تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
الإصابة في تمييز الصحابة
أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي
سنة الولادة 773هـ / سنة الوفاة 852هـ
تحقيق علي محمد البجاوي
الناشر دار الجيل
سنة النشر 1412هـ - 1992م
مكــــان النشر بيروت - لبنــان
عــــدد الأجزاء 8 أجــــــــزاء
--------------------------------
| بسم الله الرحمن الرحيم |
( مقدمة )
[قال شيخنا الإمام شيخ الإسلام، ملك العلماء الأعلام، حافظ العصر وممليه، وحامل | لواء السنة فيه، إمام المعدلين والمخرجين: أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد | ابن محمد بن علي بن أحمد بن حجر العسقلاني الشافعي، أبقاه الله في خير وعافية]: | | الحمد لله الذي أحصى كل شيء عدداً، ورفع بعض خلقه على بعض، فكانوا | طرائق قدداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، | ولم يكن له شريك في الملك ولا يكون أبداً؛ وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه | وخليله، أكرم به عبداً سيداً، وأعظم به حبيباً مؤيداً؛ فما أزكاه أصلاً ومحتداً، | وأطهره مضجعاً ومولداً، وأكرمه أصحاباً، كانوا نجوم الاهتداء، وأئمة الاقتداء؛ | صلى الله عليه وعليهم صلاة خالدة، وسلاماً مؤبداً [ وسلم تسليماً] .
| | أما بعد ؛ فإن من أشرف العلوم الدينية علم الحديث النبوي ، ومن أجل معارفه | تمييز أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن خلف بعدهم .
| | وقد جمع في ذلك جمع من الحفاظ تصانيف بحسب ما وصل إليه اطلاع كل | منهم ؛ فأول من عرفته صنف في ذلك أبو عبد الله البخاري ؛ أفرد في ذلك تصنيفا ؛ | ينقل منه أبو القاسم البغوي وغيره ، وجمع أسماء الصحابة مضموما إلى من بعدهم جماعة | من طبقة مشايخه ؛ كخليفة بن خياط ، ومحمد بن سعد ، ومن قرنائه كيعقوب | | ابن سفيان ، وأبي بكر بن [ أبي ] خيثمة ، وصنف في ذلك جمع بعدهم | كأبي القاسم البغوي ، وأبي بكر بن أبي داود ، وعبدان ؛ ومن قبلهم بقليل كمطين ، | ثم كأبي علي بن السكن ، وأبي حفص بن شاهين ، وأبي منصور الماوردي ، وأبي حاتم | ابن حبان ، وكالطبراني ضمن معجمه الكبير ، ثم كأبي عبد الله بن منده ، وأبي نعيم ؛ | ثم كأبي عمر بن عبد البر ، وسمى كتابه الاستيعاب ؛ لظنه أنه استوعب ما في كتب | من قبله ؛ ومع ذلك ففاته شيء كثير ؛ فذيل عليه أبو بكر بن فتحون ذيلا حافلا ، | وذيل عليه جماعة في تصانيف لطيفة ، وذيل أبو موسى المديني على ابن منده | ذيلاً كبيراً .
| | وفي أعصار هؤلاء خلائق يتعسر حصرهم ممن صنف في ذلك أيضا إلى أن كان | في أوائل القرن السابع ، فجمع عز الدين بن الأثير كتابا حافلا سماه ' أسد الغابة ' | جمع فيه كثيرا من التصانيف المتقدمة ، إلا أنه تبع من قبله : فخلط من ليس صحابيا | بهم ، وأغفل كثيرا من التنبيه على كثير من الأوهام الواقعة في كتبهم ؛ ثم جرد الأسماء | التي في كتابه مع زيادات عليها الحافظ أبو عبد الله الذهبي ، وعلم لمن ذكر غلطاً ولمن | لا تصح صحبته ؛ ولم يستوعب ذلك ولا قارب .
| | وقد وقع لي بالتتبع كثير من الأسماء التي ليست في كتابه ، ولا أصله على شرطهما ؛ | فجعت كتابا كبيرا في ذلك ميزت فيه الصحابة من غيرهم ؛ ومع ذلك فلم يحصل لنا من | ذلك جميعا الوقوف على العشر من أسامي الصحابة بالنسبة إلى ما جاء عن أبي زرعة | الرازي ؛ قال : توفي النبي صلى الله عليه وسلم ومن رآه وسمع منه زيادة على مائة ألف | إنسان من رجل وامرأة ، كلهم قد روى عنه سماعاً أو رؤية .
| | | قال ابن فتحون في ذيل ' الاستيعاب ' - بعد أن ذكر ذلك : أجاب أبو زرعة بهذا | سؤال من سأله عن الرواة خاصة ، فكيف بغيرهم ؟ ومع هذا فجميع من في الاستيعاب - | يعني ممن ذكر فيه باسم أو كنية ، وهما ثلاثة آلاف وخمسمائة ؛ وذكر أنه استدرك | عليه على شرطه قريبا ممن ذكره .
| | قلت : وقرأت بخط الحافظ الذهبي من ظهر كتابه ' التجريد ' : لعل الجميع ثمانية | آلاف إن لم يزيدوا لم ينقصوا ؛ ثم رأيت بخطه أن جميع من في ' أسد الغابة ' سبعة | آلاف وخمسمائة [ وأربعة وخمسون نفساً ] .
| | ومما يؤيد قولي أبي زرعة ما ثبت في الصحيحين عن كعب بن مالك في قصة تبوك : | والناس كثير لا يحصيهم ديوان .
| | وثبت عن الثوري فيما أخرجه الخطيب بسنده الصحيح إليه ، قال : من قدم عليا | على عثمان فقد أزرى على اثني عشر ألفا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم | راض ؛ فقال النووي : وذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم باثني عشر عاما بعد أن مات | في خلافة أبي بكر في الردة والفتوح - الكثير ممن لم يضبط أسماؤهم ؛ ثم مات في خلافة عمر | في الفتوح وفي الطاعون العام وعمواس وغير ذلك من لا يحصي كثرة .
| | وسبب خفاء أسمائهم أن أكثرهم أعراب ، وأكثرهم حضروا حجة الوداع . | والله أعلم .
| | وقد كثر سؤال جماعة من الإخوان في تبييضه ، فاستخرت الله تعالى في ذلك ، | ورتبته على أربعة أقسام في كل حرف منه:
| | فالقسم الأول - فيمن وردت صحبته بطريق الرواية عنه أو عن غيره ، سواء كانت | | الطريق صحيحة أو حسنة أو ضعيفة ، أو وقع ذكره بما يدل على الصحبة بأي طريق كان .
| | وقد كنت أولا رتبت هذا القسم الواحد على ثلاثة أقسام ، ثم بدا لي أن أجعله قسما | واحدا . وأميز ذلك في كل ترجمة .
| | القسم الثاني - من ذكر في الصحابة من الأطفال الذين ولدوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم | لبعض الصحابة من النساء والرجال ، ممن مات صلى الله عليه وسلم وهو في | دون سن التمييز ؛ إذ ذكر أولئك في الصحابة ، إنما هو على سبيل الإلحاق : لغلبة الظن | على أنه صلى الله عليه وسلم رآهم لتوفر دواعي أصحابه على إحضارهم أولادهم عنده عند | ولادتهم ليحنكهم ويسميهم ويبرك عليهم ؛ والأخبار بذلك كثيرة شهيرة : ففي صحيح | مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم | كان يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم .
| | وأخرجه الحاكم في كتاب الفتن في المستدرك عن عبد الرحمن بن عوف قال : | ما كان يولد لأحد مولود إلا أتي به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدعا له - الحديث . | وأخرج ابن شاهين في كتاب الصحابة في ترجمة محمد بن طلحة بن عبد الله من طريق | محمد بن عبد الرحمن مولى أبي طلحة عن ظئر محمد بن طلحة ، قال : لما ولد محمد | ابن طلحة أتيت به النبي صلى الله عليه وسلم ليحنكه ويدعو له ، وكذلك كان يفعل | بالصبيان ؛ لكن أحاديث هؤلاء عنه من قبيل المراسيل عند المحققين من أهل العلم | بالحديث ؛ ولذلك أفردتهم عن أهل القسم الأول .
| | القسم الثالث - فيمن ذكر في الكتب المذكورة من المخضرمين الذين أدركوا | الجاهلية والإسلام ، ولم يرد في خبر قط أنهم اجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، | ولا رأوه ، سواء أسلموا في حياته أم لا ؛ وهؤلاء ليسوا أصحابه باتفاق أهل العلم | | بالحديث ، وإن كان بعضهم قد ذكر بعضهم في كتب معرفة الصحابة فقد أفصحوا | بأنهم لم يذكروهم إلا بمقاربتهم لتلك الطبقة ، لا أنهم من أهلها .
| | وممن أفصح بذلك ابن عبد البر ، وقبله أبو حفص بن شاهين ، فاعتذر عن إخراجه | ترجمة النجاشي بأنه صدق النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وغير ذلك ، ولو كان من هذا | سبيله يدخل عنده في الصحابة ما احتاج إلى اعتذار . | |
وغلط من جزم في نقله عن ابن عبد البر بأنه يقول بأنهم صحابة ؛ بل مراد ابن عبد البر | بذكرهم واضح في مقدمة كتابه بنحو مما قررناه ، وأحاديث هؤلاء عن النبي صلى الله عليه وسلم | مرسلة بالاتفاق بين أهل العلم بالحديث ؛ وقد صرح ابن عبد البر نفسه بذلك | في التمهيد وغيره من كتبه .
| | القسم الرابع - فيمن ذكر في الكتب المذكورة على سبيل الوهم والغلط ؛ وبيان ذلك | البيان الظاهر الذي يعول عليه على طرائق أهل الحديث ، ولم أذكر فيه إلا ما كان | الوهم فيه بينا . وأما مع احتمال عدم الوهم فلا ، إلا إن كان ذلك الاحتمال يغلب على | الظن بطلانه .
| | وهذا القسم الرابع لا أعلم من سبقني إليه ، ولا من حام طائر فكره عليه ؛ | وهو الضالة المطلوبة في هذا الباب الزاهر ، وزبدة ما يمخضه [ من هذا ] الفن | اللبيب الماهر .
| | والله تعالى أسأل أن يعين على إكماله ، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم ، | ويجازيني به خير الجزاء في دار إفضاله ؛ إنه قريب مجيب .
| | وقبل الشروع في الأقسام المذكورة أذكر فصولاً مهمة يحتاج إليها في هذا النوع .
| | ( الفصل الأول في تعريف الصحابي ) | |
وأصح ما وقفت عليه من ذلك [ أن ] الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم | مؤمنا به ، ومات على الإسلام ؛ فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت ، | ومن روى عنه أو لم يرو ، ومن غزا معه أو لم يغز ، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه ، | ومن لم يره لعارض كالعمى .
| | ويخرج بقيد الإيمان من لقيه كافرا ولو أسلم بعد ذلك إذا لم يجتمع به مرة أخرى .
| | وقولنا : ' به ' يخرج من لقيه مؤمنا بغيره ، كمن لقيه من مؤمني أهل الكتاب قبل | البعثة . وهل يدخل من لقيه منهم وآمن بأنه سيبعث أو لا يدخل ؟ محل احتمال . ومن | هؤلاء بحيرا الراهب ونظراؤه .
| | ويدخل في قولنا : ' مؤمنا به ' كل مكلف من الجن والإنس ؛ فحينئذ يتعين ذكر | من حفظ ذكره من الجن الذين آمنوا به بالشرط المذكور ، وأما إنكار ابن الأثير على | أبي موسى تخريجه لبعض الجن الذين عرفوا في كتاب الصحابة فليس بمنكر لما ذكرته .
| | وقد قال ابن حزم في كتاب الأقضية من المحلى : من ادعى الإجماع فقد كذب على | الأمة ؛ فإن الله تعالى قد أعلمنا أن نفرا من الجن آمنوا وسمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم | ؛ فهم صحابة فضلاء ؛ فمن أين للمدعي إجماع أولئك ؟ | | وهذا الذي ذكره في مسألة الإجماع لا نوافقه عليه ؛ وإنما أردت نقل كلامه في | كونهم صحابة .
| | وهل تدخل الملائكة ؟ محل نظر ؛ قد قال بعضهم : إن ذلك ينبني على أنه هل كان | مبعوثا إليهم أو لا ؟ وقد نقل الإمام فخر الدين في أسرار التنزيل الإجماع على أنه صلى الله عليه وسلم | | لم يكن مرسلا إلى الملائكة . ونوزع في هذا النقل ؛ بل رجح الشيخ | تقي الدين السبكي أنه كان مرسلا إليهم . واحتج بأشياء يطول شرحها . وفي صحة بناء | هذه المسألة على هذا الأصل نظر لا يخفى .
| | وخرج بقولنا : ' ومات على الإسلام ' من لقيه مؤمنا به ثم ارتد ، ومات على | ردته والعياذ بالله . وقد وجد من ذلك عدد يسير ؛ كعبيد الله بن جحش الذي كان | زوج أم حبيبة ؛ فإنه أسلم معها ، وهاجر إلى الحبشة ، فتنصر هو ومات على نصرانيته . | وكعبد الله بن خطل الذي قتل وهو متعلق بأستار الكعبة ، وكربيعة بن أمية | ابن خلف على ما سأشرح خبره في ترجمته في القسم الرابع من حرف الراء .
| | ويدخل فيه من ارتد وعاد إلى الإسلام قبل أن يموت ، سواء اجتمع به صلى الله عليه وسلم | مرة أخرى أم لا ؛ وهذا هو الصحيح المعتمد .
| | والشق الأول لا خلاف في دخوله وأبدى بعضهم في الشق الثاني احتمالا ؛ وهو | مردود لإطباق أهل الحديث على عد الأشعث بن قيس في الصحابة ، وعلى تخريج | أحاديثه في الصحاح والمسانيد ؛ وهو ممن ارتد ثم عاد إلى الإسلام في خلافة أبي بكر .
| | وهذا التعريف مبني على الأصح المختار عند المحققين ؛ كالبخاري ، وشيخه أحمد | ابن حنبل ، ومن تبعهما ؛ ووراء ذلك أقوال أخرى شاذة : كقول من قال : لا يعد | صحابيا إلا من وصف بأحد أوصاف أربعة : من طالت مجالسته ، أو حفظت روايته ، | أو ضبط أنه غزا معه ، أو استشهد بين يديه ؛ وكذا من اشترط في صحة الصحبة بلوغ | الحلم ، أو المجالسة ولو قصرت .
| | وأطلق جماعة أن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي . وهو محمول على | من بلغ سن التمييز ؛ إذ من لم يميز لا تصح نسبة الرؤية إليه . نعم يصدق إن النبي | صلى الله عليه وسلم رآه فيكون صحابيا من هذه الحيثية ، ومن حيث الرواية يكون تابعيا ؛ | | وهل يدخل من رآه ميتا قبل أن يدفن كما وقع ذلك لأبي ذؤيب الهذلي الشاعر ؟ | إن صح محل نظر . والراجح عدم الدخول . ومما جاء عن الأئمة من الأقوال المجملة | في الصفة التي يعرف بها كون الرجل صحابيا وإن لم يرد التنصيص على ذلك - ما أورده | ابن أبي شيبة في مصنفه من طريق لا بأس به ، أنهم كانوا في الفتوح لا يؤمرون إلا | الصحابة . وقول ابن عبد البر : لم يبق بمكة ولا الطائف أحد في سنة عشر إلا | أسلم ، وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع . ومثل ذلك قول بعضهم في | الأوس والخزرج : إنه لم يبق منهم في آخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا من دخل | في الإسلام ، وما مات النبي صلى الله عليه وسلم وأحد منهم يظهر الكفر . والله أعلم .
| (الفصل الثاني في الطريق إلى معرفة كون الشخص صحابياً)
| | وذلك بأشياء : أولها أن يثبت بطريق التواتر أنه صحابي ، ثم بالاستفاضة والشهرة ، | ثم بأن يروى عن آحاد من الصحابة أن فلانا له صحبة مثلا ؛ وكذا عن آحاد | التابعين ، بناء على قبول التزكية من واحد ؛ وهو الراجح ثم بأن يقول هو إذا كان | ثابت العدالة والمعاصرة : أنا صحابي .
| | أما الشرط الأول - وهو العدالة - فجزم به الآمدي وغيره ؛ لأن قوله قبل أن تثبت | عدالته : أنا صحابي أو ما يقوم مقام ذلك - يلزم من قبو قوله إثبات عدالته ؛ لأن | الصحابة كلهم عدول ، فيصير بمنزلة قول القائل : أنا عدل ؛ وذلك لا يقبل .
| | وأما الشرط الثاني - وهو المعاصرة - فيعتبر بمضي مائة سنة وعشر سنين من | هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في آخر عمره لأصحابه : | أرأيتكم ليلتكم هذه ، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى على وجه الأرض ممن هو | | اليوم عليها أحد ' . رواه البخاري ، ومسلم من حديث ابن عمر . زاد مسلم من حديث | جابر أن ذلك كان قبل موته صلى الله عليه وسلم بشهر . ولفظه : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم | يقول قبل أن يموت بشهر : ' أقسم بالله ، ما على الأرض من نفس منفوسة | اليوم يأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ ' .
| | ولهذه النكتة لم يصدق الأئمة أحدا ادعى الصحبة بعد الغاية المذكورة . وقد ادعاها | جماعة فكذبوا ؛ وكان آخرهم رتن الهندي على ما سنذكر تراجمهم كلهم في القسم | الرابع ؛ لأن الظاهر كذبهم في دعواهم على ما قررته .
| | ثم من لم يعرف حاله إلا من جهة نفسه فمقتضى كلام الآمدي الذي سبق ومن تبعه | ألا تثبت صحبته . ونقل أبو الحسن بن القطان فيه الخلاف ورجح عدم الثبوت . وأما | ابن عبد البر فجزم بالقبول بناء على أن الظاهر سلامته من الجرح ، وقوى ذلك بتصرف | أئمة الحديث في تخريجهم أحاديث هذا الضرب في مسانيدهم . ولا ريب في انحطاط رتبة | من هذا سبيله عمن مضى . ومن صور هذا الضرب أن يقول التابعي : أخبرني فلان | [ مثلا ] أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ، سواء أسماه أم لا . أما إذا قال أخبرني | رجل ، مثلا ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بكذا فثبوت الصحبة بذلك بعيد ؛ لاحتمال | الإرسال . ويحتمل التفرقة بين أن يكون القائل من كبار التابعين ، فيرجح القبول ، | أو صغارهم فيرجح الرد . ومع ذلك فلم يتوقف من صنف في الصحابة في إخراج من هذا | سبيله في كتبهم . والله أعلم .
| | ضابط : يستفاد من معرفته صحبة جمع كثير يكتفى فيهم بوصف | يتضمن أنهم صحابة ؛ وهو مأخوذ من ثلاثة آثار : الأول : أخرج ابن أبي شيبة من | طريق قال : كانوا لا يؤمرون في المغازي إلا الصحابة ؛ فمن تتبع الأخبار الواردة في الردة | | والفتوح وجد من ذلك شيئا كثيرا ؛ وهم من القسم الأول .
| | الثاني : أخرج الحاكم من حديث عبد الرحمن بن عوف قال : كان لا يولد لأحد | مولود إلا أتى به النبي صلى الله عليه وسلم فدعا له ؛ وهذا يؤخذ منه شيء كثير أيضا ، وهم | من القسم الثاني .
| | [ الثالث ] : وأخرج ابن عبد البر من طريق قال : لم يبق بمكة والطائف أحد في | سنة عشر إلا أسلم ، وشهد حجة الوداع . هذا وهم في نفس الأمر عدد لا يحصون ؛ | لكن يعرف الواحد منهم بوجود ما يقتضي أنه كان في ذلك الوقت موجودا ، فيلحق | بالقسم الأول أو الثاني لحصول رؤيتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يرهم هو . | والله أعلم .
| ( الفصل الثالث في بيان حال الصحابة من العدالة )
| | اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول ، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة ، | وقد ذكر الخطيب في ' الكفاية ' فصلا نفيسا في ذلك ، فقال : عدالة الصحابة ثابتة | معلومة بتعديل الله لهم ، وإخباره عن طهارتهم ، واختياره لهم ؛ فمن ذلك قوله تعالى : | ^ ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) ^ ، وقوله : ^ ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) ^ . | وقوله : ^ ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم ) ^ . | وقوله : ^ ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي | الله عنهم ورضوا عنه ) ^ وقوله : ^ ( يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) ^ | وقوله : ^ ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله | | ورضوانا ، وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون . . . ) ^ إلى قوله : ^ ( إنك رءوف | رحيم ) ^ - في آيات كثيرة يطول ذكرها ، وأحاديث شهيرة يكثر تعدادها ؛ وجميع | ذلك يقتضي القطع بتعديلهم ، ولا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله له إلى تعديل أحد من | الخلق ؛ على أنه لو لم يرد من الله ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا | عليها من الهجرة والجهاد . ونصرة الإسلام ، وبذل المهج والأموال ، وقتل الآباء والأبناء . | والمناصحة في الدين ، وقوة الإيمان واليقين - القطع على تعديلهم ، والاعتقاد لنزاهتهم ، | وأنهم أفضل من جميع الخالفين بعدهم ، والمعدلين الذين يجيئون من بعدهم .
| | هذا مذهب كافة العلماء ، ومن يعتمد قوله .
| | ثم روى بسنده إلى أبي زرعة الرازي ، قال : إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من | أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق ؛ وذلك أن الرسول حق ، | والقرآن حق ، وما جاء به حق ؛ وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة ؛ وهؤلاء يريدون | أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة ، والجرح بهم أولى ، وهم زنادقة . انتهى .
| | والأحاديث الواردة في تفضيل الصحابة كثيرة ؛ من أدلها على المقصود ما رواه | الترمذي وابن حبان في صحيحه ، من حديث عبد الله بن مغفل . قال : قال رسول | الله صلى الله عليه وسلم : ' الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا ، فمن أحبهم فبحبي | أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى | الله ، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه ' .
| | وقال أبو محمد بن حزم : الصحابة كلهم من أهل الجنة قطعاً ؛ قال الله تعالى : | ^ ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين | أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ) ^ وقال تعالى : ^ ( إن الذين سبقت | لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ) ^ : فثبت أن الجميع من أهل الجنة ، وأنه لا يدخل | | أحد منهم النار ، لأنهم المخاطبون بالآية السابقة .
| | فإن قيل : التقييد بالإنفاق والقتال يخرج من لم يتصف بذلك ، وكذلك التقييد | بالإحسان في الآية السابقة ؛ وهي قوله تعالى : ^ ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار | والذين اتبعوهم بإحسان ) ^ الآية - يخرج من لم يتصف بذلك ؛ وهي من أصرح ما ورد | في المقصود ؛ ولهذا قال المازري في شرح البرهان : لسنا نعني بقولنا : الصحابة عدول - | كل من رآه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يوما ما ، أو زاره لماما ، أو اجتمع به لغرض | وانصرف عن كثب ، وإنما نعني به الدين لازموه وعزروه ونصروه ، واتبعوا النور | الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون . انتهى .
| | والجواب عن ذلك أن التقييدات المذكورة خرجت مخرج الغالب ، وإلا فالمراد من | اتصف بالإنفاق والقتال بالفعل أو القوة . وأما كلام المازري فلم يوافق عليه ؛ بل اعترضه | جماعة من الفضلاء . وقال الشيخ صلاح الدين العلائي : هو قول غريب يخرج كثيرا من | المشهورين بالصحبة والرواية عن الحكم بالعدالة : كوائل بن حجر ، ومالك بن الحويرث ، | وعثمان بن أبي العاص ، وغيرهم ؛ ممن وفد عليه صلى الله عليه وسلم ، ولم يقم عنده إلا قليلا | وانصرف ؛ وكذلك من لم يعرف إلا برواية الحديث الواحد ، ولم يعرف مقدار إقامته | من أعراب القبائل ، والقول بالتعميم هو الذي صرح به الجمهور ، وهو المعتبر ، والله سبحانه | وتعالى أعلم .
| | وقد كان تعظيم الصحابة - ولو كان اجتماعهم به صلى الله عليه وسلم قليلا - مقررا | عند الخلفاء الراشدين وغيرهم ؛ فمن ذلك ما قرأت في كتاب أخبار الخوارج تأليف محمد | ابن قدامة المروزي بخط بعض من سمعه منه في سنة سبع وأربعين ومائتين ، قال : حدثنا | علي بن الجعد ، حدثنا زهير - هو الجعفي ، عن الأسود بن قيس بن نبيح العنزي ، | قال : كنت عند أبي سعيد الخدري ، وقرأت على أبي الحسن علي بن أحمد المرادي بدمشق ، عن || زينب بنت الكمال سماعا ، عن يحيى بن القميرة ، إجازة ، عن شهدة الكاتبة سماعا قالت : | أخبرنا الحسين بن أحمد بن طلحة ، أخبرنا أبو عمر بن مهدي ، حدثنا محمد بن أحمد بن | يعقوب ، حدثنا جدي يعقوب بن شيبة . حدثنا محمد بن سعيد القزويني أبو سعيد ، حدثنا | أبو خيثمة زهير بن معاوية الجعفي ، عن الأسود - يعني ابن قيس ، عن نبيح - يعني العنزي ، | عن أبي سعيد الخدري ، قال : كنا عنده وهو متكئ . فذكرنا عليا ومعاوية ، فتناول رجل | معاوية ، فاستوى أبو سعيد الخدري جالسا ، ثم قال : كنا ننزل رفاقا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم | ، فكنا في رفقة فيها أبو بكر ، فنزلنا على أهل أبيات ، وفيهم امرأة حبلى ، | ومعنا رجل من أهل البادية ، فقال للمرأة الحامل : أيسرك أن تلدي غلاما ؟ قالت : نعم , | قال : إن أعطيتني شاة ولدت غلاما . فأعطته . فسجع لها أسجاعا ، ثم عمد إلى الشاة | فذبحها وطبخها ، وجلسنا نأكل منها ، ومعنا أبو بكر ؛ فلما علم بالقصة قام فتقيأ كل شيء | أكل . قال : ثم رأيت ذلك البدوي أتى به عمر بن الخطاب وقد هجا الأنصار ؛ فقال لهم | عمر : لولا أن له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أدري ما نال فيها لكفيتموه ، | ولكن له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
| | لفظ علي بن الجعد : ورجال هذا الحديث ثقات ؛ وقد توقف عمر رضي الله عنه عن | معاتبته فضلاً عن معاقبته لكونه علم أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم .
| | وفي ذلك أبين شاهد على أنهم كانوا يعتقدون أن شأن الصحبة لا يعد له شيء . كما | ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري من قوله صلى الله عليه وسلم : ' والذي نفسي | بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه .
| | وتواتر عنه صلى الله عليه وسلم قوله : ' خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ' .
| | قال بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده . عن النبي صلى الله عليه وسلم : ' أنتم توفون | سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل ' .
| | وروى البزار في مسنده بسند رجاله موثقون من حديث سعيد بن المسيب ، عن || جابر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' إن الله اختار أصحابي على الثقلين سوى | النبيين والمرسلين ' .
| | وقال عبد الله بن هاشم الطوسي : حدثنا وكيع ، قال : سمعت سفيان يقول في قوله | تعالى : ^ ( قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ) ^ - قال : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم | والأخبار في هذا كثيرة جداً فلنقتصر على هذا القدر ففيه مقنع .
| ( فائدة )
| | أكثر الصحابة فتوى مطلقاً سبعة : عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وابن | عباس ، وزيد بن ثابت ، وعائشة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين .
| | قال ابن حزم : يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد من هؤلاء مجلد ضخم ؛ قال : | ويليهم عشرون وهم : أبو بكر ، وعثمان ، وأبو موسى ، ومعاذ ، وسعد بن أبي وقاص ، | وأبو هريرة ، وأنس ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وسلمان ، وجابر ، وأبو سعيد ، | وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعمران بن حصين ، وأبو بكرة ، وعبادة بن | الصامت ، ومعاوية ، وابن الزبير ، وأم سلمة . قال : يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد | منهم جزء صغير .
| | قال : وفي الصحابة نحو من مائة وعشرين نفسا مقلون في الفتيا جدا ، لا يروى عن | الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان والثلاث ، يمكن أن يجمع من فتيا جميعهم جزء | صغير بعد البحث ؛ كأبي بن كعب ، وأبي الدرداء ، وأبي طلحة ، والمقداد وغيرهم | [ وسرد الباقين ] .
| | قلت : وسأذكر في ترجمة كل من ذكره من هذا القسم أن ابن حزم ذكر أنه | من فقهاء الصحابة ؛ فإن ذلك من جملة المناقب .
| | وقد جعلت على كل اسم أوردته زائدا على ما في تجريد الذهبي وأصله [ وعلى ما في أصله | فقط ] ( ز ) . والله المسئول أن يهدينا سواء الطريق ، وأن يسلك بنا مسالك أولي التحقيق ، | وأن يرزقنا التسديد والتوفيق ، وأن يجعلنا في الذين أنعم عليهم مع خير فريق وأعلى رفيق آمين آمين .