وقال بعض أهل العلم:
إن القيام فيه تلاوة القرآن وهي أعظم شئ في مناجاة الله سبحانه وتعالى كفاحاً فليقرأ القرآن، وفي القرآن وصف الله وبيان عظمته، وشواهد قدرته، ودلائل وحدانيته، وفيه أمره ونهيه ووعده ووعيده، فالزيادة في القيام زيادة في التلاوة، وزيادتها فيها لله تعظيم، وفيها للعبد تعليم، وبها إحياء القلوب وتذكير العقول، وتشويق النفوس إلى النعيم وتخويفها من الجحيم ولكل هذا فالقيام وطوله أفضل.
وقال الآخرون:
السجود فيه القرب من الله تعالى، والتسبيح بعظمته، والدعاء له، وفيه انقياد العبد لمولاه، ومخالفته لإبليس الذي عصاه فلذا طول السجود أفضل.
فتنازعوا من حيث المعنى الإيماني المرتبط بتعظيم الله سبحانه وتعالى والذلة له عز وحل فقال بعضهم بهذا وبعضهم بهذا، وقد رجح ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد أن طول القنوت أي القيام أولى من طول السجود (32).
وما ذكرت هذه المسألة إلا لأبين أن العبادة حينما يستشعر الإنسان لذتها وحلاوتها وحين يقبل عليها بكمال خشوعها فإنه حينئذ يكون بغير شعور مطولاً لقيامها وسجودها، ولذلك وصفت عائشة رضي الله عنها في الصحيح قيام النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ((يسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه)) (33).
3- كيفية السجود:
ليست القضية هي طول السجود كيفما اتفق، كلا، فهناك بعض الناس في السجود يفترش ذراعيه ويجعل بطنه ملتصقاً بفخذيه.
فإذا سجد بهذه الهيئة يكون السجود له راحة كأنه شبه مضطجع أو شبه نائم فيطيل السجود ما شاء الله له أن يطيل، كلا ليس هذا هو المقصود بل المقصود أن يأتي بالسجود على هيئته الصحيحة ثم يطيل هذا السجود فلا يطيله حينئذ لأنه راحة يتخلص بها من تعب الوقوف.
عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب)) (1).
عن عبد الله بن بحينة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى فرّج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه (2).
وحقيقة المقصود بطول السجود هنا هو أن الإنسان إذا أقبل على الله بكليتيه واستحضر هذه المعاني الإيمانية فإنه سيجد لذة عجيبة في المناجاة تجعله يطيل هذا السجود، بدون شعور بعناء، وقد روي أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه كان إذا سجد جاءت الطير فوقعت ووقفت عليه كأنه حائط أو كأنه صخرة ثابتة لا تتحرك.
وهنا أمران إحداهما أنه كان ساكناً لا يتحرك وثانيهما أنه كان مطيلاً للسجود، إذ لو كان سجوده طويلاً مع الحركة، أو كان سجوده قصيراً ولو دون حركة، لما أستقر الطير عليه، ولا شك أن خشوع الجوارح من خشوع القلب، عن على رضي الله عنه: الخشوع خشوع القلب.
وقال الحسن البصري:
كان خشوعهم في قلوبهم فغضوا بذلك أبصارهم وخفضوا الجناح (*).
والمندوب في السجود أن يكون السجود طويلاً ولا يكون طويلاً إلا مع الأذكار والأدعية المأثورة.
الذكـر والدعـاء:
من المستحب الإكثار من الدعاء في السجود لما ذكرناه من معنى القرب، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر ما ورد في دعائه في الصلاة إنما هو في السجود، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله (35) سبعه مواضع للدعاء في الصلاة وآكدها وأكثرها وروداً لأدعية النبي صلى الله عليه وسلم هو السجود.
وللسجود اختصاص بالدعاء تميز به عن غيره من مواضع وهيئات الصلاة ولذا فقد ورد في الحديث الصحيح: ((أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤية الصالحة يراها المسلم أو ترى له، ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظمُوا فيه الرب عز وجل وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن (*) أن يستجاب لكم)) (36) أي أن الدعاء في السجود جدير أن يستجاب للمعاني التي ذكرناها من ذلة العبد لله ومعرفته لربه إلى آخر ما سبق الإشارة إليه.
أدعية السجود:
وردت أدعية كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في سجوده وهي متناسبة مع الذكر والمشروع (سبحان ربي الأعلى) الذي ذكرنا مناسبته العجيبة إذ في هذا المقام الأدنى حساً، يسبح باسم ربه الأعلى، وكذلك جاءت الأذكار والأدعية المأثورة في السجود ومنها:
1- حديث عائشة -رضي الله عنه-:
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((سبوح قدوس رب الملائكة والروح)) (37)، وهذا أيضاً تسبيح وتقديس وإشعار للعبد بأنه يسجد للعظيم رب الملائكة والروح (جبريل علية السلام) والملائكة كما قال تعالى: ((يسبحون الليل والنهار لا يفترون)) (38)، فأنت أيها الساجد تسبح ربك الأعلى وأنت في المقام الأدنى فيتوافق تسبيحك مع تسبيح الملائكة في الملأ الأعلى، فتستشعر الموافقة لهذه المخلوقات النورانية في العبودية لله وبالأخص في تسبيحه الذي يتردد في أرجاء الكون: ((وأن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم)) (39)، وتستشعر أن العبادة وسجودها يرقى بك إلى الملأ الأعلى، ويغلب الجانب الروحاني فيك على الجانب الجسماني.
وعند التأمل نجد كثيراً من الآيات القرآنية قرنت بين السجود والتسبيح فآية السجدة قال الله فيها: ((إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون)) (40)، فالسجود مع التسبيح دليل على العبودية وترك الاستكبار عن عبادة الله، والسجود خضوع وذله من العبد ، وفي الآية تصوير يشير إلى أن العبد قد أستحضر عظمة ربه فهوى وانكب على وجهه ساجداً ((خروا سجداً))، ثم عظم الله ونزهه، ((وسبحوا بحمد ربهم)) فكان فعله وقوله شاهد على انسلاخه من التكبر على الله والتحلي بالذلة له.
2- ورد في الحديث عند مسلم -رحمه الله عنه-:
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعوا في سجوده فيقول: ((اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله وأوله وآخره وعلانيته وسره )) (41)، فكيف ترى هذه الجوامع من الكلم؟ إنها لم تدع ذنباً مما يستغفر منه إلا وذكر فيها على وجازتها، وهذا الدعاء يناسب الإنسان وحاله في السجود، وكونه يسأل ويطلب من رب الوجود، في موضوع وحال وعده فيها بالقبول وحصول المقصود، فمثلاً لو قيل لك أن الوالي أو الأمير يفتح بابه في يوم كذا في ساعة معينة، ثم يمكث ساعة من الزمن لا يمنع فيها أحد من الدخول ولا يرد سائلاً، فإن من الحكمة استغلال هذه الفرصة الثمينة وأن يكون السؤال والطلب عظيماً ما دام الوعد كبيراً.
ولما كان السجود موضع الإجابة والاستجابة كان من عظمة هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن جاء دعاؤه فيه جامعاً لأهم المهمات وهو غفران الذنوب بهذه الكلمات الجامعة التي لا يخرج منها ذنب إلا وهو -بإذن الله- مغفور، فلا يبقى حينئذ -يعني للإنسان- مطلب أعظم من مثل هذا.
3- ورد عن عائشة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: ((اللهم، أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)) (1).
4- وورد من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قد كان دعائه في سجوده: ((اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصورة، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين)) (2).
5- وكان صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده: ((اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً وفي بصري نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، وفوقي نوراً، ونحتي نوراً، واجعل لي نوراً)) (3).
وهذه الأذكار والأدعية من رحمة الله ومن تيسيره لأنها جامعة ووجيزة فحتى لو لم يطل سجودك فإن تسبيحه جل وعلا ثلاث مرات وهو أمر يسير لا يستغرق وقتاً طويلاً فيه من العظمة واستحضار المعاني، وتعظيم الأمر شيء كثير وكذلك سائر ما أوردناه من الأذكار والأدعية، ولذا كان الحرص على المأثور أفضل لأنه أجمع وأكمل.
البكـاء في السـجود:
البكاء من صور الكمال في التأثر والانفعال في السجود وغالب بكاء المسلم في صلاته في موضعين، موضع القيام وموضع السجود، أما في موضع القيام لما يتلوه أو يسمعه من آيات القرآن الكريم التي فيها الوعد والوعيد، وذكر الجنة والنار، فيخشع القلب وتدمع العين، وأما موضع السجود فإنه بانطراحه بين يدي الله سبحانه وتعالى، وضعفه وقله حيلته وينبهه إلى تقصيره في حق ربه جل وعلا، ولذلك أقترن ذكر البكاء بالسجود كما في قوله عز وجل: ((إذا عليكم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً)) (42).
فهم أتقياء شديدو الحساسية بالله، ترتعش وجداناتهم حين تتلى عليهم آياته، فلا تسعفهم الكلمات للتعبير عما يخالج مشاعرهم من التأثر، فتفيض عيونهم بالدموع ويخرون سجداً وبكياً، (1).
قرأ عمر بن الخطاب رضى الله عنه سورة مريم فسجد وقال: هذا السجود، فأين البكيّ (2).
وقوله جل وعلا: ((ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً)) (43)، وهو مشهد موح يلمس الوجدان.
مشهد الذين أوتوا العلم من قبله، وهم يسمعون القرآن، فيخشعون و ((ويخرون للأذقان سجداً)) إنهم لا يتمالكون أنفسهم، فهم لا يسجدون ولكن ((يخرون للأذقان سجداً)) ثم تنطق ألسنتهم بما خالج مشاعرهم من إحساس بعظمه الله وصدق وعده: ((سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً)) ويغلبهم التأثر فلا تكفي الألفاظ في تصوير ما يجيش في صدورهم منه، فإذا الدموع تنطلق معبره عن ذلك التأثر الغامر الذي تصوره الألفاظ (1)، فصفه الخشوع الكامل في هذا السجود أن يكون مقترناً بكمال الذل والبكاء لله سبحانه وتعالى.
الخوف والرجاء في السجود:
من لوازم كمال السجود أن يكون العبد متقلباً بين الخوف والرجاء، إذ أنه سجد امتثالاً للأمر وخالف حال إبليس الذي أبى أن يسجد، ولم يكن ممن امتنع من السجود من الناس، فهو لهذا يرجوا أن يكون في سجوده حصول رضى الله وأن يستجيب له دعاءه، وفي ذات الوقت يستحضر اللعنة التي حلت بإبليس، ويتذكر موقف الكافرين وعدم قدرتهم على السجود في الآخرة ويفكر في كب إبليس وأتباعه من الكافرين بل وبعض العاصيين على وجوههم في النار، فيخشى غضب ربه ويخاف عذابه، ولذا نرى في الآيات هذا الربط بين السجود والخوف والرجاء، فعندما قال الله جل وعلا: ((إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون)) (45)، جاء بعدها مباشرة ((تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً)) (46)، وتأمل كذلك قول الله تعالى: (أمن هو قانت أناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمه ربه)) (47)، إنه لا يخفي وجه الارتباط ذلك أن المؤمن العابد له من عظمة إيمانه ومعرفته بحق ربه، وتفريطه في أمره، ما يكون به خائفاً، وله من حسن ظنه بربه ومعرفته بسعة رحمته ما يجعله راجياً، أما غير العابد من الساجدين فهم في غيهم يعمهون ولا يستشعرون مثل هذه المعاني، ولذا كان من وصف عباد الرحمن ((والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً * والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابهما كان غراماً)) (48).
فضائل السجود وآثاره:
إن تحقق تلك المعاني الإيمانية واللذة الروحانية يكفي المسلم العابد، والمؤمن الساجد، الذي غايته رضى الله ويرغب في السعادة والطمأنينة في الحياة، ومع ذلك فأن ف،ضل الله عظيم وعطاء الكريم جزيل، ولذا فإنه جعل للسجود أعظم الأجر وأجزل الثواب وأنفع الثمار وأفضل الآثار.
ومنها:
1- ورد عند مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أخبرني عن عمل يدخلني الجنة؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأعاد الرجل قوله ثانية فسكت عليه الصلاة والسلام، فأعاد الرجل قوله ثالثة فسكت ثم قال له سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (عليك بالسجود فأنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة) (49) كل سجدة ترفع بها درجة وتحط عنك بها خطيئة، الله أكبر ما أعظمه من أجر، فتأمل كم أنت مفرط في حق نفسك إذ لم تكثر من السجود لله سبحانه وتعالى.
2- السجود من أعظم أسباب الوقاية من عذاب النار:
وشاهد ذلك حديث ربيعه بن كعب لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم مرافقته في الجنة فكان جواب المصطفى عليه الصلاة والسلام له أنه قال: ((فأعني على نفسك بكثرة السجود)) (50)، وهذا يدل على أن السجود من أعظم المؤهلات لدخول الجنة وحصول رضوان الله تعالى.
3- في السجود نوع من تفريج الهم، وتنفيس الكرب وحصول انشراح الصدر، وثبوت الإيمان في القلب
والمسلم عندما تتكالب عليه الدنيا بمشكلاتها ومعضلاتها، وتعترضه المحن وتحل به الابتلاءات يجد في العبادة والسجود عوناً على ذلك ومخرجاً منه، ومما يدل على ذلك ما سبق ذكره من قوله تعالى: ((كلا لا تطعه واسجد وأقترب)) (51)، وهو توجيه بالصد عن أعراض المعرضين وتكذيبهم والاستعانة على مواجهتهم بالطاعة والسجود، وتأمل كذلك قوله تعالى: ((ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين)) (52)، وعندما أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: ((فأصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفورا)) (53)، جاء بعد ذلك ما يدله على معين الصبر ونبع الثبات ((واذكر ربك بكرةً وأصيلاً ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلا)) (54)، ولهذا جاء الأمر للمؤمنين صريحاً واضحاً: ((يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة)) (55)، وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الأمر مطابقاً حيث كان إذا حزبه أمر صلى (1).
إذا ضاقت عليك الدنيا فأقبل على الآخرة، إذا وجدت عناء من شرار الخلق فإنك واجد فرجاً وفيض عطاء من الخالق، وهذا المعنى مهم بالنسبة للمؤمن وللدعاة على وجه الخصوص لانهم يلاقون الإعراض ويتعرضون للإيذاء، فليعلموا أنه لا يثبتهم ولا يشرح صدورهم ولا يزيل غمهم وكربهم إلا هذه العبادة وهذا السجود حينما ينطرح الواحد بين يدي الله فيلقى بأمره وهمه بين يدي الله ويلقي بما يلقى من كيد الكائدين وإجرام المجرمين بين يدي مولاه فيدفع عنه لأنه وعد ((إن الله يدافع عن الذين آمنوا)) (56)، فيكون السجود أنساً له وكأن لسان حاله يقول ((إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي)) (1).
هذا المعنى مهم جداً في حياة المؤمن وهو أعظم ثمار السجود وفي ظلاله نفهم معنى قوله عليه الصلاة والسلام: ((يا بلال أرحنا بالصلاة)) (2)، وقوله: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)).
4- من آثار هذا السجود وفيض خيرة وبركته ما يشير إليه قول الله تعالى:
((سيماهم في وجوههم من أثر السجود)) ( 57) قال أهل العلم: هو الخشوع، وقال بعضهم: هو نور الوجه، وقال بعضهم هو أن لا يظهر على وجهه ما يظهر على العصاة من ظلمة وقتر وقتام كما أخبر الله عنهم: ((ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة))، وهذا قد لا يفطن إليه الإنسان لكنه يراه عياذاً بالله فيمن يعرضون عن الطاعة ويتركون الصلاة، فإذا وجوههم كالحة، وعيونهم غائرة، وقد يكون ذلك أحياناً يرى رؤية حسية وأحياناً يكون معنوياً حيث لا يكون لأولئك محبة في القلوب، ولا قبول في النفوس، كما يحرمون التوفيق.
5- ومن أعظم هذه الآثار والبركات والفضائل أن الاجدين المصلين يبعثون يوم القيامة غراً محجلين من آثار السجود
كما ورد في الحديث الصحيح أنهم ((يبعثون غراً محجلين)) (*)، أي منورين وجوههم مضيئة مشرقة من آثار السجود لما سجدوا لله نور الله وجوههم وبيضها يوم القيامة ((يوم تبيض وجوه وتسود وجوه)) (58).
هذه جملة من المعاني أشرنا فيها إلى أهميه السجود وعظمته، ثم أوضحنا ما يدل على كونه أسمى المقامات عند الله عز وجل ثم عرجنا على الدلالات المعنوية التي تفسر هذا القرب، وبعد ذلك أوجزنا ما يتعلق بمندوبات السجود وختمنا ذلك بفضائل السجود وآثاره، واستكمالاً لفقه السجود سنوجز ما يتعلق بالسجود من حيث الأحكام الفقهية.
سـجود السـهو
السهو:
هو النسيان، والمقصود السجود الذي يشرع عند وقوع النسيان في الصلاة.
وجملة ما يترتب على النسيان ثلاثة أحوال:
1- الزيادة في الصلاة من جنسها كأن يزيد ركعة أو سجدة أو نحو ذلك.
2- النقص في الصلاة كأن يسلم من الصلاة قبل تمامها أو ينسي واجباً كالتشهد الأول.
3- الشك في عدد الركعات أو في إتيانه بركن أو عدمه.
وقد وقع السهو من النبي صلى الله عليه وسلم ليسن للأمة، ومدار الحكم في سجود السهو على هذه الوقائع:
1- في الزيادة: روي الجماعة عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خمساً، فقيل له: أزيدَ في الصلاة؟ فقال: وما ذلك؟ فقالوا صليت خمساً فسجد سجدتين بعدما سلم))، وفي لفظ مسلم ((فإذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين)) (1).
2- في النقص:
روى الشيخان حديث ذي اليدين لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشاء ركعتين ثم سلم، فقال ذو اليدين؟ يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: ((لم أنسا ولم تقصر، فقال: أكما يقول ذو اليدين؟، قالوا: نعم فتقدم فصلى ما ترك من صلاته ثم سلم ثم سجد للسهو)) (1).
ومن النقص ترك الواجب ومنه التشهد الأول كما ورد في حديث ابن بحينة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فقام من الركعتين فسبحوا به فمضى، فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين ثم سلم)) (2).
وهذه الحالة تتكرر كثيراً وحكمها أنه إذا سهى وقام واستتم قائماً لم يعد للتشهد الأول واجب، فإن لم يستتم قائماً وتذكر عاد لحديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قام الإمام في الركعتين فإن ذكر قبل أن يستوي قائماً فليجلس فإن استوى قائماً فلا يجلس ويسجد له، حديث السهو)) (1).
3- في الشك:
جاء حديث عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا سها أحدكم في صلاته فلم يدر واحدة صلى أو ثنتين فليبن على واحدة فإن لم يدر ثنتين صلى أو ثلاثاً فليبن على ثنتين فإن لم يدر ثلاثاً صلى أو اربعاً فليبن على ثلاث وليسجد سجدتين قبل أن يسلم)) (2).
وهذا الحديث فيه البناء على الأقل المتيقن ثم يكمل ويسجد، وهناك قوله بأنه يبني على اليقين ويترك الشك ودليل هذا القول:
ما رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثاً أو أربعاً فليطرح الشك وليبين على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فأن كان صلى صلاته خمساً وإن كان صلى إتماماً لأربع كانتا ترغيماً للشيطان)) (1).
وفي الشك قول ثالث أنه يبنى على غالب ظنه، ومستند هذا القول ما رواه مسلم عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسجد سجدتين)) (2).
سجود التلاوة:
من قرأ آيه سجدة أو سمعها يستحب له أن يكبر ويسجد، فعن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبَّر وسجد وسجدنا معه)) (1).
قال ابن القيم -رحمه الله-:
((ومواضع السجدات أخبار وأوامر، خبر من الله عن سجود مخلوقاته له، عموماً أو خصوصاً، فحسن للتالي والسامع أن يتشبه بهم عند تلاوة آية السجدة أو سماعها وآيات الأوامر بطريق الأولى)) (2).
فضلـه:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله أُمِرَ ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأُمِرْتُ بالسجود فأبيتُ فليَ النار)) (3).
وفي الحديث:
((ما من عبد يسجد سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها سيئة)) (4).
حكمـه:
الجمهور على أن سجود التلاوة سنه للقارئ والمستمع لما رواه البخاري عن عمر -رضي الله عنه- أنه قرأ عحكمـهوفي لفظ: شروط صحة سجود التلاوة:قال الحنفية: وقال المالكية: وقال الشافعية: وقال الحنابلة: 1- أن يصلح القارئ للإمامة:2- أن يسجد القارئ:أسباب سجدة التلاوة:صفة سجود التلاوة:سجود الشكر:حكمـه:صفتـه: شروط سجدة الشكر:قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: خاتـمـة:لى المنبر يوم الجمعة بسورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء السجدة قال: ((يا أيها الناس إنّا لم نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه)).
وفي لفظ:
((إن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء)) (5).
شروط صحة سجود التلاوة:
يشترط لصحة سجدة التلاوة ما يشترط لصحة الصلاة: من طهارة الحدث (وهي الوضوء والغسل)، وطهارة النجس (وهي طهارة البدن والثوب ومكان السجود والقيام والقعود)، وستر العورة واستقبال القبلة والنية، وهذه شروط متفق عليها واختلفوا فيما عداها.
قال الحنفية:
لا يشترط لها السلام كالصلاة.
وقال المالكية:
لا إحرم فيها ولا تسليم.
وقال الشافعية:
يشترط مع النية تكبيرة الإحرام على الصحيح.
وقال الحنابلة:
يزاد على الشروط المتفق عليها في المستمع شرطان:
1- أن يصلح القارئ للإمامة:
فلو سمع الآية من امرأة وغير آدمي كالببغاء وآلة التسجيل لا يسن له السجود.
2- أن يسجد القارئ:
فإذا لم يسجد فلا يسن للمستمع.
أسباب سجدة التلاوة:
تتردد أسباب سجود التلاوة بين التلاوة لآية فيها سجدة أو سماع الآية أو الاستمتاع إليها، والاستمتاع يكون بقصد والسماع ليس كذلك، ومذهب الجمهور أن الاستمتاع من أسباب السجود وأما السماع فليس سبباً، وعدّه الحنفية سبباً ولم يفرقوا بين السماع والاستمتاع.
صفة سجود التلاوة:
هيئة سجود التلاوة مثل هيئة السجود المعهود في الصلاة ويكبر لها استحباباً عند الجمهور وعدّ الشافعية هذه التكبيرة ركناً كأنها تكبيرة إحرام، ويسبح مثل سجود الصلاة ويسن له أن يقول ما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم أكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود)) (6)، ويرفع رأسه من السجود ويكبر استحباباً، ولا تشهد بعدها، وعند الحنفية لا تسليم لها وعند الشافعية السلام من أركانها، والحنابلة أوجبوا التسليمة الأولى دون الثانية.
سجود الشكر:
ويكون سجود الشكر عند تجدد النعم واندفاع النقم، ويكون ذلك مطلقاً سواء كانت خاصة أو عامة أو دنيوية ظاهرة أو باطنة كتجدد ولد، أو مال أو جاه أو نصرة على عدو، أو غير ذلك من سائر النعم أو اندفاع النقم.
حكمـه:
الجمهور على أن سجود الشكر مستحب (7) لمَنْ تجددت له نعمة تسره أو صرفت عنه نقمة، فعن أبي بكرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه كان إذا جاءه أمر سرور أو بشَّر به خرّ ساجداً شاكراً لله)) (1).
وروي البيهقي بإسناد على شرط البخاري أن عليًّا رضي الله عنه لماّ كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام همذان خَرّ ساجداً ثم رفع رأسه فقال: ((السلام على همذان السلام على همذان)).
وروي الأمام أحمد عن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوجه نحو صدقته، فدخل فاستقبل القبلة، فخر ساجداً فأطال السجود، حتى ظننت أن الله عز وجل قبض نفسه فيها، فدنوت منه فجلست، فرفع رأسه فقال: ((من هذا ؟)) قلت: عبد الرحمن، قال: ((ما شأنك؟)) قلت: يا رسول الله، سجدت سجدة خشيت أن يكون الله عز وجل قد قبض نفسك فيها، فقال: ((إن جبريل عليه السلام أتاني فبشرني فقال: إن الله عز وجل يقول: مَنْ صلّى عليك صلّيت عليه، ومَنْ سلّم عليك سلّمت عليه)) فسجدتُ لله عز وجل شكراً)) (*) وروي البخاري أن كعب بن مالك -رضي الله عنه- سجد لمَّا جاءته البشرى بتوبة الله تعالى عليه (1).
صفتـه:
مثل سجود التلاوة دون الدعاء المأثور لأنه خاص بسجود التلاوة.
شروط سجدة الشكر:
قيل: يشترط لسجود الشكر ما يشترط لسجود التلاوة والصحيح أنه ليس هناك ما يدل على اشتراط الوضوء والطهارة للمكان والثياب في سجود الشكر، ولا يسجد للشكر وهو في الصلاة، إلا أن يكون ناسياً أو جاهلاً بتحريم ذلك (10).
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-:
لو أراد الدعاء فعفر وجهه لله بالتراب وسجد له ليدعوه فيه، فهذا سجود لأجل الدعاء، ولا شيء يمنعه، فالمكروه هو سجود بلا سبب (11).
خاتـمـة:
ها هي المحطة الأخيرة في هذه الرسالة التي عرجنا خلالها على عدد غير قليل من المعاني الإيمانية المتصلة بالسجود أبرز صور العبودية والخضوع في أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين وهي الصلاة.
وأحسب أن هذه العجالة تثير في النفس شجوناً وفي العقل تفكيراً حول الأثر الإيماني الذي يلامس القلوب فيحييها ويملؤها خشية لله وحباً له، واستحضاراً لعظمته وشوقاً للقائه لتنال النفس أحلى لذة، وأعظم سعادة، لا تقارن بها الدنيا بكل ما فيها من متاع زائل ونعيم زائف.
ولا أشك أن الجميع يستشعر أننا في أمس الحاجة إلى هذا الرواء في زمن الجدب، وإلى الارتباط بالآخرة في زحمة مغريات الدنيا، وإلى الانطلاق بالروح نحو آفاق الملأ الأعلى مع كثرة الجواذب التي تشيد إلى الأرض، فاللهم اجعلنا أغنى الأغنياء بك وأفقر الفقراء إليك وأذقنا لذة العبادة والطاعة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين.
----------------------
المصـادر والمراجـع
----------------------
1- القرآن الكريم.
2- تفسير القرآن العظيم، للإمام أبي الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي، طبع دار الفكر، 1412هـ.
3-في ظلال القرآن، سيد قطب ، طبع دار الشروق، الطبعة التاسعة، 1400هـ.
4-صفوة الآثار.
5- المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، طبع دار الدعوة، 1988م.
6- فتح الباري شرح صحيح الإمام البخاري، للإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، طبع دار الريان، الطبعة الثانية، 1409هـ.
7- صحيح مسلم بشرح النووي، للإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري، وشرحه للإمام أبي زكريا يحيي بن شرف النووي، طبع مؤسسة قرطبة. الطبعة الأولى، 1412هـ.
8- الجامع الصحيح (سنن الترمذي)، للإمام أبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، تحقيق وشرح الشيخ أحمد شاكر، طبع دار الكتب العلمية.
9- سنن أبي داود، للإمام الحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، طبع دار الحديث.
10- سنن النسائي، للإمام أبي عبد الرحمن بن شعيب النسائي، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، طبع دار البشائر، الطبعة الأولى المفهرسة 1406هـ.
11- المسند، للإمام أحمد بن حنبل، طبع دار الفكر، الطبعة الثانية، 1414هـ.
12- لسان العرب.
13- المعجم الكبير.
14- فيض القدير شرح الجامع الصغير، للإمام المناوي، طبع مؤسسة قرطبة.
15- النهاية في غريب الحديث والأثر، للإمام المبارك بن محمد الجزيري (ابن الأثير).
16- زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام ابن قيم الجوزية، طبع مؤسسة الرسالة، الطبعة السادسة والعشرون، 1412هـ.
17- حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع، للإمام عبد الرحمن بن محمد العاصمي، طبع مؤسسة قرطبة، الطبعة الثالثة، 1405هـ.
18- العدة شرح العمدة.
19- الفقه الإسلامي وأدلته.
20- فقه السنة، للشيخ سيد سابق.
21- إحياء علوم الدين، للإمام أبي حامد الغزالي.
22- نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء لمحمد حسن عقيل موسى، طبع دار الأندلس، الطبعة الأولى، 1411 هـ.
23- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، للإمام حاجي خليفة، طبعة المكتبة الفيصلية.
-----------------------------------
محتويـات الكتاب: 5
تمهيد 10
عظمة السجود 11
منزلة القرب في السجود 18
الكون والسجود 36
هيئة السجود وفضلة 40
الذكر والدعاء 45
أدعية السجود 47
البكاء في السجود 53
الخوف والرجاء في السجود 56
فضائل السجود وآثاره 59
أحكام فقهيه 66
1- سجود السهو 66
2- سجود التلاوة 71
3- سجود الشكر 77
الخاتمـة 81
المصادر والمراجع 83
محتويات الكتاب 87