الحجّ منافعه وآثاره
تأليف: سَمَاحَةِ الشَّيْخِ العَلاَّمَةِ
عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ جِبْرِيْنٍ -سَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-
قام بتنسيق الرِّسالة ونشرها: سَلمَانُ بْنُ عَبْدِ القَادِرِ أبُوْ زَيْدٍ
غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، ولِوَالدَيْهِ، ولِمَشَايخِهِ، ولجَمِيْعِ المُسْلِمِيْنَ.
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
http://www.shamela.ws
------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
"تَقْدِيمُ فَضِيلةِ الشَّيخِ العَلاَّمَةِ عَبدِ اللَّهِ بنِ عَبدِ الرَّحمنِ الجِبْرِين":
الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه، وفصّل كل ما شرعه وأحكمه، أحمده سبحانه وأشكره على ما أولاه من جزيل نعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من وحّد ربه وعظّمه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي اصطفاه للرسالة وكرمه، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن اتبع شرعه المطهر وقدّمه.
أما بعد:
فقد كنت ألقيت محاضرة مختصرة في بعض مساجد الرياض تتعلق بمنافع الحج، كتفصيل لقوله تعالى: "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ" [سورة الحج: 28 ] وذلك حسب ما بلغه فهمي القاصر، وما فتح الله به علي في تلك الساعة.
وقد سجلها بعض الحاضرين، ثم فرّغها أحد الإخوان؛ وعرضها عليّ لتصحيح الأخطاء اللغوية والمعنوية، التي وقعت عن سبق لسان؛ فأذِنت بنشرها رجاء أن يطلع عليها بعض المسلمين، ليعرفوا شيئا من حكمة الله تعالى في شرعه وأمره، وأنه الذي أتقن كل ما أمر به وأحكمه، وليس في دينه ولا فيما شرعه شيء لا فائدة فيه، وإن قصرت عنه الأفهام، وعجز عن إدراكه الأنام، ولا شك أن ذلك مما يشرح الصدور لتقبل شريعة الإسلام، وتنبسط النفوس عند العمل بتلك الأحكام.
فنوصي كل مؤمن بالله تعالى واليوم الآخر أن يطمئن إلى أحكام ربه وأوامره وزواجره، وأن يوقن بأنها كلها غاية في تحقيق المصالح في العاجل والآجل، ونسأل الله تعالى أن يفتح علينا بالفهم لشريعته والعمل بتعاليمه، وأن يوفق المسلمين للعمل الصالح الذي يحبه ربهم ويرضاه، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
عبد اللَّه بن عبد الرَّحمن الجِبرين
--------------------------------
"المُقدِّمةُ":
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستعينه، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة حق نلقى الله تعالى بها.
ونشهد أنه هو إلهنا وربنا وخالقنا، وأنه تعبّدنا وفرض علينا أن نعبده، ونحمده ونشكره، ونذكره ونعترف له بالفضل والامتنان، ونسأله سبحانه أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
ونصلي ونسلم على عبده ورسوله محمد بن عبد الله الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، ونشهد أنه بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وبيّن للأمة ما تحتاج إليه، فبين لهم أحكام عباداتهم، وبلغ ما أرسل به، واستشهد أصحابه رضي الله عنهم في حجة الوداع بقوله : " ألا هل بلغت فقالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت "(1).
فشهدوا له بالبيان والبلاغ والنصح، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه واتبع طريقه.
________________________________________
(1) سنن أبي داود (1905) وابن ماجه (3074).
________________________________________
أما بعد(1): أيها الأخوة... وأيها الشباب:
إننا جميعا نرجو -إن شاء الله- أن نكون من المتحابين في الله، والمتزاورين في الله، والمتجالسين والمتعارفين في الله، الذين يغبطهم أولياء الله على ما بينهم من المحبة والمودة، التي لم يكن الباعث لها مجرد المعرفة أو الصلة أو الصداقة، ولكن الباعث لها هو المحبة في الله والمحبة لله.
المحبة التي حمل عليها دين الإسلام، الذي هو عبادة الله وحده، فنحب الله تعالى، ونحب كل من يحب الله، ونحب أهل طاعته سبحانه وتعالى.
وإن هذه المحبة في ذات الله تقتضي النصيحة والبيان، والإرشاد والتوجيه، فكل من أحب أخاه، نصحه ووجهه، ودله على طرق الخير، ولا شك أن من جملة ذلك أمور العبادة التي نحن متعبّدون بها.
ولعل من أهمها وأجلها أداء مناسك حج بيت الله الحرام، وبمناسبة أننا في أشهر الحج، التي ذكرها الله في قوله: ? الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ?[ سورة البقرة، الآية : 197 ] وقد بين العلماء هذه الأشهر فقالوا بأنها شهران وعشرة أيام، وهذه الأشهر هي التي يشرع للحاج الإحرام والحج فيها.
ومن المناسب أن نذكر شيئا من منافع هذا الحج، ومن منافع هذه المناسك التي يُحْرِم بها المسلمون، ويتقربون بها إلى الله، والتي بينها نبينا -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع، وقال : " خذوا عني مناسككم "(2).
ولا شك أن هذا الحج الذي هو عبارة عن الإحرام والطواف والسعي وما يتصل به، هو أعمال بدنية، وأعمال قولية، وأعمال مالية.
________________________________________
(1) أصل هذه الرسالة محاضرة ألقاها فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين في أحد المساجد، وقمت بتفريغها وضبطها وتصحيحها قدر المستطاع، ثم قمت بتخريج الأحاديث فيها وترقيم الآيات، وبعد ذلك عرضتها على فضيلة الشيخ، فراجعها وصححها، وقدم لها وأذن بطبعها ونشرها، نسأل الله أن ينفع بها، وأن يكتبها في موازين أعمالنا إنه سميع مجيب.
(2) أخرجه من حديث جابر البيهقي في السنن 5/ 125.
________________________________________
وهذه الأعمال ونحوها ما شرعت إلا لعبادة الله، وما شرعت إلا للتزود من معرفة الله سبحانه وتعالى، وما شرعت أيضا إلا لمنافع عظيمة تفوق العد والحساب؛ ولأجل ذلك ذكر العلماء أن فيها منافع، واستدلوا بقول الله تعالى: "وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ *لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ" [الحج: 27 ـ 28 ].
وقد بحث العلماء عن هذه المنافع فقالوا: لا بد أن تكون هناك منافع متعددة.
ولا شك أن أعظم المنافع كون العبد يتقرب إلى الله تعالى بهذه القربة وبهذا المنسك، ويطلب من الله تعالى الثواب والأجر، ويطلب منه أن يضاعف له أجره على ما يتجشم من مشقة وتعب ونصب، فذلك منفعة عظيمة؛ حيث أنه يترتب على ذلك ثواب عظيم.
وقد عدّد العلماء للحج منافع عدة: بدنية، ومالية، وثقافية، واجتماعية، وعلمية، ولا بد أن تجتمع هذه المنافع كلها في هذه المناسك، ولا بد أن يشعر بها من كان حقا من أهل المعرفة ومن أهل التأثر.
ولأهمية معرفة منافع الحج، والحكمة التي شرع من أجلها، فإننا نحب أن نذكر شيئا من هذه المنافع، علَّ الله أن ينفع بها.
نسأل الله أن يكتبها في ميزان أعمالنا إنه سميع مجيب، ونسأله تعالى أن يزيدنا من معرفته، ومعرفة أحكام عبادته، إنه هو السميع العليم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
"أولاً: منافع السَّفَر":
المسلم الذي يتجشم المشقة، ويأتي من مكان بعيد، ربما يسافر ثلاثة أشهر، وربما نصف سنة، وربما يغيب عن أهله سنة كاملة، كل ذلك لأجل أن يؤدي هذا الحج!
فما الذي يحمله على ذلك ؟
يترجح أن الحامل له شعوره بحق الله عليه، وشعوره بأن ربه أحب منه هذا الأمر -الذي هو التجشم- وهذا السفر؛ فهذا لا شك أن فيه نية خالصة تدفع العبد إلى أن يصبر على الصعوبات، وأن يصبر على المشقات وأن يستسهل الصعاب:
لأستسهلنَّ الصعب أو أدرك المنى * * * فما انقادت الآمال إلا لصابر
فيستسهلون الصعاب، ويبذلون أوقاتهم وأموالهم في تذليل تلك الصعاب؛ حتى يحصلوا على مطلبهم.
ولا شك أن الإنسان عندما يسافر مسيرة شهر أو نصف شهر أو يوما أو أياما، لا شك أنه يلاقي هذه المشقات، وهذه الصعوبات، ولا شك أنها تمرن نفسه وتدربه على أن يصبر على الصعوبات والمشقات التي قد يلاقيها في حياته، وهذه منفعة من المنافع، وهي تمرين النفس على هذه الصعوبات والمشقات كالرفع والحطِّ والنزول والركوب والمشي والجلوس والنوم, وما أشبه ذلك.
كذلك فإنك لا شك تمر بديار لم تسمع بها أو لم ترها؛ فتأخذ منها عبرة، فتنظر إلى هذه البلاد وتتذكر أنه قد مر بها قبلك فلان وفلان، وأنها بلدة العالم فلان أو الأمير فلان, أو نحو ذلك, فتزداد معلوماتك.
وهكذا أيضا فإنك تمرن نفسك على الجوع والجهد الذي قد تلاقيه في بعض الأحيان؛ فتزداد صبرا وتحملا.
كل ذلك بلا شك من آثار الصبر وتحمل المشقات والصعوبات التي يسببها هذا السفر الذي هو سفر الحج.
كذلك أيضا تتدرب على آداب السفر، وللسفر آداب معروفة؛ فتعرف -مثلا- متى تقصر الصلاة، ومتى تجمع، ومتى يباح لك مثلا التيمم عند فقدان الماء أو لا يباح، وأشياء مثل ذلك من المعلومات التي قد تعلمتها ولكن لم تطبقها، فتطبقها في هذا السفر.
ومن منافع السفر صحبة الصالحين الأخيار الذين تجتمع معهم في سيارة كبيرة مثلا أو صغيرة، أو في باخرة، أو في غرفة، أو في خيمة ونحو ذلك.
ولا شك أن المسلم يكسب من هذه الصحبة منافع كثيرة، منها: المودة والمعرفة وزيادة المعلومات، فكل ذلك من المنافع التي أخبر بها الله في الحج.
"ثانيًا: مَنَافِع الإحْرَام":
عندما يقبل المسلم إلى المواقيت التي حددها النبي -صلى الله عليه وسلم- المحيطة بالحرم يعرف أنه قرب من هذا المكان الذي أمر الله تعالى بالتوجه إليه في قوله تعالى: "وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ" [الحج: 27 ] فإذا أتى وقرب من هذه الأماكن المقدسة استعد لذلك، فأولُ عمل يقوم به هو أن يتجرد من ثيابه المعتادة, ويلبس ثيابا خاصة.
ما هي المنفعة من هذا اللباس الذي يشبه لباس الموتى؟!
من هذه المنافع أنه يتذكر الانتقال من الدنيا! وأنه هكذا يخرج منها. فيخاطب نفسه قائلا: فأنا الآن قد خلعت زينتي، وخلعت لباسي، وجميع ما كنت أتجمل به، وارتديت رداءً ألقيته على ظهري، وإزاراً سترت به عورتي، فهذا يذكّرني بالحال الأخروية، ويذكّرني بالدار الآخرة، ويذكّرني بالانتقال من الدنيا.
ومن المنافع اتفاق الحجاج كلهم على هذا اللباس، لا فرق بين غنيّهم وفقيرهم! وبين أسودهم وأحمرهم وأبيضهم! وبين صغيرهم وكبيرهم! كل الرجال على حال واحد! لا شك أن ذلك يفيد أن الناس كلهم على حدٍّ سواء، مستوون عند الله سبحانه وتعالى، بمعنى أنهم في الحق سواء، وأنهم في العبودية سواء.
عند ذلك يشعر الغني أنه مساوٍ لغيره، لا فرق بينه وبين الفقراء، فيحمله ذلك على أن يتعاطف معهم، ويحسن إليهم، ويواسيهم, ويعلم أنه وإياهم أخوة، وأنهم متساوون في حق الله تعالى وفي حق عبادته.
ويحمله ذلك أيضا على أن يتواضع لله ولا يتكبر، ولا يغترَّ بنفسه إذا علم بأن جميع المسلمين على حد سواء في هذه الحال، فيزول ما بين المسلمين من البغضاء.
وَصَفَتِ المودة في قلوبهم واجتمعت كلمتهم, فتآلفوا وتعارفوا وتقاربوا في ذات الله سبحانه وتعالى، فكان ذلك سببا لتعاونهم التعاون المطلوب؛ الذي هو التعاون على البر والتقوى، والتعاون على تنفيذ حقوق الله، وحدود الله، والتعاون على جبر الضعفاء, وعلى جبر المنكسرين ونحو ذلك. تشاهدهم يوم عرفة على هيئة واحدة, كاشفين رءوسهم, مرتدين هذه الأردية, مؤتزرين بهذه الأزر, كلهم على حد سواء، فتقول:
أين الأمير من المأمور؟!
أين الغني من الفقير؟!
أين الكبير من الصغير؟!
لا فرق بينهم.. كلهم على حال واحدة متساوون.
لا شك أن لهذه الحكمة منافع عظيمة, وهي أنهم يتحابون في ذات الله، ويتقاربون، ولا يحتقر بعضهم بعضا، ولا يزدري بعضهم بعضا، ولا يتكبر بعضهم على بعض، بل يكونون جميعا متآلفين ومتحابين في ذات الله سبحانه وتعالى، ولو كان بعضهم أغنى، أو أرفع رتبة، أو أشرف أو أسن، فالفرق بينهم إنما هو بالتقوى: "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" [الحجرات: 13 ]، "وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ" [الرعد: 26 ].
"ثالثًا: منافع التّلبية":
أول شيء يبدأ به الحاج -قبل أن يعقد النية- أن يعزم على أن يدخل في النُّسك الذي يريده، فإذا عزم فإنه يعقد النية ويرفع صوته بالتلبية.
فما المنفعة من هذه التلبية؟ ولماذا شرعت عند الإحرام بالعمرة أو بالحج وجُعلت شعارا للحجاج؟
لا شك أن لهذه التلبية منفعة عظيمة؛ ذلك لأنها إجابة لدعوة الله تعالى على لسان إبراهيم -عليه السلام- عندما أمره ربه بهذا النداء بقوله: "وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ" [الحج: 27 ].
رُوي أنه صعد على جبل أبي قبيس فقال: يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا. فسمعه مَنْ هو في أصلاب الرجال، ومَنْ هو في أرحام النساء، فصاروا يأتون قائلين: لبيك، لبيك. أي: نحن مجيبين لدعوتك, ملبين لطلبك، فلا شك أنها إجابة لنداء الله سبحانه وتعالى.
وهذا النداء الذي أمر الله تعالى به، والذي نحن نجيبه بهذه التلبية, لا بد أن يكون له أثر، وهذا الأثر هو أننا نلتزم الإجابة في كل الحالات، ليس في هذه الحالة فقط؛ ذلك لأن الملبي كأنه يعاهد ربه على أن يلتزم بالطاعة مرات متتابعة ولا يخل بها. إذا قال: (لبيك) فمعناها: أنا مجيب لدعوتك، أنا ملازم لطلبك، أنا ملازم لطاعتك، أنا مجيب لك مرة بعد مرة، لا أتخلف عن عبادتك، ولا أتخلف عن طاعتك.
هكذا ذكروا أن هذه فائدة التلبية، ومعناها أن الذي يلبي كأنه يلزم نفسه، كأنه يقول: إني ملتزم بطاعتك يا رب دائما؛ وإذا كان كذلك فلا يجوز له أن يتخلف عن هذه الطاعة ولا يتركها إلى المعصية، فلا يرجع إلى المعصية لأنه عاهد ربه بهذه التلبية، وأجاب ربه بهذه التلبية التي فيها الالتزام، فلا يجوز له أن يتخلف عنها فيما بعد ويترك الطاعة ويجعل بدلها معصية فيكون قد كذب في قوله : لبيك، ولم يصدق فيما التزم به.
"رابعًا: منافع محظورات الإحرام":
معلوم أن المحرم عندما يتلبس بالإحرام يتجنب التنعم والرفاهية، ويتجنب الأشياء التي يتنعم بها قبل الإحرام؛ وذلك دليل على أنه يجب أن يظهر في مظهر المسكنة، وفي مظهر الضعف، وفي مظهر الاستكانة لربه حتى يتقبل منه عبادته.
فمن محظورات الإحرام التي يجب على المحرم تجنبها تغطية الرأس.
لماذا يكشف المحرم رأسه ولا يغطيه؟
لأن هذا دليل الخشوع، ودليل الذل.
والمنفعة من كشف الرأس هو كونه يشعر بأنه ذليل، لأن ستر الرأس من الجمال، فعادة ما يتجمل الإنسان بستر رأسه، أو يستظل من حرارة الشمس بالعمامة ونحوها، ولكن كونه يكشف رأسه في هذا الإحرام ليشعر بأنه ذليل لربه، وأن هذا غاية الافتقار إليه.
ومن محظورات الإحرام التي يلزم المحرم تركها، الطيب.
فلماذا يتجنب المحرم الطيب فلا يتطيب في بدنه، ولا في لباسه؛ مع أن الطيب شيء محبوب للنفس؟!
ذلك ليبعد عنها شهوات النفس. والمنفعة في تجنب الطيب كونه يشعر من نفسه بأنها ذليلة مطيعة، وبأنه فطم نفسه عن ملذات تلذ بها، وشهوات تميل إليها؛ لأجل ذلك يتجنب الطيب.
والنفس إذا أعطيت شهواتها مالت إلى البطالة ومالت إلى المعصية، فإذا فطمت عن شيء من شهواتها وملذاتها استمرت على الطاعة؛ ولذلك يقول بعضهم:
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى * * * فإن أطمعت تاقت وإلا تسلت
فهذا من أسباب كون الإنسان يفطم نفسه عن شيء من ملذاتها؛ فاللباس الجميل من ملذاتها، وتغطية الرأس بالستر الجميل من ملذاتها، واستعمال الطيب الذي له رائحة زكية من ملذاتها؛ كل ذلك يتركه المحرم تعبدا لله سبحانه وتعالى، ليشعر نفسه أنها ذليلة, صغيرة مهينة, فعند ذلك يتواضع لربه، ويخضع له، ويسأله ويكثر من سؤاله، ويرفع إليه أكف الضراعة، ويشعر بحاجته وفاقته إلى ربه بكل حالاته.
كل ذلك من الأسباب والمنافع التي في هذه الأشياء التي يفعلها المحرم.
والمحرم أيضا يتجنب من المحظورات قص الشعر، وتقليم الأظفار؛ وهذا أيضا مما يتجمل به، فمن المعلوم عادة أنه إذا قلم الإنسان أظفاره وجد لها راحة ولذة، وكذلك إذا طال شعره فقص شيئا من شعر رأسه، أو من شعر وجهه كشارب أو نحوه، وجد لذلك راحة ولذة، ولكن المحرم منهيٌّ عن كل ذلك؛ فمنهي عن أخذ شيء من هذا الشعر، ومن هذا الظفر؛ لأن أخذ ذلك تنعم, فهو يبتعد عن هذا التنعم، وعن الأشياء التي فيها شيء من التنعم والتلذذ؛ حتى يشعر بالفقر وبالفاقة، وبالحاجة إلى الله سبحانه وتعالى.
والمحرم يتجنب أيضاً ما يتعلق بالرفث؛ قال تعالى: "فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ" [البقرة: 197] فيتجنب ما يتعلق بالنساء، فلا يعقد نكاحاً، ولا يخطب ولا يكون ولياً في عقد النكاح، ولا يكون زوجاً يعني في عقد النكاح ولا واسطاً. كذلك أيضاً يتجنب شهوات النساء؛ فلا يقبل امرأته، ولا يطؤها ; بل إن ذلك يفسد نسكه.
لماذا منع المحرم من ذلك؟!
لأن هذه مما تميل إليها النفس وتشتهيها؛ فإذا تركها لله سبحانه وتعالى شعرت نفسه بالصغار، وشعرت نفسه بالانكسار، ومتى انكسرت نفسه، وانكسر قلبه، وتواضع لربه، أجاب الله تعالى دعوته التي يدعو بها في مناسكه.
ولذلك ورد في الحديث القدسي أن الله يقول: أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، فانكسار القلب، وانكسار الرأس، وتواضع النفس من أسبابه البعد عن المرفهات، والبعد عن الشهوات: شهوات النفس، وشهوات البطن، وشهوات الفرج، وشهوات العين، وشهوات الأذن.
فلأجل ذلك الحاج والمحرم يغض بصره؛ فلا ينظر إلى العورات، ولا إلى الشهوات التي تشغله، وكذلك يحفظ سمعه؛ فلا يستمع إلى الأغنيات، ولا إلى المطربات، وكذلك يحفظ لسانه؛ فلا يتكلم إلا بالكلام الحسن الذي هو ذكر وطاعة، ولا يتكلم باللغو ولا بالرفث الذي هو الساقط من القول، كل ذلك لترويض النفس على العبادة وتهذيبها على الطاعة وتحبيب العبادة إليها بحيث إن العبادة تكون لذيذة مشتهاة عنده، ولا يركن إلى شيء من الشهوات ولا يميل إليها.
هذا كله من أسباب كون المحرم يتجنب هذه المشتهيات وهذه الملذات ونحوها، فنعرف بذلك أن الله سبحانه ما شرع هذه المناسك إلا لمنافع عظيمة، وفوائد جمة.
"خامسًا: منافع الطّواف":
إن هناك منافع عظيمة في أعمال الحج التي يعملها الحاج، من حين أن يحرم إلى أن يأتي على آخر نسك من مناسك الحج، لكل منها منفعة عظيمة، لو تأملها الإنسان لعرف حكمة الله تعالى، وأنه الذي يضع الأشياء موضعها اللائق بها.
ومن الأعمال التي يقوم بها الحاج -أول ما يدخل مكة- هو تحية الحرم، أو تحية مكة وهي: الطواف، الذي جعله الله تعالى خاصاً ببيته العتيق.
ولا شك أن في الطواف منافع دينية، وإن كان العلماء أطالوا في منافعه البدنية الرياضية، وتنشيط البدن وتقويته وما إلى ذلك، مثل ترويض النفس على الصبر، وعلى التحمل وعلى الزحام، وعلى المشقة، وعلى طول القيام، أو طول المسير، وما أشبه ذلك مما ذكروه من منافع بدنية.
ولكن القصد الأكمل والأولى أن تكون المنفعة منفعة دينية، فإنها هي المنفعة المطلوبة، والله تعالى إنما شرع عباداته كلها لأجل المنافع الأخروية، وإن كانت المنافع الدنيوية أو البدنية تابعة لها، فهي غير مقصودة.
ومعلوم أن العبادات مبنية على التوقيف، ومقتصر فيها على ما دلنا عليها كتاب الله تعالى، وعلى ما بينه لنا رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك نلتمس الحكم والمصالح في كل أمر، وفي كل فعل شرعه الله، كما التمس ذلك العلماء من قبلنا، فإن لم نجد قلنا : هذا تعبّد مما أمرنا به، والتعبّد هو التقرب إلى الله تعالى بجنس العبادة -وإن كنا لا نفهم الحكمة فيها- والزيادة في العبادة أمر وارد.
فقد ورد أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يزيدون في تلبيتهم, فيقولون: لبيك حقاً حقاً، تعبّداً ورقًّاً. فجعلوا من التلبية والإحرام تعبداً أي: تذللاً ورقاً لله سبحانه وتعالى, فهناك عبادات تعبدية لم تعرف الحكمة من مشروعيتها.
يتبع إن شاء الله...