أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: الباب الثاني عشر في الوصايا الحسنة والمواعظ المُستحسنة وما أشبه ذلك الإثنين 26 أكتوبر 2015, 5:20 pm | |
| الباب الثاني عشر في الوصايا الحسنة والمواعظ المستحسنة وما أشبه ذلك
قال الله تعالى: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) وقال الله تعالى: ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) وقال تعالى: ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) وقال تعالى: ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات ) والآيات في ذلك كثيرة مشهورة وفوائدها جمة منشورة.
وروينا في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: مَنْ رأى منكم منكراً فليُغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.
وقال شيخنا محي الدين النووي رحمة الله تعالى عليه في قوله تعالى: ( يا ايها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم مَنْ ضل إذا اهتديتم ) إن هذه الآية الكريمة مما يغتر بها أكثر الجاهلين ويحملونها على غير وجهها بل الصواب في معناها أنكم إذا فعلتم ما أمرتم به لا يضركم ضلالة مَنْ ضل.
ومن جملة ما أمروا به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والآية مرتبة في المعنى على قوله تعالى: ( ما على الرسول إلا البلاغ ).
وقال محمد بن تمام: الموعظة جند من جنود الله تعالى ومثلها مثل الطين يضرب به على الحائط إن استمسك نفع وإن وقع أثر.
ومن كلام علي رضي الله تعالى عنه: لا تكونن ممَّنْ لا تنفعه الموعظة إلا إذا بالغت في إيلامه فإن العاقل يتعظ بالأدب والبهائم لا تتعظ إلا بالضرب.
وأنشد الجاحظ: ( وليس يزجركم ما توعظون به ... والبهم يزجرها الراعي فتنزجر )
وكتب رجل إلى صديق له: أما بعد فعظ الناس بفعلك ولا تعظهم بقولك واستح من الله بقدر قربه منك وخفه بقدر قدرته عليك والسلام.
وقيل: مَنْ كان له من نفسه واعظ كان له من الله حافظ.
وقال لقمان: الموعظة تشق على السفيه كما يشق صعود الوعر على الشيخ الكبير.
قيل: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام (إنك إن أتيتني بعبد آبق كتبتك عندي حميداً ومَنْ كتبته عندي حميداً لم أعذبه بعدها أبداً.
وقال الرشيد لمنصور بن عمار: عظني وأوجز، فقال: يا أمير المؤمنين هل أحد أحب إليك من نفسك؟ قال: لا، قال: إن أردت أن لا تسيء إلى مَنْ تحب فافعل.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض خطبه: "أيها الناس الأيام تطوى والأعمار تفنى والأبدان في الثرى تبلى وأن الليل والنهار يتراكضان تراكض البريد ويقربان كل بعيد ويخلقان كل جديد وفي ذلك عباد الله ما ألهى عن الشهوات ورغب في الباقيات الصالحات".
ولما لقي ميمون بن مهران الحسن البصري قال له: لقد كنت أحب أن ألقاك فعظني، فقرأ الحسن البصري: ( أفرأيت مَنْ أتخذ إلهه هواه أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يُمتَّعون )، فقال: عليك السلام أبا سعيد لقد وعظتني أحسن موعظة.
ولما ضَرَبَ -ابن ملجم لعنهُ اللهُ- علياً رضي الله عنه دخل عليٌ منزله فاعترته غشية ثم أفاق فدعا الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما وقال: أوصيكما بتقوى الله تعالى والرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا ولا تأسفا على شيء فاتكما منها فإنكما عنها راحلان افعلا الخير وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، ثم دعا محمداً ولده، وقال له: أما سمعت ما أوصيت به أخويك؟ قال: بلى، قال: فإني أوصيك به وعليك ببر أخويك وتوقيرهما ومعرفة فضلهما ولا تقطع أمراً دونهما، ثم أقبل عليهما وقال: أوصيكما به خيراً فإنه أخوكما وابن أبيكما وأنتما تعلمان أن أباه كان يحبه فأحباه، ثم قال: يا بَنيَّ أوصيكم بتقوى الله في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الرضا والغضب والقصد في الغنى والفقر والعدل في الصديق والعدو والعمل في النشاط والكسل والرضا عن الله في الشدة والرخاء، يا بَنيَّ ما شرٌ بعده الجنة بشر ولا خير بعده النار بخير وكل نعيم دون الجنة حقير وكل بلاء دون النار عافية يا بَنيَّ مَنْ أبصر عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره ومَنْ رضيَ بما قسم الله له لم يحزن على ما فاته ومَنْ سل سيف البغي قُتل به ومَنْ حفر لأخيه بئراً وقع فيها ومَنْ هتك حجاب أخيه هُتكت عورات بنيه ومَنْ نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره ومَنْ أعجب برأيه ضل ومَنْ استغنى بعقله زل ومَنْ تكبَّر على الناس ذل ومَنْ خالط الأنذال احتقر ومَنْ دخل مداخل السوء اتهم ومَنْ جالس العلماء وقر ومَنْ مزح استخف به ومَنْ أكثر من شيء عرف به ومَن ْكثر كلامه كثر خطؤه وقل حياؤه ومَنْ قل حياؤه قل ورعه ومَنْ قل ورعه مات قلبه ومَنْ مات قلبه دخل النار، يا بَنيَّ الأدب ميزان الرجل وحُسن الخلق خير قرين يا بَنيَّ العافية عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت إلا عن ذكر الله تعالى وواحدة في ترك مجالسة السفهاء، يا بَنيَّ زينة الفقر الصبر وزينة الغنى الشُّكر يا بَنيَّ لا شرف أعلى من الإسلام ولا كرم أعز من التقوى ولا شفيع أنجح من التوبة ولا لباس أجمل من العافية، يا بَنيَّ الحرص مفتاح التعب ومطية النصب.
ولما حضرت هشام بن عبد الملك الوفاة نظر إلى أهله يبكون حوله فقال: جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم له بالبكاء وترك لكم جميع ما جمع وتركتم عليه ما حمل ما أعظم منقلب هشام إن لم يغفر الله له.
وقال الأوزاعي للمنصور في بعض كلامه: يا أمير المؤمنين أما علمت أنه كان بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جريدة يابسة يستاك بها ويردع بها المنافقين فأتاه جبريل عليه السلام فقال يا محمد ما هذه الجريدة التى بيدك اقذفها لا تمتلأ قلوبهم رعباً فكيف بمَنْ سفك دماء المسلمين وانتهب أموالهم يا أمير المؤمنين إن المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر دعا إلى القصاص من نفسه بخدشة خدشها أعرابياً من غير تعمد يا أمير المؤمنين لو أن ذَنُوبَاً من النار صُبَّ ووضع على الأرض لأحرقها فكيف بمَنْ يتجرعه ولو أن ثوباً من النار وضع على الأرض لأحرقها فكيف بمَنْ يتقمصه ولو أن حلقة من سلاسل جهنم وضعت على جبل لذاب فكيف بمَنْ يتسلسل بها ويرد فضلها على عاتقه.
وروى زيد بن أسلم عن أبيه قال: قلت لجعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وكان والي المدينة احذر أن يأتي رجلٌ غداً ليس له في الاسلام نسب ولا أب ولا جد فيكون أولى برسول الله منك كما كانت امرأة فرعون أولى بموسى وكما كانت امرأة نوح وامرأة لوط أولى بفرعون ومَنْ أبطأ به عمله لم يُسرع به نسبه ومَنْ أسرع به عمله لم يبطىء به نسبه.
وروى زياد عن مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه قال: لما بعث أبو جعفر إلى مالك بن أنس وابن طاوس قال دخلنا عليه وهو جالس على فرش وبين يديه أنطاع قد بسطت وجلادون بأيديهم السيوف يضربون الأعناق فأومأ إلينا أن اجلسا فجلسنا فأطرق زماناً طويلاً ثم رفع رأسه والتفت إلى ابن طاوس وقال حدثني عن أبيك قال سمعت أبي يقول قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجلٌ أشركه الله تعالى في ملكه فأدخل عليه الجور في حكمه فأمسك أبو جعفر ساعة حتى اسود ما بيننا وبينه، قال مالك: فضممت ثيابي مخافة أن ينالها شيء من دم ابن طاوس ثم قال: يا ابن طاوس ناولنى هذه الدواة فأمسك عنه، فقال: ما يمنعك أن تناولنيها؟ قال طاوس: أخاف أن تكتب بها معصية فأكون شريكك فيها، فلما سمع ذلك قال: قوما عني، فقال ابن طاوس: ذلك ما كنا نبغي، قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاوس فضله من ذلك اليوم.
وروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لكعب الأحبار: يا كعب خوفنا، قال: أوليس فيكم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى يا كعب ولكن خوفنا، فقال: يا أمير المؤمنين اعمل فانك لو وافيت يوم القيامة بعمل سبعين نبياً لازدريت عملهم ممَّا ترى، فنكس عمر رضي الله عنه رأسه وأطرق ملياً ثم رفع رأسه وقال: يا كعب خوفنا، فقال: يا أمير المؤمنين لو فتح من جهنم قدر منخر ثور بالمشرق ورجل بالمغرب لغلى دماغه حتى يسيل من حرِّها، فنكس عمر ثم أفاق فقال: يا كعب زدنا، فقال: يا أمير المؤمنين إن جهنم لتزفر زفرة يوم القيامة فلا يبقي ملكٌ مُقرب ولا نبيٌ مُرسل إلا جثا على ركبتيه يقول يا رب لا أسألك اليوم إلا نفسي.
وقال سيدي الشيخ أبو بكر الطرطوشي رحمة الله تعالى عليه: دخلت على الأفضل بن أمير الجيوش وهو أمير على مصر فقلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد السلام على نحو ما سلمت رداً جميلاً وأكرمنى إكراماً جزيلاً وأمرني بدخول مجلسه وأمرنى بالجلوس فيه، فقلت: أيها الملك إن الله تعالى قد أحلّك محلاً علياً شامخاً وأنزلك منزلاً شريفاً باذخاً وملّكك طائفة من مُلكه وأشركك في حُكمه ولم يرض أن يكون أمر أحدٍ فوق أمرك فلا ترض أن يكون أحدٌ أولى بالشُّكر منك وليس الشُّكر باللسان وإنما هو بالفِعَال والإحسان قال الله تعالى: "اعملوا آل داود شكراً"، واعلم أن هذا الذي أصبحت فيه من المُلك إنما صار إليك بموت مَنْ كان قبلك وهو خارج عنك بمثل ما صار إليك فاتق الله فيما خَوَّلك من هذه الأمة فإن الله تعالى سائِلُك عن الفتيل والنقير والقطمير قال الله تعالى: ( فوربك لنسألنهم أجمعين عمَّا كانوا يعملون ) وقال تعالى: ( وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ) واعلم أيها الملك أن الله تعالى قد آتى مُلك الدنيا بحذافيرها سليمانَ بن داود عليه السلام فسخَّر لهُ الإنس والجن والشياطين والطير والوحش والبهائم وسخَّر لهُ الريحَ تجري بأمره رُخَاءً حيث أصاب ثم رفع عنه حساب ذلك أجمع فقال له: ( هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ) فو الله ما عدَّها نعمة كما عددتموها ولا حَسِبَهَا كرامة كما حسبتموها بل خاف ان تكون استدراجاً من الله تعالى ومكراً به فقال: ( هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ) فافتح الباب وسهِّل الحجاب وانصر المظلوم وأغث الملهُوف أعانك الله على نصر المظلوم وجعلك كهفاً للملهوف وأماناً للخائف، ثم أتممت المجلس بأن قلت: قد جبت البلاد شرقاً وغرباً فما اخترت مملكة وارتحت إليها ولذت لي الاقامة فيها غير هذه المملكة ثم أنشدته: ( والناس أكيس من أن يحمدوا رجلا ... حتى يروا عنده آثار إحسان ).
وقال الفضل بن الربيع: حجَّ هارون الرشيد سنة من السنين فبينما أنا نائم ذات ليلة إذ سمعت قرع الباب، فقلت: مَنْ هذا؟ فقال: أجبْ أمير المؤمنين، فخرج مُسرعاً فقال يا أمير المؤمنين لو أرسلت إليَّ أتيتك، فقال: ويحك قد حاك في نفسي شيء لا يخرجه إلا عالم فانظر لى رجلاً أسأله عنه، فقلت: ههنا سفيان بن عيينة، فقال: امض بنا إليه، فأتيناه فقرعت عليه الباب، فقال: مَنْ هذا؟ فقلت: أجبْ أمير المؤمنين، فخرج مسرعاً فقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إليَّ أتيتك، فقال: جِدْ لما جئنا له، فحادثه ساعة ثم قال له: أعليك دين؟ قال: نعم، فقال: يا أبا العباس اقض دينه، ثم انصرفنا، فقال: ما أغني عني صاحبك شيئاً فانظر لى رجلاً أسأله، فقلت: ههنا عبد الرزاق بن همام، فقال: امض بنا إليه، فأتيناه فقرعت عليه الباب، فقال: مَنْ هذا؟ قلت: أجبْ أمير المؤمنين، فقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إليَّ أتيتك، فقال: جد لما جئنا به، فحادثه ساعة ثم قال له: أعليك دين؟ قال: نعم، فقال: يا أبا العباس اقض دينه، ثم انصرفنا، فقال: ما أغنى عنى صاحبك شيئاً فانظر لي رجلاً أسأله، فقلت: ههنا الفضيل بن عياض، فقال: امض بنا أليه، فأتيناه فإذا هو قائمٌ يُصلي في غرفته يتلو آية من كتاب الله تعالى وهو يرددها فقرعت عليه الباب، فقال: مَنْ هذا؟ فقلت: أجبْ أمير المؤمنين، فقال: مالي ولأمير المؤمنين؟ فقلت: سبحان الله أما تجب عليك طاعته؟ ففتح الباب ثم ارتقي إلى أعلى الغرفة فأطفأ السراج ثم التجأ إلى زاوية من زوايا الغرفة فجعلنا نجول عليه بأيدينا فسبقت كف الرشيد كفي إليه، فقال: أواه من كف ما ألينها إن نجت غداً من عذاب الله تعالى، فقلت في نفسي: ليكلمنه الليلة بكلام نقي من قلب نقي، فقال: جد لما جئنا له رحمك الله تعالى، فقال: وفيمَ جئت حملت على نفسك وجميع مَنْ معك حملوا عليك حتى لو سألتهم أن يتحملوا عنك شقصاً من ذنب ما فعلوا ولكان أشدهم حباً لك أشدهم هرباً منك، ثم قال: إن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما ولِّىَّ الخلافة دعا سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب القرظي ورجاء بن حيوة فقال لهم: إني قد ابتُليت بهذا البلاء فأشيروا عليَّ فعد الخلافة بلاءً وعددتها أنت وأصحابك نعمة فقال سالم بن عبد الله إن أردت النجاة غداً من عذاب الله فصُم عن الدنيا وليكن أفطارك فيها على الموت، وقال محمد بن كعب: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله تعالى فليكن كبير المسلمين عندك أباً وأوسطهم عندك أخاً وأصغرهم عندك ولداً فبر أباك وارحم أخاك وتحنن على ولدك، وقال رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله تعالى فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك واكره لهم ما تكره لنفسك ثم متى شئت مت وإني لأقول هذا وإنى لأخاف عليك أشد الخوف يوم تزل الأقدام فهل معك رحمك الله مثل هؤلاء القوم مَنْ يأمُرك بمثل هذا؟ فبكي هارون الرشيد بُكاءً شديداً حتى غشي عليه، فقلت له: ارفق بأمير المؤمنين، فقال: يا ابن الربيع قتلته أنت وأصحابك وأرفق به أنا؟ ثم أفاق هارون الرشيد فقال زدني: فقال: يا أمير المؤمنين بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه شكا إليه سهراً فكتب له عمر يقول: يا أخي أذكر سهر أهل النار في النار وخلود الأبدان فإن ذلك يطرد بك إلى ربك نائماً ويقظان وإياك أن تزل قدمك عن هذا السبيل فيكون آخر العهد بك ومنقطع الرجاء منك، فلما قرأ كتابه طوى البلاد حتى قدم عليه فقال له عمر: ما أقدمك؟ فقال له: لقد خلعت قلبي بكتابك لا ولِّيتَ ولاية أبداً حتى ألقي الله عز وجل، فبكي هارون بكاءً شديداً ثم قال: زدني، قال: يا أمير المؤمنين إن العبَّاس عم النبي -صلى الله عليه وسلم- جاء إليه فقال يا رسول الله أمِّرني إمارة فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا عبَّاس نفس تحييها خيرٌ من إمارة لا تُحصيها إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة فإن استطعت أن لا تكون أميراً فافعل، فبكي هارون الرشيد بكاءً شديداً ثم قال: زدني يرحمك الله، فقال: يا حسن الوجه أنت الذي يسألك الله عن هذا الخلق يوم القيامة فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لرعيتك فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أصبح لهم غاشَّاً لم يرح رائحة الجنة، فبكي هارون الرشيد بُكاءً شديداً ثم قال له: أعليك دين؟ قال: نعم دين لربي يُحاسبني عليه فالويل لي إن ناقشني والويل إن سألني والويل لي إن لم يُلهمني حجتي، قال هارون: إنما أعني دين العباد، قال إن ربي لم يأمرني بهذا أو إنما أمرني أن أصدق وعده وأطيع أمره قال تعالى: ( وما خلقت الجن والإنس الإ ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين )، فقال له هارون: هذه ألف دينار فخذها وأنفقها على عيالك وتقوَّ بها على عبادة ربك، فقال: سبحان الله أنا دللتك على سبيل الرشاد تكافئني أنت بمثل هذا سلمك الله ووفقك؟ ثم صمت فلم يُكلمنا فخرجنا من عنده فقال لي هارون: إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا فإن هذا سيد المسلمين اليوم.
واعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له شروط وصفات.
قال سليمان الخواص مَنْ وعظ أخاهُ فيما بينه وبينه فهي نصيحة ومَنْ وعظه على رؤوس الأشهاد فإنما بَكَّتَه.
وقالت أم الدرداء رضي الله تعالى عنها: مَنْ وعظ أخاه سراً فقد سرَّه وزانه ومَنْ وعظه علانية فقد ساءه وشانه.
ويُقال: مَنْ وعظ أخاه سراً فقد نصحه وسرَّه ومَنْ وعظه جهراً فقد فضحه وضره.
وعن عبد العزيز بن أبي داوود قال: كان الرجل إذا رأى من أخيه شيئاً أمره في سِتر ونهاه في سِتر فيؤجر في سِتره ويؤجر في أمره ويؤجر في نهيه.
وعن عمر رضي الله تعالى عنه: إذا رأيتم أخاكم ذا زلة فقوموه وسددوه وادعوا الله أن يرجع به إلى التوبة فيتوب عليه ولا تكونوا أعواناً للشيطان على أخيكم.
وبالله التوفيق إلى أقْوَم طريق وحسبُنا اللهُ ونعم الوكيل وصلى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم. |
|