوب بعرض بيع يشترط له شروطه كالعلم به، والقدرة على التسليم، والتقابض بالمجلس إن جرى بينهما ربا نسيئة.
والصلح عن نقد أو عرض مقر به بمنفعة، كسكنى دار وخدمة قن معينين إجارة، فيعتبر له شروطها، وتبطل بتلف الدار وموت القن كباقي الإجارات، فيعتبر له شروطها، وتبطل بتلف الدار وموت القن كباقي الإجارات، بخلاف ما لو باعها أو أعتق العبد، فللمصالح نفعه إلى انقضاء المدة، وللمشتري الخيار إن لم يعلم ولا يرجع العبد على سيده بشيء؛ لأنه أعتقه مسلوب المنفعة، وإن تلفا قبل استيفاء شيء من المنفعة رجع بما صولح عنه، وانفسخت الإجارة، وفي أثنائها تنفسخ فيما بقي، فيرجع بقسطه، وإن ظهرت الدار مستحقة أو القن حرًا أو مستحقًا، فالصلح باطل، لفساد العوض، ورجع مُدَّع فيما أقر له به، وإن ظهر معيبين بما تنقص به المنفعة، فله الرد وفسخ الصلح، وإن صالحه بتزويج أمته، صح بشرطه، والمصالح به صداقها؛ فإن فسخ نكاح قبل دخول بما يسقطه رجع زوج بما صالح عنه، وإن طلقها ونحوه قبل دخول رجع بنصفه.
والصلح عن دين ونحوه غير دين سلم يصح بغير جنسه مطلقًا بأقل منه أو أكثر أو مساويه، ولا يصح صلح عن حق بجنسه، كعن بُرٍ بِبُرٍ أقل منه أو أكثر منه على سبيل المعاوضة، لإفضاء إلى ربا الفضل؛ فإن كان أقل على وجه الإبراء والهبة، صح؛ إلا بلفظ الصلح. والصلح عن دين بشيء في الذمة بأن صالحه عن دينار في ذمته بأردب قمح أو نحوه في الذمة، يصح، ويحرم التفرق قبل القبض؛ أنه يصير بيع دين بدين.
ولو صالح الورثة من وصى له من قبل موروثهم بخدمة رقيق، أو بسكنى دار معينة، أو بحمل أمة مُعَيَّنَةٍ بدراهم مسماة، جاز صلحًا؛ لأنه إسقاط حق، فصح في المجهول للحاجة لا بيعًا، لعدم العلم بالمبيع، ومن صالح عن عيب في مبيع، بشيء من عين كدينار، أو منفعة كسكنى داره شهرًا، صَحَّ الصلح.
وليس من الأرش في شيء، ورجع بالمصالح به إن بان عدم العيب، كانتفاخ بطن أمة ظنه حملاً، ثم ظهر الحال لتبين عدم استحقاقه، أو زال العيب سريعًا بلا كلفة ولا تعطيل نفع على مشتر، كمزوجة بانت، ومريض عوفي، لحصول الجزء الفائت من المبيع بلا ضرر، فكأنه لم يكن، وترجع امرأة صالحت عن عيب مبيعها بتزويجها، وبان عدمه أو زال سريعًا بأرش العَيب لو كان، أو لم يزل سريعًا؛ لأنها رضيت بالأرش مهرًا لها، وكذا إن بان فساد البيع، كفن خرج حُرًّا أو مستحقًا، وإن أقر له بزرع فصالحه عنه، صح على الوجه الذي يصح بيعه، وتقدم تفصيله.
ويصح الصلح عما تعذر علمه من دين أو عين، مثال الدين: كمن بينهما معاملة أو حساب مضى عليه زمن طويل، ومثال العين: كقفيز حنطة وقفيز شعير اختلطا وطحنا، فيصح بمال معلوم نقدًا ونسيئة؛ لما ورد عن أم سلمة قالت: جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في موارث بينهما قد درست ليس بينهما بينة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها أسْطَامًا في عنقه يوم القيامة» فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أما إذا قلتما، فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق، ثم استهما، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه» رواه أحمد وأبو داود؛ لأنه إسقاط حق، فصح في المجهول للحاجة، ولئلا يفضي إلى ضياع المال أو بقاء شغل الذمة، إذ لا طريق إلى التخلص إلا به، وسواء كان الجهل من الجهتين أو ممن هو عليه، وقال الشافعي: لا يصح الصلح على المجهول؛ لأن فرع للبيع، والبيع لا يصح على المجهول؛ فإن وقع الصلح بمجهول لم يصح؛ لأن تسليمه واجب، والجهل به يمنعه؛ فإن لم يتعذر علم المجهول، كتركة باقية، صالح الورثة الزوجة عن حصتها منها مع الجهل بها، فكبراءة من مجهول. جزم به في «التنقيح»، وقدمه في «الفروع»، قال في «التلخيص»: وقد نزل أصحابنا الصلح عن المجهول المقربة بمعلوم منزلة الإبراء من المجهول، فيصح على المشهور لقطع النزاع، وظاهر كلامه في «الإنصاف» أن الصحيح المنع لعدم الحاجة إليه، ولأن الأعيان لا تقبل الإبراء، وقطع به في «الإقناع»، قال في «الفروع»: وهو ظاهر نُصوصه. اهـ. (ش منتهى).

من النظم فيما يتعلق بباب الصلح
وللصلح في الأموال قسمان جوزا ... وذلك خيرٌ من خِلافٍ مُنَكّدِ
فإن يبرئ الإنسان من بعض حقه ... ويَستوف بعضَ الحال صححه واحمد
ويؤجر إن يشفع بذلك شافع ... وإن شفع القاضي بذلك يَقتدي
وإن كان ذا الإسقاط شرطٌ لقَبضِهِ ... بقيته قولين في الصحة اسْنِدِ
وخرج من إبرائه من كذا على ... تعَجل باقيه بغير تنكد
ولا تمض ذا ممن منعت تبرعًا ... كعبد وطفل أو مكاتب أعبد
ولا من ولي الغمر إلا ضرورةً ... كمجحود مال مع تعذر شهد
ومن عن مؤجل غير دين كتابة ... يصالح ببعض عاجل فليصدد
وليس صحيحًا منه تأجيل عاجل ... سوى ثمن في مجلس البيع فاشهد
ومن يسقطن بعضًا وينسئ بعضه ... في الأوهى اقض بالإسقاط والنسأ اردد
ولا صلح عن حق بجنس نسيئة ... وفيٍّ وصححه بعرض مزيد
كعقل الخطأ أو متلف فيه قيمة ... كعبد وغير العبد من كل مفسد
وتقضي بمال الصلح في مال قاتل ... حليلاً لخوف المكر عن عاقل ذد
وعن متلف المثلي صحح بزائد ... على قيمة إذ مثله واجب قد
ومن يصطلح مع من أقر ببيته ... بسكناه عامًا أو بنى فوقه اصدد
وإن تعترف بالدين بالجعل صح في ... اعترافك لا في أخذ جعل مجدد
وإقرار أنثى بالنكاح برشوة ... وعبد برق لا يصح لقصد
ودفعك دعوى الرق عنك برشوة ... يجوز كذا في زوجة في المجود
وصلح بغير الجنس عقد تعاوض ... له شرط أنواع المعاوضة اشهد
فإن يتو ما صالحته بانتفاعه ... بما تدعي أو ما اعترفت به عد
وصححه من أنثى بتزويج نفسها ... فإن كان عن عيب المبيع المردد
فزال سريعًا أو تبين سالمًا ... لها أرشه لا مهر أمثالها اشهد
وصححه بالمعلوم عن متعذر ... التحققْ ولو عينًا على المتوطد
وبالعوض المجهول عن مثله أجز ... كدارس ميراث محال التعدد

فصل في القسم الثاني من قسمي الصلح
س102: ما حكم الصلح على الإنكار؟ وما مثاله؟ وماذا يكون في حق كل من المدعي والمدعى عليه؟ واذكر ما يترتب على ذلك من شفعة أو رد أو فسخ؟ وحكم ما إذا صالح ببعض عين مدعى بها، أو علم بكذب نفسه وما الذي يترتب على ذلك؟ وإذا قال: صالحني عن الملك الذي تدعيه، فهل يكون مقرًا به. وإذا صالح على المنكر لدين أو عين أجنبي، أو صالح الأجنبي لنفسه في حال الإنكار والإقرار في دين أو عين، فما الحكم؟ وإذا ظن القدرة أو عدمها، ثم ثبتت على استنفاذها، فما الحكم؟

ج: القسم الثاني من قسمي الصلح بمال الصلح على إنكار، بأن يدعي شخص على آخر عينًا أو دينًا، فينكر المدعى عليه أو يسكت، والمدعى عليه يجهل المدعى به، ثم يصالحه نقدًا ونسيئة؛ لأن المدعي ملجأ إلى التأخير بتأخير خصمه، فيصح الصلح، وبه قال مالك وأبو حنيفة، وأكثر العلماء؛ لعموم الآيات الواردة في الصلح؛ ولعموم قوله –عليه الصلاة والسلام-: «الصلح جائز بين المسلمين» فيدخل هذا في عمومه.
فإن قالوا: فقد قال: «إلا صلحًا أحل حرامًا» وهذا داخل فيه؛ لأنه لم يكن له أن يأخذ من مال المدعى عليه، فحل بالصلح، قلنا: لا نسلم دخوله فيه، ولا يصح حمل الحديث على ما ذكروه لوجهين: أحدهما: أن هذا يؤخذ في الصلح بمعنى البيع؛ فإنه يحل لكل واحد منهما ما كان محرمًا عليه قبله، وكذا الصلح بمعنى الهبة؛ فإنه يحل للموهوب ما كان حرامًا عليه. الثاني: أنه لو حل به المحرم لكان الصلح صحيحًا؛ فإن الصلح الفاسد لا يحل الحرام، وإنما معناه ما يتوصل به إلى تناول المحرم، مع بقائه على تحريمه، كما لو صالحه على استرقاق حر أو إحلال بضع محرم، أو صالحه بخمر أو خنزير، وليس ما نحن فيه كذلك، وعنه: لا يصح، وهو قول الشافعي؛ لأنه عاوض عما لم يثبت له، فلم تصح المعاوضة، كما لو باع مال غيره؛ ولأنه عقد معاوضة خلا عن العوض في أحد جانبيه، فبطل كالصلح على حد قذف، والقول الأول هو الذي تميل إليه النفس. والله أعلم.
ويكون الصلح على إنكار إبراء في حق المدعى عليه؛ لأنه بذل العوض ليدفع الخصومة عن نفسه لا في مقابلة ثبت عليه، فلا شفعة في المصالح عنه إن كان شقصًا من عقار، ولا يستحق مدعى عليه لعيب وجد في مصالح عنه شيئًا؛ لأنه لم يبذل العوض في مقابلته لاعتقاده أنه ملكه قبل الصلح، فلا معاوضة، ويكون الصلح بيعًا في حق مدع، فله رد المصالح به عما ادعاه بعيب يجده فيه؛ لأنه أخذه على أنه عوض ما ادعاه، وفسخ الصلح إن وقع على عينه، وإلا طالب ببدله، وتثبت في شقص مشفوع صولح به الشفعة؛ لأنه أخذه عوضًا عن ما ادعاه، كما لو اشترى به، إلا إذا صالح المدعِي مُدّعى عليه ببعض عين مُدَّعي بها، كمن ادعى نصف دار بيد آخر، فأنكره وصالحه على ربعها، فالمدعي في الصلح المذكور كالمنكر المدعى عليه، فلا يؤخذ منه بشفعة، ولا يستحق لعيب شيئًا؛ لأنه يعتقد أنه أخذ بعض عين ماله مسترجعًا له ممن هو عنده. ومن علم بكذب نفسه من مُدَّعٍ ومُدَّعى عليه، فالصلح باطل في حقه؛ أما المدعي؛ فلأن الصلح مَبْنيٌ على دعواه الباطلة، وأما المدعى عليه، فلأنه مبني على جحده حق المدعي ليأكل ما ينتقصه بالباطل. وما أخذه مدع عالم كذب نفسه مما صولح به، أو مدعى عليه مما انتقصه من الحق بجحده، فهو حرام؛ لأنه أكل لمال الغير بالباطل، ولا يشهد له إن علم ظلمه. قال في «الفتاوى المصرية»: ومن صالح على بعض الحق خوفًا من ذهاب جميعه، فهو مكره، ولا يصح، وله أن يطالبه الحق بعد ذلك إذا ثبت ذلك ببينة أو إقرار. ومن قال لآخر: صالحني عن الملك الذي تدعيه، لم يكن مقرًا بالملك للمقول، لاحتمال إرادة صيانة نفسه عن التبذل، وحضور مجلس الحكم بذلك.
وإن صالح أجنبي عن منكر لِدَيْنٍ بإذنه أو بدونه، صح؛ لجواز قضائه عن غيره بإذنه وبغير إذنه، فإنَّ عليًّا وأبا قتادة -رضي الله عنهما- قضيا عن الميت فأجازه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتقدم في الضمان، وإن صالح أجنبي عن منكر لعين بإذن المنكر، أو بدون إذنه، صح الصلح ولو لم يقل الأجنبي: إن المنكر وكله؛ لأنه افتداء للمنكر من الخصومة، وإبراء له من الدعوى، ولا يرجع الأجنبي بشيء مما صالح به عن المنكر في المسألتين إن وقع بدون إذنه في الصلح والدفع؛ لأنه أدى عنه ما لا يلزمه فكان متبرعًا، كما لو تصدق عنه؛ فإن أذن المنكر للأجنبي في الصلح أو الأداء عنه، رجع عليه إن نواه.
وإن صالح الأجنبي المدّعي لنفسه، ليكون الطلب له وقد أنكر الدعوى، لم يصح؛ لأنه اشترى من المدعي ما لم يثبت له، ولم تتوجه إليه خصومة يَفْتَدِي منها، أشبه ما لو اشترى منه ملك غيره، وإن أقرَّ لأجنبي، والمدعى به دين، لم يصح؛ لأنه بيع دين لغير من هو عليه، وتقدم الكلام على بيع الدين مُستوفى في باب السلم، وإن كان المدعى به عينًا، وأقرَّ الأجنبي بها، وعلم عجزه عن استنقاذها من مدعى عليه، لم يصح الصلح؛ لأنه بيع مغصوب لغير قادر على أخذه، وإن ظن الأجنبي القدرة على استنقاذها، صح؛ لأنه اشترى من مالك ملكه القادر على أخذه في اعتقاده، أو ظن عدم القدرة، ثم تبينت قدرته على استنقاذها، صح الصلح؛ لأن البيع ما يمكن تسليمه، فلم يؤثر ظنه عدمه، ثم إن عجز الأجنبي بعد الصلح ظانًا القدرة على استنقاذها، خير الأجنبي بين فسخ الصلح؛ لأنه لم يسلم له المعقود عليه فكان له الرجوع إلى بدله، وبين إمضاء الصلح؛ لأن الحق له كخيار العيب.
وإن قال الأجنبي للمدعي: أنا وكيل المدعى عليه في مصالحتك عن العين، وهو مقر لك بها، وإنما يجحدك في الظاهر، فظاهر كلام الخرقي لا يصح الصلح. وقال القاضي: يصح، ثم إن صدقه المدعى عليه ملك العين، ورجع الأجنبي بما أدى عنه إن أذن في دفعه، وإن أنكر مدعى عليه الإذن فيه، أي: الدفع، فقوله بيمينه، وحكمه كمن أدى عن غيره دينًا بلا إذنه، وإن أنكر مدعى عليه الوكالة، فقوله مع يمينه، ولا رجوع للأجنبي، ولا يحكم له بملكها، ثم إن كان الأجنبي قد وكل في الشراء، فقد ملكها المدعى عليه باطنًا، وإلا فلا؛ لأن الشراء له بغير إذنه، وإن قال الأجنبي للمدعي: قد عرف المدعى عليه صحة دعواك، ويسألك الصلح عنه ووكلني فيه، فصالحه، صح، وكان الحكم كما ذكرنا؛ لأنه هنا لم يمتنع من أدائه. قاله في «المغني» ملخصًا. اهـ. «منتهى وشرحه».

من النظم فيما يتعلق في الصلح على إنكار
ومن يدعي شيئًا عليه فأنكر أو ... أرمَّ فبالمعلوم إن صالح اشهد
بصحته من مدع وهو بائع ... فما جاز حكم البيع فيه ليطرد
وذاك هو الإبراء في حق منكر ... فلا شفعة فيه ولا رد مفسد
ولا صلح في حق العليم بمينه ... وما ناله سحت بغير تردد
وعن منكر إن صالح الغير طد فان ... أذن فنوى بالمال عودًا ليردد
وقيل بلا إذن عن الدين جائز ... وفي العين إن لم يدع الإذن يفسد
وفي مدعي التوكيل وجهان ثم إن ... يصدقه يملكها وإلا فلا اشهد
وإن كان في التكذيب والصدق كاذبًا ... ففي ملكها اعكس حكم كل بل ابتد
ولا يرجع الناوي على غير آذن ... وقيل بلى عن ثابت بمبعدِ
وإن هو لم يثبت يكن مثل مدع ... فيحلفه إن كان صدقه قد
وإن رام ملك المدعي فقد اشترى ... ديونًا ومغصوبًا وفي البيع فاقصد
فإن كذب الدعوى فذا الصلح باطل ... شرى غير مال واتقى ظلم معتدي
كذا إن صدقا الدعوى بدين بأوطد ... وبالعين عن ذي العجز عن قهر جحد
وإن ظن إمكان التخلص صححن ... في الأقوى ويمضي إن عجز أو ليردد
وإن ظن عجزًا فاستبان مواتيًا ... فوجهين في تصحيح ذا الصلح أسند
وعن كل ما جاز التعاوض عنه طد ... وإن لم يجز فيه ابتياع لعقد



المجلد الرابع 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 9:12 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

المجلد الرابع Empty
مُساهمةموضوع: رد: المجلد الرابع   المجلد الرابع Emptyالثلاثاء 24 نوفمبر 2015, 5:58 pm

الصلح على ما ليس بمال وما يصح الصلح عنه وما لا يصح
س103: تكلم بوضوح عن الصلح على ما ليس بمال مبينًا ما يصح الصلح عنه وما لا يصح عنه، ومن الذي لا تصح مصالحته؟ وإذا صالح عن دار فبان العوض مستحقه، أو عن قود بقيمة عوض، فبأي شيء يرجع؟ وما هي الأشياء التي تسقط بالصلح؟ واذكر ما تستحضره من دليل أو تعليل.

ج: يصح صلح مع إقرار ومع إنكار عن قود في نفس ودونها، وعن سكنى دار ونحوها، وعن عيب في عوض أو معوض، قال في «المجرد»: وإن لم يجز بيع ذلك؛ لأنه لقطع الخصومة، فيصح عن قود بفوق دية ولو باع ديات، أو قيل: الواجب أحد شيئين؛ لما روي أن الحسن والحسين وسعيد بن العاص بذلوا للذي وجب له القصاص على هدبة بن خشرم سبع ديات، فأبى أن يقبلها؛ ولأن المال غير متعين، فلم يقع العوض في مقابلته، ويصح الصلح عما تقدم بما ثبت مهرًا في نكاح من نقد أو عوض ، قليل أو كثير، حال ومؤجلٍ؛ لأنه يصح إسقاطه، ولا يصح صلح بعوض عن خيار في بيع أو إجارة أو عن شفعة أو عن حد قذف؛ لأنها لم تشرع لاستفادة مال، بل الخيار للنظر في الأحظ، والشفعة لإزالة ضرر الشركة، وحد القذف للزجر عن الوقوع في أعراض الناس، وتسقط جميعها: الخيار، والشفعة، وحد القذف بالصلح؛ لأنه رضي بتركها، ولا يصح أن يصالح سارقًا أو شاربًا ليطلقه ولا يرفعه للسلطان؛ لأنه لا يصح أخذ العوض في مقابلته، ولا يصح أن يصالح شاهدًا ليكتم شهادته، لتحريم كتمانها إن صالحه على أن لا يشهد عليه بحق لله ولآدمي، وكذا على أن لا يشهد عليه بالزور؛ لأنه لا يقابل بعوض. ومن صالح آخر عن دار ونحوها، ككتاب وحيوان بعوض، فبان العوض مستحقًا لغير المصالح، أو بان القن حرًا رجع بالدار ونحوها المصالح عنها إن بقيت، وببدلها إن تلفت، إن كان الصلح مع إقرار المدعى عليه؛ لأنه بيع حقيقة، وقد تبين فساده لفساد عوضه، فرجع فيما كان له، ورجع بدعواه قبل الصلح، وفي «الرعاية»: أو قيمة المستحق المصالح به مع إنكار، لتبين فساد الصلح بخروج المصالح به غير مال، أشبه ما لو صالح بعصير، فبان خمرًا، فيعود الأمر إلى ما كان عليه قبله. ووجه ما في «الرعاية» أن المدعي رضي بالعوض وانقطعت الخصومة، ولم يسلم له، فكان له قيمته، ورد بأن الصلح لا أثر له، لتبين فساده، ورجع المصالح عن قود من نفس أو دونها بعوض، وبان مستحقًا بقيمة عوض مصالح به، لتعذر تسليم ما جعل عوضًا عنه، وكذا لو صالح عنه بقن فخرج حرًا، وإن علم المتصالحان أن العوض مستحقًا أو حرًا حال الصلح، فبالدية يرجع ولي الجناية، لحصول الرضى على ترك القصاص، فيسقط إلى الدية، وكذا لو كان مجهولاً كدار وشجرة، فتبطل التسمية وتجب الدية، وإن صالح على عبد أو بعير ونحوه مطلق، صح، وله الوسط.

إجراء ماء في أرض غيره وما يترتب على ذلك
س104: تكلم بوضوح عن كل ما يلي: إجراء ماء في أرض غيره، صلحه على ذلك، وما الذي يترتب على ذلك؟ والذي يعتبر لصحته والذي لا يعتبر؟ الصلح على ساقية محفورة. الصلح على إجراء ماء مطر على سطح أو أرض، وهل الأرض الموقوفة كالمؤجرة؟ وإذا صالحه على سقي أرضه من نهره أو عينه، أو اشترى ممرًا في دار أو موضعًا في حائط ليفتح بابًا أو نحوه، فما الحكم؟ وهل له إعادة ما ذكر؟ وما حكم الصلح على عدم إعادته، أو على زواله، أو على فعله صلحًا أبدًا أو إجارة؟ واذكر الدليل والتعليل.

ج: يحرم أن يجري شخص في أرض غيره، أو في سطح غيره ماءً، ولو تضرر بتركه بلا إذن رب الأرض أو السطح، لتضرره أو تضرر أرضه، وكزرعها، ويصح صلحه على إجراء مائه في أرض غيره أو سطحه بعوض؛ لأنه إما بيع وإما إجارة، وإن صالحه على إجراء مائه في أرضه أو سطحه مع بقاء ملك رب المحل الذي يجري فيه، بأن تصالحا على إجرائه في ملكه، فهو إجارة؛ لأن المعقود عليه المنفعة، وإن لم يتصالحا على إجرائه فيه مع بقاء ملكه، فهو بيع؛ لأن العوض في مقابلة المحل، ويعتبر لصحة ذلك إذا وقع إجارة علم قدر الماء الذي يجريه لاختلاف ضرره بكثرته وقلته بساقية الماء الذي يخرج فيها إلى المحل الذي يجري فيه؛ لأنه لا يجري فيها أكثر من مائها. ويعتبر علم قدر ماء مطر برؤية المحل الذي يزول عنه الماء من سطح أو أرض أو بمساحته، أي: ذكر قدر طوله وعرضه، ليعلم مبلغه وتقدير ما يجري فيه الماء من ذلك المحل، ولا يعتبر علم قدر عمقه؛ لأنه إذا ملك عين الأرض أو نفعها كان له إلى التخوم، فله النزول فيه ما شاء. وفي «الإقناع»: وإن كان إجارة اشترط ذلك العمق، ولا يعتبر علم قدر مدة الإجراء للحاجة، إذ العقد على المنفعة في موضع الحاجة إجارة كنكاح وفي «القواعد»: ليس بإجارة محضة،
بل شبيه بالبيع. وفي «الإقناع»: يشترط فيه تقدير المدة، ولمستأجر ومستعير الصلح على ساقية محفورة في أرض استأجرها أو استعارها، ليجري الغير ماءها فيها، لدلالتها على رسم قديم. وقال في «شرح الإقناع»: هذا ما جزم به في «الإنصاف» وغيره، وفيه نظر؛ لأن المستعير لا يملك المنفعة، فكيف يصالح عليها! ولهذا لا يجوز أن يؤجر أو يعير، وعلى تسليم الصحة ينبغي أن يكون العوض المصالح به عن ذلك لمالك الأرض، كما يأتي فيما لو أجرها بإذن معير.
ولا يجوز لمستأجر ومستعير الصلح على إجراء ماء معطر على سطح أو على أرض؛ لأن السطح يتضرر بذلك، ولم يؤذن له فيه، والأرض يجعل لغير صاحبها رسمًا، فربما ادعى رب الماء الملك على صاحب الأرض، وأرض موقوفة كمؤخرة في الصلح عن ذلك، فيجوز على ساقية محفورة لا على إحداث ساقية، أو إجراء ماء مطر عليها. وفي «المغني»: الأولى أنه يجوز له، أي: الموقوف عليه حفر الساقية؛ لأن الأرض له، وله التصرف فيها كيف شاء ما لم ينتقل الملك فيها إلى غيره، بخلاف المستأجر. قال في «الفروع»: فدل أن الباب والخوخة والكوة ونحو ذلك لا يجوز في مؤجرة، وفي موقوفة الخلاف، أو يجوز قولاً واحدًا، وهو أولى؛ لأن تعليل الشيخ لو لم يكن مسلمًا لم يفد، وظاهره لا يعتبر المصلحة وإذن الحاكم، بل عدم الضرر، وأن إذنه يعتبر لدفع الخلاف، ويأتي كلام ابن عقيل في الوقف، وفيه إذنه فيه لمصلحة المأذون الممتازة بأمر شرعي، فلمصلحة الموقوف أو الموقوف عليه أولى، وهو معنى نصه في تجديده المصلحة، وذكره شيخُنا عن أكثر العلماء في تغيير صفاته لمصلحة كالحكورة، وعليه حكام أصحابنا بالشام حتى صاحب «الشرح» في الجامع المظفري، وقد زاد عمر وعثمان في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وغَيَّروا بناءه ثم عمر بن عبد العزيز، وزاد فيه أبوابًا، ثم المهدي، ثم المأمون. ولو صالحه على أن يسقي أرضه من نهره، أو من عينه، أو بئره مدة ولو كانت معينة، لم يصح الصلح بعوض؛ لعدم ملك الماء. وقال في «الإنصاف»: وقيل: يجوز، وهو احتمال في «المغني» و«الشرح» ومال إليه، قلت: وهو الصواب، وعمل الناس عليه قديمًا وحديثًا.
ويصح شراء مَمَرٍّ في دار ونحوها من مالكه، وشراء موضع بحائط يفتح بابًا، وشراء بقعة تحفر بئرًا؛ لأنها منفعة مباحة؛ فجاز بيعها كالأعيان، ويصح شراء علو بيت، ولو لم يبن البيت إذا وصف البيت، ليعلم ليبني عليه، أو ليضع عليه بنيانًا، أو يضع عليه خشبًا موصوفين، ومع زوال ما على العلو من بنيان أو خشب لرب البنيان أو الخشب الرجوع على رب سُفْلٍ بأجرة مدة زواله عنه، وقيده في «المغني» بما إذا كان في مدة الإجارة، وكان السقوط لا يعود، فمفهومه أنه لا رجوع في مسألة البيع، والصلح على التأبيد، ولا فيما إذا كان السقوط عوده، وله إعادته مطلقًا، سواء زال لسقوطه أو سقوط ما تحته، أو لهدمه له أو غيره؛ لأنه استحق إبقاءه بعوض، وله الصلح على عدم الإعادة؛ لأنه إذا جاز بيعه منه جاز صلحه عنه، كما له الصلح على زواله، أي: رفع ما على العلو من بنيان أو خشب، سواء صالحه عنه بمثل العوض المصالح به على وضع أو أقل أو أكثر؛ لأنه عوض عن المنفعة المستحقة له، فصح بما اتفقا عليه، وكذا لو كان له مسيل ماءٍ من غيره، أو ميزاب ونحوه، فصالح رب الأرض مستحقه ليزيله عنه بعوض، جاز، وله فعل ما تقدم من الممر، وفتح الباب في الحائط، وحفر البقعة في الأرض بئرًا، ووضع البناء والخشب على علو غيره صلحًا أبدًا؛ لأنه يجوز بيعه وإجارته، فجاز الاعتياض عنه بالصلح، وله فعله إجارة مدة معينة؛ لأنه نفع مباح مقصود، وإذا مَضَتْ بُقِّيَ، ولمالك العلو أجرة المثل، ولا يطالب بإزالة بنائه وخشبه؛ لأنه العرف فيه؛ لأنه يعلم أنها لا تستأجر لذلك إلا للتبايع، ومع التساكت له أجرة المثل.

من النظم فيما يصح الصلح عنه
بِمَا صَحَ صلحًا عن دِمِ العمد صالحِنْ ... في الأقوى ولَو فَوقَ الدِيَّات بأوطدِ
وخذ دية أو أرش جُرْحٍ لجهله ... وقيمته حرًا وغصبًا بها جُدِ
وإن كان عن دار وعبد فخذهما ... فصلحك ذا بيع بدا ذا تفسد
ولا تمضه عن حد قذف وشفعة ... وأسقطهما في الصلح في المتجود
وإن تصطلح مع سارق لخلاصه ... وعن شاهد إن يكتم الحق تعتدي
وصلح على إجراء ماءٍ بأرضه ... ويمشي ووضع الخشب مع علمه امهد
وإن كان إيجارًا ليذكر قيده ... سوى ماء قطر من سطوح محدد
ولابد من تحديد ساقية فإن ... يكن في كرًا جوزه في متحدد
بمقدار وقت في إجازته فقط ... وفي الوقف في الأقوى أجز في مجدد
وإن لم يضر الأرض أجر ضرورة ... بغير رضاه في قويْلٍ مُبَعَّدِ
وصلحك كي تسقي نهارًا بمائه ... بوجه أجز كالبيع ثلث المخدد
وإن تشتري أرضًا لتحفر مصنعًا ... وعلوًا لتبني فيه مع علمه طد
وبشرط تبيان المحل وآلة البناء ... ومقدار البناء المشيد
وإن تشتري علو المهدي متى بنى ... بنَيْت في الأقوى طد وكلاً فقيد

فصل في حكم الجوار
س105: لِمَ وضع هذا الفصل؟ ومن هو الجار؟ وما هي الوصاية نحوه؟ وإذا حصل في هواء الإنسان، أو على جداره، أو في أرضه غصن شجرة غيره، فما حكم ذلك؟ وما الذي يترتب عليه من التقادير والأحكام؟ وإذا صالح رب غصن أو عرف عن ذلك بعوض، أو صالح من مال حائطه، أو زلق خشبه إلى ملك غيره عن ذلك بعوض فما الحكم؟ وإذا اتفق رب الغصن والهوى على أن الثمرة له أو بينهما، فما حكم ذلك؟ واذكر الدليل والتعليل والخلاف.

ج: هذا الفصل عقد لبيان أحكام الجوار، ما يجب، وما يجوز، وما يحرم، والجوار، بكسر الجيم: مصدر جاور، وأصله الملازمة، ومنه قيل للمعتكف: مجاور، ولملازمة الجار جاره في المسكن. وقد وردت أحاديث في حسن الجوار والحث على ذلك، فمن ذلك ما ورد عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» متفق عليه. وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يمنع جار جاره أن يغرر خشبه في جداره» الحديث متفق عليه. وإذا حصل في هواء الإنسان أو على جداره، أو في أرضه التي يملكها أو بعضها، أو يملك نفعها أو بعضه غصنُ شجرة غيره أو عرقه، لزم رب الغصن والعرق إزالته برده إلى ناحية أخرى أو قطعه، سواء أثر ضررًا أو لا، ليخلي ملكه الواجب إخلاؤه، والهواء تابع للقرار، وضمن رب الغصن أو العرق ما تلف به بعد الطلب بإزالته، لصيرورته متعديًا بإبقائه وبناه في «المغني» على مسألة ما إذا مال حائطه فلم يهدمه حتى أتلف شيئًا، فعليه لا ضمان عليه مطلقًا، كما صححه في «الإنصاف»؛ لأنه ليس من فعله، فإن أبى رب غصن أو عرق إزالته، فلرب الهواء أو الأرض قطع الغصن أو العرق إن لم يزل إلا به، بلا حاكم ولا غرم؛ لأنه لا يلزمه إقرار مال غيره في ملكه بلا رضاه، ولا يجبر ربه على إزالته؛ لأنه ليس من فعله، وإن أمكن رب الهواء إزالة الأغصان بلا إتلاف لها ولا قطع، من غير مشقة ولا غرامة، مثل أن يلويها ونحوه؛ لم يجز له إتلافها، كالبهيمة الصائلة إذا اندفعت بدون القتل؛ فإن أتلفها في هذه الحالة، غرمها لتعديه به. وإن اتفق رب الغصن والهواء على أن الثمرة لصاحب الهواء أو بينهما، جاز الصلح؛ لأنه أصلح من القطع، ولم يلزم الصلح، فلكل منهما إبطاله متى شاء؛ لأنه مجرد إباحة من كل منهما لصاحبه، وصحة الصلح هنا مع جهالة العوض وهو الثمرة خلاف القياس، لخبر مكحول يرفعه: «أيما شجرة ظللت على قوم، فهم بالخيار بين قطع ما ظلل، أو أكل ثمرها»، وفي «المبهج» في الأطعمة ثمرة غصن في هواء طريق عام للمسلمين. ومعناه أيضًا لابن القيم في «إعلام الموقعين» لأن إبقاءه إذن عرفًا في تناول ما سقط. وإن امتد من عروق شجرة إلى أرض جاره، فأثرت العروق ضررًا، كتأثير الممتد في المصانع وطي الآبار، وأساس الحيطان، أو كتأثيره في منع الأرض التي امتدت إليها العروق من نبات شجر، أو نبات زرع لصاحب الأرض، أو لم يؤثر الممتد شيئًا من ذلك، فالحكم في إزالته، وفي الصلح عنه كالحكم في الأغصان على ما تقدم من التفصيل والخلاف، إلا أن العروق لا ثمرة لها بخلاف الأغصان.
وصلح من مال حائطه إلى ملك غيره أو من زلق خشبه إلى ملك غيره، كصلح رب غصن مع رب الهواء، فلا يصح على ما تقدم.

فصل في إخراج دكان ودكة بنافذ وغير ذلك
س106: تكلم بوضوح عما يلي: إخراج دكان ودكة بنافذ ما تلف بذلك. إخراج جناح أو ساباط أو ميزاب، إخراج دكان ودكة وجناح وساباط وميزاب في ملك غيره، أو هوائه، وفي درب غير نافذ، أو فتح باب فيه لاستطراق أو لغيره. الصلح عن إخراج دكان بملك غيره وجناح وساباط وميزاب بهواء غيره. نقل باب في درب غير نافذ. من له باب سر في درب غير نافذ، فأراد أن يستطرق منه استطراقًا عامًا. واذكر ما يتعلق حول ذلك من المسائل. وما لديك من دليل أو تعليل أو أمثلة أو تفصيل أو خلاف.

ج: يحرم إخراج دكان، أو إخراج دكة بطريق نافذ. والدكة بالفتح، والدكان بالضم: بناء يسطح أعلاه للمقعد، وفي موضع آخر: الدكان كرمان: الحانوت، وفي «الإقناع» الدكان هو الدكة المبنية للجلوس عليها، فيضمن مخرج دكان أو دكة ما تلف به لتعديه، وكذا جناح، وهو: الروشن على أطراف خشب وساباط ويمزاب، فيحرم إخراجها بنافذ إلا بإذن الإمام أو نائبه بلا ضرر، بأن يمكن عبور محمل من تحته، وإلا لم يجز وضعه ولا إذنه فيه، وفي «المغني» و«الشرح» احتمال بالجواز مع انتفاء الضرر، حكي رواية عن الإمام أحمد، ذكره الشيخ تقي الدين –رحمه الله- في «شرح العمدة»، قلت: وعليه العمل في كل عصر ومصر. قال في «القواعد الفقهية»: اختاره طائفة من المتأخرين، قال الشيخ تقي الدين –رحمه الله-: إخراج الميازب إلى الدرب هو السنة، واختاره. اهـ. «إنصاف». فإن كان الطريق منخفضًا وقت وضعه، ثم ارتفع لطول الزمن، فحصل به ضرر وجبت إزالته، ذكره الشيخ تقي الدين.
والساباط: هو المستوفي للطريق على جدارين، قال الجوهري: الساباط سقيفة بين حائطين تحتهما طريق، والجمع سوابيط وساباطات. وأما جواز إخراجها إذا لم يكن ضرر بإذن الإمام أو نائبه؛ فلأنه نائب المسلمين، فإذنه كإذنهم؛ ولحديث أحمد: أن عمر اجتاز على دار العباس، وقد نصب ميزابًا إلى الطريق فقلعه، فقال: تقلعه وقد نَصَبَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بيده؟! فقال: والله لا تنصبه إلا على ظهري، فانحنى حتى صعد على ظهره فنصبه؛ ولجريان العادة به. وقال الشيخ تقي الدين: ومن كانت له ساحة يلقي فيها التراب والحيوان والميت، وتضرر الجيران بذلك؛ فإنه يجب على صاحبها أن يدفع ضرر الجيران إما بعمارتها أو بإعطائها من يعمرها، أو بأن يمنع أن يلقي فيها ما يضر بالجيران. وقال –رحمه الله-: ولا يجوز لأحد أن يخرج في طريق المسلمين شيئًا من أجزاء البناء، حتى إنه ينهى عن تجصيص الحائط إلا أن يدخل رب الحائط به في حده بقدر غلظ الجص. انتهى.
ويحرم إخراج دكان ودكة وجناح وساباط وميزاب في ملك غيره أو هوائه، أو في درب غير نافذ، أو فتح باب في ظهر دار في الدرب غير النافذ لا استطراق إلا بإذن مالكه إن كان في ملك غيره، أو بإذن أهل الدرب غير النافذ؛ لأنه ملكهم، فلم يجز التصرف فيه بلا إذنهم، ويجوز فتح باب في ظهر دار في درب غير نافذ بلا إذن أهله لغير استطراق كضوء وهواء؛ لأن الحق لأهله في الاستطراق ولم يزاحمهم فيه؛ ولأن غايته التصرف في ملك نفسه برفع بعض حائطه، ويجوز فتح ذلك ولو لاستطراق في زقاق نافذ؛ لأنه ارتفاق بما لا يتعين له مالك، ولا إضرار فيه على المارين.
ويجوز صلح بعوض عن إخراج دكان ودكة بملك غيره، وجناح وساباط وميزاب بهواء غيره، أو عن الاستطراق في درب غير نافذ؛ لأنه حق لمالكه الخاص ولأهل الدرب، فجاز أخذ العوض عنه كسائر الحقوق، ومحله في الجناح ونحوه إن علم مقدار خروجه وعلوه. ويجوز نقل باب في درب غير نافذ من آخره إلى أوله، لتركه بعض حقه في الاستطراق، فلم يمنع منه بلا ضرر؛ فإن كان فيه ضرر منع منه، كأن فتحه في مقابلة باب غيره، وكفتحه عاليًا يصعد إليه بسلم يشرف منه على دار جاره، ولا يجوز نقل الباب الذي بالدرب غير النافذ من أوله إلى داخل إن لم يأذن من فوق الداخل عنه، لتقدمه إلى موضع لا استطراق له فيه؛ فإن أذن له من فوقه؛ فإنه يجوز، ويكون إعارة لازمة، فلا رجوع للآذن بعد فتح الداخل وسد الأول، كإذنه في نحو بناء على جداره؛ لأنه إضرار؛ فإن سد المالك بابه الداخل، ثم أراد فتحه لم يملك إلا بإذن ثان. ومن خرق بين دارين له متلاصقتين من ظهرهما، باباهما في دربين مشتركين، باب كل واحدة منهما في درب غير نافذ، واستطرق بالخرق إلى كل من الدارين من الأخرى، جاز؛ لأنه إنما استطرق من كل درب إلى داره التي فيه، فلا يمنع من الاستطراق منها إلى موضع آخر، كدار واحدة لها بابان يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر. ومَن له باب سِرٍ يخْرجُ مِنْهُ النساء، أو الرجل المرة بعد المرة في درب غير نافذ، فأراد أن يستطرق منه استطراقًا عامًا، فقال الشيخ تقي الدين: ينبغي أن لا يجوز؛ لأن الظاهر أنه إنما استحق الاستطراق كذلك، فلا يتجاوزه.

إذا أحدث بملكه ما يضر بجاره
س107: تكلم بوضوح عما يلي ممثلاً لما لا يتضح إلا بالتمثيل: إذا أحدث بملكه ما يضر بجاره من نحو حمام أو غرس شجر، إذا تلف بسبب إحداثه في ملكه شيء. إذا ادعى فساد بئره بكنيف جاره أو بالوعته. إذا كان المضر بالجار سابقًا. من أراد تعلية بنيانه على جاره. ماذا يلزم كل منهما نحو الآخر في نحو سترة أو بناء ما بينهما. أو صعود يشرف منه على النازل. من حفر بئرًا في ملكه، فانقطع ماء بئر جاره. من ماءُ جاره له حق في جريانه على سطحه. التصرف في جدار مُشْتركٍ أو جدار جار، وضع الخشب على جدار جاره، الاستناد إلى حائط جاره، إسناد قماشه وجلوسه في ظله، النظر في ضوء سراج الغير. واذكر ما لذلك من دليل أو تعليل أو خلاف.

ج: ويحرم على المالك أن يحدث بملكه ما يضر بجاره، لخبر: «لا ضرر ولا ضرار» احتج به أحمد، ومثال ما يضر بالجار كحمام يتأذى جاره بدخانه، أو ينضر حائطه بمائه، وككنيف ملاصق لحائط جاره يتأذى بريحه، أو يصل إلى بئره، وكرحى يهتز بها حيطانه، وفي وقتنا هذا مكنة الطحنة، وكتنور يتعدى دخانه إليه، ومثله في وقتنا الفرن، لما في النار من الخطر أيضًا. وعمل دكان قصارة أو حدادة يتأذى بكثرة دق، وبهز حيطان للخبر، وهذا إضرار بجاره.
ويحرم غرس نحو شجرتين، كجميز تسري عروقه فتنشق مصنع جاره. ومما يضر بالجار أيضًا غرس الأثل؛ لأن عروقه تضخم وتؤثر على ما حولها من البناء، وحفر بئر ينقطع ماء بئر جاره، وسقي وإشعار نار يتعديان إلى جاره، ونحو ذلك من كل ما يؤذيه. ويضمن من أحدث بملكه ما يضر بجاره ما تلف بذلك بسبب الإحداث لتعديه به، لجاره منعه إن أحدث ذلك، كما له منعه من إحياء ما بجواره، لتعلق مصالحه به، كما له منه من دق وسقي يتعدى إليه، بخلاف طبخه وخبزه في ملكه، فلا يمنع منه لدعاء الحاجة إليه، وليسر ضرره.
وإن ادعى فساد بئره بكنيف جاره أو بالوعته، اختبر بالنفط يلقى فيها؛ فإن ظهر طعمه أو ريحه بالماء؛ نقلت إن لم يمكن إصلاحها بنحو بناء يمنع وصوله إلى البئر، ولا يمنع من ذلك المضر بالجار سابقًا بضرر لاحق، كمن له في ملكه نحو مدبغة كرحى وتنور، فأحيا إنسان آخر بجانبها مواتًا، أو بنى دارًا، أو اشترى دارًا بجانبه بحيث يتضرر صاحب الملك المحدث بما ذكر من نحو المدبغة، لم يلزم صاحب المدبغة ونحوها إزالة الضرر؛ لأنه لم يحدث بملكه ما يضر بجاره، وليس للجار منع جاره من تعلية داره، ولو أفضى إعلاؤه إلى سد الفضاء عنه، قاله الشيخ.
قال في «الفروع»: وقد احتج أحمد بالخبر: «لا ضرر ولا ضرار» فيتوجه منه منعه، وروى أبو حفص العكبري في «الأدب» عن أبي هريرة مرفوعًا: «من حق الجار على الجار أن لا يرفع البنيان على جاره ليسد عليه الريح».
قال شيخنا: وليس له منعه خوفًا من نقص أجرة ملكه بلا نزاع.
قال في «الفروع»: كذا قال: ويلزم الأعلى من الجارين بناء سترة تمنع مشارفة الأسفل؛ لأن الإشراف على الجار إضرار به؛ لأنه يكشفه ويطلع على حرمه، فمنع منه، وكذا لو كانت السترة قديمة فانهدمت؛ فإنه يجب إعادتها؛ فإن استويا في العلو اشتركا في بنائها، إذ ليس أحدهما أولى بالسترة من الآخر بالسترة، فلزمتهما.
ويجبر ممتنع منهما على البناء مع الحاجة؛ لأنه حق عليه، لتضرر جاره بمجاورته له من غير سترة، فأجبر عليه كسائر الحقوق، وإن كان سطح أحدهما أعلى من الآخر، فليس له الصعود على سطحه على وجه يشرف على بيت جاره إلا مع السترة كما تقدم. ولا يلزم الأعلى سد طاقة إذا لم ينظر منها ما يحرم نظره من جهة جاره، إذ لا ضرر فيما على الجار حينئذ؛ فإن رأى ذلك منها لزمه سترها، ولا يمنع من صعود سطحه حيث لم ينظر حرامًا على جاره؛ فإن نظر ذلك، حرم ومنع. وإذا حفر إنسان بئرًا في ملكه، فانقطع ماء بئر جاره، وتوهم انقطاع ماء بئر جاره بسبب حفر بئره الحادثة، طمت الحادثة ليعود ماء بئر جاره؛ لأن الظاهر أن الانقطاع بسببها؛ فإن سد الثاني بئره، ولم يعد ماء الأولى، كلف الجار، وهو صاحب البئر القديمة، حفر البئر المطموسة التي سدت من أجله؛ لأنه تسبب في سدها بغير حق. وقيل: لا يكلف سد بئره، ولو انقطع ماء جاره. وهذا القول قوي فيما أرى، والله أعلم.
ومن له حق ماء يجري على سطح جاره، لم يجز لجاره تعلية سطحه ليمنع الماء أن يجري على سطحه، لما فيه من إبطال حتى جاره، أو أن يعليه لكي يكثر ضرر صاحب الحق بإجرائه على ما علاه للمضاربة به، ويحرم تصرف في جدار جار أو في جدار مشترك بين المتصرف وغيره بفتح كوة، أي: الخرق في الجدار، ويقال: روزنة أو بفتح طاق، أو بضرب وتد ولو لستره، ويحرم أن يحدث عليه سترة أو خصًا يحجز به بين السطحين إلا بإذن مالكه أو شريكه، كالبناء عليه، وكذا يحرم وضع خشب على جدار جار أو مشترك، إلا أن لا يمكن تسقيف إلا به، فيجوز بلا ضرر حائط، ويجبر رب الجدار أو الشريك فيه على تمكينه منه إن أبى بلا عوض؛ لحديث أبي هريرة مرفوعًا: «لا يمنعن جار جاره أن يضع خشبة على جداره»، ثم يقول أبو هريرة: «ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم» متفق عليه. ولأنه انتفاع بحائط جاره على وجه لا يضره، أشبه الاستناد إليه وهو من المفردات.

قال ناظمها:
ووضع الأخشاب على الجدار ... للجار إن لم يك بالأضرار
مع اضطرار منه لتسقيف ... عليه إن أباه بالتعنيف

وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي في «الجديد»: ليس للجار وضع خشبة على جداره جاره؛ لأنه انتفاع بملك غيره من غير ضرورة. والقول الأول هو الذي تطمئن إليه النفس؛ لحديث أبي هريرة؛ فإن كان فيه ضرر، أو لم يحتج إليه، لم يجز إلا بإذن ربه، ولا فرق بين البالغ واليتيم والمجنون والعاقل، ولم يجز لرب الحائط أخذ عوض إذًا؛ لأنه يأخذ عوض ما يجب عليه بذله، ذكره في «المبدع».
وجدار مسجد كجدار دار وأولى؛ لأنه إذا جاز في ملك الجار مع أن حقه مبني على الشح والضيق، ففي حقوق الله المبنية على المسامحة والمساهلة أولى. والفرق بين فتح الباب والطاق، وبين وضع الخشب أن الخشب يمسك الحائط، والطاق والباب يضعفه، ووضع الخشب تدعو الحاجة إليه، بخلاف غيره.
ولرب الحائط هدفه لغرض صحيح، ومتى زال الخشب بسقوطه، أو سقوط الحائط، ثم أعيد، فله إعادته إن بقي المجوز لوضعه، وإن خيف سقوط الحائط باستمراره عليه، لزمه إزالته. وإن استغنى رب الخشب عن إبقائه عليه لم تلزمه إزالته؛ لأن فيه إضرارًا بصاحبه، ولا ضرر على ما صاحب الحائط، وليس لرب الحائط هدمه بلا حاجة، ولا إجارته أو إعارته على وجه يمنع المستحق من وضع خشبه؛ لأنه يُسقط بذلك حقًا وَجَبَ عليه، وإن باعه صح البيع، ولم يملك المشتري منْعَه.
ومَن وجد بناءهُ أو وجد خشبه على حائط جاره، أو وجد مسيل مائه في أرض غيره أو جناحه، أو ساباطه في حق غيره، أو وجد مجرى مائه في سطحه على سطح غيره، ولم يعلم سببه وزال؛ فله إعادته؛ لأن الظاهر وضعه بحق، فإن اختلفا في أنه وضع بحق أو لا، فقول صاحب البناء والخشب والمسيل ونحوه أنه وضع بحق بيمينه، عملاً بالظاهر، وللإنسان أن يَستْنِدُ إلى حائط غيره، وأن يُسْنِدَ قماشه وجلوسه في ظله بلا إذنه، لمشقة التحرز منه، وعدم الضرر فيه.
ويجوز للإنسان أن ينظر في ضوء سراج غيره بلا إذنه، وفي «الغاية وشرحها»: ويتجه، ويجوز للإنسان كتبه شيئًا يسيرًا، ككلمة وسطر بقلمه من محبرة غيره بلا إذنه، لجريان العادة بذلك؛ ولأنه مما يتسامح به عادة. وقال الشيخ تقي الدين: العين والمنفعة التي لا قيمة لها عادة لا يصح أن يرد عليها عقد بيع ولا عقد إجارة كمسألتنا، أي: كالاستناد إلى الجدار ونحوه، ومثلها في العين نحو حبة بر.

إذا طلب شريك في حائط أو سقف شريكه ببناء معه
س108: تكلم عن أحكام ما يلي: إذا طلب شريك في حائط أو سقف شريكه ببناء معه. إذا بناه بإذن شريك أو حاكم، أو بناه شريك لنفسه. إذا احتاج نهر أو دولاب، أو بئر أو ناعورة، أو قناة لعمارة، وهو مشترك إذا عجز قوم عن عمارة قناتهم أو نحوها، فأعطوها لمن يعمرها بجزء. من كان له علو بيت، فانهدم الأسفل، هل يلزم الأعلى بناؤه أو المساعدة عليه؟ من هدم بناء له فيه حصة إذا خيف سقوطه، واذكر ما لذلك من أمثلة وأدلة وتعليلات.

ج: إذا طلب شريك في حائط انْهدم، أو سقف فيما بينهما مشاعًا، أوبين سُفْلِ أحدهما وعُلو الآخر ولو وقفًا انهدم، شريكه الموسِر فيه ببناء معه، أجبر المطلوب على النباء معه، كما يجر على نقضه معه عند خوف سقوط الحائط أو السقف دفعًا لضرره؛ لحديث: «لا ضرر ولا ضرار» وكون الملك لا حرمة له في نفسه توجب الإنفاق عليه مسلم؛ لكن حرمة الشريك الذي يتضرر بترك البناء توجب ذلك؛ فإن أبى شريك البناء مع شريكه،
وأجبره عليه حاكم وأصر، أخذ حاكم ترافعًا إليه من مال الممتنع النقدَ، وأنفق بقدر حصته، أو باع الحاكم عَرَضَ الممتنع إن لم يكن له نقد، وأنفق من ثمنه مع شريكه بالحاصة، لقيامه مقام الممتنع؛ فإن تعذر ذلك على الحاكم لنحو تغيب ماله، اقترض عليه الحاكم، ليؤدي ما عليه، كنفقة نحو زوجته، وإن بناه شريك بإذن شريكه، أو بناه بإذن حاكم أو بدون إذنهما، ليرجع على شريكه حال كون ما يبنيه شركة، رجع لوجوبه على المنفق عنه، وإن بناه لنفسه بآلته، فالمبني شركة بينهما كما كان؛ لأن الباني إنما أنفق على التأليف، وهو أثر لا عين يملكها، وليس له أن يمنع شريكه من الانتفاع به قبل أخذ نفقة تأليفه، كما أنه ليس له نقضه.
وإن بنى لنفسه بغير آلة المنهدم، فالبناء للباني خاصة، وله نقضه؛ لأنه ملكه، لا إن دفع له شريكه نصف قيمته، فلا يملك نقضه؛ لأنه يجبر على البناء فأجبر على الإبقاء، وليس لغير الباني نقضه ولا إجبار الباني على نقضه؛ لأنه إذا لم يملك منعه من بناء فأولى أن لا يملك إجباره على نقضه.
وإن لم يرد الانتفاع به، وطالبه الباني بالغرامة أو القيمة، لم يلزمه إلا إن أذن. وإن كان له رسم انتفاع ووضع خشب، وقال: إما أن تأخذه مني نصف القيمة لأنتفع به أو تقلعه لنعيد البناء بيننا، لزمه إجابته؛ لأنه لا يملك إبطال رسومه وانتفاه، وكذا إن احتاج لعمارة نهر أو دولاب أو بئر أو ناعورة أو قناة مشتركة بين اثنين فأكثر، فيجبر الشريك على العمارة إن امتنع، وفي النفقة ما سبق تفصيله. وليس لأحدهم منع صاحبه من العمارة إذا أرادها كالحائط؛ فإن عمره أحدهم فالمال بينهم على الشركة، ولا يختص المعمر؛ لأن الماء ينبع من ملكهم، وإنما أثر أحدهم في نقل الطين منه، وليس فيه عين مال، والحكم في الرجوع بالنفقة كما تقدم في الحائط، وإذا كان بعض شركاء في نهر أو نحوه أقرب إلى أوله من بعض، اشترك الكل في كريه وإصلاحه حتى يصلوا إلى الأول، ثم إذا وصلوا فلا شيء على الأول، لانتهاء استحقاقه؛ لأنه لا حق له فيما وراء ذلك، ويشترون الباقون حتى يصلوا إلى الثاني، ثم لا شيء عليه لما تقدم. ويشترك من بعد الثاني حتى ينتهي إلى الثالث، ثم لا شيء عليه، وهكذا كلما انتهى العمل إلى موضع واحد منهم لم يكن عليه فيما بعده شيء؛ لأنه لا ملك فيما وراء موضعه.
وإن بنيا ما بينهما نصفين من حائط وغيره، والنفقة بينهما نصفين، على أن لأحدهما أكثر مما للآخر، كأن شرطا لأحدهما الثلثين مثلاً، وللآخر الثلث، لم يصح؛ لأنه صالح على بعض ملكه ببعضه، أشبه ما لو أقر له بدار فصالحه بسكناها، أو بنياه على أن كلاً منهما يحمله ما يحتاج إليه لم يصح، ولو وصف الحمل؛ لأنه لا ينضبط.
وإن عجز قوم عن عمارة قناتهم أو نحوها، فأعطوها لمن يعمرها، ويكون له منها جزء معلوم، كنصف أو ربع، صح، وكذا لم يعجزوا على ما يأتي في الإجارة، كدفع رقيق لمن يربيه بجزءٍ معلومٍ منه، وغزل لمن ينسجه كذلك. ومن له علو من طبقتين، والسفلى للآخر، أوله طبقة ثانية وما تحتها لغيره، فانهدم السفل في الأولى أو الوسطى، أو هما في الثانية، لم يشارك رب العلو في النفقة على بناء ما انهدم تحته من سفل أو وسط؛ لأن الحيطان إنما تبنى لمنع النظر والوصول إلى الساكن، وهذا يختص به من تحته دون رب العلو، وأجبر على البناء مالكُ المنهدم تحت، ليتمكن رب العلو من انتفاعه به. ولو كان السفل الواحد، والعلو لآخر، وتنازعا في السقف ولا بينة، فالسقف بينهما، لانتفاع كل به لا صاحب العلو وحده، ويأتي إن شاء الله في «الدعاوى» بأوضح من هذا.

من النظم فيما يصح الصلح عنه
ومن غصنه قد مال في ملك غيره ... ليرفعه أن يطلب وإلا ليبعد
برفع إذا وأتى وإلا بقطعه ... ووجهان في الإجبار مع غرم مفسد
وصلح جواز في انتفا الشح بالنما ... وفي العوض المعلوم أوجه فوطد
فمن لمحفوظ خلاف ابن حامد ... وقيل على سال بأرضك معمد
كذا الحكم في ساري العروض لأرضه ... وكالتمر ما ينبت عليه ليعدد
وحظر بلا إذن خروج بروشن ... مضر وساباط ودكان معتد
وإن كان قد ملك لقوم فحكمه ... إليهم وإلا للإمام المقلد
ويضمن ما أراده والصلح جائز ... مع العلم في الحقين في المتجود
وإخراج ميزاب لسيل أجز بلا ... أذىً غالبًا والمنع أشهر فاصدد
ولا تفتحن في ظهر دارك منفذًا ... ممرًا بلا إذن بدرب مسدد
وفتحكه لا للمرور مُجَوَّز ... على أشهر الوجهين والصلح جود
وفتحكه في نافذ الدر جائز ... بغير خلاف في الطريق المعود
والأقوى لذي الدارين أن يتلاصقا ... بدربين لاستطراق من كل مفرد
ويملك نقل الباب في الدرب خارجًا ... كذا العكس في وجه في نصه اصدد
وإن رام فتحًا في مقابل باب من ... يجاوره يمنعه إن شاء يصدد
وإن تجد البابين في غير نافذ ... لشخصين في الدرب اشتراكهما احدد
إلى أول البابين بل منتهى بنا ... المقدم وللثاني جميع المزيد
وفي ثالث فالدرب بينهما معًا ... لأنهما سيان في الحق واليد
ولا تحدثن في غير ملكك طاقة ... وعن وضع أخشاب لضربه ذد
وجوز بإذن أو بصلح إجارة ... معينة أو صلح دهر مؤبد
وفي نقض هذا الحائط احكم له إذا ... بناه برد الرسم في الصلح تحمد
وصلحًا لمنع الرد أو رفعها أجز ... وإن تجهلن كيفية الوضع أيد
فإن لم يضر أو له عن غنية ... فلابد من إذن على المتوطد
فإن لم يكن عنه غنى لتعذر السقيف ... أجز قهرًا وقيل بل اصدد
وقولان في المضطر والحال هذه ... إلى وضع أخشاب بحائط مسجد
وإن خيف من ضعف البنا فليزل كذا ... لينقض لخوف الهدم أو حسن مقعد
وليس لدى ذي الحق نقل لغيره ... ولا صلحه أيضًا فمع ذا الغنى اصدد
وأما يعده وضع ما ليس لازمًا ... فيسقط فشرط الرد إذن مجدد
ومشترك الحيطان يسقط إن أبى ... الشريك على الإنفاق يجبر بأوكد
وليس له منع الشريك بناؤه ... وخير له إذن الأمير المقلد
وللحاكم الإنفاق من ماله إذا ... رأى يسره أو باقتراض مردد
فإن يبنه الباني بآلة نقضه ... على أجرة التأليف لا يتزيد
فإن يبن بالأنقاض يرجع شركة ... بلا أجر تأليف وقيل ليصدد
عن النفع قبل إعطاء قسط بنائه ... وإن يبنه من ماله فليفرد
وبالشركة احكم بل إذا كان محدثًا ... له آلة من ماله فليفرد
به وله إن شاء نقض بنائه ... وإن يبذل القسط الشريك وينقد
على تركه للنفع لم يجبرن على ... الْقَبُول وعنه إن يأب يجبر ويلهد
فإن قيل لم يجبر فإن تبد حاجة ... الشريك فيمنعه انتفاعًا ويصدد
فخيره إن شاء الخراب ليبنيا ... جميعًا وإن شاء القبول فأرشد
وصاحب علو دون سفل إذا هوت ... من السفل حيطان إن العود يقصد
ليجبر معه صاحب السفل في البنا ... وفي العكس في إحدى المقالين فاطهد
فعنه على كل بنا حد مُلْكِهِ ... بقولين في تشريكه والتفرد
وبينهما التسقيف ظلاً ومركزًا ... وفي ثالث مع أوسط حكم ما ابتدى
ومن يبن منهم حسبة فهو شركة ... ووجهين في ناوي الرجوع فأسند
ولا نفع في الأدنى متى يبن من علا ... بغير رضى أو غرم قسط كمبتدي
وقيل له السكنى كظل لغيره ... وليس له نفع بحيطانه اصدد
ومن داره تعلو على الجار يلزمن ... بنا يستر الأدنى لباغي التقصد
ويلزم أيضًا سد طاق علا ولو ... تقدم ودعوى لا أرى لا تقلد
ومن يأب ألزمه البنا مع جاره ... إذا استويا بالارتفاع بأجود
ولا غرم في هدي المخوف سقوطه ... المضر وإن يؤمن ليضمنه معتدي
ومن يأب ترميمًا لبئر وآلة استقاء ... ليجبر مع شريك بأوكد
وليس له منع الشريك صلاحه ... ومن بعد في التشريك في الماء فاشهد
وليس له نفع بآلات منفق ... بغير رضى أو غرم قسط المجددِ
ويمنعه من كل نفع لجاره ... كحش وحمام وتنور موقد
ودكان حداد ودق قصارة ... ومدبغة تؤذي بريح منكد
ومن غرس ما يمتد منه عروقه ... إلى بئر ما الجار في المتوطد
وسيان مؤذي المال والنفس يا فتى ... وضمنه ما أراده فعل المصدد

-----------------------------------------
وَقْفٌ للهِ تَعَالَى
تَأْلِيفُ
عَبدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ السّلمانِ
المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين.



المجلد الرابع 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
المجلد الرابع
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: فـقـــــــه الــدنــيــــا والديـــــن :: أسئلة وأجوبة فقهيـة-
انتقل الى: