فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى التحرز من الأدواء المعدية بطبعها، وإرشاده الأصحاءَ إلى مجانبة أهلها
ثبت فى ((صحيح مسلم)) من حديث جابر بن عبد الله، أنه كان فى وَفْد ثَقِيف رجلٌ مجذومٌ، فأرسل إليه النبىُّ صلى الله عليه وسلم: (( ارْجِعْ فَقَدْ بايَعْنَاكَ)).
وروى البخارى فى ((صحيحه)) تعليقاً مِن حديث أبى هريرة، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأسَدِ)).
وفى ((سنن ابن ماجه)) من حديث ابن عباس، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تُدِيمُوا النَّظَرَ إلى الْمَجْذُومِين)).
وفى ((الصحيحين)) من حديث أبى هُريرة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ)).
ويُذكر عنه صلى الله عليه وسلم: ((كَلِّمْ الْمَجْذُومَ، وَبَيْنَك وَبَيْنَهُ قِيدُ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ)).
الجُذَام: عِلَّة رديئة تحدثُ من انتشار المِرَّةِ السَّوداء فى البدن كُلِّه، فيفسُد مِزاجُ الأعضاء وهيئتُها وشكلُها، ورُبما فسد فى آخره اتصالُها حتى تتأكَّلَ الأعضاء وتسقط، ويُسمى داءَ الأسد.
وفى هذه التسمية ثلاثةُ أقوال للأطباء؛ أحدها: أنها لِكثرة ما تعترى الأسد. والثانى: لأنَّ هذه العِلَّة تُجهِّم وجهَ صاحبها وتجعلُه فى سُحنةَ الأسد. والثالث: أنه يفترِسُ مَن يقرُبه، أو يدنو منه بدائه افتراسَ الأسد.
وهذه العِلَّة عند الأطباء من العلل المُعدية المتوارثة، ومقارِبُ المجذوم، وصاحبِ السِّل يَسْقَمُ برائحته، فالنبىُّ صلى الله عليه وسلم لكمال شفقته على الأُمة، ونُصحه لهم نهاهم عن الأسباب التى تُعرِّضهم لوصول العيب والفساد إلى أجسامهم وقلوبهم، ولا ريب أنه قد يكون فى البدن تهيُّؤ واستعداد كامن لقبول هذا الداء، وقد تكون الطبيعةُ سريعة الانفعال قابلةً للاكتساب من أبدان مَن تُجاوِرُه وتُخالطه، فإنها نقَّالة، وقد يكون خوفُها من ذلك ووهمهُا مِن أكبر أسباب إصابة تلك العِلَّة لها، فإنَّ الوهم فعَّال مستَوْلٍ على القُوَى والطبائع، وقد تَصِلُ رائحة العليل إلى الصحيح فتُسقمه، وهذا معايَن فى بعض الأمراض، والرائحةُ أحدُ أسباب العدوى، ومع هذا كله فلا بد من وجود استعدادِ البدن وقبوله لذلك الداء، وقد تزوَّج النبىُّ صلى الله عليه وسلم امرأةً، فلما أراد الدخولَ بها، وجَد بكَشْحها بياضاً، فقال: ((الْحَقِى بأهْلِكِ)).
وقد ظنَّ طائفة مِن الناس أنَّ هذه الأحاديث معارَضةٌ بأحاديثَ أُخَر تُبطلها وتُناقضها، فمنها: ما رواه الترمذى، من حديث عبد الله بن عمر (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيَدِ رجُلٍ مجذومٍ، فأدخلها معه فى القَصْعَةِ، وقال: ((كُلْ باسم الله، ثِقَةً بالله، وتوكُّلاً عليه))، ورواه ابن ماجه.
وبما ثبت فى ((الصحيح))، عن أبى هُريرة، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا عَدوَى ولا طِّيَرَة)).
ونحن نقول: لا تعارُض بحمد الله بين أحاديثه الصحيحة. فإذا وقع التعارضُ، فإما أن يكون أحدُ الحديثين ليس مِن كلامه صلى الله عليه وسلم وقد غَلِطَ فيه بعضُ الرواة مع كونه ثقةً ثَبتاً، فالثقةُ يَغْلَطُ، أو يكونُ أحدُ الحديثين ناسخاً للآخر إذا كان مما يَقْبَلُ النسخ، أو يكونُ التعارضُ فى فهم السامع، لا فى فى نفس كلامه صلى الله عليه وسلم، فلا بُدَّ مِن وجه من هذه الوجوه الثلاثة. وأما حديثان صحيحان صريحان متناقضان مِن كل وجه، ليس أحدُهما ناسخاً للآخر، فهذا لا يُوجد أصلاً، ومعاذَ اللهِ أن يُوجَدَ فى كلام الصادق المصدوق الذى لا يخرج من بين شفتيه إلا الحقُّ، والآفةُ مِن التقصير فى معرفة المنقول، والتمييز بين صحيحه ومعلوله، أو من القُصور فى فهم مُراده صلى الله عليه وسلم، وحمل كلامه على غير ما عناه به، أو منهما معاً. ومن ههنا وقع من الاختلاف والفساد ما وقع.. وبالله التوفيق.
قال ابن قتيبة فى كتاب ((اختلاف الحديث)) له حكايةً عن أعداء الحديث وأهله: قالوا : حديثان متناقضان رويتُم عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((لا عَدوَى ولا طِّيَرَة)) . وقيل له : إنَّ النُّقْبَةَ تقع بمِشْفَرِ البَعيرِ ، فيجرَبُ لذلك الإبلُ ،
قال : ((فما أعدَى الأولَ)) ؟ ، ثم رويتُم : ((لا يُوردُ ذو عاهة على مُصِحٍّ)) و((وفِرَّ من المجذومِ فِرارَك من الأسَدِ)) ، وأتاه رجل مجذوم ليُبايَعه بَيْعة الإسلام ، فأرسل إليه البَيْعةَ ، وأمَره بالانصراف ، ولم يأذن له ، وقال : ((الشُّؤمُ فى المرأة والدارِ والدَّابةِ)) .. قالوا : وهذا كُلُّه مختلِفٌ لا يُشبه بعضُه بعضاً .
قال أبو محمد : ونحن نقول : إنه ليس فى هذا اختلافٌ ، ولكل معنى منها وقتٌ وموضع ، فإذا وُضِع موضعَه زال الاختلاف
والعدوى جنسان ؛ أحدهما : عدوى الجُذام ، فإنَّ المجذوم تشتدُّ رائحتُه حتى يُسْقِمُ مَن أطال مجالسته ومحادثته ، وكذلك المرأةُ تكونُ تحتَ المجذوم ، فتُضاجِعُه فى شِعارَ واحد ، فيُوصِل إليها الأذى ، وربما جُذِمَتْ ، وكذلك ولدُه يَنزِعُون فى الكِبر إليه ، وكذلك مَن كان به سِلٌ ودِقٌ ونُقْبٌ . والأطباء تأمر ألا يُجالَس المسلول ولا المجذُوم ، ولا يُريدون بذلك معنى العدوى ، وإنما يُريدون به معنى تغيُّرِ الرائحة ، وأنها قد تُسْقِمْ مَن أطال اشتمامَها ، والأطباء أبعدُ الناس عن الإيمان بيُمن وشُؤم ، وكذلك النُّقْبةُ تكون بالبعير وهو جَرَبٌ رَطبٌ فإذا خالط الإبلَ أو حاكَّها ، وأوَى فى مَباركها ، وصل إليها بالماء الذى يَسيل منه، وبالنَّطف نحو ما به ، فهذا هو المعنى الذى قال فيه النبىُّ صلى الله عليه وسلم : ((لا يُورَدُ ذو عاهة على مُصِح)) ، كَرِهَ أن يُخالط المَعْيُوه الصحيحَ ، لئلا ينالَه مِن نَطَفه وحِكَّته نحو مما به .
قال : وأما الجنسُ الآخرُ من العدوى ، فهو الطاعونُ ينزلُ ببلد ، فيخرُج منه خوفَ العدوى ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ((إذا وقَعَ بِبَلَدٍ وأنْتُم به ، فلا تَخْرُجُوا مِنْه ، وإذا كان بِبَلَدٍ ، فلا تَدْخُلُوه)) . يريد بقوله : لا تَخْرُجُوا مِن البلد إذا كان فيه كأنكم تظنون أنَّ الفِرارَ مِن قَدَر الله يُنجيكم من الله ، ويُريد بقوله :
((وإذا كان ببلد فلا تدخلوه)) ، أى : مُقامُكم فى الموضع الذى لا طاعون فيه أسْكنُ لقلوبكم ، وأطيبُ لعيشكم ، ومن ذلك المرأةُ تُعرف بالشؤم أو الدارُ ، فينال الرجلَ مكروةٌ أو جائحةٌ ، فيقول : أعدتْنى بشؤمها ، فهذا هو العدوى الذى قال فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ((لا عَدْوَى)) .
وقالت فِرْقة أُخرى : بل الأمرُ باجتنابِ المجذوم والفِرار منه على الاستحباب ، والاختيار ، والإرشاد . وأما الأكل معه ، ففَعلُه لبيانِ الجواز ، وأنَّ هذا ليس بحرام .
وقالت فِرْقة أُخرى : بل الخطابُ بهذين الخطابين جزئى لا كلى . فكلُّ واحد خاطبه النبىُّ صلى الله عليه وسلم بما يليق بحاله ، فبعضُ الناس يكون قوىَّ الإيمان ، قوىَّ التوكل تدفع قوةُ توكله قُوَّةَ العدوى ، كما تدفع قوةُ الطبيعة قوةَ العِلَّة فتُبطلها ، وبعضُ الناس لا يَقوى على ذلك ، فخاطبه بالاحتياط والأخذ بالتحفظ ، وكذلك هو صلى الله عليه وسلم فَعل الحالتين معاً ، لتقتدى به الأُمة فيهما ، فيأخذ مَن قَوى من أُمته بطريقة التوكل والقُوَّة والثقة بالله ، ويأخذ مَن ضَعف منهم بطريقة التحفظ والاحتياط ، وهما طريقان صحيحان . أحدهما : للمؤمن القوى ، والآخر : للمؤمن الضعيف ، فتكون لكل واحد من الطائفتين حُجَّةٌ وقُدوةٌ بحسب حالهم وما يناسبهم ، وهذا كما أنه صلى الله عليه وسلم كَوى ، وأثنَى على تارِك الكىِّ ، وقرن تركَه بالتوكل ، وتَرَكَ الطِّيرة ، ولهذا نظائرُ كثيرة ، وهذه طريقة لطيفةٌ حسنة جداً مَن أعطاها حقَّها ، ورُزِق فقْه نَفْسه فيها ، أزالت عنه تعارضاً كثيراً يظنه بالسُّـنَّةِ الصحيحة .
وذهبت فِرقة أُخرى إلى أنَّ الأمر بالفِرار منه ، ومجانبتِه لأمر طبيعى ، وهو انتقالُ الداء منه بواسطة الملامسة والمخالطة والرائحة إلى الصحيح ، وهذا يكون مع تكرير المخالطة والملامسة له ، وأما أكلُه معه مقداراً يسيراً من الزمان لمصلحة راجحة ، فلا بأس به ، ولا تحصُل العدوى مِن مرَّةٍ واحدة ولحظة واحدة ، فنَهى سداً للذريعة ، وحِمايةً للصحة ، وخالطه مخالطةً ما للحاجة والمصلحة ، فلا تعارُضَ بين الأمرين .
وقالت طائفة أُخرى : يجوز أن يكونَ هذا المجذومُ الذى أكل معه به من الجُذام أمرٌ يسير لا يُعدى مثله ، وليس الْجَذْمَى كُلُّهم سواءً ، ولا العدوى حاصلة من جميعهم ، بل منهم مَن لا تضرُّ مخالطته ، ولا تُعدى ، وهو مَن أصابه من ذلك شىء يسير ، ثم وقف واستمر على حاله ، ولم يُعْدِ بقيةَ جسمه ، فهو أن لا يعدِىَ غيره أولى وأحرى .
وقالت فِرقة أُخرى : إنَّ الجاهلية كانت تعتقد أنَّ الأمراض المعدية تُعدى بطبعها من غير إضافة إلى الله سبحانه ، فأبطل النبىُّ صلى الله عليه وسلم اعتقادَهم ذلك ، وأكل مع المجذوم ليُبَيِّنَ لهم أنَّ الله سبحانه هو الذى يُمرض ويَشفى ، ونهى عن القُرب منه ليتبينَ لهم أنَّ هذا من الأسباب التى جعلها الله مُفضية إلى مسبباتها ، ففى نهيه إثباتُ الأسباب ، وفى فعله بيان أنها لا تستقِلُّ بشىء ، بل الربُّ سبحانه إن شاء سلبها قواها ، فلا تؤثر شيئاً ، وإن شاء أبقى عليها قُواها فأثَّرت .
وقالت فِرقة أُخرى : بل هذه الأحاديث فيها الناسخ والمنسوخ ، فيُنظر فى تاريخها ، فإن عُلِمَ المتأخر منها ، حُكِمَ بأنه الناسخ ، وإلا توقفنا فيها .
وقالت فِرقة أُخرى : بل بعضُها محفوظ ، وبعضها غيرُ محفوظ ، وتكلمت فى حديث : ((لا عَدّوَى)) ، وقالت : قد كان أبو هريرة يرويه أوَّلاً ، ثم شكَّ فيه فتركه ، وراجعوه فيه ، وقالوا : سمعناك تُحدِّث به ، فأبى أن يُحدِّث به .
قال أبو سلمة : فلا أدرى ، أنسىَ أبو هريرة ، أم نَسخَ أحدُ الحديثين الآخَر ؟
وأما حديثُ جابر : أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم أخذ بيدِ مجذوم ، فأدخلها معه فى القصعة، فحديثٌ لا يثبت ولا يَصِحُّ ، وغاية ما قال فيه الترمذى : إنه غريب ، لم يُصَحِّحْه ولم يُحَسِّنه . وقد قال شعبة وغيرُه : اتقوا هذه الغرائبَ . قال الترمذى: ويُروى هذا من فعل عمر ، وهو أثبت ، فهذا شأنُ هذين الحديثين اللَّذين عُورض بهما أحاديثُ النهى ، أحدهما : رجع أبو هريرة عن التحديث به وأنكره ، والثانى : لا يَصِحُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم ، وقد أشبعنا الكلام فى هذه المسألة فى كتاب ((المفتاح)) ، بأطولَ من هذا .. وبالله التوفيق.
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى المنع من التداوى بالمحرَّمات
روى أبو داود فى ((سننه)) من حديث أبى الدرداء رضى الله عنه قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ((إنَّ اللهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاء ، وَجَعَلَ لِكُلِّ داءٍ دواءً ، فَتَدَاوَوْا ، ولا تَدَاوَوْا بِالْمُحَرَّم)) .
وذكر البخارى فى ((صحيحه)) عن ابن مسعود :
((إنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عليكم)) .
وفى ((السنن)) عن أبى هريرة ، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الدَّوَاءِ الخَبِيثِ .
وفى ((صحيح مسلم)) عن طارق بن سُوَيد الجُعفىِّ ، أنه سأل النبىَّ صلى الله عليه وسلم عن الخمر ، فنهاه ، أو كَرِهَ أن يصنَعَها ، فقال : إنما أصنعُها للدواء ، فقال : ((إنَّه لَيْسَ بِدَوَاءٍ ولكنَّهُ دَاءٌ )) .
وفى ((السنن)) أنه صلى الله عليه وسلم سُئل عن الخمر يُجْعَل فى الدَّواء ، فقال : ((إنَّهَا دَاءٌ ولَيسَتْ بِالدَّوَاءِ)) رواه أبو داود ، والترمذى.
وفى ((صحيح مسلم)) عن طارق بن سُويدٍ الحضرمى ؛ قال : قلت : يا رسول الله ؛ إنَّ بأرضنا أعناباً نَعتصِرُها فنشرب منها ، قال : ((لا)) . فراجعتُه ، قلتُ : إنَّا نستشفى للمريض قال : ((إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشِفَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ)) .
وفى ((سنن النسائى)) أنَّ طبيباً ذَكر ضِفْدَعاً فى دواءٍ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنهاه عن قَتْلِها .
ويُذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((مَنْ تَدَاوَى بِالْخَمْرِ ، فَلا شَفَاهُ اللهُ)) .
المعالجة بالمحرَّمات قبيحةٌ عقلاً وشرعاً ، أمَّا الشرعُ فما ذكرْنا من هذه الأحاديثِ وغيرها . وأمَّا العقلُ ، فهو أنَّ اللهَ سبحانه إنما حرَّمه لخُبثه ، فإنه لم يُحَرِّم على هذه الأُمة طَيباً عقوبةً لها ، كما حرَّمه على بنى إسرائيلَ بقوله : {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}[النساء : 160]، وإنما حرَّم على هذه الأُمة ما حَرَّم لخبثه ، وتحريمُه له حِمية لهم ، وصيانة عن تناوله ، فلا يُناسِبُ أن يُطلَبَ به الشِّفاءُ من الأسقام والعِلل ، فإنه وإن أثَّر فى إزالتها ، لكنه يُعْقِبُ سَقَماً أعظمَ منه فى القلب بقوة الخُبث الذى فيه ، فيكون المُدَاوَى به قد سعى فى إزالة سُقْم البدن بسُقْم القلب .
وأيضاً فإنَّ تحريمه يقتضى تجنُّبه والبُعدَ عنه بكُلِّ طريق ، وفى اتخاذه دواء حضٌ على الترغيب فيه وملابسته ، وهذا ضِدُّ مقصود الشارع ، وأيضاً فإنه داء كما نصَّ عليه صاحبُ الشريعة ، فلا يجوز أن يُتخذ دواءً .
وأيضاً فإنه يُكْسِبُ الطبيعة والروح صفةَ الخبث ، لأن الطبيعة تنفعِلُ عن كيفية الدواء انفعالاً بَيِّناً ، فإذا كانت كيفيتُه خبيثةً ، اكتسبت الطبيعةُ منه خُبثاً ، فكيف إذا كان خبيثاً فى ذاته ، ولهذا حرَّم الله سبحانه على عباده الأغذيةَ والأشربةَ والملابِسَ الخبيثة ، لما تُكسب النفسَ من هيئة الخبث وصفته .
وأيضاً فإنَّ فى إباحة التداوى به ، ولا سِيَّما إذا كانت النفوسُ تميل إليه ذريعةً إلى تناوله للشهوة واللَّذة ، لا سِيَّما إذا عرفت النفوسُ أنه نافع لها مزيلٌ لأسقامِها جالبٌ لِشفائها ، فهذا أحبُّ شىءٍ إليها ، والشارعُ سدَّ الذريعة إلى تناوله بكُلِّ ممكن ، ولا ريبَ أنَّ بينَ سدِّ الذريعة إلى تناوله ، وفَتْحِ الذريعة إلى تناوله تناقضاً وتعارضاً .
وأيضاً فإنَّ فى هذا الدواء المحرَّم من الأدواء ما يزيدُ على ما يُظَن فيه من الشِّفاء ، ولنفرضْ الكلام فى أُمِّ الخبائث التى ما جعل الله لنا فيها شفاءً قَطُّ ، فإنها شديدةُ المضرَّة بالدماغ الذى هو مركزُ العقل عند الأطباء ، وكثير من الفقهاء والمتكلمين .
قال ((أبقراط)) فى أثناء كلامه فى الأمراض الحادة : ضرر الخمرة بالرأس شديد . لأنه يُسرع الارتفاع إليه . ويرتفع بارتفاعه الأخلاط التى تعلو فى البدن ، وهو لذلك يضر بالذهن .
وقال صاحب ((الكامل)) : إنَّ خاصية الشَّراب الإضرارُ بالدماغ والعَصَب .
وأمَّا غيرُه من الأدوية المحرَّمة فنوعان :
أحدهما : تعافُه النفس ولا تنبعِثُ لمساعدته الطبيعةُ على دفع المرض به كالسموم ، ولحوم الأفاعى وغيرها من المستقذرات ، فيبقى كَلاً على الطبيعة مثقلاً لها ، فيصير حينئذ داءً لا دواء .
والثانى : ما لا تَعافُه النفس كالشراب الذى تستعمِلُه الحوامل مثلاً ، فهذا ضررُه أكثرُ من نفعه ، والعقلُ يقضى بتحريم ذلك ، فالعقلُ والفِطرةُ مطابقٌ للشرع فى ذلك .
وهاهنا سِرٌ لطيف فى كون المحرَّمات لا يُستشفَى بها ، فإنَّ شرطَ الشفاء بالدواء تلقِّيه بالقبول ، واعتقادُ منفعته ، وما جعل الله فيه من بركة الشفاء ، فإنَّ النافعَ هو المبارَك ، وأنفعُ الأشياءِ أبركُها ، والمبارَكُ من الناس أينما كان هو الذى يُنتفَع به حيث حَلَّ ، ومعلوم أنَّ اعتقاد المسلم تحريمَ هذه العَيْن مما يَحولُ بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها ، وبين حُسن ظنه بها ، وتلقِّى طبعه لها بالقبول ، بل كلَّما كان العبدُ أعظمَ إيماناً ، كان أكره لها وأسوأ اعتقاداً فيها ، وطبعُه أكره شىء لها ، فإذا تناولها فى هذه الحال ، كانت داءً له لا دواء إلا أن يزولَ اعتقادُ الخُبث فيها ، وسوءُ الظن والكراهةُ لها بالمحبة ، وهذا يُنافى الإيمان ، فلا يتناولها المؤمن قَطُّ إلا على وجه داء .. والله أعلم .
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى علاج القَمْلِ الذى فى الرأس وإزالته
فى ((الصحيحين)) عن كعب بن عُجْرةَ ، قال : كان بى أذىً مِن رأسى ، فَحُمِلْتُ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم والقَمْلُ يَتناثَرُ على وجهى ، فقال : ((ما كنتُ أَرى الجَهْدَ قد بَلَغَ بِكَ ما أرَى)) ، وفى رواية : فأمَرَه أن يَحْلِقَ رأسَه ، وأن يُطعِمَ فَرقاً بَيْنَ سِـتَّةٍ ، أو يُهدِىَ شاة ، أو يَصُومَ ثلاثةَ أيامٍ .
القمل يتولَّد فى الرأس والبدن من شيئين : خارج عن البدن وداخلٍ فيه ، فالخارجُ : الوسخُ والدنس المتراكم فى سطح الجسد ، والثانى : من خلط ردىء عفن تدفعُه الطبيعة بين الجلد واللَّحم ، فيتعفَّنُ بالرُّطوبة الدموية فى البَشَرَةِ بعد خُروجها من المسام ، فيكون مِنه القملُ ، وأكثرُ ما يكون ذلك بعد العلل والأسقام ، وبسبب الأوساخ ، وإنما كان فى رؤوس الصبيان أكثر لكثرة رطوباتهم وتعاطيهم الأسباب التى تُولِّد القمل ، ولذلك حَلَقَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم رؤوسَ بنى جعفر .
ومن أكبر عِلاجه حَلْقُ الرأس لِتنفتح مسامُّ الأبخرَة ، فتتصاعد الأبخرة الرديئة ، فتضعفُ مادة الخلط ، وينبغى أن يُطلى الرأس بعد ذلك بالأدوية التى تقتل القمل ، وتمنع تولُّده .
وحلقُ الرأس ثلاثة أنواع ؛ أحدها : نُسُك وقُربة . والثانى : بِدعة وشرك . والثالث : حاجة ودواء .
فالأول : الحلق فى أحد النُّسُكين ، الحجِّ أو العُمرة .
والثانى : حلقُ الرأس لغير الله سبحانه . كما يحلِقها المريدُون لشيوخهم ، فيقول أحدهم : أنا حلقتُ رأسى لفلان ، وأنت حلقتَه لفلان ، وهذا بمنزلة أن يقول : سجدتُ لفلان ، فإنَّ حَلْقَ الرأس خضوعٌ وعُبودية وذُل ، ولهذا كان من تمام الحجِّ ، حتى إنه عند الشافعى ركنٌ من أركانه لا يَتِمُّ إلا به . فإنه وضعُ النواصى بين يدى ربها خضوعاً لعظمته ، وتذللاً لعِزَّته ، وهو من أبلغ أنواع العبودية ، ولهذا كانت العربُ إذا أرادت إذلالَ الأسير منهم وعِتْقَه ، حلقوا رأسه وأطلقُوه ، فجاء شيوخُ الضلال والمزاحِمون للربوبية الذين أساسُ مشيختهم على الشِّرك والبدعة ، فأرادوا مِن مريديهم أن يتعبَّدوا لهم ، فزيَّنوا لهم حَلْقَ رؤوسهم لهم ، كما زيَّنوا لهم السجودَ لهم ، وسمَّوه بغير اسمه ، وقالوا : هو وضعُ الرأس بين يدى الشيخ ، ولعَمرُ الله إنَّ السجود لله هو وضعُ الرأس بين يديه سبحانه ، وزيَّنوا لهم أن ينذُروا لهم ، ويتوبُوا لهم ، ويَحلِفُوا بأسمائهم ، وهذا هو اتخاذُهم أرباباً وآلهةً مِن دُونِ الله ، قال تعالى : {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوْا عِبَاداً لِّى مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلاَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً ، أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُم مُّسْلِمُونَ}[آل عمران: 79-80].
@ وأشرفُ العبودية عبوديةُ الصلاة ، وقد تقاسمها الشيوخُ والمتشبهون بالعلماء والجبابرة ، فأخذ الشيوخُ منها أشرفَ ما فيها ، وهو السجود ، وأخذ المتشبهون بالعلماء منها الركوعَ ، فإذا لقىَ بعضُهم بعضاً ركع له كما يركع المُصَلِّى لربه سواء ، وأخذ الجبابرةُ منهم القيامَ ، فيقوم الأحرار والعبيد على رؤوسهم عبوديةً لهم ، وهم جلوس ، وقد نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الأُمور الثلاثة على التفصيل ، فتعاطِيها مخالفةٌ صريحة له ، فنَهى عن السجود لغير الله وقال : ((لا يَنْبغِى لأَحَدٍ أنْ يَسْجُدَ لأحَدٍ)) . وأنكر على مُعَاذٍ لَمَّا سَجد له وقال : ((مَهْ)) . وتحريمُ هذا معلوم من دينه بالضرورة ، وتجويزُ مَن جَوَّزه لغير الله مُراغمَةٌ للهِ ورسوله ، وهو من أبلَغِ أنواع العبودية ، فإذا جَوَّز هذا المُشرِكُ هذا النوعَ للبَشَر ، فقد جوَّز العبودية لغير اللهِ ، وقد صَحَّ أنه قيل له : الرَّجُلُ يَلقَى أخاه أَيَنْحَنِى له ؟ قال : ((لا)) . قيل : أَيَلْتَزِمُه ويُقَبِّلُهُ ؟ قال : ((لا)) . قيل : أَيُصافِحُه ؟ قال : ((نعم)) .
وأيضاً .. فالانحناءُ عند التحية سجود ، ومنه قوله تعالى: {وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً}[البقرة : 58] أى : منحنين ، وإلا فلا يُمكن الدخول على الجباه ، وصَحَّ عنه النهىُ عن القيام ، وهو جالس ، كما تُعَظِّم الأعاجمُ بعضُها بعضاً ، حتى منع مِن ذلك فى الصلاة ، وأمرَهم إذا صَلَّى جالساً أن يُصَلُّوا جلوساً ، وهم أصحاء لا عُذرَ لهم ، لئلا يقوموا على رأسه وهو جالس ، مع أنَّ قيامَهم لله ، فكيف إذا كان القيامُ تعظيماً وعبوديةً لغيره سبحانه .
والمقصود .. أنَّ النفوس الجاهلة الضالة أسقطتْ عبوديةَ الله سبحانه ، وأشركت فيها مَن تُعَظِّمه مِن الخلق ، فسجدت لغير الله ، وركعت له ، وقامت بين يديه قيامَ الصلاة ، وحلفت بغيره ، ونذرَتْ لغيره ، وحَلَقَتْ لغيره ، وذبحت لغيره ، وطافت لِغير بيته ، وعَظَّمته بالحب ، والخوف ، والرجاء ، والطاعة ، كما يُعَظَّم الخالقُ ، بل أشد ، وسوَّتْ مَن تعبُده من المخلوقين بربِّ العالمين ، وهؤلاء هم المضادون لدعوة الرُّسُل ، وهم الذين بربهم يَعدِلون ، وهم الذين يقولون وهم فى النار مع آلهتهم يختصمون : {تَاللهِ إن كُنَّا لَفِى ضَلاَلٍ مُبِينٍ إذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء : 98] ، وهم الذين قال الله فيهم :{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للهِ}[البقرة : 165]وهذا كُلُّه مِن الشِّرك ، والله لا يغفر أَنْ يُشْرَكَ به . فهذا فصل معترض فى هَدْيه فى حلق الرأس ، ولعله أهمُّ مما قُصِدَ الكلام فيه .. والله الموفق .
فصول
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى العلاج بالأدوية الروحانية الإلهية المفردة ، والمركَّبة منها ، ومن الأدوية الطبيعية
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى علاج المصاب بالعَيْنِ
روى مسلم فى ((صحيحه)) عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((العَيْنُ حَقٌ ولو كان شَىْءٌ سَابَقَ القَدَرِ ، لَسَبَقتْهُ العَيْنُ)) .
وفى ((صحيحه)) أيضاً عن أنس : ((أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم رخَّصَ فى الرُّقية مِن الحُمَةِ، والعَيْنِ والنَّملةِ))
وفى ((الصحيحين)) من حديث أبى هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((العَيْنُ حَقٌ)) .
وفى ((سنن أبى داود)) عن عائشة رضى الله عنها ، قالت : كان يُؤمَرُ العائِنُ فيتوضَّأ ، ثم يَغْتَسِلُ منه المَعِينُ .
وفى ((الصحيحين)) عن عائشة قالت : أمرنى النبىُّ صلى الله عليه وسلم أو أَمَرَ أن نَسْتَرْقِىَ من العَيْن .
وذكر الترمذى ، من حديث سفيان بن عُيَينةَ ، عن عمرو بن دينار ، عن عروة بن عامر ، عن عُبيد بن رفاعة الزُّرَقىِّ ، أنَّ أسماء بنت عُمَيْس قالت : يا رسولَ الله ؛ إنَّ بَنِى جعفر تُصيبُهم العَينُ ، أفأسترْقِى لهم ؟ فقال : ((نعم فَلَوْ كان شَىْءٌ يَسْبِقُ القضاءَ لسَبَقَتْهُ العَيْنُ)) قال الترمذى : حديث حسن صحيح .
وروى مالك رحمه الله ، عن ابن شهابٍ ، عن أبى أُمامةَ بن سهل بن حنيفٍ ، قال : رأى عامرُ بن ربيعة سَهْلَ بن حُنَيف يغتسِلُ ، فقال : واللهِ ما رأيتُ كاليوم ولا جِلْدَ مُخَبَّأة ، قال : فلُبِطَ سَهْلٌ ، فأتى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عامراً ، فتَغَيَّظَ عليه ، وقال : ((عَلامَ يَقْتُلُ أحدُكُم أخاهُ ؟ ألاَ بَرَّكْتَ ؟ اغْتَسِلْ له)) ، فغسل له عامرٌ وجهَه ويديه ومِرفَقَيْه ورُكبتيه ، وأطرافَ رِجليه ، وداخِلَة إزاره فى قدح ، ثم صبَّ عليه ، فراحَ مع الناس .
وروى مالك رحمه الله أيضاً عن محمد بن أبى أُمامة بن سهل ، عن أبيه هذا الحديث ، وقال فيه : ((إنَّ العيْنَ حقٌ ، توضَّأْ لهُ)) ، فتوضَّأ له .
وذكر عبد الرزَّاق ، عن مَعْمَرٍ ، عن ابن طاووس ، عن أبيه مرفوعاً : ((العَيْنُ حَقٌ ، ولو كان شىءٌ سَابَقَ القَدَرَ ، لَسَبَقَتْهُ العَيْنُ ، وإذا اسْتُغْسِلَ أحدُكمْ ، فَلْيَغْتَسِلْ)) ، ووصْله صحيحٌ .
قال الزُّهْرى : يُؤْمَر الرجل العائن بقدح ، فيُدخِلُ كفَّه فيه ، فيتمضمض ، ثم يَمُجّه فى القدح ، ويغسِلُ وجهه فى القدح ، ثم يُدخِل يده اليُسرى ، فيصُبُّ على رُكبته اليُمنى فى القَدَح ، ثم يُدخِلُ يده اليُمنى ، فيصُبُّ على رُكبته اليُسرى ، ثم يَغْسِلُ داخِلَة إزارِهِ ، ولا يُوضع القَدَحُ فى الأرض ، ثم يُصَبُّ على رأس الرجل الذى تُصيبه العينُ من خلفه صبةً واحدةً .
والعَيْن عَيْنان : عَيْنٌ إنسية ، وعَيْنٌ جِنِّية . فقد صح عن أُمِّ سلمةَ ، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم رأى فى بيتها جاريةً فى وجهها سَفْعَةٌ ، فقال : ((اسْتَرقُوا لها ، فإنَّ بها النَّظرَة)) .
قال الحسين بن مسعود الفرَّاء : وقوله ((سَفْعَة)) أى : نظرة ، يعنى من الجن، يقول : بها عينٌ أصابْتها من نظَرِ الجن أنفذُ من أسِّـنَة الرِماح .
ويُذكر عن جابر يرفعه : ((إنَّ العَيْنَ لتُدْخِلُ الرجُلَ القَبْرَ ، والجَمَلَ القِدْرَ)) .
وعن أبى سعيد ، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان يتعوَّذ من الجان ، ومن عَيْن الإنسان .
فأبطلت طائفةٌ ممن قلَّ نصيبُهم مِن السمع والعقل أمْرَ العَيْن ، وقالوا : إنما ذلك أوهامٌ لا حقيقةَ لها ، وهؤلاء مِن أجهل الناس بالسَّمعِ والعقل ، ومِن أغلظهم حِجاباً ، وأكثفِهم طِباعاً ، وأبعدِهم معرفةً عن الأرواح والنفوسِ ، وصفاتها وأفعالِها وتأثيراتها ، وعقلاءُ الأُمم على اختلافِ مِللهم ونِحلهم لا تدفَعُ أمر العَيْن ، ولا تُنكره ، وإن اختلفوا فى سببه وجهة تأثير العَيْن .
فقالت طائفة : إنَّ العائن إذا تكيَّفت نفسُه بالكيفية الرديئة ، انبعث مِن عينه قُوَّةٌ سُمِّيةٌ تتصل بالمَعِين ، فيتضرر . قالوا : ولا يُستنكر هذا ، كما لا يُستنكر انبعاثُ قوة سُمِّية من الأفعى تتصل بالإنسان ، فيهلكِ ، وهذا أمر قد اشتُهِرَ عن نوع من الأفاعى أنها إذا وقع بصرُها على الإنسان هلك ، فكذلك العائنُ .
وقالت فِرقة أُخرى : لا يُستبعد أن ينبعِثَ من عَيْن بعضِ الناس جواهِرُ لطيفة غيرُ مرئية ، فتتصل بالمَعِين ، وتتخلل مسامَ جسمه ، فيحصل له الضررُ .
وقالت فِرقة أُخرى : قد أجرى الله العادةَ بخلق ما يشاء من الضرر عند مقابلة عَيْنِ العائن لمن يَعِينه مِن غير أن يكون منه قوةٌ ولا سببٌ ولا تأثيرٌ أصلاً ، وهذا مذهبُ منكرى الأسباب والقُوَى والتأثيرات فى العالَم ، وهؤلاء قد سدُّوا على أنفسهم بابَ العِلل والتأثيرات والأسباب ، وخالفوا العقلاء أجمعين .
ولا ريب أنَّ اللهَ سبحانه خلق فى الأجسام والأرواح قُوَى وطبائع مختلفة ، وجعل فى كثير منها خواصَّ وكيفياتٍ مؤثرة ، ولا يمكن لعاقل إنكارُ تأثير الأرواح فى الأجسام ، فإنه أمر مُشاهَدٌ محسوس ، وأنت ترى الوجهَ كيف يحمَرُّ حُمرةً شديدة إذا نظر إليه مَن يحتشِمُه ويَستحى منه ، ويصفرُّ صُفرة شديدة عند نظر مَن يخافُه إليه ، وقد شاهد الناسُ مَن يَسقَم من النظر وتضعُف قواه ، وهذا كُلُّه بواسطة تأثير الأرواح ، ولشدة ارتباطها بالعَيْن يُنسب الفعل إليها ، وليست هى الفاعلة ، وإنما التأثيرُ للرَّوح . والأرواحُ مختلفة فى طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها ، فروحُ الحاسد مؤذية للمحسود أذىً بيِّناً . ولهذا أمر اللهُ سبحانه رسولَه أن يستعيذَ به من شره . وتأثيرُ الحاسد فى أذى المحسود أمرٌ لا يُنكره إلا مَن هو خارج عن حقيقةِ الإنسانية ، وهو أصل الإصابة بالعَيْن ، فإنَّ النفس الخبيثة الحاسدة تتكيَّفُ بكيفية خبيثة ، وتُقَابِلُ المحسود ، فتؤثِّرُ فيه بتلك الخاصِّية ، وأشبهُ الأشياء بهذا الأفعى ، فإن السُّمَّ كامِنٌ فيها بالقوة ، فإذا قابلتْ عدوَّها ، انبعثت منها قوة غضبية ، وتكيَّفتْ بكيفية خبَيثةٍ مؤذية ، فمنها ما تشتدُّ كيفيتُها وتقوى حتى تؤثر فى إسقاط الجنين ، ومنها ما تؤثر فى طمس البصر ، كما قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم فى الأَبْتَر ، وذى الطُّفْيَتَيْن مِنَ الحيَّات : ((إنَّهمَا يَلتَمِسَان البَصَرَ ، ويُسقطان الحَبَلَ)) .
ومنها : ما تُؤثر فى الإنسان كيفيتُها بمجرد الرؤية من غير اتصال به ، لشدة خُبْثِ تلك النفس ، وكيفيتها الخبيثة المؤثرة ، والتأثيرُ غيرُ موقوف على الاتصالات الجسمية ، كما يظنُّه مَن قلَّ علمُه ومعرفته بالطبيعة والشريعة ، بل التأثيرُ يكون تارةً بالاتصال ، وتارةً بالمقابلة ، وتارةً بالرؤية ، وتارةً بتوجه الرَّوح نحوَ مَن يُؤثر فيه ، وتارةً بالأدعية والرُّقَى والتعوُّذات ، وتارةً بالوهم والتخيُّل ، ونفسُ العائن لا يتوقفُ تأثيرُها على الرؤية ، بل قد يكون أعمى ، فيُوصف له الشىء ، فتؤثِّرُ نفسه فيه ، وإن لم يره ، وكثيرٌ من العائنين يُؤثر فى المَعِين بالوصف من غير رؤية ، وقد قال تعالى لنبيه:{وَإن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ} [القلم : 51]وقال : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ *وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ } فكلُّ عائنٌ حاسدٌ ، وليس كلُّ حاسد عائناً
فلمَّا كان الحاسد أعمَّ من العائن ، كانت الاستعاذةُ منه استعاذةً من العائن ، وهى سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحوَ المحسود والمَعِين تُصيبُه تارةً وتُخطئه تارة ، فإن صادفْته مكشوفاً لا وِقاية عليه ، أثَّرتْ فيه ، ولا بُدَّ ، وإن صادفته حَذِراً شاكىَ السِّلاح لا منفذَ فيهِ للسهام ، لم تُؤثر فيه ، وربما رُدَّتْ السهامُ على صاحبها ، وهذا بمثابة الرمى الحِسِّىّ سواء ، فهذا مِن النفوس والأرواح ، وذاك مِن الأجسام والأشباح . وأصلُه مِن إعجاب العائن بالشىء ، ثم تتبعه كيفيةُ نفسِه الخبيثة ، ثم تستعينُ على تنفيذ سُمِّها بنظرة إلى المَعِين ، وقد يَعِينُ الرجلُ نفسَه ، وقد يَعينُ بغير إرادته ، بل بطبعه ، وهذا أردأ ما يكونُ من النوع الإنسانى ، وقد قال أصحابُنا وغيرُهم من الفقهاء : إنَّ مَن عُرِفَ بذلك ، حبَسه الإمامُ ، وأجرَى له ما يُنفِقُ عليه إلى الموت ، وهذا هو الصوابُ قطعاً .
فصل
فى أنواع المقصود بالعلاج النبوى لهذه العِلَّة
والمقصودُ : العلاجُ النبوىُّ لهذه العِلَّة ، وهو أنواعٌ ، وقد روى أبو داود فى ((سننه)) عن سهل بن حُنَيفٍ ، قال : مررْنا بَسيْلٍ ، فدخلتُ ، فاغتسلتُ فيه ، فخرجتُ محموماً ، فنُمِىَ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ((مُرُوا أبا ثابتٍ يَتَعَوَّذُ)) . قال : فقلتُ : يا سيدى ؛ والرُّقَى صالحة ؟ فقال : ((لا رُقيةَ إلا فى نَفْسٍ ، أو حُمَةٍ ، أو لَدْغَةٍ)) .
والنَّفْس : العَيْن ، يقال : أصابت فلاناً نفسٌ ، أى : عَيْن . والنافِس : العائن . واللَّدْغة بدال مهملة وغين معجمة وهى ضربةُ العقرب ونحوها .
فمن التعوُّذاتِ والرُّقَى الإكثارُ من قراءة المعوِّذتين ، وفاتحةِ الكتابِ ، وآيةِ الكُرسى ، ومنها التعوذاتُ النبوية .
نحو : ((أعوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّاتِ مِن شرِّ ما خَلق)) .
ونحو : ((أعوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّةِ ، مِن كُلِّ شيطانٍ وهامَّةٍ ، ومِن كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ)) .
ونحو : ((أعوذُ بكلماتِ اللهِ التَّامَّاتِ التى لا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌ ولا فاجرٌ ، مِن شَرِّ ما خلق وذرَأ وبرَأ ، ومِن شَرِّ ما ينزلُ من السماء ، ومِن شَرِّ ما يَعرُجُ فيها ، ومِن شَرِّ ما ذرأ فى الأرض ، ومِن شَرِّ ما يخرُج مِنها ، ومِن شَرِّ فِتَنِ الليلِ والنهار ، ومِن شَرِّ طَوَارق الليلِ ، إلا طارقاً يَطرُق بخير يا رحمن)) .
ومنها : ((أَعُوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّةِ مِن غضبه وعِقَابه، ومِن شرِّ عباده ، ومِن هَمَزات الشياطينِ وأن يَحضُرونِ)).
ومنها : ((اللَّهُمَّ إنى أعوذُ بوجْهِكَ الكريم ، وكلماتِك التامَّاتِ من شرِّ ما أنت آخِذٌ بناصيته ، اللَّهُمَّ أنتَ تكشِفُ المأثَمَ والمَغْرَمَ ، اللَّهُمَّ إنه لا يُهْزَمُ جُنْدُكَ ، ولا يُخلَفُ وعدُك ، سبحانَك وبحمدِك)) .
ومنها : ((أَعُوذُ بوجه اللهِ العظيمِ الذى لا شىءَ أعظمُ منه ، وبكلماتِه التامَّات التى لا يُجاوزُِهن بَرٌ ولا فاجرٌ ، وأسماءِ الله الحُسْنَى ، ما علمتُ منها وما لم أعلم ، مِن شَرِّ ما خلق وذرَأ وبرأ ، ومن شَرِّ كُلِّ ذى شرٍّ لا أُطيق شرَّه ، ومِن شَرِّ كُلِّ ذى شَرٍّ أنتَ آخِذٌ بناصيته ، إنَّ ربِّى على صِراط مستقيم)).
ومنها : ((اللَّهُمَّ أنت ربِّى لا إله إلا أنتَ ، عليك توكلتُ ، وأنتَ ربُّ العرشِ العظيم ، ما شاء اللهُ كان ، وما لم يشأْ لم يكن ، لا حَوْلَ ولا قُوَّة إلا بالله ، أعلم أنَّ اللهَ على كُلِّ شىء قديرٌ ، وأنَّ الله قد أحاط بكل شىء علماً ، وأحصَى كُلَّ شىءٍ عدداً ، اللَّهُمَّ إنى أعوذُ بِكَ مِن شَرِّ نفسى ، وشَرِّ الشيطانِ وشِرْكه ، ومِن شَرِّ كُلِّ دابةٍ أنتَ آخذٌ بناصيتها ، إنَّ ربِّى على صِراط مستقيم)) .
وإن شاء قال : ((تحصَّنتُ باللهِ الَّذى لا إله إلا هُوَ ، إلهى وإله كُلِّ شىء ، واعتصمتُ بربى وربِّ كُلِّ شىء ، وتوكلتُ على الحىِّ الذى لا يموتُ ، واستَدْفَعتُ الشرَّ بلاحَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله ، حسبىَ اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ ، حسبىَ الربُّ مِن العباد ، حسبىَ الخَالِقُ من المخلوق ، حسبىَ الرازقُ مِنَ المرزوق ، حسبىَ الذى هو حسبى ، حسبىَ الذى بيده ملكوتُ كُلِّ شىءٍ ، وهو يُجيرُ ولا يُجَارُ عليه ، حسبىَ الله وكَفَى ، سَمِعَ الله لمنْ دعا ، ليس وراء اللهِ مرمَى ، حسبىَ الله لا إله إلا هُوَ ، عليه توكلتُ ، وهُوَ ربُّ العرشِ العظيم)) .
ومَن جرَّب هذه الدعوات والعُوَذَ ، عَرَفَ مِقدار منفعتها ، وشِدَّةَ الحاجةِ إليها ، وهى تمنعُ وصول أثر العائن ، وتدفعُه بعد وصوله بحسب قوة إيمان قائلها ، وقوةِ نفسه ، واستعداده ، وقوةِ توكله وثباتِ قلبه ، فإنها سلاح ، والسلاحُ بضاربه .
فصل
فى ما يُدفع به إصابة العَيْن
وإذا كان العائنُ يخشى ضررَ عينه وإصابتهَا للمَعين ، فليدفع شرِّها بقوله : اللَّهُمَّ بَارِكْ عليه ، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حُنيف: ((ألا برَّكْتَ )) أى : قلتَ : اللَّهُمَّ بارِكْ عليه .
ومما يُدفع به إصابةَ العَيْن قولُ : ((ما شاء الله لا قُوَّة إلا بالله)) ، روى هشام ابن عروة ، عن أبيه ، أنه كان إذا رأى شيئاً يُعجِبُه ، أو دخل حائطاً مِن حِيطانه، قال : ((ما شاء الله ، لا قُوَّة إلا بالله)) .
ومنها رُقْـيَةُ جِبريل عليه السَّلامُ للنبىِّ صلى الله عليه وسلم التى رواها مسلم فى ((صحيحه)) : ((باسمِ اللهِ أَرْقِيكَ ، مِنْ كُلِّ شَىْءٍ يُؤذيكَ ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نفسٍ أو عَيْنِ حَاسدٍ اللهُ يَشفِيكَ ، باسمِ اللهِ أرْقِيكَ)) .
ورأى جماعة من السَّلَف أن تُكتب له الآياتُ مِن القرآن ، ثم يشربَها . قال مجاهد : لا بأس أن يكتُبَ القرآنَ ، ويغسِلَه ، وَيْسقِيَه المريضَ ، ومثلُه عن أبى قِلابَةَ . ويذكر عن ابن عباس : أنه أمر أن يُكَتبَ لامرأة تَعَسَّرَ عليها وِلادُها أثرٌ من القرآن ، ثم يُغسل وتُسقى . وقال أيوب : رأيتُ أبا قِلابَةَ كتب كتاباً من القرآن ، ثم غسله بماء ، وسقاه رجلاً كان به وجعٌ .
والله أعلم.