إلى كل من لا يسـتطيعُ الاعتكاف:
بهذا العمل تدرك المعتكفين بإذن الله
الحمد لله الذي شرع لنا من الدين ما يرضاهُ ويحبه وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه والتابعين.
وبعد:
فإنَّ مما امتازت به شريعتنا الغراءُ وظهر فيه بجلاءٍ كرمُ الله ولطفهُ وتيسيره أن رتَّـبَ أجوراً عظيمةً جداً على أعمالٍ يسيرةٍ لا يكادُ يلقي لها أعظمُـنا بالاً لدقتها في عينيه وهي قد تكونُ في الميزان أعظم من الهمَـلايا والسروات, لو كنَّـا نعقلُ ونعلمُ.
وفي هذه العشر الأخيرة المباركة قد تتمزقُ قلوبُ بعضِ الصالحين أسفاً على فوات العمل بسنة الاعتكاف النبوية وذلك لانشغالهم بأعمالٍ يقتاتون منها وينفقون بها على عيالهم ويمتنعون بها عن مذلة السؤال, أو لقيامهم على مريضٍ من أبوين أو إخوة أو ذي مقربة, أو لارتباطهم بأسفار ملحةٍ لا طاقة لتأجيلها, أو لأي عذرٍ يعيقُ المؤمن الشغوفَ بهذه السنة عن أدائها لله كما يحب.
ولذلك أحببتُ التنبيه والإشـارة إلى عملٍ جدِّ يسيرٍ على من يَسَّرهُ اللهُ عليه ولكنَّ ثوابهُ عظيمٌ جداً يعدلُ الاعتكاف ثلاثين يوما بلياليهنَّ في مسجد رسول الله الذي تضاعفُ الصلاةُ الواحدةُ فيه لألف صلاة فيما سواهُ, والمعنى أنَّ هذا العملَ يعدلُ الصلاة لمائةٍ وخمسين ألف فريضة غير الاشتغال بين الصلوات بالذكر والتلاوة والدعاء..!
فما هو هذا العمل المُـرتَّـبُ عليه هذا الأجرُ العظيمُ عند الله تعالى؟
قال في الحديثِ الحسنِ الذي رواهُ الطبرانيُّ وابنُ أبي الدُّنيا وغيرهُما أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ, وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ, أَوْ تَكَشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً, أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا, أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا, وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخِ فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ شَهْرًا, وَمَنَ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ, وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ, وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يَتَهَيَّأَ لَهُ أَثْبَتَ اللَّهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامِ ويقولُ فيما صحح إسنادهُ الحاكمُ من مشى في حاجة أخيه كان خيرًا من اعتكاف عشر سنين.
الحاجةُ المُشارُ إليها من الألـفاظ ذات الدلالات الواسعة جداً في شريعة الإسلام فهي تتسعُ لخصف النعل وحمل المتاع وبناء البيوت وحمل الأثقال واستدفاع الظلم والشهادة بالحق وغير ذلك مما لا يمكنُ حصره من حوائج النَّـاس, ولذا جاء عن عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان معتكفاً في المسجد ذات يوم فدخل رجلٌ وعلى وجهه علامات الهم والغم فقال له ابن عباس: ما لك يا ابن أخي؟ فقال: إن على ديناً وقد حل أجله وليس عندي سداده. فقال ابن عباس: أتريد أن أكلم لك صاحب الدين أن ينظرك إلى ميسرة. قال: نعم. فأمسك بيده يمشيان في المسجد حتى إذا وصلا إلى الباب قال الرجل: يا ابن عباس أنسيت أنك معتكف وأن المعتكف لا يخرج من المسجد. قال: كلا ما نسيت ولكني سمعت رسول الله يقول لأن أمشي في حاجة أخي حتى أثبتها أحب إلى من أن أعتكف في المسجد شهراً.
هذا العملُ تنطوي تحته عدةُ شعبٍ من شعب الإيمان لو نواها الإنستانُ لحصل بها خيراً كثيراً ومنها:
اتباعُ السنة
المخالقةُ بالخلقِ الحسن
تفريج الكرَب
محبةُ المرء للغير ما يحبه لنفسه
التصدق على صاحب الحاجة بلإعانة عليها وقضائها
إلى غير ذلك مما توسعه النيةُ وتعظمُ أجره , فاللهم لا تحرمنا فضلك.
حدثني أحدُ العامة أن وقود سيارته نفد عليه ذات يومٍ في حر الظهيرة بالمدينة المنورة ووقف لهُ رجلٌ طلقُ المُحيَّا وبهيُّ الطلعة فحملهُ بسيارته إلى المحطة وكان الرجل على طريق الهجرة على حدود المدينة, ثم نزل صاحبُ السيارة وحلف عليه أن لا يدفع ريالاً للمحطة, وملأ له الجالون بالوقود ثم اتجهوا للسيارة حتى اشتغلت ثم أعطاهُ ما يملأها به وقوداً.
فاكتشف من بعدُ أن صاحب هذه المكرمة هو الشيخ الدكتور/ محمد بن محمد المختار الشنقيطي عضو هيئة كبار العلماء حفظه الله.