الباب الرابع: فمن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏
---------------------------------------------------------
والتقدير‏:‏ اهدنا إلى الصراط فحذف إلى دليله قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ويهديهم إليه صراطاً ‏"‏ لأن العرب تقول‏:‏ هديته إلى الطريق فإذا قال‏:‏ هديته الطريق فقد حذف إلى‏.‏
ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن ‏"‏ أي‏:‏ بأن لهم فحذف الباء وانتصب أن على مذهب سيبويه وبقي الجر عند الخليل والكسائي‏.‏
وحجاجهم مذكور في الخلاف‏.‏
وعلى هذا جميع ما جاء في التنزيل من قوله‏:‏ ‏"‏ ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً ‏"‏ في بني إسرائيل والكهف دليله ظهوره في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ بشر المنافقين بأن لهم ‏"‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏"‏ يبشرهم ربهم برحمة منه ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ فبشرناها بإسحاق ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ بشرناك بالحق ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ يبشرك بيحيى ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ لتبشر به المتقين ‏"‏‏.‏
ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها ‏"‏ أي‏:‏ لا يستحيى من ضرب المثل فحذف من‏.‏
ويكثر حذف المثل لجر من أن ويقل مع المصدر يحسن أن يضرب والتقدير‏:‏ من أن يضرب ولا يحسن حذف‏:‏ من ضرب‏.‏
وأما قوله بعوضة فقيل‏:‏ التقدير‏:‏ أن يضرب مثلاً ببعوضة وما صلة زائدة فحذف الباء‏.‏
وقيل‏:‏ ما نكرة في تقدير‏:‏ شئ و بعوضة بدل منه‏.‏
وقال أبو علي في معنى الآية‏:‏ لا يجوز في القياس أن يريد أصغر منها‏.‏
وقد حكى عن الكلبي أنه يريد‏:‏ دونها‏.‏
وقال ابن عباس فما فوقها الذباب فوق البعوضة وهو الحسن‏.‏
قال أبو علي‏:‏ وإنما يجوز هذا في الصفة هذا صغير وفوق الصغير وقليل وفوق القليل أي جاوز القليل‏.‏
فأما هذه نملة وفوق النملة وحمار وفوق حمار يريد أصغر من النملة ومن الحمار فلا يجوز ذلك لأن هذا اسم ليس فيه معنى الصفة التي جاز فيها ذلك‏.‏
الفراء‏:‏ فما فوقها يريد‏:‏ أكبر منها وهو العنكبوت والذباب ولو جعلت في مثله من الكلام فما فوقها تريد أصغر منها لجاز ولست أستحسنه لأن البعوضة غاية في الصغر فأحب إلى أن أجعل فما فوقها أكبر منها‏.‏
ألا ترى أنك تقول‏:‏ تعطى من الزكاة الخمسون فما دونها والدرهم فما فوقه ويضيق الكلام أن تقول‏:‏ فوقه فيهما أو دونه فيهما‏.‏
وموضع حسنها في الكلام أن يقول القائل‏:‏ إن فلاناً لشريف‏.‏
فيقول السامع‏:‏ وفوق ذلك يريد المدح‏.‏
أو يقول‏:‏ إنه لبخيل‏.‏
فيقول‏:‏ وفوق ذلك‏.‏
يريد بكليهما معنى أكبر‏.‏
فإذا عرفت الرجل فقلت‏:‏ دون ذاك فكأنك تحطه عن غاية الشرف أو غاية البخل‏.‏
ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ‏"‏ أي‏:‏ بأن تذبحوا لأن أمر فعل يتعدى إلى مفعولين الثاني منهما بالباء دليله ‏"‏ أتأمرون الناس بالبر ‏"‏‏.‏
ومثله‏:‏ ‏"‏ أعوذ بالله أن أكون ‏"‏ أي‏:‏ من أن أكون‏.‏
ومثله‏:‏ ‏"‏ أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ‏"‏ أي‏:‏ في أن يؤمنوا لكم‏.‏
ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزل الله ‏"‏ أي‏:‏ بغيا لأن ينزل الله فإن ينزل الله متعلق ب بغيا بواسطة حرف الجر‏.‏
وبغياً مفعول له وأن يكفروا رفع مخصوص بالذم‏.‏
وماشتروا ما يجوز أن يكون نصباً على تقدير‏:‏ بئس شيئا ويجوز أن يكون رفعا على تقدير‏:‏ بئس الذي اشتروا به‏.‏
ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ‏"‏ أي‏:‏ في نفسه فحذف في‏.‏
وقال قوم‏:‏ سفه بمعنى سفه‏.‏
وقال قوم‏:‏ هو تمييز‏.‏
والمعرفة لا تكون تمييزا‏.‏
قال عثمان‏:‏ يمكن أن يكون تقديره‏:‏ فمن عفى له من أخيه عن شئ فلما حذف حرف الجر ارتفع شئ لوقوعه موقع الفاعل كما أنك لو قلت‏:‏ سير بزيد ثم حذفت الباء قلت‏:‏ سير زيد‏.‏
ومثل حذف عن في التنزيل قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ‏"‏ والتقدير‏:‏ فقد ضل عن سواء السبيل‏.‏
ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهر بيتي ‏"‏ أي‏:‏ بأن طهرا بيتي‏.‏
ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فلا جناح عليه أن يطوف جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم ‏"‏ أي في أن تبتغوا أي‏:‏ في أن يطوف وكذلك‏:‏ ‏"‏ ليس عليكم ‏"‏ ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا ‏"‏ أي‏:‏ في أن تبروا‏.‏
وقال أبو إسحاق‏:‏ بل أن تبروا مبتدأ والخبر محذوف‏.‏
أي‏:‏ البر والتقوى أولى‏.‏
ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ أن تسترضعوا أولادكم ‏"‏ أي لأولادكم‏.‏
ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولا تعزموا عقدة النكاح ‏"‏ أي‏:‏ على عقدة النكاح لقوله‏:‏ عزمت على إقامة ذي صباح ليوم ما يسود من يسود ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله ‏"‏ التقدير‏:‏ ما لنا في ألا نقاتل فحذف في‏.‏
وعن بعض الكوفيين‏:‏ إنما دخلت أن لأن معناه‏:‏ ما يمنعنا فلذلك دخلت أن لأن الكلام‏:‏ مالك تفعل كذا وكذا‏.‏
قال أبو علي‏:‏ والقول هو الأول‏.‏
وجه قول أبي الحسن إن أن لغو كإذن يكون لغواً كما تكون هي وكما تكون عوامل الأسماء لغوا ولا يمنعها كونها لغوا من العمل في معمولها كما لم تمتنع عوامل الأسماء كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فما منكم من أحد ‏"‏‏.‏
فإن قال قائل‏:‏ فهلا أجاز في لن أيضاً أجاز في أن كذلك فإن هذا لا يلزمه لأن أن أشد تصرفاً من لن وهي لذلك أحمل للتوسع وأجلد به‏.‏
ألا ترى أنها تدخل على الماضي والمستقبل وتدخل على أمثلة الأمر كقولك‏:‏ كتبت إليه بأن قم وليس شئ من هذا في لن‏.‏
ألا ترى أنها تلزم المستقبل ولا تتجاوز عن ذلك إلا أن الوجه فيها مع ذلك ألا تكون ك إذن لأن إذن إذا وقع بعدها فعل الحال ألغيت ولم تعمل فيه وأن قد عملت هنا فلو كانت مثل إذن لوجب ألا تعمل فيما بعدها من الفعل كما لم تعمل إذن إذا كان الفعل الذي بعده فعل الحال ألا ترى أن الاسم في مالك قائماً ينتصب على الحال فكذلك الفعل بعد إذن هنا فعل حال فلو كانت أن ك إذن لوجب ألا تعمل في فعل الحال كما لم تعمل إذن فيه في نحو قولك‏:‏ إذا حدثت بحديث‏:‏ إذن أظنك كاذباً‏.‏
وأيضاً فلا يجوز أن تكون أن مثل إذن في أن تلغى كما تلغى إذن‏.‏
ألا ترى أن فيها من الاتساع أكثر مما في أن تقول‏:‏ أنا أقوم إذن فلا توليه فعلا‏.‏
وتقول‏:‏ إذن والله أقوم فتفصل بينه وبين الفعل‏.‏
والإلغاء سائغ فيه‏.‏
فإذا كان له من التصرف ما ليس لأن لم ينكر أن يجوز فيه الإلغاء فلا يجوز في أن لكون تصرفها أقل من تصرف إذن‏.‏
وجوز أبو الحسن أن يكون المعنى‏:‏ وما لنا في ألا نقاتل‏.‏
وهذا أوضح ويكون أن مع حرف الجر في موضع النصب على الحال كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فما لهم عن التذكرة معرضين ‏"‏ ونحو ذلك ثم حذف الحرف فسد أن وصلتها ذلك المسد‏.‏
والحال في الأصل هو الجالب للحرف المقدر إلا أنه ترك إظهاره لدلالة المنصوب عنه عليه‏.‏
ومثل هذه الآية في التنزيل‏:‏ ‏"‏ وما لكم ألا تأكلوا ‏"‏ أي‏:‏ ما لكم في ألا تأكلوا‏.‏
ومن إضمار حرف الجر قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن أتاه الله الملك ‏"‏ أي‏:‏ لأن آتاه الله الملك‏.‏
ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ‏"‏ أي‏:‏ إلا على إغماض فيه وعلى مع ومن حذف حرف الجر قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ‏"‏‏.‏
الذي عليه البصريون حذف المضاف على تقدير‏:‏ كراهة أن تؤتي‏.‏
قال أبو علي‏:‏ في الآية أن لا يخلو من أن يكون منتصباً بأنه مفعول به أو مفعول له فلا يجوز أن ينتصب بأنه مفعول به وذلك أن الفعل قد تعدى باللام إلى قوله‏:‏ ‏"‏ لمن تبع دينكم ‏"‏ كما تعدى بها في قوله‏:‏ ‏"‏ وما أنت بمؤمن لنا ‏"‏ فإذا انتصب هذا بأنه مفعول به لم ينتصب به مفعول آخر فإذا لم ينتصب بأنه مفعول به انتصب بالوجه الآخر والتقدير‏:‏ لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم‏:‏ كراهة ذكر أن تؤتي أحد وذكر أن يحاجوكم‏.‏
والدليل على انتصابه بهذا الوجه‏:‏ قوله في الآية الأخرى ‏"‏ وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ‏"‏ وكما أن قوله ليحاجوكم في هذه الآية مفعول له وقد دخلت اللام عليه وكذلك قوله أو يحاجوكم عند ربكم منتصب بالعطف على ما هو مفعول له‏.‏
وهذه الآية عندنا على غير ما قاله الشيخ رحمه الله والتقدير‏:‏ ولا تؤمنوا بأن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم إلا من تبع دينكم فالباء مضمر وأن يؤتي مفعول لا تؤمنوا واللام زيادة ومن تبع دينكم استثناء من أحد على التقدير الذي ذكرنا‏.‏
ويجوز أن يكون قوله لمن تبع دينكم من صلة تؤمنوا وإنما لا يتعدى الفعل بحرفين إذا كانا متفقين وأما إذا كانا مختلفين فالتعدى بهما جائز‏.‏
وقد استقصينا هذه المسألة في غير كتاب من كتبنا‏.‏
ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ واختار موسى قومه ‏"‏ أي من قومه فحذف من‏.‏
ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فقد جاءوا ظلماً وزوراً ‏"‏ أي‏:‏ بظلم وزور فحذف الباء‏.‏
وإن زعمت على أنه ليس على حذف الباء وإنما هو من باب ‏"‏ والعاديات ضبحاً ‏"‏ لم يمكنك تقدير زور على لفظه وإنما تقدره‏:‏ ظالمين مزورين فتعدل أيضاً عما تلزمنيه‏.‏
فقد ثبت أنه على تقدير‏:‏ فقد جاءوا بظلم وزور‏.‏
ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وضائق به صدرك أن يقولوا ‏"‏ أي‏:‏ من أن يقولوا أي‏:‏ يضيق صدرك من مقالتهم‏:‏ ‏"‏ لولا أنزل عليه كنز ‏"‏‏.‏
ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ عتل بعد ذلك زنيم أن كان ذا مال وبنين ‏"‏ أي‏:‏ لأن كان ذا مال فحذف اللام‏.‏
وفيما يتعلق به هذا اللام اختلاف واضطراب‏:‏ في قول أبي علي مرة‏:‏ هو متعلق بمحذوف ولم يعلقه بقوله ‏"‏ إذا تتلى ‏"‏ ولا بقوله قال الذي هو جواب إذا قال‏:‏ لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبله‏.‏
قال في التذكرة‏:‏ ومن لم يدخل همزة الاستفهام كان أن متعلقاً ب عتل وذلك كأنه القليل الانقياد وأنشد أبو زيد‏:‏ وعتل داويته من العتل من قول ما قيل وقيل لم يقل فإن قلت‏:‏ كيف جاز تعلقه بقوله عُتل وهو موصوف وما يعمل عمل الفعل إذا وصف لم يعمل عمله ألا ترى أنه لم يستجز ولم يستحسن‏:‏ مررت بضارب ظريف زيداً وقد وصف عتل ب زنيم‏.‏
فالقول‏:‏ إن ذلك إنما لم يستحسن لخروجه بالصفة إلى شبه الاسم وبعده من شبه الفعل وقد يعمل ما يبعد من شبه الأسماء نحو‏:‏ مررت برجل خير منه أبوه وإن كان غير ذلك أحسن‏.‏
والإعمال في الآية له مزية وإن كان قد وصف وذلك أن حرف الجر كأنه ثابت في اللفظ لطول الكلام ب أن ولأن أن‏.‏
قد صارت كالبدل منه ومن ثم قال الخليل في هذا النحو‏:‏ إنه في موضع جر وإذا كان كذلك فقد يعمل بتوسط الحرف‏.‏
وقد ينتصب أن من وجه آخر غير ما ذكرنا وذلك أن قوله‏:‏ ‏"‏ إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ‏"‏ يدل على الإنكار والاستكبار وترك الانقياد فأعمل هذا المعنى الذي دل عليه هذا الكلام في أن وكان التقدير استكبر وكفر لأن كان ذا مال وبنين‏.‏
فأما من أدخل الهمزة فقال‏:‏ أأن كان ذا مال وبنين‏.‏
فقد يكون في موضع النصب أيضاً من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن ما تقدم مما دل من قوله عتل صار بمنزلة الملفوظ به بعد الاستفهام فكأنه‏:‏ ألأن كان ذا مال وبنين يعتل أو يكفر أو يستكبر ونحو ذلك‏.‏
كما أن ما تقدم من ذكر قوله‏:‏ ‏"‏ آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ‏"‏ صار كالمذكور بعد قوله‏:‏ ‏"‏ آلآن وقد عصيت قبل ‏"‏ ويكون ‏"‏ إذا تتلى عليه آياتنا ‏"‏ كلاما مستأنفاً‏.‏
ثانيهما‏:‏ ويجوز أيضاً مع الاستفهام أن يعمل في أن ما دل عليه قوله‏:‏ ‏"‏ إذا تتلى عليه آياتنا قال ‏"‏‏.‏
كما جاز أن يعمل إذا لم يدخل الاستفهام ومثل ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ‏"‏‏.‏
ومن حذف الجر قوله‏:‏ ‏"‏ إني أعظك أن تكون ‏"‏ أي‏:‏ من أن تكون‏.‏
وكذلك‏:‏ ‏"‏ إني أعوذ بك أن أسألك ‏"‏ أي‏:‏ من سؤالك‏.‏
فأما قوله في التنزيل‏:‏ ‏"‏ يرسل السماء عليكم مدرارا ‏"‏ إن حملت السماء على التي هي تظل الأرض أو على السحاب كان من هذا الباب وكان التقدير‏:‏ يرسل من السماء عليكم مدرارا‏.‏
فيكون مدرارا مفعولا به‏.‏
وإن حملت السماء على المطر كان مفعولا به ويكون ويقوى الوجه الأول ‏"‏ فأنزلنا من السماء ماءً ‏"‏ ‏"‏ وينزل من السماء من جبال ‏"‏ ‏"‏ وأنزل من السماء ماءً ‏"‏ وغير ذلك من الآى‏.‏
ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ‏"‏ والتقدير‏:‏ يخوفكم بأوليائه‏.‏
فحذف المفعول والباء‏.‏
وقيل‏:‏ الأولياء‏:‏ المنافقون لأن الشيطان يخوف المنافقين‏.‏
وأما قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ‏"‏ فقيل‏:‏ التقدير‏:‏ لا يضل عن ربي أي‏:‏ الكتاب لا يضل عن ربي ولا ينساه ربي فحذفت عن‏.‏
وقيل التقدير‏:‏ لا يضل ربي عنه فحذف الجار مع المجرور والجملة في موضع جر صفة للكتاب‏.‏
ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ لأقعدن لهم صراطك المستقيم ‏"‏ أي‏:‏ على صراطك‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ واقعدوا لهم كل مرصد ‏"‏ أي‏:‏ على كل مرصد‏.‏
قال أبو إسحاق‏:‏ قال أبو عبيدة‏:‏ المعنى كل طريق‏.‏
وقال أبو الحسن‏:‏ على محذوفة‏.‏
المعنى‏:‏ على كل مرصد‏.‏
وانشد‏:‏ نغالى اللحم للأضياف نيئاً قال أبو إسحاق‏:‏ كل مرصد ظرف كقولك‏:‏ ذهبت مذهبا وذهبت طريقا وذهبت كل طريق فلست تحتاج إلى أن تقول في هذا الأمر بقوله في الظرف نحو‏:‏ خلف وقدام‏.‏
قال أبو علي‏:‏ القول في هذا عندي كما قال وليس يحتاج في هذا إلى تقدير على إذا كان المرصد اسماً للمكان‏.‏
كما أنك إذا قلت‏:‏ ذهبت مذهباً ودخلت مدخلا فجعلت المدخل والمذهب اسمين للمكان لم نحتج إلى على ولا إلى تقدير حرف جر‏.‏
إلا أن أبا الحسن ذهب إلى أن المرصد اسم للطريق كما فسره أبو عبيدة‏.‏
وإذا كان اسما للطريق كان مخصوصا وإذا كان مخصوصا وجب ألا يصل الفعل الذي لا تتعدى إليه إلا بحرف جر نحو‏:‏ ذهبت إلى زيد ودخلت به وخرجت به وقعدت على الطريق إلا أن يجئ في شئ من ذلك اتساع فيكون الحرف معه محذوفاً كما حكاه سيبويه من قولهم‏:‏ ذهبت الشام ودخلت البيت‏.‏
فالأسماء المخصوصة إذا تعدت إليها الأفعال التي لا يتعدى فإنما هو على الاتساع‏.‏
والحكم في تعديها إليها والأصل أن يكون بالحرف‏.‏
وقد غلط أبو إسحاق في قوله‏:‏ ‏"‏ كل مرصد ‏"‏ حيث جعله ظرفاً كالطريق كقولك‏:‏ ذهبت مذهبا وذهبت طريقا وذهبت كل مذهب في أن جعل الطريق ظرفاً كالمذهب وليس الطريق بظرف‏.‏
ألا ترى أنه مكان مخصوص كما أن البيت والمسجد مخصوصان‏.‏
وقد نص سيبويه على اختصاصه والنص يدل على أنه ليس كالمذهب‏.‏
ألا ترى أنه حمل قول ساعدة‏:‏ لدن بهز الكف يعسل متنه فيه كما عسل الطريق الثعلب على أنه قد حذف معه الحرف اتساعا كما حذف عنده من‏:‏ ذهبت الشام‏.‏
وقد قال أبو إسحاق في هذا المعنى خلاف ما قاله هذا‏.‏
ألا ترى أنه قال في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ لأقعدن لهم صراطك المستقيم ‏"‏ أي‏:‏ على صراطك‏.‏
قال‏:‏ ولا اختلاف بين النحويين أن على محذوفة‏.‏
ومن حذف الجار قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ‏"‏ أي‏:‏ في أن يجاهدوا فحذف في‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ وتخر الجبال هدًّا أن دعوا للرحمن ولدا ‏"‏ أي‏:‏ لأن دعوا فحذف اللام‏.‏
وأما قوله‏:‏ ‏"‏ ثم السبيل يسره ‏"‏ فقد قالوا‏:‏ التقدير‏:‏ ثم يسره للسبيل وإنها كناية الولد المخلوق من النطفة في قوله ‏"‏ من أي شيء خلقه من نطفة خلقه ‏"‏ ثم يسره للسبيل فحذف اللام وقدم المفعول لأن يسر يتعدى إلى مفعولين أحدهما باللام قال‏:‏ ‏"‏ ونيسرك لليسرى ‏"‏ فسنيسره لليسرى ‏"‏ ولو قالوا إن التقدير‏:‏ ثم السبيل يسره له فحذف الجار والمجرور لكان أحسن‏.‏
كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري ‏"‏ فينصب إذ ذاك السبيل بمضمر فسره يسره‏.‏
ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ سنعيدها سيرتها الأولى ‏"‏ أي‏:‏ إلى سيرتها أو‏:‏ كسيرتها‏.‏
ومن حذف حرف الجر قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ نودي يا موسى أني أنا ربك ‏"‏ فيمن فتح والتقدير‏:‏ بأني أنا ربك لأنك تقول‏:‏ ناديت زيدا بكذا‏.‏
ومثله‏:‏ ‏"‏ فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله ‏"‏ فيمن فتح الهمزة أي‏:‏ نادته بأن الله‏.‏
فأما من كسر الهمزتين في الموضعين فبإضمار القول وما قام مقام فاعل مقام الفاعل نودي ضمير موسى أي‏:‏ نودي هو يا موسى‏.‏
ويجوز أن يقوم المصدر مقام الفاعل ولا يجوز أن يقوم يا موسى مقام الفاعل لأنه جملة‏.‏
هذا كلامه في الحجة‏.‏
وقد جرى فيه على أصلهم حيث خالفوا سيبويه في قوله‏:‏ ‏"‏ ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه ‏"‏ من أن الفاعل هو المصدر دون ليسجننه‏.‏
بخلاف مذهبه أعني سيبويه حيث جعل ليسجننه الفاعل وإن كان جملة‏.‏
فإذا كان كذلك كان في قوله‏:‏ يا موسى بمنزلة ليسجننه عند سيبويه هذا سهو‏.‏
ومثله‏:‏ ‏"‏ وأنا اخترناك ‏"‏ في قراءة حمزة بفتح الألف والتشديد والألف والنون على تقدير‏:‏ ولأنا اخترناك فاستمع لما يوحى أي‏:‏ استمع لما يوحى لأنا اخترناك فاللام الأولى بمعنى إلى لولا ذلك لم يجز لأنه لا يتعدى فعل واحد بحر في جر متفقين وإن اختلفوا في المختلفين‏.‏
وزعم الفارسي أن قوله وأنا اخترناك محمول على ‏"‏ أني أنا ربك ‏"‏ فسبحان الله إن من قرأ أني أنا ربك بالفتح يقرأ وأنا اخترناك وهو ابن كثير‏.‏
وأبو عمرو فكيف نحمل عليه‏!‏ إنما ذلك على قوله فاستمع أو على المعنى لأنه لما قال ‏"‏ فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى ‏"‏ كأنه قال‏:‏ اخلع نعليك لأنك بالوادي المقدس طوى‏.‏
ولو قال ذلك صريحا لصلح وأنا اخترناك على تقدير‏:‏ ولأنا اخترناك‏:‏ أي‏:‏ اخلع نعليك لهذا ولهذا‏.‏
ومثله‏:‏ ‏"‏ عبس وتولى أن جاءه الأعمى ‏"‏ أي‏:‏ لأن جاءه الأعمى فحذف اللام‏.‏
ومثله‏:‏ ‏"‏ وفجرنا الأرض عيوناً ‏"‏ أي‏:‏ وفجرنا من الأرض عيونا‏.‏
أو يكون كقوله ‏"‏ جاءوا ظلما وزوراً ‏"‏ أي بظلم‏.‏
والتقدير‏:‏ وفجرنا الأرض بعيون‏.‏
ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فكيف تتقون إن كفرتم يوماً ‏"‏ أي‏:‏ بيوم فحذف الحرف وأوصل للفعل وليس بظرف لأن الكفر لا يكون يومئذ لارتفاع الشبه لما يشاهد‏.‏
وقيل‏:‏ التقدير كيف تتقون عقاب يوم ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ تبغونها عوجاً ‏"‏ حكم تعديه إلى أحد المفعولين أن يكون بحرف الجر نحو‏:‏ بغيت لك خيراً ثم يحذف الجار‏.‏
وحكى في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً ‏"‏ أي‏:‏ دينا غير الإسلام ف غير على هذا وصف للنكرة فتقدم عليها فانتصب على الحال نحو‏:‏ فيها قائما رجل‏.‏
ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ نودي أن بورك من في النار ‏"‏ أي‏:‏ على من في النار‏.‏
كما قال‏:‏ ‏"‏ وباركنا عليه وعلى إسحاق ‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ‏"‏‏.‏
فكأنه قال‏:‏ باركت على من في النار من دخل فيها‏.‏
ولكن على معنى‏:‏ من قرب منها ومن داناها فحذف المضاف‏.‏
فإن قلت‏:‏ ف من حولها بقربها فما معنى التكرير قيل‏:‏ لا يدل حول كذا على التقريب لأنك تقول‏:‏ هو يطوف حول البيت ويكون متراخيا عنه‏.‏
وأبين من هذا قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وممن حولكم من الأعراب منافقون ‏"‏ والأعراب لا يكونون في الأكثر إلا متراخين عن البلدان‏.‏
فالمعنى‏:‏ أن بورك من في قرب النار أو طلب النار ومن في بعدها ومن حولها‏:‏ الملائكة وغيرهم‏.‏
والقريب منها موسى لأنه أراد أن يحمل نارا إلى أهله ليصطلوا بها‏.‏
ومن ذلك‏:‏ ‏"‏ أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً ‏"‏ فمن فتح أراد‏:‏ لأن كنتم‏.‏
والمعنى‏:‏ أفنضرب عنكم ذكر الانتقام منكم والعقوبة لكم لأن كنتم قوماً مسرفين‏.‏
وهذا يقرب من قوله‏:‏ ‏"‏ أيحسب الإنسان أن يترك سدى ‏"‏ وانتصاب صفحا على المصدر من باب‏:‏ ‏"‏ صنع الله ‏"‏ ‏"‏ وكتاب الله ‏"‏ و ‏"‏ وعد الله ‏"‏‏.‏
ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فأجمعوا أمركم ‏"‏ أي‏:‏ على أمركم‏.‏
ومن هذا الباب قوله‏:‏ ‏"‏ يسبحون الليل والنهار لا يفترون ‏"‏ والتقدير‏:‏ يسبحون بالليل‏.‏
كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ يسبح له فيها بالغدو والآصال ‏"‏‏.‏
فأما قوله‏:‏ والنهار فقيل‏:‏ هو منصوب بقوله لا يفترون والأحسن أن يكون عطفاً على الليل‏.‏
ومثله‏:‏ ‏"‏ وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله ‏"‏ فإنه يجوز أن يحمل على عن تقديره‏:‏ معكوفاً عن أن يبلغ محله‏.‏
فلما كانت أن الموصولة بالفعل قد طال الكلام بها جاز إضمار الجار‏.‏
ويجوز النصب في موضع أن على هذا والعامل فيه على ضربين‏:‏ أحدهما أن يكون التقدير‏:‏ والهدى معكوفاً كراهة أن يبلغ أو لئلا يبلغ محله على تقدير الكوفيين‏.‏
فإن قلت‏:‏ فإن معكوفاً يقتضى حرف جر على تقدير على ولا يكون متعدياً بنفسه والتنزيل قيل‏:‏ هو محمول على المعنى كأنه قال‏:‏ والهدى محبوساً كراهة أن يبلغ كالرفث حيث حمل على الإفضاء في قوله‏:‏ ‏"‏ الرفث إلى نسائكم ‏"‏‏.‏
وجاز ذا لأن المسلمين أحصروا إذ ذاك ويكون معكوفاً في بابه كمدرهم حيث لم يقل درهم ومفؤود للجبان و ‏"‏ ماء معين ‏"‏ ولم يقل‏:‏ عين وكذلك لم يقل‏:‏ عكف‏.‏
وإن حملته على وصدوكم كان فيه إضمار عن كالأول أو يكون من باب ‏"‏ اختار موسى قومه ‏"‏ أو يكون من باب‏:‏ بمن تمرر أمرر ولم يحتج إلى‏:‏ امرر به لجرى الأول‏.‏
فكذا لم يحتج إلى عن لذكره عن المسجد الحرام‏.‏
ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة ‏"‏ أي‏:‏ لأن تكون‏.‏
فموضع أن نصب مفعول له‏.‏
وقدره الزجاج‏:‏ بان يكون فحذف الباء‏.‏
ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فإن استقر مكانه فسوف تراني ‏"‏‏.‏
أي‏:‏ في مكانه‏.‏
وكذلك قوله تعالى ‏"‏ ليس عليكم جناح أن تبتغوا ‏"‏ أي‏:‏ في أن تبتغوا‏.‏
لقوله‏:‏ ‏"‏ وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ‏"‏ فحذف في‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ وترغبون أن تنكحوهن ‏"‏ يجوز أن يكون‏:‏ وترغبون في أن تنكحوهن لجمالهن ويجوز أن يكون‏:‏ ترغبون عن نكاحهن لدمامتهن‏.‏
وأما قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ‏"‏ فقد قيل‏:‏ التقدير‏:‏ يستضعفون في مشارق الأرض أي‏.‏
جعلنا الذين يستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها ملوك الشام ومصر‏.‏
وأنكر الطبري هذا القول واعتل بأنهم ما كانوا يستضعفون إلا في أرض مصر من جهة القبط‏.‏
وغلط الطبري لأنه ظن أنهم لا يكونون مستضعفين إلا بعد أن يقتل أبناؤهم وتستحيا نساؤهم ويلزموا أن يضربوا لبنا صلبا بلا تبن وليس كذلك لأنهم لما تفردوا بدين إبراهيم ولم يكن يدين به في ذلك الوقت أحد إلا وكانوا مدفوعين عندهم غير مقبولين ومقهورين غير مالكين‏.‏
ألا ترى أن قوماً منهم صاروا بعد بختنصر إلى أرض فارس وكانوا أذل من بها لمفارقتهم لهم في أديانهم‏.‏
والشأن في أنه أنكر هذا القول ولم يذكر هو شيئاً يعبأ به لأنه قال‏:‏ أورثهم مشارق الشام وذلك مما يلي الشرق منها ومغاربها التي باركنا فيها‏.‏
وقيل‏:‏ التقدير‏:‏ أورثنا مشارق هذه الأرض التي أغرقنا مالكيها وسالكيها‏.‏
فإذا نصبت مشارق بأورثنا كان قوله التي جراً صفة ل الأرض المجرورة وإذا نصبت مشارق ب يستضعفون كان التي نصبا صفة موصوف محذوف منصوب ب أورثنا أي‏:‏ أورثناهم الأرض التي باركنا فيها‏.‏
أحدهما‏:‏ أن يكون بتقدير الباء أي‏:‏ أرسلناه بأن اعبدوا الله فانتصب بالنزع‏.‏
والثاني‏:‏ أن تكون أن بمعنى أي المفسرة‏.‏
وأما قوله تعالى في التنزيل‏:‏ ‏"‏ لا جرم أن لهم النار ‏"‏ و ‏"‏ لا جرم أن ما تدعونني إليه ‏"‏ ‏"‏ لا جرم أنهم في الآخرة ‏"‏ فبعضهم يحمله على إضمار من‏.‏
أي‏:‏ من أن لهم النار فيحمل لا جرم على معنى‏:‏ لا بد‏.‏
وهذا لا يصح لأن جرم يقتضى مرفوعاً لأنه فعل ماض عندنا‏.‏
وذهب الفراء إلى أن جرم معمول لا وهو اسم وهو جار مجرى القسم‏.‏
وقيل‏:‏ إن أن منصوبة الموضع مفعول جرم‏.‏
وقال بعض الكوفيين‏:‏ جرم‏:‏ أصله الفعل الماضي فحول عن طريق الفعل ومنع التصرف فلم يكن له مستقبل ولا دائم ولا مصدر وجعل مع لا قسما وتركت الميم على فتحها الذي كان عليها في المضى كما نقلوا حاشى وهو فعل ماض مستقبله‏:‏ يحاشى ودائمه‏:‏ محاش ومصدره‏:‏ محاشاة من باب الانفعال إلى باب الأدوات لما أزالوه عن التصرف‏.‏
والصحيح أنه فعل ماض وتجعل لا داخلة عليه وهو مذهب سيبويه‏.‏
ومن أصحابه من يجعلها جواباً لما قبله‏.‏
ومثله‏:‏ يقول الرجل كان كذا وكذا وفعلوا كذا فيقول‏:‏ وبين غير الخليل وقال‏:‏ إنه رد على أهل الكفر فيما قدروه من اندفاع عقوبة الكفر ومضرته عنهم يوم القيامة‏.‏
وقد ذكر حجاج هؤلاء في المختلف‏.‏
ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً ‏"‏ أي كدعاء بعضكم على بعض‏.‏
فالمصدر في قوله دعاء الرسول مضاف إلى الفاعل أي‏:‏ كدعاء الرسول عليكم‏.‏
وقيل‏:‏ لا تجعلوا دعاءه إياكم إلى الحرب كدعاء بعضكم بعضا إليها فيكون أيضاً مضافاً إلى الفاعل‏.‏
وقيل‏:‏ لا تجعلوا دعاءكم الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا أي‏:‏ لا تدعوه ب يا محمد وادعوه ب يا نبي الله كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولا تجهروا له بالقول ‏"‏ فيكون المصدر مضافاً إلى المفعول‏.‏
ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ والقمر قدرناه منازل ‏"‏ أي‏:‏ يسير في منازل سائراً فيها‏.‏
ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ لو تعلمون علم اليقين ‏"‏ قيل‏:‏ التقدير‏:‏ بعلم اليقين لترون فحذف الجار‏.‏
وقيل‏:‏ بل هو نصب على المصدر‏.‏
ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فمن تطوع خيراً ‏"‏ أي‏:‏ بخير فحذف الباء‏.‏
ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ آتنا غداءنا ‏"‏‏.‏
قال أبو علي‏:‏ آتنا ليس من الإعطاء إنما هو من أتى الغداء وآتيته كجاء وأجأته ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ تؤتي أكلها ‏"‏ أي‏:‏ تجئ‏.‏
و آتنا غداءنا يتعدى إلى غدائنا بإرادة الجار لا بد من ذلك لأن الهمزة لا تزيده إلا مفعولاً واحداً بخلاف ‏"‏ وآتاكم من كل ما سألتموه ‏"‏ ‏"‏ وما أتاكم الرسول ‏"‏ لأنه من الإعطاء إذ هو متعد إلى ضمير الموصول وإلى الكاف والميم‏.‏
وقد عددت لك هذه الآى‏.‏
وقد قال سيبويه في الباب المترجم عنه‏:‏ فهذا باب ما ينتصب من الأسماء ليست بصفة ولا مصادر لأنه حال يقع فيه الأمر فينتصب لأنه مفعول فيه‏.‏
قال‏:‏ وزعم الخليل أن قولهم‏:‏ ربحت الدرهم درهما محال حتى يقولوا‏:‏ في الدرهم أو للدرهم‏.‏
كذلك وجدنا العرب تقول‏.‏
ومن زعم أنه يريد معنى الباء واللام ويسقطهما قيل له‏:‏ أيجوز أن تقول له‏:‏ مررت أخاك وهو يريد بأخيك فإن قال‏:‏ لا يقال فإن هذا لا يقال أيضاً‏.