الفصل الثاني في القناعة والرضا بما قسم الله تعالى
جاء في تفسير قوله تعالى: ( مَنْ عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ) أن المراد بها القناعة وقال ( القناعة مال لا ينفذ ) وقيل يا رسول الله ما القناعة قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا بأس مما في ايدي الناس وإياكم والطمع فإنه الفقر الحاضر" وكان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه من القناعة بالجانب الأوفر وأنه كان يشتهي الشيء فيُدافعه سنة.
قال الكندي:
( العبد حر ما قنع ... والحر عبد ما طمع )
وقال بشر بن الحرث خرج فتى في طلب الرزق فبينما هو يمشي فأعيا فآوى إلى خراب يستريح فيه فبينما هو يدير بصره إذ وقعت عيناه على أسطر مكتوبة على حائط فتأملها فإذا هي:
( إني رأيتك قاعداً مستقبلي ... فعلمت أنك للهموم قرين )
( هوِّن عليك وكن بربك واثقاً ... فأخو التوكل شأنه التهوين )
( طرح الآذى عن نفسه في رزقه ... لما تيقن أنه مضمون )
قال فرجع الفتى إلى بيته ولزم التوكل وقال اللهم أدبنا أنت.
قال الجاحظ إنما خالف الله تعالى بين طبائع الناس ليوفق بينهم في مصالحهم ولولا ذلك لاختاروا كلهم الملك والسياسة والتجارة والفلاحة وفي ذلك بطلان المصالح وذهاب المعايش فكل صنف من الناس مزين لهم ما هم فيه فالحائك إذا رأى من صاحبه تقصيراً أو خلفاً قال ويلك يا حجام والحجام إذا رأى مثل ذلك من صاحبه قال ويلك يا حائك فجعل الله تعالى الاختلاف سبباً للائتلاف فسبحانه من مدبر قادر حكيم ألا ترى إلى البدوي في بيت من قطعة خيش معمد بعظام الجيف كلبه معه في بيته لباسه شملة من وبر أو شعر ودواؤه بعر الإبل وطيبه القطران وبعر الظباء وحلى زوجته الودع وثماره المقل وصيده اليربوع وهو في مفازة لا يسمع فيها إلا صوت بومة وعواء ذئب وهو قانع بذلك مفتخر به.
وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه يا بني إذا طلبت الغنى فاطلبه في القناعة فإنها مال لا ينفذ وإياك والطمع فإنه فقر حاضر وعليك باليأس فإنك لم تيأس من شيء إلا أغناك الله عنه.
وأصاب داود الطائي فاقة كبيرة فجاءه حماد بن أبي حنيفة رضي الله عنه بأربعمائة درهم من تركة أبيه وقال هي من مال رجل ما أقدم عليه أحد في زهده وورعه وطيب كسبه فقال لو كنت أقبل من أحد شيئاً لقبلتها تعظيماً للميت وإكراماً للحي ولكني أحب أن أعيش في عز القناعة.
وقال عيسى عليه الصلاة والسلام اتخذوا البيوت منازل والمساجد مساكن وكلوا من بقل البرية واشربوا من الماء القراح واخرجوا من الدنيا بسلام.
وأنشد المبرد:
( إن ضن زيدٌ بما في بطن راحته ... فالأرض واسعة والرزق مبسوط )
( إن الذي قدَّر الأشياء بحكمته ... لم ينسني قاعداً والرحل محطوط ).
قال عبد الواحد بن زيد: ما أحسب أن شيئاً من الأعمال يتقدم الصبر إلا الرضا ولا أعلم درجة أرفع من الرضا وهو رأس المحبة قيل له متى يكون العبد راضياً عن ربه قال إذا سرته المصيبة كما تسره النعمة.
وكان عبد الله بن مرزوق من ندماء المهدي فسكر يوماً ففاتته الصلاة جاءته جارية له بجمرة فوضعتها على رجله فانتبه مذعوراً فقالت له إذا لم تصبر على نار الدنيا فكيف تصبر على نار الآخرة فقام فصلى الصلوات وتصدق بما يملكه وذهب يبيع البقل فدخل عليه فضيل وابن عيينة فإذا تحت رأسه لبنة وما تحت جنبه شيء فقالا له إنه لم يدع أحد شيئاً إلا عوضه الله منه بديلاً فما عوضك عما تركت له؟ قال الرضا بما أنا فيه.
وقال الثوري: ما وضع أحد يده في قصعة غيره إلا ذل له.
وقال الفضيل: مَنْ رضي بما قسم الله له بارك الله له فيه.
وكان عيسى عليه الصلاة والسلام يقول: الشمس في الشتاء جلالي ونور القمر سراجي وبقل البرية فاكهتي وشعر الغنم لباسي أبيت حيث يدركني الليل ليس لي ولد يموت ولا بيت يخرب أنا الذي كببت الدنيا على وجهها.
بيت مفرد:
( إن القناعة مَنْ يحلل بساحتها ... لم يلق في ظلها هماً يؤرقه ).
وقال عيسى عليه الصلاة والسلام: أنظروا إلى الطير تغدو وتروح ليس معها شيء من أرزاقها لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها فإن زعمتم أنكم أكبر بطوناً من الطير فهذه الوحوش والبقر والحُمر لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها.
وقيل وفد عروة بن أذينة على هشام بن عبد الملك فشكا إليه خلته فقال له القائل:
( لقد علمت وما الاسراف من خُلُقي ... أن الذي هو رزقي سوف يأتيني )
( أسعى إليه فيعييني تطلبه ... ولو قعدت أتاني ليس يعييني ).
وقد جئت من الحجاز إلى الشام في طلب الرزق فقال يا أمير المؤمنين لقد وعظت فأبلغت وخرج فركب ناقته وكر إلى الحجاز راجعاً فلما كان من الليل نام هشام على فراشه فذكر عروة فقال في نفسه رجل قريش قال حكمة ووفد علي فجبهته ورددته خائباً فلما أصبح وجد إليه بألفي دينار فقرع عليه الرسول باب داره بالمدينة وأعطاه المال فقال أبلغ امير المؤمنين مني السلام وقل له كيف رأيت قولي سعيت فأكديت فرجعت فأتاني رزقي في منزلي.
ولما ولي عبد الله ابن عامر العراق قصده صديقان له أنصاري وثقفي فلما سارا تخلف الأنصاري وقال الذي أعطى ابن عامر العراق قادر على أن يعطيني فوفد الثقفي وقال أحوز الحظين فلما دخل على عبد الله بن عامر قال له ما فعل زميلك الأنصاري قال رجع إلى أهله فأمر للثقفي بأربعة آلاف دينار.
فخرج الثقفي وهو يقول:
( فوالله ما حرص الحريص بنافع ... فيغني ولا زهد القنوع بضائر )
( خرجنا جميعاً من مساقط روسنا ... على ثقة منا بجود ابن عامر )
( فلما أنخنا الناجعات ببابه ... تخلف عني اليثربي ابن جابر )
( وقال ستكفيني عطية قادر ... على ما يشاء اليوم للخلق قاهر )
( فإن الذي أعطى العراق ابن عامر ... لربي الذي أرجو لسد مفاقري )
( فقلت خلالي وجهه ولعله ... سيجعل لي حظ الفتى المتزاور )
( فلما رآني سال عنه صبابة ... إليه كما حنت ظؤار الأباعر )
( فأبت وقد أيقنت أن ليس نافعاً ... ولا ضائراً شيء خلاف المقادر ).
قيل أوحى الله تعالى إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه: أتدري لِمَ رزقتُ الأحمق؟ قال: لا يا رب قال: ليعلم العاقل أن طلب الرزق ليس بالاحتيال.
ولبعض العرب:
( ولا تجزع إذا أعسرت يوماً ... فقد أيسرت في الزمن الطويل )
( ولا تظنن بربك ظن سوءٍ ... فإن الله أولى بالجميل )
( وإن العُسر يتبعه يسار ... وقول اللهِ أصدق كل قيل )
( فلو أن العقول تسوق رزقاً ... لكان المال عند ذوي العقول ).
وأوحى الله تعالى إلى يوسف عليه الصلاة والسلام: انظر إلى الأرض فنظر إليها فانفجرت فرأى دودة على صخرة ومعها الطعام، فقال له: أتراني لم أغفل عنها وأغفل عنك وأنت نبي وابن نبي.
ودخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه المسجد وقال لرجل كان واقفاً على باب المسجد أمسك عليَّ بغلتي فأخذ الرجل لجامها ومضى وترك البغلة فخرج عليٌ وفي يده درهمان ليُكافىء بها الرجل على إمساكه بغلته فوجد البغلة واقفة بغير لجام فركبها ومضى ودفع لغلامه درهمين يشتري بهما لجاماً فوجد الغلام اللجام في السوق قد باعه السارق بدرهمين فقال عليٌ رضي الله عنه: أن العبد ليحرم نفسه الرزق الحلال بترك الصبر ولا يزداد على ما قدر له.
وقيل لراهب: من أين تأكل؟ فأشار إلى فيه وقال الذي خلق هذه الرحى يأتيها بالطحين.
وقال سليم بن المهاجر الجيلي:
( كسوت جميل الصبر وجهي فصانه ... به الله عن غشيان كل بخيل )
( فما عشت لم آت البخيل ولم أقم ... على بابه يوماً مقام ذليل )
( وإن قليلاً يستر الوجه أن يرى ... إلى الناس مبذولاً لغير قليل ).
وصلى معروف الكرخي خلف إمام فلما فرغ من صلاته قال الإمام لمعروف: من أين تأكل؟ قال أصبر حتى أعيد صلاتي التي صليتها خلفك، قال: ولِمَ؟ قال: لأن مَنْ شك في رزقه شك في خالقه.
وقال أبو حازم: ما لم يكتب لي لو ركبت الريح ما أدركته.
وقال عمر بن أبي عمر اليوناني:
( غلا السعر في بغداد من بعد رخصة ... وأني في الحالين بالله واثق )
( فلست أخاف الضيق والله واسع ... غناه ولا الحرمان والله رازق ).
وقال القهستاني:
( غني بلا دنيا عن الخلق كلهم ... وأن الغنى الأعلى عن الشيء لا به ).
وقال منصور الفقيه:
( الموت أسهل عندي ... بين القنا والأسنَّة )
( والخيل تجري سراعاً ... مقطعات الأعنَّة )
( من أن يكون لنذلٍ ... عليَّ فضلٌ ومنَّه )
وأنشد أعرابي:
( أيا مالك لا تسأل الناس والتمس ... بكفيك فضل الله فالله أوسع )
( ولو تسأل الناس التراب لأوشكوا ... إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا ).
وقال رجل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أوصني، قال: " عليك باليأس مما في أيدي الناس وإياك والطمع فإنه فقر حاضر.
وقيل: إذا وجدت الشيء في السوق فلا تطلبه من صديقك.
وقيل لأعرابية: من أين معاشكم؟ قالت لو لم نعش إلا من حيث نعلم لم نعش.
وقال أعرابي: أحسن الأحوال حال يغبطك بها من دونك ولا يحقرك معها من فوقك.
وقال المعري:
( إذا كنت تبغي العيش فابغ توسطاً ... فعند التناهي يقصر المتطاول )
( توقى البدور النقص وهي أهلة ... ويدركها النقصان وهي كوامل ).
وقال آخر:
( اقنع بأيسر رزق أنت نائله ... واحذر ولا تتعرض للإرادات )
( فما صفا البحر إلا وهو منتقص ... ولا تعكر إلا في الزيادات ).
وقال أعرابي: استظهر
على الدهر بخفة الظهر.
قال هشام بن إبراهيم البصري:
( وكم ملك جانبته عن كراهة ... لإغلاق باب أو لتشديد حاجب )
( ولي في غنى نفسي مراد ومذهب ... إذا انصرفت عني وجوه المذاهب ).
وقيل ينبغي أن يكون المرء في دنياه كالمدعو إلى الوليمة أن أتته صحفة تناولها وإن لم تأته لم يرصدها ولم يطلبها.
وقال شقيق بن إبراهيم البلخي: قال لي إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى أخبرني عما أنت عليه؟ قلت: إن رزقت أكلت وإن منعت صبرت، قال: هكذا تعمل كلاب بلخ، فقلت: كيف تعمل أنت قال: أن رزقت آثرت وان منعت شكرت.
وقال بعضهم:
( هي القناعة فالزمها تعش ملكاً ... لو لم يكن منك إلا راحة البدن )
( وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها ... هل راح منها بغير القطن والكفن )
وقال آخر:
( وإن القناعة كنز الغنى ... فصرت بأذيالها ممتسك )
( فلا ذا يراني على بابه ... ولا ذا يراني له منهمك )
( فصرت غنياً بلا درهم ... أمرُّ على الناس شبه الملك ).
جاء فتح الموصلي إلى أهله بعد العتمة فلم يجد عندهم شيئاً للعشاء ووجدهم بغير سراج فجلس ليلته يبكي من الفرح ويقول بأي يد كانت مني تركت مثلي على هذه الحالة؟ والله تعالى أعلم.