فقه المياه وبعض ما يتعلق بها من أحكام
إعداد العبد الفقير إلى الله
أبو معاذ
عبدرب الصالحين أبوضيف العتموني
------------------------------------
المحتويات
تعريف المياه - صفة الماء التي خُلق عليها - أقسام المياه - الماء الطهور - ما يُستعمل فيه الماء الطهور - حُكم استعمال الماء الطهور في الطهارة من الحدث - حُكم استعمال الماء الطهور في الطهارة من النجاسة ( الخبث ) أنواع الماء الطهور - الماء الطاهر - الماء النجس - هل يُمكن تطهير الماء النجس ؟ وكيف يُطهر ؟ - الماء المستعمل - حُكم طهارة الرجل بفضل طهارة المرأة والعكس - حُكم الماء الجاري إذا وقعت فيه نجاسة - حُكم التبول أو الاغتسال في الماء الدائم أو الراكد - حُكم الماء الدائم أو الراكد إذا وقعت فيه نجاسة - حُكم الطهارة بالماء المشمس - حُكم الماء المُسخن بشئ نجس - حُكم الطهارة بالماء المسخن بشئ طاهر - حُكم الطهارة من الحدث أو الخبث بماء زمزم - حُكم غمس اليدين في الإناء عند الاستيقاظ من النوم قبل غسلهما خارجه - حُكم طهارة الماء إذا غُمست فيه اليدين قبل غسلهما خارج الإناء عند الاستيقاظ من النوم - الحِكمة من الأمر بغسل اليدين قبل غمسهما في الإناء عند الاستيقاظ من النوم - حُكم الشك في طهارة الماء ونجاسته - حُكم إذا اشتبه الماء الطهور بالماء النجس - حُكم إذا اشتبه الماء الطهور بالماء الطاهر .
---------------------------------
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
وبعد
خلق الله سبحانه الأرض وغطى ثلثيها بالماء وخلق الحيوان والنبات - وهما طعام الإنسان - خلقهما من الماء وتوَّج مخلوقاته بالإنسان وجعل ثلاثة أرباع بدنه ماء وصدق الله إذ يقول ( وجَعَلْنا من الماءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ ) .
فالله سبحانه قد كرَّم الماء إذ جعل مدار الحياة في الأرض عليه وجعله طهوراً وعلق به وبوجوده العديد من العبادات فبالماء يزيل المسلم جنابته وبه يتوضأ لتكتمل بذلك طهارته من الحدثين كي يتسنى له الوقوف أمام ربه في أجلِّ وأعظم عبادة من العبادات وهي الصلاة وبالماء يزيل ما يصيب بدنه وثوبه ومكانه من النجاسات .
والطهارة من الحدث والنجس شرط من شروط صحة الصلاة .
فلما كانت هذه الصلاة لا تصح إلا بطهارة المصلي من الحدث والنجس حسب القدرة على ذلك صار الفقهاء رحمهم الله يبدأون بكتاب الطهارة لأنها لما قدمت الصلاة بعد الشهادتين على غيرها من بقية أركان الإسلام ناسب تقديم مقدماتها ومنها الطهارة فهي مفتاح الصلاة كما في الحديث عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مفتاح الصلاة الطهور ) رواه أبوداود والترمذي وابن ماجة والبيهقي وأحمد والدارمي والدارقطني وابن أبي شيبة وعبدالرزاق والبزار وأبويعلى وصححه الشيخ الألباني رحمه الله .
وذلك لأن الحدث يمنع الصلاة على المحدث .
فالطهارة أوكد شروط الصلاة والشرط لا بد أن يقدم على المشروط .
فالمسلم في أشد الحاجة إلى تعلم أحكام المياه قبل غيره من أبواب الطهارة .
ولذلك يبدأ الفقهاء بباب المياه في مصنفاتهم في كتاب الطهارة لأن هذه الطهارة وهي : ( رفع الحدث وزوال الخبث ) تحتاج إلي شيء يُتطهر به وهذا الشئ هو الماء أو ما يقوم مقامه .
ومن المسائل والأحكام التي تتعلق بالمياه ما يلي :
تعريف المياه :
المياه في اللغة : جمع ماء والماء معروف والهمزة فيه مبدلة من الهاء وأصله موه بالتحريك تحولت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً ثم أبدلت الهاء همزة .
ويُجمع على أمواه جمع قِلة وعلى مياه جمع كثرة مثل جمل وأجمال وجِمال .
قال الرازي : ( الماء معروف والهمزة فيه مُبدلة من الهاء في موضع اللام وأصله مَوَهٌ بالتحريك لأن جمعه أَمْواهٌ في القلة ومِياهٌ في الكَثرة مثل جمل وأجمال وجِمال والذاهب منه الهاء لأن تصغيره مُوَيْهٌ ) أهـ .
وفي الاصطلاح : الماء جسم لطيف سيال به حياة كل نامٍ .
صفة الماء التي خُلق عليها :
خُلق الماء طهوراً أي طاهراً في نفسه ومطهراً لغيره قال الله تعالى : ( وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ) .
وقال تعالى : ( إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ ) .
والطهور بفتح الطاء على وزن فعول وفعول : اسم لما يفعل به الشيء .
فالطهور بالفتح : اسم لما يتطهر به والسحور بالفتح : اسم للطعام الذي يتسحر به وأما طهور وسحور بالضم فهو الفعل .
وهذا الماء يطلق عليه أيضاً ( ماء مطلق ) لأنه عاري عن القيود والإضافة اللازمة .
فخرج بقول ( عاري عن القيود ) قوله تعالي : ( مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ) وقوله : ( مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ) وخرج بقول ( والإضافة اللازمة ) ماء الورد وماء الزعفران والماء المعتصر من الشجر أو الثمر لأنها مياه مقيدة بقيد لازم لا يطلق الماء عليه بدونه واحترز بالإضافة اللازمة عن الإضافة غير اللازمة كماء النهر وماء البحر ونحو ذلك لأن هذه الإضافة لا تخرج الماء عن كونه طاهراً مطهراً لبقاء الإطلاق
عليه وتستعمل بدونها فهي مياه مطلقة .
وقيل : سُمي مطلقاً لأن الماء إذا اطلق انصرف اللفظ إليه .
وقيل : هو الذي لم يضف إلي شئ من الأمور التي تخالطه فإن خالطه شئ أوجب إضافته إليه .
أقسام المياه :
اختلف العلماء في تقسيم المياه من حيث التقسيم الإجمالي على قولين :
القول الأول :
أنه ينقسم إلي قسمين : ( طهور ونجس ) ولا يوجد ماء وسيط بين هذين النوعين وهذا قول الحسن البصري وسفيان الثوري ورواية عند الحنابلة .
القول الثاني :
أنه ينقسم إلي ثلاثة أقسام : ( طهور وطاهر ونجس ) وهو قول الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية ورواية عند الحنابلة وهي التي عليها أكثر المتأخرين من الحنابلة .
أدلة القول الأول :
1- قوله تعالى : ( وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً ) .
قالوا : كلمة ( ماء ) نكرة في سياق النفي فتعم كل ماء سواء كان مطلقاً أو مقيداً مستعملاً أو غير مستعمل فيخرج بذلك الماء النجس ويبقي ما عداه على أنه طهور .
2- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يطرح فيها الحيض ولحم الكلاب والنتن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الماء طهور لا ينجسه شيء ) رواه أبوداود والترمذي والنسائي والبيهقي والدارقطني وأحمد وابن أبي شيبة وصححه الشيخ الألباني رحمه الله .
قالوا : هذا الحديث أثبت قسماً من الماء وهو الماء الطهور والإجماع أثبت القسم الآخر وهو الماء النجس وبقي الماء الطاهر ولا يوجد دليل على ثبوته فيكون الماء قسمين : طهور ونجس ولا ثالث لهما .
وقالوا أيضاً : هذا الحديث أثبت طهورية الماء وأنه لا ينجسه شئ ولا ينتقل عن هذه الطهورية إلا إلى النجاسة فيكون الماء بذلك إما طهور وإما نجس .
3- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ من ماء البحر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) رواه مالك وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي وابن خذيمة وابن حبان والدارقطني والدارمي وأحمد والحاكم وصححه الشيخ الألباني رحمه الله .
قالوا : ماء البحر متغير بالملوحة الزائدة وهذا الذي جعل الصحابي رضي الله عنه يسأل عن حكمه ومع تغيره فقد حكم له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه طهور فدل على أن ما تغير بالطاهرات فهو طهور إلا لو غلبت أجزاء المادة الموضوعة فيه فهو حينئذ ينتقل عن مسمى الماء أصلاً أي : لو أضفت إلى الماء زعفران أو ماء ورد أو باقلاء أو غيرها من المواد إضافات كثيرة فصارت غالبة على الماء .
وقالوا : ولا فرق بين ما تغير بفعل الإنسان المقصود وما كان تغيره بطبيعته فلا فرق بين ماء البحر عندهم وبين الماء الذي أضاف إليه الإنسان باختياره ملحاً حتى صار مالحاً .
وقالوا : من قال بالفرق بينهما فيلزمه الدليل ولا دليل هناك .
4- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( بينا رجل واقف مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته أو قال : فأوقصته فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين ولا تمسوه طيباً ولا تخمروا رأسه ولا تحنطوه فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً ) رواه البخاري ومسلم .
5- عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت : دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته فقال : ( اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور فإذا فرغتن فآذنني ) فلما فرغنا آذناه فأعطانا حقوه فقال : ( أشعرنها إياه - تعني إزاره ) رواه البخاري ومسلم .
قالوا : والماء إذا أضيف إليه السدر أو الكافور فإنه يتغير به غالباً .
وإذا كان هذا المتغير بشئ طاهر يطهر الميت فطهارة الحي كطهارة الميت فما طهر الميت يُطهر الحي .
6- عن أم هانئ رضي الله عنها : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل هو وميمونة من إناء واحد في قصعة فيها أثر العجين ) رواه النسائي والبيهقي وابن ماجة وابن خذيمة وابن حبان وأحمد والطبراني وصححه الشيخ الألباني رحمه الله .
قالوا : ومن المعلوم أن الماء إذا وضع في قصعة فيها أثر العجين فإن الماء يتأثر بهذا العجين لأن العجين يتحلل بوجود الماء فوقه وترتفع بعض أجزائه في الماء فتغيره ولم يتغير هذا من اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم وزوجته فيدل هذا على الماء إذا تغير بشي طاهر يبقى طهوراً ولا يتحول إلى طاهر غير مطهر .
7- قالوا : إن الصحابة رضي الله عنهم وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يسافرون ويحملون الماء في أسقية كان غالبها من الأدم - من الجلود - ومن الطبيعي في مثل هذه الأسقية أنها تؤثر في لون الماء وفي طعمه وفي ريحه ويتحلل منها مع الوقت أجزاء ترتفع إلى الماء فتؤثر فيه ولم ينقل عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يتقون استعمال هذا الماء في سائر الطهارات أو أنهم كانوا يحملون معهم غيره ويستعملونه في الشرب أو في استعمالات أخرى مثلاً
8- قالوا : إن أمر الماء من الأشياء التي تكثر حاجة الناس إليها وسؤالهم عن أحكامها فحاجتهم إليها أشد من حاجتهم إلى بيان سائر الأحكام ويبعد جداً أن يوجد تقسيم شرعي للمياه ولا ينقل عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم القول به .
أدلة القول الثاني :
1- قوله تعالى : ( وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً ) .
قالوا : قوله : ( ماء ) هذا لفظ مطلق لم يقيد بشئ والمقصود به الماء الباقي على أصل خلقته غير المتغير بشيء أو المنتقل عن الطهورية لأنه إذا تغير أو انتقل لم يسم ماء مطلقاً لأنه يضاف إلى المادة التي يتغير بها كماء الورد أو ماء الزعفران ونحو ذلك .
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ من ماء البحر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) رواه مالك وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي وابن خذيمة وابن حبان والدارقطني والدارمي وأحمد والحاكم وصححه الشيخ الألباني رحمه الله .
قالوا : لأن سؤال الصحابي رضي الله عنه لم يكن عن طهارة ماء البحر فإن طهارته كانت مقررة معلومة وإنما كان سؤاله عن طهوريته أي : عن جواز الوضوء والغسل به ورفع الحدث وهذا دليل على أنه كان قائماً في ذهن هذا الصحابي أن هناك ماء طاهراً لا يرفع به الحدث وهو ما اصطلح الفقهاء بعد على تسميته بالطاهر .
3- استدلوا بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الراكد ونهيه عن الوضوء بفضل وضوء المرأة ونهيه عن غمس القائم من نوم الليل يده في الإناء .
وقالوا : هذه المياه مع أنها طاهرة ليست بنجسة ورد النهي عن الاغتسال ببعضها كما في حالة فضل وضوء المرأة وورد النهي عن غمس اليد أو النهي عن البول في الماء الراكد والنهي يقتضي الفساد عند بعض الأصوليين .
ولذلك قال الظاهرية : إن هذا الماء الراكد الذي بال فيه البائل أو هذا الماء الذي غمست فيه يد قائم من نوم ليل لا يجوز الوضوء به ولا يرفع الحدث لأنه ماء فاسد لا يصلح للطهورية .
الترجيح :
رجح القول الأول وهو أن الماء ينقسم إلى قسمين طهور ونجس شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والشوكاني ورجحه الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي والشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز والشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمهم الله جميعاً .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : ( اسم الماء مطلق في الكتاب السنة ولم يقسمه النبى صلى الله عليه وسلم إلي قسمين طهور وغير طهور فهذا التقسيم مخالف للكتاب والسنة ) أهـ .
وقال الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله : ( الصواب : أن الماء المطلق قسمان : طهور ونجس ) أهـ .
وقال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله : ( الصحيح أن الماء قسمان فقط : طهور ونجس فما تغير بنجاسة فهو نجس وما لم يتغير بنجاسة فهو طهور وأن الطاهر قسم لا وجود له في الشريعة وهذا اختيار شيخ الإسلام والدليل على هذا عدم الدليل إذ لو كان قسم الطاهر موجوداً في الشرع لكان أمراً معلوماً مفهوماً تأتي به الأحاديث بينة واضحة لأنه ليس بالأمر الهين إذ
يترتب عليه إما أن يتطهر بماء أو يتيمم فالناس يحتاجون إليه كحاجتهم إلى العلم بنواقض الوضوء وما أشبه ذلك من الأمور التي تتوافر الدواعي على نقلها لو كانت ثابتة ) أهـ .
قال الشيخ حمد بن عبدالله الحمد : ( الصواب والصحيح أن المياه إنما تنقسم إلى قسمين : مياه طاهرة يصح للمسلم أن يتطهر بها ومياه نجسة وأما أن يكون هناك ماء يسمى ماءً وهو مع ذلك لا يطهر فهذا ليس بصحيح ) أهـ .
وقال الشيخ سلمان بن فهد العودة : ( الأقرب للصواب والله أعلم أن الماء قسمان : طهور ونجس وأن ما عدا ذلك من التفريعات فهي اجتهادات أصحابها مأجورون إن شاء الله لبذلهم الوسع في الوصول إلى حكم الله ورسوله ولكن لا يجب على من عرف خلافها أن يتبعها ) أهـ .
وقال الشيخ وليد بن راشد السعيدان : ( اختلف العلماء في تقسيم المياه ... وهذا التقسيم إنما باعتبار الوارد عليه فقط أما الماء باعتبار أصله فلا يقسم إلى أقسام ذلك لأن الأصل فيه أنه طهور مطهر فالماء باعتبار أصله قسم واحد لكن باعتبار الطارئ عليه لا يخلو إما أن يكون الطارئ نجساً أو طاهراً فإن كان نجساً وغيره فهو الماء النجس وإن كان طاهراً وغير وصفه واسمه المطلق فهو الطاهر لأنه يخرج حينئذ عن مسمى الماء أصلاً والذي أريد إثباته هنا هو أن الماء باعتبار أصله قسم واحد وهو أنه طهور مطهر .
العلماء يبحثون في أقسامه باعتبار ما يطرأ عليه مما يخرجه عن أصله الأول والراجح من تقسيمهم هو أن الماء قسمان طهور ونجس هذا هو ما دلت عليه الأدلة ) أهـ .
الأحكام التي تتعلق بالأقسام الثلاثة ( الماء الطهور والطاهر والنجس ) :
أولاً : الأحكام التي تتعلق بالقسم الأول وهو الماء الطهور :
تعريف الماء الطهور هو : ( كل ماء نزل من السماء أو نبع من الأرض وبقي على أصل خلقته ) أي لم تتغير أحد أوصافه الثلاثة وهي "اللون والطعم والريح" بشيء من الأشياء التي تسلب طهورية الماء .
وعرفه الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله بقوله : ( الماء الطهور هو : " الماء الباقي على خلقته حقيقة بحيث لم يتغير شيء من أوصافه أو حكماً بحيث تغير بما لا يسلبه الطهورية " .
فمثلاً : الماء الذي نخرجه من البئر على طبيعته ساخناً لم يتغير .
وأيضاً : الماء النازل من السماء طهور لأنه باقٍ على خلقته هذان مثالان للباقي على خلقته حقيقة .
وقولنا : ( أو حكماً ) كالماء المتغير بغير ممازج أو المتغير بما يشق صون الماء عنه فهذا طهور لكنه لم يبق على خلقته حقيقة وكذلك الماء المسخن فإنه ليس على حقيقته لأنه سخن ومع ذلك فهو طهور لأنه باق على خلقته حكماً ) أهـ .
وعبر الفقهاء عن هذا الماء بالطهور إلا أنهم اختلفوا في المراد بالطهور على قولين :
القول الأول :
أن الطهور هو الطاهر المطهر وهو مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة .
القول الثاني :
إن الطهور هو الطاهر وهو المذهب عند الحنفية واختاره الخرقي من الحنابلة وهو محكي عن الحسن البصري وسفيان وأبي بكر الأصم وابن داود وقول بعض أهل اللغة .
أدلة القول الأول :
أولاً : أن لفظة طهور جاءت في لسان الشرع للمطهر ومن هذا :
1- قول اللّه تعالى : ( وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً ) فقوله : ( طَهُوراً ) يراد به ما يتطهر به فإن العرب تقول : طهور ووجور لما يتطهر به ويوجر به وبالضم للفعل الذي هو مسمى المصدر فطهور هو صيغة مبنية لما يفعل به .
فكلمة ( طهور ) معناها مطهر أي : مطهر لغيره .
ويفسر ذلك قوله تعالى : ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ ) فهذه الآية مفسرة للمراد بالأولى .
2- ما ورد عن جابر بن عبداللّه رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ) رواه البخاري ومسلم .
فوجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة إذ لو كان المراد بالطهور الطاهر فقط لم يكن فيه مزية لأنه طاهر في حق كل أحد والحديث إنما سيق لإثبات الخصوصية فقد اختص الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته بالتطهر بالتراب .
3- ما رواه أنس مرفوعاً : ( جعلت لي كل أرض طيبة مسجداً وطهوراً ) رواه ابن الجارود . فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن كل أرض طيبة جعلت له مسجداً وطهوراً والطيبة الطاهرة فلو كان معنى طهوراً : طاهراً للزم تحصيل الحاصل وتحصيل الحاصل بالنسبة له محال فتعين أن يكون المراد به المطهر لغيره .
4- ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن التوضؤ بماء البحر فقال : ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) رواه مالك وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي وابن خذيمة وابن حبان والدارقطني والدارمي وأحمد والحاكم وصححه الشيخ الألباني رحمه الله .
وجه الدلالة :
أنهم سألوا عن التطهر بماء البحر لا عن طهارته وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله هذا عن سؤالهم عن حكم التطهر بماء البحر ولولا أنهم يفهمون من الطهور أنه المطهر لم يحصل الجواب .
ثانياً : أن العرب فرقت بين اسم الفاعل وصيغة المبالغة فقالت : قاعد لمن وجد منه القُعود وقَعود : لمن يتكرر منه ذلك فينبغي أن يفرق بين الطهور والطاهر من حيث التعدي واللزوم فالطهور من الأسماء المتعدية وهو الذي يطهر غيره والطاهر من الأسماء اللازمة .
أدلة القول الثاني :
1- قول اللّه تعالى : ( وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ) .
وجه الدلالة :
أن هذه الآية في بيان نعيم أهل الجنة ومعلوم أن أهل الجنة لا يحتاجون إلى التطهير من حدث ولا نجس فعلم أن المراد بالطهور الطاهر .
2- قول جرير في وصف النساء :
خليلي هل في نظرة بعد توبة أداوي بها قلبي علي فجور
إلى رجح الأكفال هيف خصورها عــذاب الثنايا ريقهن طهور
وجه الدلالة :
أنه وصف الريق بأنه طهور والريق لا يتطهر به وإنما مراده أنه طاهر .
3- أن الطهور يفيد التطهير من طريق المعنى وهو أن هذه الصيغة للمبالغة فإن في الشكور والغفور من المبالغة ما ليس في الغافر والشاكر فلا بد أن يكون في الطهور معنى زائد ليس في الطاهر ولا تكون تلك المبالغة في طهارة الماء إلا باعتبار التطهير لأن في نفس الطهارة كلتا الصفتين سواء فتكون صفة التطهير له بهذا الطريق لا أن الطهور بمعنى المطهر .
وقد أجاب الجمهور عن أدلتهم بما يلي :
1- أما قوله تعالى : ( وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ) .
فيجاب عنه بأن الله تعالى وصف الشراب بأعلى الصفات وهي التطهير .
2- وقول جرير أجابوا عنه بقولهم : إنه حجة لنا لأنه قصد تفضيلهن على سائر النساء فوصف ريقهن بأنه مطهر يتطهر به لكمالهن وطيب ريقهن وامتيازه على غيره ولا يصح حمله على ظاهره فإنه لا مزية لهن في ذلك فإن كل النساء ريقهن طاهر بل البقر والغنم وكل حيوان غير الكلب والخنزير .
ما يُستعمل فيه الماء الطهور :
الماء الطهور يستعمل في رفع الحدث ويزال به النجس ويستعمل في العادات مثل الأكل والشرب ونحو ذلك .
والمراد بارتفاع الحدث : إزالة الوصف المانع من الصلاة باستعمال الماء الطهور في جميع البدن إن كان الحدث أكبر وإن كان حدثاً أصغر يكفي مروره على أعضاء الوضوء بنية وإن فقد الماء أو عجز عنه استعمل ما ينوب عنه وهو التراب على الصفة المأمور بها شرعاً .
والمراد بزوال الخَبَث : أي : زوال النجاسة من البدن والثوب والمكان .
حُكم استعمال الماء الطهور في الطهارة من الحدث :
أجمع العلماء على أن الطهارة من الحدث بنوعيه ( الأكبر والأصغر ) لا تكون إلا بشيئين :
الأول : أصل وهو : ( الماء الطهور ) .
الثاني : ما يقوم مقام الماء عند تعذر استعماله وهو : ( التيمم بالصعيد الطاهر ) .
والدليل على وجوب استعمال الماء عند القدرة على ذلك في الطهارة من الحدث بنوعيه قوله تعالى : ( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا ) .
وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير ) رواه أبوداود والترمذي والبيهقي وأحمد والدارقطني وابن أبي شيبة وعبدالرزاق وصححه الشيخ الألباني رحمه الله .
فأمر الشارع الحكيم بالعدول إلى التيمم في حالة عدم وجود الماء ولو وجد غيره من المائعات والسوائل ولو كان ثَّم مائع غيره يجوز التطهر به لنقل إليه فدل هذا علي أنه عند عدم الماء ينتقل إلي البدل وهو التيمم ولا ينتقل إلي غيره من المائعات لعدم وجود ما يدل علي ذلك .
فكل شيء سوى الماء من المائعات لا تحصل به الطهارة من الحدث كالخل والبنزين والعصير والليمون وما شابه ذلك .
أما دليل وجوب ( التيمم ) بالصعيد الطاهر وهو ( بدل عن الطهارة بالماء ) إذا تعذر استعمال الماء في جميع أعضاء الطهارة أو بعضها لعدم وجوده أو لخوف ضرر باستعماله مع وجوده .
قوله تعالي : ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ... ) .
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معتزلاً لم يصل في القوم فقال : يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم فقال يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء قال : عليك بالصعيد فإنه يكفيك ) رواه البخاري .
وعن سعيد بن عبدالرحمن بن أبزى عن أبيه قال : ( جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال إني أجنبت فلم أصب الماء فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت فأما أنت فلم تصل وأما أنا فتمعكت فصليت فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما كان يكفيك هكذا فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه ) رواه البخاري ومسلم .
وهذا هو التيمم عند تعذر استعمال الماء .
يتبع إن شاء الله...