فصل
فى أنَّ الأدوية الإلهية هى أنفع علاجات السِّحر
ومن أنفع علاجات السِّحر الأدوية الإلهية، بل هى أدويتُه النافعة بالذات، فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السُّفْلية، ودفعُ تأثيرها يكون بما يُعارِضُها ويُقاومها من الأذكار، والآيات، والدعواتِ التى تُبْطِلُ فعلها وتأثيرها، وكلما كانت أقوى وأشدّ، كانت أبلغَ فى النُّشْرةِ، وذلك بمنزلة التقاءِ جيشين مع كلِّ واحدٍ منهما عُدَّتُه وسلاحُه، فأيُّهما غلب الآخر، قهره، وكان الحكم له، فالقلبُ إذا كان ممتلئاً من الله مغموراً بذكره، وله من التوجُّهات والدعوات والأذكار والتعوُّذات وردٌ لا يُخِلُّ به يُطابق فيه قلبه لسانه، كان هذا مِن أعظم الأسباب التى تمنع إصابة السِّحر له، ومن أعظم العلاجات له بعد ما يُصيبه.
وعند السَّحَرَة: أنَّ سِحرَهم إنما يَتِمُّ تأثيره فى القلوب الضعيفة المنفعِلة، والنفوس الشهوانية التى هى معلَّقةٌ بالسُّفليات، ولهذا فإن غالب ما يؤثِّر فى النساءِ، والصبيان، والجُهَّال، وأهل البوادى، ومَن ضَعُف حظُّه من الدين والتوكل والتوحيد، ومَن لا نصيبَ له من الأوراد الإلهية والدعوات والتعوُّذات النبوية.
وبالجملة.. فسلطانُ تأثيرِه فى القُلوب الضعيفة المنفعلة التى يكون ميلُها إلى السُّفليات، قالوا: والمسحورُ هو الذى يُعين على نفسه، فإنَّا نجد قلبه متعلقاً بشىء كثير الالتفات إليه، فيتسلَّط على قلبه بما فيه مِن الميل والالتفات، والأرواح الخبيثة إنما تتسلَّطُ على أرواح تلقاها مستعِدَّة لتسلُّطِها عليها بميلها إلى ما يناسب تلك الأرواح الخبيثة، وبفراغِها من القوة الإلهية، وعدم أخذها للعُدَّة التى تُحاربها بها، فتجدها فارغة لا عُدَّة معها، وفيها مَيلٌ إلى ما يُناسبها؛ فتتسلَّط عليها، ويتمَكَّن تأثيرُها فيها بالسِّحر وغيره.. والله أعلم.
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى الاستفراغ بالقىء
روى الترمذىُّ فى ((جامعه)) عن مَعدان بن أبى طلحةَ، عن أبى الدرداء: أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم قاءَ، فتوضَّأ فلقيتُ ثَوْبان فى مسجد دِمَشق، فذكرتُ له ذلك، فقال: صَدَقَ، أنا صَبَبْتُ له وَضُوءَه. قال الترمذى: وهذا أصح شىء فى الباب.
القىءُ: أحد الاستفراغات الخمسة التى هى أُصول الاستفراغ، وهى: الإسهال، والقىء، وإخراج الدم، وخروج الأبخرة والعَرق. وقد جاءت بها السُّـنَّة.
فأما الإسهال.. فقد مرَّ فى حديث: ((خيرُ ما تداويتم به المَشِىُّ)) وفى حديث ((السَّنا)). وأما إخراج الدم.. فقد تقدَّم فى أحاديث الحِجامة.
وأما استفراغ الأبخرة.. فنذكره عقيبَ هذا الفصل إن شاء الله.
وأما الاستفراغ بالعَرق.. فلا يكون غالباً بالقصد، بل بدفع الطَّبيعة له إلى ظاهر الجسد، فيُصادف المسامَّ مفتَّحةً، فيخرج منها.
والقىءُ استفراغٌ من أعلا المَعِدَة، والحُقنة من أسفلها، والدواءُ من أعلاها وأسفلها.
والقىءُ نوعان: نوعٌ بالغَلَبة والهَيجان، ونوعٌ بالاستدعاء والطلب.
فأما الأول: فلا يَسُوغُ حبسُه ودفعه إلا إذا أفرط وخِيف منه التلفُ، فيُقطع بالأشياء التى تُمسكه. وأما الثانى: فأنفعُه عند الحاجة إذا رُوعى زمانُه وشروطه التى تُذكر.
وأسباب القىء عشرة..
أحدها: غلبة المِرَّة الصفراء، وطُفوُّها على رأس المعدة، فتطلب الصعودَ.
الثانى: من غلبة بلغم لَزِجٍ قد تحرَّك فى المَعِدَة، واحتاج إلى الخروج.
الثالث: أن يكون مِن ضعف المَعِدَة فى ذاتها، فلا تَهْضم الطعام، فتقذفه إلى جهة فوق
الرابع: أن يُخالطها خلط ردىء ينصبُّ إليها، فيسىء هضمَها، ويُضعف فعلها
الخامس: أن يكون من زيادة المأكول أو المشروب على القدر الذى تحتمله المَعِدَة، فتعجز عن إمساكه، فتطلب دفعه وقذفه.
السادس: أن يكون مِن عدم موافقة المأكول والمشروب لها، وكراهِتها له، فتطلب دفعه وقذفه.
السابع: أن يحصُل فيها ما يُثوِّر الطعامَ بكيفيته وطبيعته، فتقذف به.
الثامن: القَرَف، وهو مُوجِب غثَيانِ النفس وتَهَوُّعِها.
التاسع: من الأعراض النفسانية، كالهمِّ الشديد، والغم، والحزن، وغلبة اشتغال الطبيعة والقُوَى الطبيعية به، واهتمامها بوروده عن تدبير البدن، وإصلاح الغِذاء، وإنضاجه، وهضمه، فتقذِفُه المَعِدَة، وقد يكون لأجل تحرُّك الأخلاط عند تخبُّط النفس، فإن كل واحد من النفس والبدن ينفعل عن صاحبه، ويؤثر فى كيفيته.
العاشر: نقل الطبيعة بأن يرى مَن يتقيأ، فيغلبه هو القىء من غير استدعاء، فإن الطبيعة نَقَّالة.
وأخبرنى بعض حُذَّاق الأطباء، قال: كان لى ابن أُخت حَذِق فى الكحْل، فجلس كحَّالاً. فكان إذا فتح عينَ الرجل، ورأى الرَّمد وكحَّله، رَمِد هو، وتكرر ذلك منه، فترك الجلوسَ. قلتُ له: فما سببُ ذلك ؟ قال: نقلُ الطبيعة، فإنها نَقَّالة، قال: وأعرِفُ آخرَ، كان رأى خُراجاً فى موضع من جسم رجل يحكُّه، فحك هو ذلك الموضع، فخرجت فيه خُراجة.
قلتُ: وكلُّ هذا لا بد فيه من استعداد الطبيعة، وتكون المادة ساكنةً فيها غير متحركة، فتتحرك لسبب من هذه الأسباب، فهذه أسبابٌ لتحرك المادة لا أنها هى الموجبة لهذا العارض.
فصل
فى أنَّ القىء أنفع فى البلاد الحارة والإسهال أنفع فى البلاد الباردة
ولما كانت الأخلاط فى البلاد الحارة، والأزمنة الحارة تَرِقُّ وتنجذب إلى فوق، كان القىء فيها أنفع. ولما كانت فى الأزمنة الباردة والبلاد الباردة تغلُظ، ويصعب جذبها إلى فوق، كان استفراغُها بالإسهال أنفع.
وإزالة الأخلاط ودفعها تكون بالجذب والاستفراغ، والجذبُ يكون من أبعد الطُرُق، والاستفراغُ مِن أقربها، والفرق بينهما أنَّ المادة إذا كانت عاملة فى الانصباب أو الترقى لم تستقر بعد، فهى محتاجة إلى الجذب، فإن كانت متصاعدة جذبَتْ من أسفل، وإن كانت منصَبَّة جذبَتْ مِن فوق، وأما إذا استقرت فى موضعها، استُفرغت مِن أقرب الطرق إليها، فمتى أضرَّت المادة بالأعضاء العليا، اجتُذبت من أسفل، ومتى أضرَّت بالأعضاء السفلى، اجتُذبت من فوق، ومتى استقرت، استُفرغت من أقرب مكان إليها، ولهذا احتجم النبىُّ صلى الله عليه وسلم على كاهِله تارة، وفى رأسه أُخرى، وعلى ظهر قدمه تارة، فكان يستفرِغُ مادة الدم المؤذى من أقرب مكان إليه.. والله أعلم.
فصل
فى بعض فوائد القىء
والقىءُ يُنقِّى المَعِدَة ويُقوِّيها، ويُحِدُّ البصر، ويزيل ثقل الرأس، وينفع قروح الكُلَى، والمثانة، والأمراض المزمنة: كالجذام، والاستسقاء، والفالِج، والرَّعشة، وينفع اليَرَقان.
وينبغى أن يستعمله الصحيح فى الشهر مرتين متواليتين من غير حفظ دور، ليتداركَ الثانى ما قصر عنه الأول، وينقى الفضلاتِ التى انصبَّت بسببه، والإكثارُ منه يَضر المَعِدَة، ويجعلها قابلة للفضول، ويضر بالأسنان والبصر والسمع، وربما صَدَعَ عَرَقاً، ويجب أن يجتنبه مَن به ورمٌ فى الحلق، أو ضعفٌ فى الصدر، أو دقيقُ الرقبة، أو مستعدٌ لنَفْث الدم، أو عَسِرُ الإجابة له.
وأمَّا ما يفعله كثير ممن يسىء التدبير، وهو أن يمتلئ من الطعام، ثم يَقذِفَه، ففيه آفاتٌ عديدة؛ منها: أنه يُعَجِّلُ الهَرَم، ويُوقع فى أمراض رديئة، ويَجعل القىءَ له عادة. والقىءُ مع اليُبوسة، وضعفِ الأحشاء، وهُزالِ المَرَاقِّ، أو ضعفِ المُستقىء خطرٌ.
وأحمَدُ أوقاتِه الصيفُ والربيع دون الشتاء والخريف، وينبغى عند القىء أن يَعْصِبَ العينين، ويقمط البطن، ويغسِلَ الوجه بماء بارد عند الفراغ؛ وأن يشرب عقيبه شراب التفاح مع يسير من مُصْطَكَى، وماءُ الورد ينفعه نفعاً بيِّناً.
والقىء يستفرغ من أعلى المعدة، ويجذب من أسفل، والإسهال بالعكس، قال ((أبقراط)): وينبغى أن يكون الاستفراغ فى الصيف من فوق أكثرَ من الاستفراغ بالدواء، وفى الشتاء من أسفل.
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى الإرشاد إلى معالجة أحْذَق الطَّبِيبَيْن
ذكر مالك فى ((موطئه)): عن زيد بن أسلمَ، أنَّ رجلاً فى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه جُرْحٌ، فاحتَقَن الجُرْحُ الدَّم. وأن الرجلَ دعا رجُلَيْن من بنى أنمار، فنَظَرا إليه فزعما أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قال لهما: ((أَيُّكما أطَبُّ))؟ فقال: أوَ فى الطِّبِّ خيرٌ يا رسولَ الله ؟ فقال: ((أنزلَ الدواءَ الذى أنزلَ الداء)).
ففى هذا الحديث أنه ينبغى الاستعانةُ فى كل عِلم وصِناعة بأحذقِ مَنْ فيها فالأحذق، فإنه إلى الإصابة أقربُ.
وهكذا يجب على المُستفتى أن يستعينَ على ما نَزلَ به بالأعلم فالأعلم، لأنه أقربُ إصابةً ممَّن هُوَ دُونَه.
وكذلك مَن خَفيتْ عليه القِبْلةُ، فإنه يُقلِّدُ أعلمَ مَن يَجدُه، وعلى هذا فَطَر الله عبادَه، كما أن المسافر فى البرِّ والبحر إنَّما سكونُ نفسه، وطمأنينتُه إلى أحْذقِ الدليلَيْن وأخبَرِهما، وله يَقصِدُ، وعليه يَعتمِدُ، فقد اتفقتْ على هذا الشريعةُ والفِطرةُ والعقلُ.
وقولُه صلى الله عليه وسلم: ((أنزل الدواءَ الذى أنزلَ الداءَ))، قد جاء مثلُه عنه فى أحاديث كثيرةٍ، فمنها ما رواه عمرو بن دِينارٍ عن هِلال بن يِسَافٍ، قال: ((دخلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على مريض يَعودُه، فقال: ((أرسِلُوا إلى طَبيبٍ))، فقال قائلٌ: وأنتَ تقولُ ذلك يا رسولَ الله ؟
قال: ((نعمْ، إنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لم يُنْزِلْ داءً إلاَّ أنزَلَ له دَواءً)).
وفى ((الصحيحين)) من حديث أبى هريرةَ يَرفعُه: ((ما أنزلَ اللهُ من داءٍ إلا أنزلَ له شفاء))، وقد تقدَّم هذا الحديثُ وغيرُه.
واختُلِفَ فى معنى ((أنزل الداءَ والدواء))، فقالت طائفةٌ: إنزالُه إعلامُ العِباد به، وليس بشىء، فإن النبىَّ صلى الله عليه وسلم أخبرَ بعموم الإنزال لكل داءٍ ودوائه، وأكثرُ الخلق لايعلمون ذلك، ولهذا قال: ((عَلِمَه مَن عَلِمَه، وجَهِلَه مَن جَهِلَه)).
وقالت طائفةٌ: إنزالُهما: خَلْقُهما ووضْعُهما فى الأرض، كما فى الحديث الآخر: ((إنَّ الله لم يَضعْ داءً إلاَّ وَضَعَ له دواءً))، وهذا وإن كان أقربَ مِن الذى قبله، فلَفْظةُ ((الإنزال)) أخصُّ من لفظة ((الخلق)) و((الوضع))، فلا ينبغى إسقاطُ خصوصيةِ اللَّفظة بلا موجِب.
وقالت طائفةٌ: إنزالُهما بواسطةِ الملائكة الموكلين بمباشرة الخلق من داء ودواء وغيرِ ذلك، فإنَّ الملائكة موكَّلَةٌ بأمر هذا العالَم، وأمر النوع الإنسانىِّ من حين سقوطِه فى رَحِم أُمِّه إلى حين موتِه، فإنزالُ الداء والدواء مع الملائكة، وهذا أقربُ من الوجهين قبله. وقالت طائفةٌ: إنَّ عامة الأدواء والأَدوية هى بواسطة إنزال الغَيْثِ من السماء الذى تَتولَّد به الأغذيةُ، والأَقواتُ، والأدويةُ، والأدواءُ، وآلاتُ ذلك كله، وأسبابُه ومكمِّلاتُه؛ وما كان منها مِن المعادن العُلوية، فهى تَنزل مِن الجبال، وما كان منها من الأودية والأنهار والثمار، فداخلٌ فى اللَّفظ على طريق التغليبِ والاكتفاءِ عن الفعلين بفعل واحد يتضمنهما، وهو معروف من لغة العرب، بل وغيرها من الأُمم، كقول الشاعر:
عَلفْتُها تِبْناً وَمَاءً بارداً حَتَّى غَدَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَـا
وقول الآخر:
وَرأَيْتُ زَوْجكِ قَدْ غَدَا مُتَقَلِّداً سَيْفـاً وَرُمْحَــا
وقول الآخر:
إذَا مَا الغَانِياتُ بَرَزْنَ يَوْماً وَزَجَّجْنَ الْحَواجِبَ وَالْعُيُونا
وهذا أحسنُ مما قبله من الوجوه.. والله أعلم.
وهذا من تمام حكمة الربِّ عَزَّ وجَلَّ، وتمامِ ربوبيته، فإنه كما ابتلى عبادَه بالأدواء، أعانهم عليها بما يسَّرَهُ لهم من الأدوية، وكما ابتلاهم بالذنوب أعانهم عليها بالتوبة، والحسناتِ الماحية والمصائب المكفِّرة، وكما ابتلاهم بالأرواح الخبيثةِ من الشياطين، أعانهم عليها بجُنْدٍ من الأرواح الطيبة، وهم الملائكة، وكما ابتلاهم بالشهوات أعانهم على قضائها بما يسَّرَهُ لهم شرعاً وقدْراً مِن المشتهيات اللَّذيذة النافعة، فما ابتلاهم سُبحانه بشىء إلا أعطاهم ما يستعينُون به على ذلك البلاء، ويدفعُونه به، ويبقى التفاوتُ بينهم فى العلم بذلك، والعلم بطريق حصوله والتوصل إليه.. وبالله المستعان.
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى تضمين مَن طبَّ الناس وهو جَاهِلٌ بالطِّب
روى أبو داود، والنسائىُّ، وابن ماجه، من حديث عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول ُالله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ تطبَّبَ ولم يُعْلَم مِنْهُ الطِّبُّ قَبْلَ ذلك، فهو ضَامِنٌ)).
هذا الحديث يتعلق به ثلاثة أُمور: أمرٌ لُغوى، وأمرٌ فِقهى، وأمرٌ طبى.
فالطِّب بكسر الطاء فى لغة العرب، يقال على معانٍ. منها الإصلاح. يقال: طببتُه: إذا أصلحته. ويقال: له طِبٌ بالأمور. أى: لُطفٌ وسياسة. قال الشاعر:
وإذَا تغيَّرَ مِنْ تَمِيمٍ أَمْرُها كُنْتَ الطَّبيبَ لَها بِرَأْىٍ ثَاقِبٍ
ومنها: الحِذق. قال الجوهرىُّ: كلُّ حاذقٍ طبيبٌ عند العرب، قال أبو عبيد: أصل الطِّب: الحِذْق بالأشياء والمهارة بها. يقال للرجل: طب وطبيب: إذا كان كذلك، وإن كان فى غير علاج المريض. وقال غيرُه: رجل طبيبٌ؛ أى: حاذقٌ، سمى طبيباً لحِذقه وفِطْنته.
قال علقمة:
فَإنْ تَسْأَلُونى بِالنِّسَـــاءِ فَإنَّنى خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
إذَا شَابَ رَأْسُ الْمَرْءِ أَوْ قَلَّ مَالُـه فَلَيْسَ لَهُ مِنْ وُدِّهِنَّ نَصِيبُ
وقال عنترةُ:
إنْ تُغْدِفِى دُونى الْقِــنَاعَ فَإنَّنِى طَبٌ بِأَخْذِ الْفَارِسِ الْمُسْتَلْئِمِ
أى: إن تُرخى عنى قِناعك، وتَستُرى وجهك رغبةً عنى، فإنى خبيرٌ حاذقٌ بأخذ الفارس الذى قد لبس لأَمةَ حربه.
ومنها: العادة، يقال: ليس ذلك بطِبِّى، أى: عادتى،
قال فَرْوةُ بن مُسَيكٍ:
فَمَا إِنْ طِبُّنَا جُبْنٌ وَلَكِن مَنَايَانَا وَدَوْلَةُ آخَرِينَا
وقال أحمد بن الحسين المتنبى:
وَمَا التِّيهُ طِبِّى فِيهِمُ غَيْرَ أَنَّنِى بَغِيضٌ إلَىَّ الْجَاهِلُ الْمُتَعَاقِلُ
ومنها: السِّحر؛ يقال: رجل مطبوب، أى: مسحور، وفى ((الصحيح)) من حديث عائشة لـمَّا سحرت يهودُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وجلس الملَكَانِ عِنْدَ رأسه وعند رجليه، فقال أحدهما: ما بالُ الرَّجُلِ ؟ قال الآخر: مَطْبُوبٌ. قال: مَن طَبَّه ؟ قال: فلان اليهودىُّ.
قال أبو عبيد: إنما قالوا للمسحور: مَطْبُوب؛ لأنهم كنَّوْا بالطِّبِّ عن السِّحر، كما كنَّوا عن اللَّديغ، فقالوا: سليمٌ تفاؤلاً بالسلامة، وكما كنَّوا بالمفازة عن الفلاة المُهلكة التى لا ماء فيها، فقالوا: مفازة تفاؤلاً بالفوز من الهلاك. ويقال الطِّبُّ لنفس الداء.
قال ابْنُ أبى الأسلت:
أَلاَ مَنْ مُبْلِغٌ حَسَّانَ عَنِّى أَسِحْرٌ كَانَ طِبُّكَ أَمْ جُنُونُ ؟
وأما قول الحماسى:
فإن كُنْتَ مَطْبُوباً فَلا زِلْتَ هَكَذَا وإن كُنْتَ مَسْحُوراً فلا بَرِئَ السِّحْرُ
فإنه أراد بالمطبوب الذى قد سُحِر، وأراد بالمسحور: العليل بالمرض.
قال الجوهرى: ويقال للعليل: مسحور. وأنشد البيت. ومعناه: إن كان هذا الذى قد عرانى منكِ ومِن حُبِّك أسألُ اللهَ دوامه، ولا أريدُ زواله، سواء أكان سحراً أو مرضاً.
والطبُّ: مثلثُ الطاء، فالمفتوح الطاءُ: هو العالِم بالأُمور، وكذلك الطبيبُ يقال له: طَب أيضاً. والطِّبُّ: بكسر الطاء: فِعْلُ الطبيب، والطُّبُّ بضم الطاء: اسم موضع. قاله ابن السِّيد، وأنشد:
فَقُلْتُ هَل انْهَلْتُم بِطُبَّ رِكَابَكُمْ بِجَائِزَةِ الماءِ التى طَابَ طينُهَــا
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ تَطَبَّبَ)) ولم يقل: مَن طَبَّ، لأن لفظ التَّفعل يدل على تكلُّف الشىء والدخول فيه بُعسر وكُلفة، وأنه ليس من أهله، كتَحَلَّم وتشجَّع وتصبَّر ونظائرِها، وكذلك بَنَوْا تكلَّف على هذا الوزن، قال الشاعر:
* وَقَيسَ عَيْلانَ ومَنْ تَقَيَّسَا *
وأما الأمر الشرعىُّ: فإيجابُ الضمان على الطبيب الجاهل، فإذا تعاطى عِلمَ الطِّب وعمله، ولم يتقدم له به معرفة، فقد هَجم بجهله على إتلافِ الأنفس، وأقْدَم بالتهوُّر على ما لم يعلمه، فيكون قد غَرَّرَ بالعليل، فيلزمه الضمانُ لذلك، وهذا إجماع من أهل العلم.
قال الخطَّابىُّ: لا أعلم خلافاً فى أن المعالِج إذا تعدَّى، فتَلِفَ المريضُ كان ضامناً، والمتعاطى علماً أو عملاً لا يعرفه متعد، فإذا تولَّد من فعله التلف ضمن الدية، وسقط عنه القَودُ، لأنه لا يستبِدُّ بذلك بدون إذن المريض وجنايةُ المُتطبب فى قول عامة الفقهاء على عاقِلَتِه.
قلت: الأقسام خمسة
أحدها: طبيب حاذق أعطى الصنعةَ حقَّها ولم تجن يده، فتولَّد من فعله المأذون فيه من جهة الشارع، ومن جهة مَن يطبُّه تلفُ العضو أو النفس، أو ذهابُ صفةٍ، فهذا لا ضمان عليه اتفاقاً، فإنها سِراية مأذونٍ فيه، وهذا كما إذا خَتَنَ الصبىَّ فى وقت، وسِـنٍّه قابل للختان، وأعطى الصنعةَ حقَّها، فَتَلِفَ العضو أو الصبىُّ، لم يضمن، وكذلك إذا بَطَّ مِن عاقل أو غيرِه ما ينبغى بطُّه فى وقته على الوجه الذى ينبغى فَتَلِفَ به، لم يضمن، وهكذا سِراية كُلِّ مأذون فيه لم يتعدَّ الفاعل فى سببها، كسِراية الحدِّ بالاتفاق. وسِرايةِ القِصاص عند الجمهور خلافاً لأبى حنيفة فى إيجابه الضمان بها، وسِراية التعزير، وضربِ الرجل امرأته، والمُعلِّم الصبىَّ، والمستأجر الدابة، خلافاً لأبى حنيفة والشافعى فى إيجابهما الضمانَ فى ذلك، واستثنى الشافعى ضَرْبَ الدابة. وقاعدةُ الباب إجماعاً ونزاعاً: أنَّ سِراية الجناية مضمونةٌ بالاتفاق، وسِراية الواجب مُهْدَرةٌ بالاتفاق، وما بينهما ففيه النزاع. فأبو حنيفة أوجب ضمانَه مطلقاً، وأحمد ومالكٌ أهدرا ضمانه، وفرَّقَ الشافعىُّ بين المقدَّر، فأهدر ضمانه، وبين غيرِ المُقَدَّر فأوجبَ ضمانه. فأبو حنيفة نظر إلى أن الإذن فى الفعل إنما وقع مشروطاً بالسلامة، وأحمد ومالك نظرا إلى أنَّ الإذن أسقط الضمانَ، والشافعىُّ نظر إلى أنَّ المُقَدَّر لا يمكن النقصان منه، فهو بمنزلة النص، وأما غيرُ المُقَدَّر كالتَّعزيرات، والتأديبات فاجتهاديةٌ، فإذا تَلِفَ بها، ضمن، لأنه فى مَظِنَّة العُدوان.
فصل
القسمُ الثانى: متطبِّبٌ جاهِلٍ باشرت يدُه مَن يَطُبُّه، فتَلِفَ به، فهذا إن علم المجنىُّ عليه أنه جاهل لا عِلْمَ له، وأَذِنَ له فى طِبه لم يضمن، ولا تُخالف هذه الصورة ظاهرَ الحديث، فإنَّ السِّياق وقوة الكلام يدلُّ على أنه غرَّ العليل، وأوهمه أنه طبيب، وليس كذلك، وإن ظنَّ المريضُ أنه طبيب، وأذن له فى طِبه لأجل معرفته، ضَمِنَ الطبيبُ ما جنت يده، وكذلك إن وصف له دواء يستعملُه، والعليلُ يظن أنه وصفه لمعرفته وحِذْقه فتَلِفَ به، ضمنه، والحديثُ ظاهر فيه أو صريح.
فصل
القسم الثالث: طبيبٌ حاذِق، أُذن له، وأعطى الصَّنعة حقها، لكنه أخطأت يدُه، وتعدَّت إلى عضو صحيح فأتلفه، مِثل: أن سبقت يدُ الخاتن إلى الكَمَرَةِ، فهذا يضمَنُ، لأنها جِنَايةُ خطإٍ، ثم إن كانت الثُّلُث فما زاد، فهو على عاقِلَتِه، فإن لم تكن عاقلةٌ، فهل تكون الدِّيَة فى ماله، أو فى بيت المال ؟ على قوليْن، هما روايتان عن أحمد. وقيل: إن كان الطبيب ذِمِّيا، ففى ماله؛ وإن كان مسلماً، ففيه الروايتان، فإن لم يكن بيتُ المال، أو تعذَّر تحميلُه، فهل تسقط الدِّيَة، أو تجب فى مال الجانى ؟ فيه وجهان أشهرهما: سقوطها.
فصل
القسم الرابع: الطبيبُ الحاذِق الماهر بصناعته، اجتهد فوصف للمريض دواءً، فأخطأ فى اجتهاده، فقتله، فهذا يُخرَّج على روايتين؛ إحداهما: أنَّ دِيةَ المريض فى بيت المال. والثانية: أنها على عاقلة الطبيب، وقد نص عليهما الإمامُ أحمد فى خطإ الإمام والحاكم.
فصل
القسم الخامس: طبيبٌ حاذق، أعطى الصنعةَ حقها، فقطع سِلْعَةً من رجل أو صبى، أو مجنون بغير إذنه، أو إذن وَليِّه، أو خَتَنَ صبياً بغير إذن وَليِّه فَتَلِفَ، فقال أصحابُنا: يضمن، لأنه تولَّد من فعلٍ غير مأذون فيه، وإن أذن له البالغ، أو وَلِىُّ الصبى والمجنون، لم يضمن، ويحتمِلُ أنْ لا يضمَن مطلقاً لأنه محسنٌ، وما على المُحسنين من سبيلٍ. وأيضاً فإنه إن كان متعدِّياً، فلا أثر لإذن الولىّ فى إسقاطِ الضمان، وإن لم يكن متعدِّياً، فلا وجه لضمانه.
فإن قلتَ: هو متعدٍّ عند عدم الإذن، غير متعدٍّ عند الإذن.
قلتُ: العُدوان وعدمه إنما يرجع إلى فعله هو، فلا أثر للإذن وعدمه فيه، وهذا موضع نظر.
فصل
والطبيبُ فى هذا الحديث يتناول مَن يطب بوصفه وقوله، وهو الذى يُخَصُّ باسم الطَّبائعى، وبمرْوَدِهِ وهو الكحَّال، وبِمبضَعه ومراهِمه وهو الجرائحىُّ، وبمُوساه وهو الخاتِن، وبريشته وهو الفاصد، وبمَحاجمه ومِشْرَطِه وهو الحجَّام، وبخَلْعِه ووَصْله ورِباطه وهو المجبِّر، وبمكواته وناره وهو الكوَّاء، وبقِربته وهو الحاقن.
وسواء أكان طبه لحيوان بهيمٍ، أو إنسان، فاسمُ الطبيب يُطلق لغةً على هؤلاء كلهم، كما تقدَّم، وتخصيصُ الناس له ببعض أنواع الأطباء عُرْفٌ حادث، كتخصيص لفظ الدابة بما يخصُّها به كُلُّ قوم.
فصل
والطبيب الحاذق: هو الذى يراعى فى علاجه عشرين أمراً:
أحدها: النظر فى نوع المرض من أى الأمراض هو ؟
الثانى: النظر فى سببه من أى شىء حدث، والعِلَّةُ الفاعلةُ التى كانت سببَ حدوثه ما هى ؟
الثالث: قوة المريض، وهل هى مقاومة للمرض، أو أضعفُ منه ؟ فإن كانت مقاومةً للمرض، مستظهرة عليه، تركها والمرض، ولم يُحَرِّكْ بالدواء ساكناً.
الرابع: مزاج البدن الطبيعى ما هو ؟
الخامس: المزاجُ الحادث على غير المجرى الطبيعى.
السادس: سِنُّ المريض.
السابع: عادته.
الثامن: الوقت الحاضر من فصول السنة وما يليق به.
التاسع: بلدُ المريض وتُربتُه.
العاشر: حال الهواء فى وقت المرض.
الحادى عشر: النظر فى الدواء المضاد لتلك العِلَّة.
الثانى عشر: النظر فى قوة الدواء ودرجته، والموازنة بينها وبين قوة المريض.
الثالث عشر: ألا يكون كلُّ قصده إزالة تلك العِلَّة فقط، بل إزالتُها على وجهٍ يأمن معه حدوث أصعبَ منها، فمتى كان إزالتها لا يأمن معها حدوث عِلَّةٍ أُخرى أصعبَ منها، أبقاها على حالها، وتلطيفها هو الواجب، وهذا كمرض أفواه العروق، فإنه متى عُولج بقطعه وحبسه خِيف حدوث ما هو أصعبُ منه.
الرابع عشر: أن يُعالِج بالأسهل فالأسهل، فلا يَنتقِلُ من العلاج بالغذاء إلى الدواء إلا عند تعذُّرِه، ولا ينتقِلُ إلى الدواء المركَّب إلا عند تعذرِ الدواء البسيط، فمن حذق الطبيب علاجُه بالأغذية بدل الأدوية، وبالأدوية البسيطة بدل المركَّبة.
الخامس عشر: أن ينظر فى العِلَّة، هل هى مما يمكن علاجُها أو لا ؟ فإن لم يُمكن علاجُها، حفظ صِناعته وحُرمتَه، ولا يحمِلُه الطمع على علاج لا يفيد شيئاً. وإن أمكن علاجها، نظر هل يمكن زوالُها أم لا ؟ فإن علم أنه لا يمكن زوالُها، نظر هل يمكن تخفيفُها وتقليلُها أم لا ؟ فإن لم يمكن تقليلُها، ورأى أنَّ غاية الإمكان إيقافُها وقطعُ زيادتها، قصد بالعلاج ذلك، وأعان القوة، وأضعف المادة
السادس عشر: ألا يتعرَّض للخلط قبل نُضجه باستفراغ، بل يقصد إنضاجه، فإذا تمَّ نضجُه، بادر إلى استفراغه.
السابع عشر: أن يكون له خِبْرة باعتلال القلوب والأرواح وأدويتها، وذلك أصل عظيم فى علاج الأبدان، فإنَّ انفعال البدن وطبيعته عن النفس والقلب أمرٌ مشهود، والطبيب إذا كان عارفاً بأمراض القلب والروح وعلاجهما، كان هو الطبيبَ الكاملَ، والذى لا خِبْرة له بذلك وإن كان حاذقاً فى علاج الطبيعة وأحوالِ البدن نصفُ طبيب. وكلُّ طبيب لا يداوى العليل، بتفقُّد قلبه وصلاحه، وتقويةِ روحه وقُواه بالصدقة، وفعل الخير، والإحسان، والإقبال على الله والدار الآخرة، فليس بطبيب، بل متطبِّبٌ قاصر. ومن أعظم علاجات المرض فعلُ الخير والإحسان والذِّكر والدعاء، والتضرع والابتهال إلى الله، والتوبة، ولهذه الأُمور تأثيرٌ فى دفع العلل، وحصول الشفاء أعظمُ من الأدوية الطبيعية، ولكن بحسب استعداد النفس وقبولِها وعقيدتِها فى ذلك ونفعه.
الثامن عشر: التلطفُ بالمريض، والرِّفق به، كالتلطُّف بالصبى.
التاسع عشر: أن يستعمل أنواع العِلاجات الطبيعية والإلهية، والعلاج بالتخييل، فإنَّ لِحذَّاق الأطباء فى التخييل أُموراً عجيبة لا يصل إليها الدواء، فالطبيب الحاذق يستعين على المرض بكل مُعين.
العشرون: وهو مِلاك أمر الطبيب أن يجعل علاجَه وتدبيرَه دائراً على سِتَّة أركان: حفظ الصحة الموجودة، وردِّ الصحة المفقودة بحسب الإمكان، وإزالة العِلَّة أو تقليلها بحسب الإمكان، واحتمالُ أدنى المفسدتَيْن لإزالة أعظمهما، وتفويتُ أدنى المصلحتَيْن لتحصيل أعظمهما، فعلى هذه الأُصول السِّـتَّة مدارُ العلاج، وكلُّ طبيب لا تكون هذه أخِيَّته التى يرجع إليها، فليس بطبيب.. والله أعلم.
فصل
ولما كان للمرض أربعةُ أحوال: ابتداءٌ، وصُعودٌ، وانتهاءٌ، وانحطاطٌ؛ تعيَّن على الطبيب مراعاةُ كل حال من أحوال المرض بما يُناسبها ويليق بها، ويستعمِلُ فى كل حال ما يجبُ استعمالُه فيها. فإذا رأى فى ابتداء المرض أنَّ الطبيعة محتاجة إلى ما يُحَرِّك الفضلات ويستفرِغُها لنضجها، بادر إليه، فإن فاته تحريك الطبيعة فى ابتداء المرض لعائق منع من ذلك، أو لضعف القوة وعدم احتمالها للاستفراغ، أو لبرودة الفصل، أو لتفريط وقع، فينبغى أن يَحْذَرَ كل الحَذرِ أن يفعل ذلك فى صعود المرض، لأنه إن فعله، تحيَّرت الطبيعة لاشتغالها بالدواء، وتخلَّت عن تدبير المرض ومقاومته بالكلية، ومثاله: أن يجىءَ إلى فارس مشغول بمواقعة عدوه، فيشغله عنه بأمر آخر، ولكن الواجب فى هذه الحال أن يُعين الطبيعة على حفظ القوة ما أمكنه.
فإذا انتهى المرض ووقف وسكن، أخذ فى استفراغه، واستئصال أسبابه، فإذا أخذ فى الانحطاط، كان أولى بذلك. ومثالُُ هذا مثال العدو إذا انتهت قُوَّته، وفرغ سِلاحُه، كان أخذُه سهلاً، فإذا ولَّى وأخذ فى الهرب، كان أسهلَ أخذاً، وحِدَّته وشَوْكتُه إنما هى فى ابتدائه، وحال استفراغه، وسعة قُوَّته، فهكذا الداء والدواء سواء.
فصل
وَمِن حِذق الطبيب أنه حيث أمكن التدبير بالأسهل، فلا يَعْدِلُ إلى الأصعب، ويتدَّرج من الأضعف إلى الأقوى إلا أن يخاف فَوتَ القُوَّة حينئذ، فَيجبُ أن يبتدىء بالأقوى، ولا يُقيم فى المعالجة على حال واحدة فتألفُها الطبيعة، ويَقِلُّ انفعالُها عنه، ولا تَجْسُر على الأدوية القوية فى الفصول القوية، وقد تقدَّم أنه إذا أمكنه العِلاجُ بالغذاء، فلا يُعالِج بالدواء، وإذا أشكل عليه المرضُ أحارٌ هو أم بارد ؟ فلا يقدم حتى يتبيَّن له، ولا يُجرِّبه بما يخاف عاقبته، ولا بأس بتجرِبته بما لا يضرُّ أثرُه.
وإذا اجتمعت أمراض، بدأ بما تخصه واحدة من ثلاث خصال:
إحداها: أن يكون بُرء الآخر موقوفاً على بُرئه كالورم والقُرحة، فإنه يبدأ بالورم.
الثانية: أن يكون أحدهُما سبباً للآخر، كالسَّدة والحُمَّى العَفِنة، فإنه يبدأ بإزالة السبب.
الثالثة: أن يكون أحدهما أهمَ من الآخر، كالحاد والمزمن، فيبدأ بالحاد. ومع هذا فلا يغفُلُ عن الآخر. وإذا اجتمع المرض والعَرَض، بدأ بالمرض، إلا أن يكون العَرَضُ أقوى كالقُولنج، فيُسكن الوجع أولاً، ثم يُعالج السَّدة. وإذا أمكنه أن يعتاضَ عن المعالجة بالاستفراغ بالجوع أو الصوم أو النوم، لم يستفرغه، وكُلّ صحة أراد حفظها، حفظها بالمثل أو الشبه، وإن أراد نقلها إلى ما هو أفضلُ منها، نقلها بالضد.
والله أعلم.