محاضرة
حال السلف مع القرآن
لفضيلة الشيخ
خـــالد بن عبد الله المصلح
www.almosleh.com
---------------------------------
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين أما بعد..
فإن نعم الله جل وعلا على هذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم نعماً عظيمة متنوعة متعددة لا حصر لها ولا يمكن لإنسان أن يحيط بها في مجلس أو مجالس إلا أن أعظم ما أنعم الله به جل وعلا على هذه الأمة وعلى الناس عامة إنزال الكتاب الحكيم إنزال هذا القرآن العظيم الذي امتن الله جل وعلا بإنزاله على الناس أجمعين فإن الله سبحانه وتعالى أنزل هذا الكتاب خاتمة للكتب وجعله حجة على الخلق فهو أعظم آيات الأنبياء أعظم ما جاءت به الأنبياء هو هذا الكتاب العظيم لأنه المعجزة الآية العظيمة الباقية التي لا يحد أثرها زمان ولا مكان بل هي آية ما تعاقب الليل والنهار حتى إذا حيل بين الناس وبين القبول وصرفت قلوبهم عن الإقبال على الكتاب وتعطل الانتفاع به يرفعه الله جل وعلا في آخر الزمان عندما لا ينتفع الناس به فإن من تعظيم الله لكتابه أن يرفعه من المصاحف والصدور.
أيها الإخوة الكرام. . بشر الله جل وعلا بإنزال هذا الكتاب الحكيم بشر الله سبحانه وتعالى الناس عامة بإنزال هذا الكتاب فقد قال جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (1) ثم قال سبحانه وتعالى بعد هذه البشارة والبيان لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم قال الله جل وعلا: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (2) هذه البشارة أيها المؤمنون أيها الإخوة الكرام تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقاها بالفرح فكان فرحاً بكتاب الله جل وعلا فرحاً بنعمه سبحانه وتعالى وما خصه الله به من هذا الفضل العظيم فرحت به الأمة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان هذا الكتاب من أعظم النعم عليهم وكان انقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم ما أصيبوا به لما في ذلك من انقطاع المدد من السماء وانقطاع هذا الخير هذا الكتاب فرح به التابعون ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين لما تمتع به من الأوصاف العظيمة التي تكفل للناس سعادة الدارين سعادة الدنيا وفوز الآخرة فإن هذا الكتاب لا يقتصر نفعه على دار القرار على الدار الآخرة بل يجد المؤمن ثماره في الدنيا قبل الآخرة فهو الكتاب الذي تصلح به أمور الناس تستقيم به أحوالهم في الدنيا وفي الآخرة ولذلك بشر الله به الناس عامة فهو رحمة وهدى وشفاء قال الله جل وعلا: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (3)وإنما خص المؤمنين بهذا لكونهم المنتفعين من هذا القرآن وإلا فإن القرآن رحمة لكل أحد ففيه الهدى والنور فيه ترتيب شؤون حياة الناس وإقامة معادهم وإصلاح دنياهم وآخرتهم ولذلك هذا الكتاب بهر عقول كثير من الناس حتى من لم يؤمنوا به فإن ما فيه من البيان وما فيه من الإعجاز وما فيه من الأسرار التي لا يحيط بها عقل ولا يدركها بيان ولا يحيط بوصفها لسان أمر يفوق الوصف أمر يتجاوز التصور وذلك لأنه كلام رب العالمين والله جل وعلا قد قال في محكم التنزيل: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (4) فليس كمثل ربنا شيء لا في صفاته ولا في ذاته ولا في أفعاله ولا فيما يجب له سبحانه وتعالى ومن جملة ما وصف الله به نفسه الكلام، فكلام ربنا جل وعلا ليس كمثله شيء كما أن صفاته سبحانه وتعالى ليس كمثلها شيء كما أن سائر ما يتعلق به جل وعلا ليس له نظير.
أيها الإخوة الكرام هذا الكتاب كما ذكرت لكم فرح به السلف فرحاً عظيماً أقبل عليه لم يشبع من تلاوته ولا من قراءته ففي أحوالهم وأمورهم وما نقل عنهم وما نقلته كتب السير من أعمالهم ما يتبين به عظيم فرحهم بهذا الكتاب وعظيم إقبالهم عليه وعظيم ما كانوا عليه من تعظيم لهذا الكتاب العظيم إن السلف الصالح.
أيها الإخوة.. هم الصحابة بالدرجة الأولى هم الذين شهدوا التنزيل وأخذوا عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة هم الذين اصطفاهم الله جل وعلا وخصهم بأن جعلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، هؤلاء هم السلف بالدرجة الأولى ويلحقهم في الفضل من أثبت لهم الفضل رسزول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" (5) فالتابعون وتابعوهم ممن يندرج في مسمى السلف لأنهم ممن أثبت لهم النبي صلى الله عليه وسلم الخيرية على سائر قرون الأمة والخيرية في هذه الأمة لا يحصرها مكان ولا زمان بل هي باقية فالله جل وعلا قد أثبت الخيرية لمن اتبع المهاجرين والأنصار بإحسان فقال جل وعلا: ﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾ (6) فاتباع سلف الأمة بإحسان ينظمك في سلكهم ويضمك إلى حزبهم ولو لم تكن معهم في زمانهم ولو افترقت عنهم في مكانهم بل تشاركهم في الفضائل إذا شاركتهم في الأعمال أيها الإخوة الكرام إن هذا القرآن بين الله جل وعلا شأنه في كتابه الحكيم وكفى ببيان الله بياناً وكفى بوصفه وصفاً فهو جل وعلا الحكيم الخبير العليم الذي لا تخفى عليه خافية ولا يبلغ الخلق مهما أوتوا ومهما اجتمعوا من وصف الكتاب كما وصف الله جل وعلا كتابه قال الله جل وعلا في وصف كتابه: ﴿ق * وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ (7) فوصفه الله سبحانه وتعالى بالمجد والمجد في لغة العرب أيها الإخوة السعة في أوصاف الكمال فكل ما اتسع في أوصاف الكمال أثبت له هذا الوصف وأطلق عليه هذا اللفظ فالمجيد أي الذي كمل في صفاته واتسع في صفات الكمال والشرف حتى بلغ منتهاها وبلغ غايتها كيف لا وهو الروح كيف لا وهو النور كيف لا وهو الهدى كيف لا وهو شفاء لما في الصدور كما قال الله جل وعلا: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ﴾ (8) وقوله سبحانه وتعالى: ﴿مِنَ الْقُرْآنِ﴾ من هنا ليست للتبعيض بل هي لبيان الجنس أي إن كل القرآن شفاء لما في الصدور وهو يشفي من الأمراض الحسية ويشفي في الأصل وفي الأساس وبالدرجة الأولى من أمراض القلوب من أمراض الشبهات من أمراض الشهوات.
أيها الإخوة. . إن سلف الأمة أقبلوا على هذا القرآن وإن وقفةً مع بعض أحوالهم يتبين بها ما كانوا عليه رحمهم الله من حسن التعامل مع هذا القرآن وليس عجباً فإن السلف الذين نتندر بما كانوا عليه من الفضائل ونتعجب مما كانوا عليه من السبق كانوا رضي الله عنهم على هذه المنزلة وبلغوا هذه المرتبة بما ارتسموه من قول الله جل وعلا وتوجيه رسوله صلى الله عليه وسلم فهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس إنما خرجت من بين دفتي المصحف الكريم من بين هذا القرآن الحكيم خرجت على ضوء توجيهات هذه الآيات المبينات وهذا القرآن العظيم، قال الله جل وعلا في وصف هذه الأمة وأول من يدخل فيها الصحابة رضي الله عنهم: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (9) هذه الأمة إنما خرجت من ذلك أي خرجت على هذه الصفة وعلى هذا النحو من هذا القرآن الكريم ولا عجب بعد هذا أن تنقل السير والسنن والكتب والدواوين عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تلقوا عنهم من التابعين وتابعيهم أن تنقل العجائب في التعامل مع القرآن الحكيم. .
إن وقفة مع بعض ما حفظته السنة من تعامل الصحابة وتلقيهم الحي للقرآن العظيم يعجب منها الإنسان ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ (10) هذه الآية يحفظها كثير منا ويقرؤها كثير منا لكنها لا تستوقف أكثرنا وذلك لأننا نقرأ القرآن لا على وجه التلقي لما فيه من المعاني نقرأ القرآن طلباً للأجر بقراءة لفظه دون نظر إلى ما تضمنه من المعنى، صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما أنزل الله جل وعلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية التي فيها إثبات الملك لله عز وجل إثبات ما في السماوات وما في الأرض له سبحانه وتعالى وأنه جل وعلا يحاسب الناس على ما دار في صدورهم وما جال في نفوسهم ولو لم يتكلموا به و لو لم يعملوا صحابة رسول الله لما سمعوا هذا اشتد عليهم الأمر فأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين ثم بركوا على الركب أي جلسوا على الركب من شدة ما جاءهم في هذه الآية فقالوا: يا رسول الله كلفنا من العمل ما نطيق: الصلاة، الصيام، الجهاد، الصدقة –أي كل هذا نطيقه- وقد نزلت علينا آية لا نطيقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤدباً هؤلاء معلماً لهم كيف يتلقون القرآن، كيف يتلقون كلام رب العالمين، قال لهم صلى الله عليه وسلم: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا؟ قولوا: سمعنا وأطعنا" (11) فما كان منهم رضي الله عنهم إلا أن انقادوا إلى توجيه النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم وتكلموا بها وقرؤوها وقبلوها قبولاً تاماً جاء التخفيف من رب العالمين جاء الفرج من الله جل وعلا الذي قال: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ (12) ما يفعل الله بعذابكم أي بإلحاق المشقة بكم إن شكرتم وآمنتم جاء الفرج من الله جل وعلا لهذه الأمة ونزل في كتاب الله جل وعلا تزكيتها وبيان فضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله جل وعلا: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾ (13) فجاء التخفيف من رب العالمين بعد إثبات إيمانهم وقبولهم لما جاء عن الله وعن رسوله.
أيها الإخوة.. الشاهد من هذه القصة من هذا الحديث أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يتقبلون القرآن ويتلقونه على أنه شيء يتلى وتستنبط منه الأحكام ويعرف ما فيه من المعاني فقط بل قرؤوه رضي الله عنهم على أنهم هم المخاطبون هم المعنيون بما فيه من المعاني ولذلك شق عليهم فراجعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذي شق عليهم من هذا القرآن وهذا النبأ وهذه القصة ليست الفريدة وليست الوحيدة التي حفظتها كتب السنة في فعل الصحابة رضي الله عنهم عندما أنزل الله جل وعلا ما وجد الصحابة رضي الله عنهم فيه مشقة وفيه عسراً وصعوبة في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن الله جل وعلا لما أنزل قوله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (14) (15) هذه الآية فيها البشارة من الله جل وعلا لمن آمن وسلم من أن يخلط إيمانه بظلم فقوله تعالى ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ أي لم يخلطوه بظلم، ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ لهم الأمن في الدنيا والآخرة، وهم مهتدون أيضاً في الدنيا والآخرة لأن الهداية المسؤولة والمثبتة لأهل الإيمان ليست فقط في الدنيا بل الهداية في الدنيا والآخرة وهداية الآخرة أعظم من هداية الدنيا لكنها لا تكون إلا لمن اهتدى في الدنيا لأن هداية الآخرة بها النجاة من أهوال ذلك الموقف العظيم الذي تشيب فيه الولدان ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ (16) ذلك اليوم يحتاج به الإنسان إلى هداية يخرج بها من تلك الأهوال ينجو بها من تلك المزالق يجوز بها الصراط فإنه لو لم يهده الله جل وعلا إلى اجتياز الصراط لما اجتاز ولما تمكن من السلامة من صراط ورد في وصفه أنه أدق من الشعر وأحد من السيف.
أيها الإخوة.. صحابة رسول الله لما نزلت عليهم الآية أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد شق عليهم الأمر فقالوا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه يعني مَن منا ما وقع في الظلم؟ كلنا واقع في الظلم وهذه الآية لا يحصل فيها الأمن ولا الاهتداء إلا بالإيمان الذي لم يخلط فيه الإنسان إيمانه بظلم فشرط حصول الأمن والاهتداء أن لا يقع الإنسان في الظلم ففهم الصحابة أن هذا يشمل كل ظلم الدقيق والجليل الصغير والكبير الشرك فما دونه فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم فشكوا له أنه لا سلامة من الظلم بل كل إنسان ظالم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون" (17) وكما قال الله جل وعلا قبل ذلك: ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ (18) حيث حمل الأمانة وقد أعرض عن حملها السماوات والأرض والجبال ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ وهذا الوصف لا يختص بفرد من الناس ولا بجنس منهم بل هو لعموم الإنسان لعموم الناس فكلهم ظالم جهول لا يسلم الإنسان من هذين الوصفين إلا بالاهتداء بكتاب الله وبما جاءت به الرسل عن الله سبحانه وتعالى.
أيها الإخوة الكرام.. لما جاء الصحابة رضي الله عنهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكون ما في هذه الآية ويبينون مشقتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: ليس الذي تظنون.. أي ليس الظلم هو الذي ذهبتم إليه إنما هو قول الله جل وعلا في قول لقمان لابنه وهو يعظه: ﴿يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (19) (20) فالظلم الذي في الآية هو الشرك فهان الأمر على الصحابة رضي الله عنهم والشاهد أيها الإخوة أن الصحابة رضي الله عنهم لم يتلقوا القرآن تلقياً بارداً بل تلقوه للعمل وأخذوا به على أنهم هم المعنيون يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا سمعت الله جل وعلا في كتابه يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فأرعها سمعك يعني أصغ إليها وأعطها أذنك فهي إما خير تؤمر به أو شر تنهى عنه"، وهذا لكونهم أخذوا القرآن للتلقي والعمل وأن كل ما فيه خطاب لكل من سمعه خطاب لكل من بلغه وليس المخاطب فيه قوم مضوا ولم يبقَ لنا منه إلا أن نتعبد ونتقرب إلى الله جل وعلا بما فيه من الألفاظ وما فيه من الكلام الذي جرّد عن معناه ولم يقصد بما تضمنه.
إن الصحابة رضي الله عنهم ضربوا في هذا أمثلة رائعة وانقادوا لما في كتاب الله جل وعلا انقياداً تاماً: هذا أبو بكر رضي الله عنه تتهم إبنته عائشة بالزنى ويبرئها الله جل وعلا في سورة النور في قصة الإفك يبرئها الله سبحانه وتعالى ويتبين أن من جملة من رمى عائشة وتكلم فيها مسطح بن اثاثة وهو قريب لأبي بكر رضي الله عنه كان فقيراً كان أبو بكر يصله بالإعانة ثم لما تبين الأمر وتبين براءة عائشة رضي الله عنها حلف أن لا يصله شيئاً من عطاياه بعد أن فعل ما فعل فأنزل الله جل وعلا قوله سبحانه وتعالى ﴿أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ (21) فقال أبو بكر رضي الله عنه: بلى بلى. فانتهى أن يمتنع مما جرت به يده رضي الله عنه من الصدقة والإحسان على مسطح بسبب ما كان منه من إساءة لعائشة رضي الله عن الجميع.
أيها الإخوة الكرام.. إن الصحابة رضي الله عنهم تعاملوا مع القرآن تعاملاً ليس في جانب واحد ليس في جانب التلقي، فاقوا الأمة في جوانب عديدة من ذلك قراءتهم للقرآن فإن الصحابة رضي الله عنهم لازموا قراءة هذا القرآن كان أحدهم يلقى أخاه في الطريق فيقول: اجلس بنا نؤمن ساعة فيقرأ أحدهم على الآخر سورة العصر كانوا إذا اجتمعوا كما ثبت عنهم رضي الله عنهم كانوا إذا اجتمعوا جعلوا أحدهم يقرأ والبقية يستمعون للقرآن فالقرآن كان مخالطاً لحياتهم في قلوبهم في مجالسهم في تذكرتهم وموعظتهم فالقرآن دخل معهم في كل أمر وكانوا رضي الله عنهم مقترنين به مقبلين عليه مشتغلين به عن غيره فلذلك فاقوا غيرهم في الفقه فاقوا غيرهم في العمل فاقوا غيرهم في الجهاد فاقوا غيرهم فيما كتب الله على أيديهم من النصر كل هذا كان بسبب ما كانوا عليه من تعاهد القرآن والإقبال عليه والأخذ به والاستكثار منه.
إن الصحابة رضي الله عنهم كان أحدهم يقرأ القرآن في مجلسه يقرأ القرآن في صلاته ولا إشكال يقرأ القرآن في طريقه يقرأ القرآن في كل شأنه وقد كان عثمان رضي الله عنه ليلة مقتله تالياً لكتاب الله جل وعلا حتى أنه ذكر أن الذي قتله -عليه من الله ما يستحق-قتله وكان في يديه كتاب الله جل وعلا.
أيها الإخوة الكرام.. سار السلف الصالح التابعون ومن بعدهم على منوال أولئك في قراءة الكتاب الحكيم في الأخذ به رضي الله عنهم فهذا عثمان بن عفان يقول: قد رأيت من هو أعبد من حماد بن سلمة لكن ما رأيت أشد مواظبة على الخير وقراءة القرآن والعمل لله تعالى منه رضي الله عنه وقال آخر: ما رأيت أحسن انتزاعاً لما أراد من آي القرآن من أبي سهيل بن زياد وكان جارنا وكان يديم صلاة الليل والتلاوة فلكثرة درسه صار القرآن كأنه بين عينيه يعني في الاستشهاد والاستفادة مما في هذا القرآن من الأحكام يقول أيضاً آخر في وصف ما كان عليه مالك بن أنس إمام دار الهجرة: قيل لأخت مالك بن أنس: ما كان شغل مالك بن أنس في بيته بماذا يشتغل في بيته بماذا يعمل في بيته قالت: المصحف والتلاوة.
هذا شغل الإمام مالك رحمه الله في بيته المصحف والتلاوة والآثار في ذلك كثيرة ومن العجيب أن بعض السلف كان إذا اجتمع إليه أصحابه أوصاهم عند التفرق بأن لا يجتمعوا في سيرهم بل يمشي كل واحد منهم بمفرده قال لهم: إذا خرجتم من عندي فتفرقوا لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه ومتى اجتمعتم تحدثتم فانشغلتم عن القرآن.
هكذا كان السلف رحمهم الله في قراءتهم القرآن وإقبالهم عليه وحرصهم على تلاوته لكن هذه التلاوة لم تكن مجرد قراءة للألفاظ فإن الله سبحانه وتعالى أثنى على الذين يتلون الكتاب ثناءً حسناً في كتابه ولكنه أيضاً ذمّ قوماً يقرؤون الكتاب لكنهم لا يفقهون ما تضمنه الكتاب من التوجيه فقال الله جل وعلا في وصف طائفة من بني إسرائيل: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ ﴾ (22) يعني إلا قراءة ليس عندهم من معرفة كتاب الله ولا من نصيب من هذا الكتاب إلا مجرد التلاوة ليس عندهم فقه ولا معرفة ولا فهم للمعنى ولا تدبر ولذلك حث الله جل وعلا في كتابه على النظر في الآيات ومن جملة ذلك الآيات التي تضمنها الكتاب الحكيم قال الله جل وعلا: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (23) فهذا الكتاب أنزله الله جل وعلا ووصفه بأنه مبارك ثم بين الطريق الذي تحصل به بركة هذا الكتاب والطريق الذي تنال به خيرات هذا الكتاب فقال الله سبحانه وتعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ أي ليحصل لهم التدبر ولا سبيل لتحصيل بركة الكتاب إلا بهذا وقد أمر الله جل وعلا رسوله صلى الله عليه وسلم في أول البعثة أمره بقيام الليل فقال الله جل وعلا لرسوله: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً﴾ (24) أي ترسل في قراءته ورتل القرآن ترتيلاً ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾ (25) وهو القرآن فالقرآن قول ثقيل يحتاج إلى تهيئته ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً﴾ (26) أمره بقيام الليل وعلل ذلك بقوله: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً﴾ يعني يتفق فيها قول اللسان مع تدبر القلب ونظره وتأمله وتفكره ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً﴾ وناشئة الليل قيل في تفسيرها: أوقات الليل وقيل في التفسير أيضاً: عمل الليل وكلا القولين يؤيد ما استشهدنا به من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره الله عز وجل بما أمره ووجهه بأن يكون ذلك في الليل قياماً لكونه أدعى لمواطأة القلب اللسان بالتدبر وقد امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم توجيه الله جل وعلا وأمره ففي صحيح مسلم عن أبي حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: ((صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقرأ البقرة وآل عمران والنساء في ركعة)) (27) كل هذا من نبينا صلى الله عليه وسلم في ركعة في ليلة، وما هي صفة هذه القراءة هل هي قراءة الهذّ والنثر الذي لا يعقل له معنى ولا يعرف له مقصود؟ لا والله، يقول حذيفة رضي الله عنه في وصف قراءته صلى الله عليه وسلم: ((إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبح أو سؤال سأل أو تعوذ تعوذ)) (28) هكذا كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة تدبر ونظر وتفكر ليست قراءة هذّ كما قال ابن مسعود رضي الله عنه في وصف القراءة التي ينبغي أن يكون عليها المؤمن قال: "لا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هذّ الشعر قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب" هذا القرآن فيه من العجائب والأسرار ما لا ينفتح للذي يقرؤه قراءة عجلى قراءة لا تدبر فيها ولا نظر فإن الله جل وعلا يمنع من امتهن القرآن ولم يعطه حقه من أن يقف على أسراره وعجائبه السلف رحمهم الله من الصحابة ومن بعدهم كان أحدهم يجلس في تعلم سورة من القرآن سنين متطاولة، فابن عمر رضي الله عنه جلس في تعلم سورة البقرة ثمان سنين وقيل: جلس اثنتي عشرة سنة في تعلم سورة البقرة، وكانوا رضي الله عنهم كما قال أبو عبدالرحمن السلمي: "كان الذين يقرؤننا القرآن من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان وأبي بن كعب وغيرهم ممن كانوا يقرؤن التابعين يقولون: "كنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا نتجاوز العشر آيات حتى نعرف ما فيها من القرآن والعلم والعمل فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً" هكذا كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم ابن مسعود يقول: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن.
وروى مالك أن ابن عمر رضي الله عنه تعلم البقرة في اثنتي عشرة سنة فلما ختمها نحر جزوراً رضي الله عنه وطول هذه المدة ليست فقط لحفظ ذلك وضبطه من جهة اللفظ بل إن المظنون فيهم رضي الله عنهم أنهم أسرع حفظاً من المتأخرين لكنهم كانوا يتفقهون وينظرون إلى ما تضمنه هذا الوحي من الخير العظيم الذي حصل لهم الفقه فكلامهم رضي الله عنهم قليل لكنه كثير البركة لأنه نابع عن فقه ونظر دقيق أما كلام المتأخرين فهو كثير لكنه قليل البركة.
أيها الإخوة الكرام.. الصحابة رضي الله عنهم كان أحدهم يقيم الليل بآية واحدة وقد ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في حديث أبي ذر فإنه قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية يرددها حتى أصبح وهي قوله تعالى: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (29) (30) هذه الآية أقام النبي صلى الله عليه وسلم ليلة تامة في ترديدها وقراءتها، وورد ذلك عن جمع من الصحابة فعن تميم الداري رضي الله عنه أنه كرر قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ (31) ردد هذه الآية حتى أصبح، وورد ذلك أيضاً عن أسماء رضي الله عنها أنها قرأت قوله تعالى: ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ﴾ (32) فوقفت رضي الله عنها عندها فجعلت تعيدها وتدعو فطال عليّ ذلك هذا الراوي يقول: فطال عليّ ذلك فذهبت إلى السوق فقضيت حاجتي ثم رجعت وهي تعيدها وتدعو رضي الله عنها.
هذا التدبر للقرآن، فالتكرار في آيات القرآن ليس تكراراً لطلب الأجر بقراءة الأحرف إنما هو لطلب ما فيها من المعاني وطلب ما فيها من الخير وورد أن ابن مسعود رضي الله عنه ردد قوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ (33) وورد عن سعيد بن جبير رحمه الله أنه ردد قول الله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ (34) وورد ذلك عن جمع من التابعين والصحابة رضي الله عنهم.
والترديد للآية ليس أمراً مشروعاً في الفرائض لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولم ينقل عنه إنما هو في النوافل كما جاء ذلك في أثر حديث أبي ذر الذي رواه النسائي وغيره هذا الترداد للآيات هو من شواهد أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتدبرون القرآن لأن الترداد والتكرار لهذه الآيات إنما هو للنظر في معانيها، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يطيلون البكاء عند آيات الكتاب ولا عجب فقد رأوا ذلك من رسولهم صلى الله عليه وسلم وقبل ذلك فإن الله جل وعلا أثنى في كتابه على الأنبياء وعلى أولي العلم الذين يخرون للأذقان سجداً والذين يخرون للأذقان يبكون مما في هذا الكتاب من المواعظ قال الله جل وعلا في وصف جماعة من الأنبياء: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً﴾ (35) وانظر إلى قوله: ﴿خَرُّوا﴾ الذي يدل ويشعر بالمسارعة إلى السجود وأن السجود سجود ذل وخضوع وانكسار وتضرع ﴿خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً﴾ أيضاً أخبر الله جل وعلا عن قوم من أهل الكتاب فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ (36) فشواهد ثناء الله جل وعلا على الباكين عند تلاوة القرآن كثيرة وهي من الفضائل التي امتدح الله بها من امتدح من النبيين ومن أولي العلم وممن تعقلوا وتدبروا ما في هذا الكتاب من الحكم ولذلك كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم من أعظم الخلق نصيباً في ذلك ففي حديث عبدالله بن الشخير قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا -أي يصلي بالصحابة- وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء" (37) والأزيز هو الحركة والحنين الناتج عن التدبر والتأثر بالقرآن الحكيم وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث عبدالله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن مسعود: "اقرأ علي". فقال عبدالله رضي الله عنه: "أقرأ عليك وعليك أنزل؟" قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإني أحب أن أسمعه من غيري" يقول: فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا جئت قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً﴾ (38) قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمسك فإذا عيناه تذرفان بكاءاً من تأثره صلى الله عليه وسلم بما سمع)) (39).
وهذا أيها الإخوة ليس في هذين فقط بل في مواضع عديدة من هديه صلى الله عليه وسلم فإنه كان كثير البكاء لهذا القرآن وما تضمنه من الحكم وما تضمنه من العبر والآيات وقد سار على ذلك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبو بكر الصديق رضي الله عنه ابتنى بيتاً وهو بمكة ابتنى مسجداً بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فتتقصف عليه نساء المشركين أي تجتمع وأبناؤهم يتعجبون منه وينظرون إليه وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلاً بكّاءً لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن وهذا ليس خاصاً بأبي بكر رضي الله عنه بل إن عمر رضي الله عنه مع ما عرف به من الشدة والقوة كان رضي الله عنه بكّاءً، يقول من روى من أصحاب السير: إن عمر رضي الله عنه صلى بالجماعة الصبح فقرأ سورة يوسف فبكى حتى سالت دموعه على ترقوته.
وفي رواية كان في صلاة العشاء أي كان يقرأ ذلك في صلاة العشاء فهذا يدل على كثرة تكراره لهذه السورة وأنه رضي الله عنه كثير البكاء ويقول عبدالله ابن شداد بن الهاد قال: سمعت نشيج عمر بن الخطاب وأنا في آخر الصفوف في صلاة الصبح يقرأ في سورة يوسف: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ (40).
أيها الإخوة.. إن الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم في البكاء والتأثر بتلاوة القرآن عديدة وكثيرة لكن هنا وقفة مع حال السلف في التأثر والبكاء عند قراءة القرآن البكاء نوعان: نوع يأتي بلا طلب وبدون تكلف وهو ما يكون من تأثر طبيعي لا يطلبه الإنسان إنما هو ناتج عن تدبره وتأمله لما في هذه من الآيات من الترهيب أو الترغيب أو عظيم صنع الله جل وعلا أو عظيم وصفه وهذا لا شك أنه الذي كان عليه حال السلف رضي الله عنهم وهو دال على سلامة القلب ولينه وصحته وحياته النوع الثاني: وهو البكاء الذي يكون بطلب منه ما يكون بطلب ينظر فيه الإنسان ويحث نفسه على النظر في معاني الكتاب ليتأثر ومنه قول عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر لما رآهما يبكيان قال لهما رضي الله عنه: يا رسول الله أخبرني ما يبكيك وصاحبك فإن وجدت بكاءً بكيت معكما وإن لم أجد تباكيت وليس المقصود أنه يتكلف البكاء إنما يطلب أسباب البكاء التي من أجلها حصل البكاء للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعليه يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا)) (41) فهذا الحديث يدل على مشروعية التباكي لكنه التباكي الذي ليس فيه تكلف وليس فيه طلب رياء ولا سمعة إنما فيه طلب التأثر بالكتاب إذا كان القلب قد منعه مانع أو عرض وحال دون حصول البكاء منه حائل، فينبغي لنا أن نطهر قلوبنا وأن نطيبها ليحصل بها التأثر بالقرآن دون تكلف.
يتبع إن شاء الله...