تحري ليلة القـدر والعلامات والأمارات الدالة عليها...
أولا: من حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-
تـوجد أحاديث تـصف العلامات والأمارات التي تـدُل وتـُشير إلى أن ليلة ما من ليالي رمضان هي ليلة القـدر ومنها:
(1) حديث جابر بن عـبد الله -رضي الله عنهما- مرفـوعا وذكره الإمام ابن حجر في فـتح الباري (كتاب ليلة القـدر) وفـيه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ليلة القدر طـَـلقــَة بَـلجَـة لا حارة ولا باردة تـَـتـَضح كواكبُها ولا يَخرج شيطانها حتى يُضيىء فجرها".
(2) عَنْ عُـبَادَة بْن الصَّامِت -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ أَمَارَة لَيلَةِ القدْر أَنـَّهَا صَافيَة بَـلجَة كَأَنَّ فيهَا قـمَراً سَاطِعاً سَاكِنة سَاجيَة لا بَرْدَ فِيهَا ولا حَرَّ ولا يَحِلُ لِكَوكَبٍ أَن يُرمَى بهِ فـيهَا حَتـَّى تـُصْبـِـحَ، وإنَّ أَمَارَتـَهَا أَنَّ الشَّمْسَ صَبـِـيحَـتـَهَا تـَخرُجُ مُستـَويَةً ليسَ لـَهَا شُعَـاعٌ مِثـلَ القـمَر لـَيلـَة الـبَدْر ولا يَحِلُ لِلشَيطان أَنْ يَخرُجَ مَعَهَا يَومَئِـذ".
(3) عن زرِّ بن حُبَـيش عن أُبي بن كَعـب -رضي الله عنه- قَال: قال لنا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "صُبْحَة َ لـَيلَةِ القـدْر تـَطلـُعُ الشَمْسُ لا شُعَاعَ لـَهَا كَأَنـَهَا طـَسْـتٌ حَـتى تـَرتـَفِــعَ".
ثانيا: وقـت ظـُهور العلامات
من المُهم لنا أن نعـرف أكـثر الأوقـات التي تـكون فـيها العلامات واضحة جـداً، وقـد وجدت أن أفـضل وقـت لرؤية هذه العلامات والإحساس بها يكون بعـد أداء صلاة العِـشاء والتراويـح.
وقـد جعـل ابن خـُزيمة في صحيحه باباً بعـنوان: (المُدرك لصلاة العـشاء في جماعة ليلة القـدر يكون مُدركا ً لفـضيلة الليلة).
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن صلى العِـشاء في جماعة فقـد أخـذ َ بحَـظِـهِ من ليلة القـدر"، فالنجوم لا تـظهر جـيـدا ًفي السماء إلا بعـد اختـفاء الشفـق.
عن السائب بن يزيد -رضي الله عنه- أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تـَزالُ أمَّتِي عَـلى الفِطـرَةِ ما صَـلـَوا المَغـربَ قـبـلَ طـُلـُوع النـُجُوم".
ثالثا: علامات خاصة للمؤمنين فقـط
هذه العلامات يشعُـر بها مَن أحبه الله تعالى فـتـُسَلِم عليه الملآئكة وتـُصافِحُه، فـيرق (يليـن) قـَـلبُه وتـَدمَع عَـيناه ويشعُـر برَعـشة (قـشعَـريرَة) في جـسده، ويحـدُث ذلـك للمؤمن بدون أن يرى أي علامات كـَونية في السماء.
وبعـد انـتهاء اللـيلة يشعُـر مَن وَفـقـَهُ الله تعالى وأدرك هذه الليلة بالطمأ نـينة والسَـكِـينة وهـو ما نـُسميه راحة الـبال والسعـادة، ويشعُـر بتـغـَيُر مَـلموس في حياته إلى الأ فـضل، ويستجيـب الله دُعاء المؤمن بما فـيه الخير له والذي يعـلمه الله.
رابعا: علامات كـَونية للناس جميعاً
هذه العلامات هي التي دعـوت عُـلماء الفـلـك في العالم كله بأن يتأملوا ويتـفـكروا فـيها جـيدا ً، ليروا عَـظـمة خالـق هذا الكون.
إن ما يحـدُث في ليلة القـدر هو بالفعـل مهرجان واحتـفال كـَوني مُشترك بين مخلوقات الله في السماء ومخلوقات الله في الأرض جميعا، ولا يحدُث إلا مرة واحدة كل عام.
وتـنقـسم العلامات الكـَونية حـسب وقـت ظـُهورها لنا إلى:
( 1 ) علامات قـبل طـُلوع الفجر:
وهي التي نستـَدل بها على أن هذه اللـيلة هي ليلة القـدر.
يُمكن القول بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والذي أوتِي جَوامع الكَـلِم لـَخـَصَ أمارات ليلة القـدر في ثلاث كلمات فقـط وهي: (ليلة القـدر بَـلجـَة وطـَـلقـَة وسَاكِـنة).
فرغـم كـَون لـيلة القـدر في لـيالي الأسبـوع الأخـير من رمضان والتي يكون فـيها القـمر إما مُختـفـيا ً كما في ليلة 29 أو إنارة القمر قـليلة كما في ليالي 24، 25، 27، إلا إنـنا نجـد كمـية الإنارة في ليـلة القـدر أكـبر من المُعـتاد، مصداقـاً لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كأن فـيها قـمراً ساطعاً) ونري ذلـك بوضوح في الأماكن التي تعـتمد فقـط على نور القـمر بعـيداً عـن مصابـيـح أعـمدة الكهرباء في الشوارع.
وقـد يختـلـف إنسان عـن آخر في تـقـديـر نسبة الإضاءة كما في المُدن الكـُبرى، ولذلك جعـل الله علامة أخرى ظاهرة لكل إنسان في أي مكان وهي قـوله: (تـَـتـَضح كواكِـبُها)، وبالفعـل تـظهر أعـداد كثـيرة جـداً لا حصر لها من الكواكب في ليلة القـدر لم نكـُن نـُشاهدها في أي ليلة أخرى.
بـل الأعـجـب من ذلـك -والله على ما أقـول شهـيد- أنه مع النـظر لفترة في السماء ستـجد إن شاء الله تعالى أنواراً مثـل المصابـيـح تـتحرك أمام عـينـيك في لحـظـات مُعـينة.
فقـد شاهـد معي الجـيران والأصدقاء هـذه الأنوار تـتحرك حركة غـريـبة وعـجيـبة شبهَـها بعـض الحاضرين بأنها تـتحرك كالنحلة لأن الحركة لم تـكن في مسار مُحـدد وثابت مثـل أي طائرة عابرة.
ونـُشاهـد السُحب في هذه اللـيلة كأنها (مُضاءة) وذلـك بالمُقـارنة بالـليالي الأخرى قـبلها أو بعـدها، فقـد قال بعـض مَنْ شاهدها: كأن السُّحـب بها لمبات فـلورسنت بـيضاء.
وقال ابن حجر: اختـلفوا هـل لها علامة تـظهر لمَن وفـِقـَت له أم لا، فـقيـل: يرى كل شيءٍ ساجداً، وقـيل الأنوار في كل مكان ساطعة حتى في المواضع المُـظـلمة.
ومن العـباد مَن يـرى نـوراً (كالـبَرق الخاطـف) وطلاقة اليـوم والليلة تعـني اعـتـدال المناخ والطـَقـس، ووصفها أيضاً -صلى الله عليه وسلم- بأنها: (صافـية)، أي لا عـواصف رَعـدية أو تـُرابـية أو رملـية، حتى لا يمنعـنا ذلك من رؤية مُعجزات الله الكـونيـة والتي تحدُث في ليلة القـدر.
ووصفها -صلى الله عليه وسلم- بأنها: (لا حارة ولا باردة) أي مُعـتـَدَلة المَـناخ، ووصفها -صلى الله عليه وسلم- بأنها (ساكنة) أي لا تـوجد أصوات للعَـواصف.
وإذا كانت طلا قـة الوجه تعـني الفـَرح والسُرور فـيكـفي أن تـَنظـُر بـبصرك إلى السماء لتراها كأنها في فـَرح وعـرس.
والدليل عـلى وجود هذا الفـَرَح هو كـثرة المصابـيح والزينة في السماء (أي النجوم) كما في قول الله تعالى: "وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ" المُلك: 5.
"إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ" الصَّافات: 6.
وبالفعـل نجد في السماء أعداداً كثيرة من المصابـيح كما نفعـل نحن الآن في أفـراحنا واحـتـفالاتـنا بتعـليـق المصابـيـح للزيـنة.
حـدث ذلك بالفعـل وذكـر ذلـك مؤلـف كتاب شرح الصدر بفـضائل ليلة القـدر وقـد وصفها -صلى الله عليه وسلم- بأنها سَاجية، وفي مُعجم لسان العـرب ليلة ساجية: "إذا كانت ساكِنـَة البردِ والرِّيح والسَّحاب غـير مُظـلِـمَة".
وهذا وصف في مُـنتهى الدِقـة لما يحدُث في ليلة القـدر، فجمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كـل ذلـك في كلمة واحدة (سَاجـية).
وليلة القـدر هي ليلة ساكـنة هادئة فلا عَـواصف فـيها ولا أصوات مُـزعـِجة حيث تسكـُن الريـح بأمر الله كما في قـوله تعالى: "إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ" الشورى: 33.
وهذا فـيه من الإعجاز الكثـير حيث تأتي ليلة القـدر في كل فـُصول السنة بما فـيه فـصل الشتاء ذو الرياح العاتـية أو تأتي في موسم رياح الخماسين بمصر أو موسم العـواصف الرملية بالسعـودية.
ولكنـنا سنجـد إن شاء الله ليلة القـدر ساكنة وهادئة في كـل هـذه الأوقـات، ولكن قـد نشعُـر بريـح طيـبة لها رائحة عـطرة.
وإذا بحثـنا معاً في سبب أي ضـَوضاء أو إزعاج سنجـد أن أصله الشيـطان وأولـياء هـذا الشيطان وأعـوانـُه.
وليلة القـدر هي الليلة الوحـيدة في العام كـُله التي لا يخرُج فـيها الشيطـان نهائـياً، سواء كان شيطـان مارد أو شيطان غـير مارد وذلـك بقــُدرة الله تعالى كما في قـوله -صلى الله عليه وسلم-: "ولا يخرُج شيطانـُها حتى يـُضِيء فجرُها".
وبذلـك لا نري أي شِـهاب في ليلة القـدر ولا في الصباح التالي لها والذي يـُرجَم به أي شيـطان يُحاول التـَصنـُت كما في قـوله -صلى الله عليه وسلم-: "ولا يَحِل لكـوكب أن يُرمَى بهِ فـيها حتى تـُصبـح"، "ولا يَحِـل للشيطان أن يَخرُج معـها يومئـذٍ".
فـمن الإعجاز عـدم حدوث شُهـب حتى لو جاءت ليلة القـدر في التوقـيتات المُحددة للزخات الشهابـية.
وعن ابن مسعـود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الشمس تطلع كل يوم بـين قـَرني شَيطان إلا صَبـيحَة ليلة القـدر".
وبالفعـل لا يُمكن أن يوجد أي شيـطان أثـناء صُعـود الملآئكة إلى السماء تماماً مثـل أثـناء نـُزولهم منها.
حتى الملآئكة نفـسها لا تـتواجـد في مكان يوجد به شياطيـن، أي لا تجـتمع الملآئكة والشياطيـن معاً في مكان واحد.
ولذلك يُـقال:
(إذا حضرت الملآئكة هـربت الشياطين).
وقـد ذكر النووي في شرحه لصحيح مسلم قول القاضي عـياض:
أن الشياطيـن في شهـر رمضان تـُـقــَيَـد حركـتـهم وعـملهم ويُمنعـوا مـن إيذاء المؤمنين فقـط دون غـيرهم، أما في ليلة القدر فـقـط فـممنوع خـُروج كـُل الشياطين لكـل الناس، وقـول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أن الشيطان لا يخرُج في ليلة القـدر" دليـل عـلى خـُروجه في الليالي الأخرى من شهر رمضان لغـير المُسلميـن.
وأقول: إن هذا الكلام يؤيده قوله -صلى الله عليه وسلم- عـن فـضل شهـر رمضان: "تـُغـل فـيه، ويُصَـفـَد فـيه مَردة الشياطيـن".
بمعنى أنه في كل رمضان يتم تـقيـيد ومنع المارد والشديد الطـُغـيان من الشياطين أما في ليلة القـدر فـيُمنع الجميـع.
أما شياطـيـن الإنس فهم لا يَكـُفـوا الأذى عـن كل الناس في كل وقت وحين وهُم السبب في حُدوث أي نِـزاع أو إيذاء في ليلة القدر وإذا أردنا الإحساس بالسُـكون والهُـدوء في ليلة القـدر فلابُـد أن نذهـب بعـيـداً عـن ضَوضاء المُدن والسيارات.
وسُبحان الله كما يرى الديك الملآئِكة عـند حُضورهم لصلاة الصُبح فإن الحمير والكلاب يَـرون شـياطـين الجـن، وبما أن الشيـطان لا يخرُج في ليلة القـدر فـبالتـالي لن يَـراه كل من الحِمار والكلب، فلا نسمع أصواتـُهم المُزعِـجة إلا عـند الاعـتداء عـليهم.
فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هُريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا سَمِعْـتـُمْ صِيَاحَ الدِيَـكـَةِ فاسْأَلوا الله مِنْ فـَضلِـهِ فإنـَّهَا رَأَتْ مَـلـَـكاً، وَإذا سَمِعْـتـُمْ نـَهـِـيـقَ الحِمَار فـتـَعَـوَذوا بالله مِن الشَيطان فإنـَّهُ رَأَى شَـيـطاناً.. وزاد أبو داود بعـد نهـيـق الحمار قـوله -صلى الله عليه وسلم-: "ونِـباح الكلب".
( 2 ) علامات بعـد طلوع الفجر:
هذه العلامات تـكون بعـد انتهاء وانقضاء ليلة القدر والتي تـكون سالمة من الرياح الشديدة (العـواصف)، وهي سالمة أيضاً من الشياطيـن حتى مطلـَع الفجر، ولكن بقــُدرة الله تعالى يمتـد أيضاً منع الشيطان من الخـُروج حتى تـُشرق الشمس في الصباح التالي.
ومن أهم علامات ليلة القـدر بعد طـُلوع الفجر هو اختلاف شكل الشمس عن المُعـتاد يومياً.
فـيحدُث للشمس الآتي:
(أ) تـُشرق الشمس ضعـيفة بـيضاء كالقـمر ليلة البدر.
فالشمس تـتحول سريعاً وفي أقـل من دقـيقة للون الأبيض فـيُمكن النـَظـَر إليها مُباشرةً وبدون ضرر للعـين.
(ب) تـُشرق الشمس بدون أشعـة حولها.
أي إننا لا نرى تـلـك الخيـوط (الأ شعة) التي تخرُج منها مثـل أي يـوم أخر، وقـد فـسر القـاضي عـياض سبـب حُـدوث ذلـك وذكره الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم بقـوله: إن ذلك يحدُث نـتيجة صُعـود جـبريـل –عليه السلام- والملآئكة معه من بعـد صلاة الفجر فـيُغـطي بأجنحـته مَـشرق الشمس فـتـُـشرق الشمس حينـئذ ضعـيفة وليس لها شـُعاع.
(ج) تـُشرق الشمس كَأَنـَهَا طـَسْـتٌ حَـتى تـَرتـَفِــعَ.
هـذا وصف في مُـنـتهى الدِقـة لشكـل الشمس يـوضح إعجازه -صلى الله عليه وسلم-، فالطـَست سبـق شرحه هـنا، وعـندما نـُطيل النظر للشمس ونـُدقـق في شكلها جيداً سنجد أنها تـتـكون من دائرة داخلية كأنها زجاج مسنـفـر أو شبكة أو مصفاة تحجـُب ضوء الشمس خلفها، ثم حول هـذه الدائرة طـبـقة مُستـديـرة لامعة مُـتلألئة جداً كحافـة الطـَست اللامعة فلا نملـُك حينـئـذ إلا أن نقـول: صدق الله ورسوله.