الوحدة:
والوصف الرابع: الوحدة. فالأمة التي يريدها الإسلام أمة واحدة، وإن تكونت من عروق وألوان وطبقات، فقد صهرها الإسلام جميعا في بوتقته، وأذاب الفوارق بينها، وربطها بالعروة الوثقى لا انفصام لها.
يقول تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون).
ويقول سبحانه: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون).
وكيف لا تكون هذه الأمة واحدة، وقد وحد الله عقيدتها وشريعتها، وحد غايتها، ووحد منهاجها، كما قال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله).
أمة ربها واحد هو الله، ونبيها واحد هو محمد صلى الله عليه وسلم، وكتابها واحد هو القرآن، وقبلتها واحدة هي الكعبة البيت الحرام، وشريعتها واحدة هي شريعة الإسلام، ووطنها واحد هو "دار الإسلام" على اتساعها، وقيادتها واحدة تتمثل في "خليفة المسلمين" وأمير المؤمنين، الذي يجسم الوحدة السياسية للأمة.
ولهذا رفض الإسلام أن يكون للمسلمين خليفتان في وقت واحد، حرصا على وحدة الأمة، ومنعا لتفرق كلمتها، وشتات أمرها.
ولهذا لا يجوز أن نقول في تعبيرنا:
الأمم الإسلامية، بل الأمة الإسلامية فهي أمة واحدة كما أمر الله، وليست أمما متفرقة، كما أراد الاستعمار.
يقول الله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا).
ويقول: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وأولئك لهم عذاب عظيم).
ولقد نبه القرآن على دسائس بعض أهل الكتاب الذين يسعون جهدهم لتمزيق شمل المسلمين، وإثارة النعرات العصبية بينهم، قال تعالى محذرا: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين).
وسبب نزول الآية الكريمة وما بعدها يدل على أن المقصود: يردوكم بعد وحدتكم متفرقين، وبعد أخوتكم متعادين.
إن وحدة الأمة توجب عليها أن تجعل أخوتها الإسلامية فوق كل العصبيات، فقد جعلها الله تعالى معبرة عن الإيمان ومجسدة له: (إنما المؤمنون إخوة).
وقال رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم:
"المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" أي لا يخذله عند الشدة أو عند الاعتداء عليه، بل ينصره ويسانده، وهذا هو مقتضى الأخوة. وهو ما يؤكده الحديث الآخر: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم"k ويحذر الإسلام أبلغ التحذير من تعادي أبناء الأمة الواحدة إلى حد أن يحارب بعضها بعضا، كما كانت تفعل القبائل الجاهلية. يقول صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"، "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر".
الإيمان بالأمة لا ينفي خصوصيات الأقوام:
ومن المفيد هنا أن ننبه على قضية ذات شأن، وهي: أن الإيمان بـ "الأمة" المؤسسة على عقيدة الإسلام، وأخوة الإيمان، والتي تضم جميع المسلمين في رحابها حيث كانوا ـ لا ينفي أن هناك خصوصيات معينة لكل قوم، يعتزون بها، ويحافظون عليها، ولا يفرطون فيها، ولا مانع من ذلك إذا لم تتحول إلى عصبية عرقية تقاوم أخوة الإسلام، أو إلى نزعة أنانية انفصالية تهدد وحدة دولة الإسلام.
ولقد ترك الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده القبائل تقاتل تحت راياتها، تحت القيادة الإسلامية العامة، ليكون ذلك مصدرا إضافيا لحماسهم وإقدامهم، حتى لا يجلبوا العار على أقوامهم وعشائرهم.
إن حب الرجل لقومه وعشيرته ورغبته في جلب الخير لهم، ودفع الشر عنهم، نزعة فطرية لا غبار عليها، ولا خطر فيها. كما لا خطر في حبه لأسرته، واهتمامه بها، ولا غرو أن أمر الرسول بتعلم الأنساب لما وراءها من تواصل في الأرحام وإن تباعدت: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم".
وفي الحديث: "خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم".
إن الخطر إنما يتمثل فيما إذا وقف قومه موقفا معاديا للإسلام، وحادوا الله ورسوله، هنا تحرم الموادة والموالاة، ولو كانت لأقرب الناس للإنسان، كأمه وأبيه وزوجه وأخيه.
يقول تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم).
ويقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان، ومن يتولهم منكم أولئك هم الظالمون، قل إن كان أباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين).
لا بأس أن يحب الرجل أسرته، ويحب قومه وعشيرته، ولكن إذا تعارض ذلك مع حب الله ورسوله، فإن حب الله ورسوله أغلى من كل شيء، هنا يتغنى المسلم بقول القائل: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم!
هنا يقول المسلم ما قاله سلمان رضي الله عنه حين سئل: ابن من أنت؟ فقال: أنا ابن الإسلام!
القومية:
ولقد كان هذا المعنى واضحاً، فلم يرفض فكرة "القومية" رفضاً كلياً، ولم يقبلها قبولاً مطلقاً، بل فصل فيها كما فصل في "الوطنية" قال: "إن كان الذين يعتزون بمبدأ "القومية" يقصدون به أن الأخلاف يجب أن ينهجوا نهج الأسلاف في مراقي المجد والعظمة ومدارك النبوغ والهمة وأن تكون لهم بهم في ذلك قدوة حسنة، وأن عظمة الأب مما يعتز به الابن ويجد لها الحماس والأريحية بدافع الصلة والوراثة، فهو مقصد حسن جميل نشجعه ونأخذ به، وهل عدتنا في إيقاظ همة الحاضرين إلا أن نحدوهم بأمجاد الماضين؟ ولعل الإشارة إلى هذا في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الناس بأمجاد خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" فها أنت ذا ترى أن الإسلام لا يمنع من القومية بهذا المعنى الفاضل النبيل.
وإذا قصد بالقومية أن عشيرة الرجل وأمته أولى الناس بخيره وبره وأحقهم بإحسانه وجهاده فهو حق كذلك، ومن ذا الذي لا يرى أولى الناس بجهوده قومه الذين نشأ فيهم ونما بينهم؟
لعمري لرهط المرء خير بقية عليه وإن عالوا به كل مركب
وإذا قصد بالقومية أننا جميعا مبتلون مطالبون بالعمل والجهاد، فعلى كل جماعة أن تحقق الغاية من جهتها حتى تلتقي إن شاء الله في ساحة النصر فنعم التقسيم هذا، ومن لنا بمن يحدو الأمم الشرقية كتائب كل في ميدانها حتى نلتقي جميعا في بحبوحة الحرية والخلاص؟
كل هذا وأشباهه في معنى القومية جميل معجب لا يأباه الإسلام، وهو مقياسنا، بل ينفسح صدرنا له ونحض عليه.
أما أن يراد بالقومية إحياء عادات جاهلية درست، وإقامة ذكريات بائدة خلت وتعفية حضارة نافعة استقرت، والتحلل من عقدة الإسلام ورباطه بدعوى القومية والاعتزاز بالجنس، كما فعلت بعض الدول في المغالاة بتحطيم مظاهر الإسلام والعروبة، حتى الأسماء وحروف الكتابة وألفاظ اللغة، وإحياء ما اندرس من عادات جاهلية، فذلك في القومية معنى ذميم وخيم العاقبة وسيئ المغبة، يؤدي بالشرق إلى خسارة فادحة يضيع معها تراثه وتنحط بها منزلته ويفقد أخص مميزاته وأقدس مظاهر شرقه ونبله، ولا يضر ذلك دين الله شيئا: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم).
وأما أن يراد بالقومية الاعتزاز بالجنس إلى درجة تؤدي إلى انتقاص الأجناس الأخرى والعدوان عليها والتضحية بها في سبيل عزة أمة وبقائها، كما تنادي بذلك ألمانيا وإيطاليا مثلا، بل كما تدعي كل أمة تنادي بأنها فوق الجميع.فهذا معنى ذميم كذلك ليس من الإنسانية في شيء، ومعناه أن يتناحر الجنس البشري في سبيل وهم من الأوهام لا حقيقة له ولا خير فيه.
فالمسلمون لا يؤمنون بالقومية بهذه المعاني ولا بأشباهها ولا يقولون فرعونية وعربية وفينيقية وسورية ولا شيئا من هذه الألقاب والأسماء التي يتنابز بها الناس، ولكنهم يؤمنون بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنسان الكامل بل أكمل معلم علم الإنسان الخير: "إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى". ما أروع هذا وأجمله وأعدله، الناس لآدم فهم في ذلك أكفاء، والناس يتفاضلون بالأعمال فواجبهم التنافس في الخير، دعامتان قويمتان لو بنيت عليهما الإنسانية لارتفعت بالبشر إلى علياء السموات، الناس لآدم فهم إخوان فعليهم أن يتعاونوا وأن يسالم بعضهم بعضا، ويرحم بعضهم بعضا، ويدل بعضهم بعضا على الخير، والتفاضل بالأعمال. فعليهم أن يجتهدوا كل من ناحيته حتى ترقى الإنسانية، فهل رأيت سموا بالإنسانية أعلى من هذا السمو أو تربية أفضل من هذه التربية؟
خواص العروبة:
ثم يقول الأستاذ رحمه الله: "ولسنا مع هذا ننكر خواص الأمم ومميزاتها الخلقية، فنحن نعلم أن لكل شعب مميزاته وقسطه من الفضيلة والخلق، ونعلم أن الشعوب في هذا تتفاوت وتتفاضل، ونعتقد أن العروبة لها من ذلك النصيب الأوفى والأوفر، ولكن ليس معنى هذا أن تتخذ الشعوب هذه المزايا ذريعة إلى العدوان، بل عليها أن تتخذ ذلك وسيلة إلى تحقيق المهمة السابقة التي كلفها كل شعب، تلك هي النهوض بالإنسانية، ولعلك لست واجدا في التاريخ من أدرك هذا المعنى من شعوب الأرض كما أدركته تلك الكتيبة العربية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وبهذا لم ير الإمام أن يقيم تعارضا لا ضرورة له بين العروبة والإسلام.
بناء الدولة الصالحة:
وكما حرص الإسلام على إنشاء الأمة الصالحة المصلحة، ذات الرسالة الربانية الإنسانية الأخلاقية العالمية، هدف كذلك إلى أن تحكم هذه الأمة دولة صالحة، تحقق أهدافها، وتنمي خصائصها، وتحافظ على رسالتها، وتعمل على غرسها في الداخل، ونشرها في الخارج.
ولقد استطاع الاستعمار الذي حكم أكثر بلاد المسلمين ـ أن يغرس في الكثيرين منهم فكرة دخيلة، مؤداها أن الإسلام دين لا دولة. "دين" بالمفهوم الغربي لكلمة "الدين" أما شئون الدولة فلا صلة له بها. وإنما ينظمها العقل الإنساني وفقا لتجاربه وظروفه المتطورة!
لقد أرادوا أن يطبقوا على الإسلام في الشرق، ما طبق على المسيحية في الغرب. فكما أن النهضة هناك لم تتم إلا بعد التحرر من سلطان الدين، فكذلك يجب أن تقوم النهضة في شرقنا العربي الإسلامي على أنقاض الدين!
مع أن الدين هناك معناه الكنيسة وسلطة البابا، واستبداد رجال الكهنوت بالضمائر والأرواح. فأين هذا من الدين هنا، وليس فيه بابا ولا كهنوت ولا استبداد بالضمائر والأرواح؟!
على كل حال، لقد نجح الاستعمار في خلق فئات تؤمن أن الدين لا مكان له في توجيه الدولة وتنظيمها، وأن الدين شيء والسياسة شيء آخر، وأن هذا يجري على الإسلام، كما جرى على المسيحية. وكان من الشعارات المضللة التي شاعت أن "الدين لله والوطن للجميع"! وهي كلمة حق يراد بها باطل، ويمكن أن تقلب على كل الوجوه. فنستطيع أن نقول: إن الدين لله والوطن لله، أو: الدين للجميع والوطن للجميع، أو: الدين للجميع والوطن لله!
وإنما مرادهم بكلمة "الدين لله" أن الدين مجرد علاقة بين ضمير الإنسان وربه، ولا مكان له في نظام الحياة والمجتمع.
وكان أبرز مثل عملي لذلك هو "الدولة العلمانية" التي أقامها كمال أتاتورك في تركيا، وفرضها بالحديد والنار والدم على مجموع الشعب التركي المسلم، بعد تحطيم الخلافة العثمانية آخر حصن سياسي بقي للإسلام بعد صراع القرون، مع الصليبية واليهودية العالمية.
وقد أخذت الحكومات في البلاد الإسلامية الأخرى تقلد تركيا الجديدة على درجات متفاوتة، فأقصى الإسلام عن الحكم والتشريع في الأمور الجنائية والمدنية ونحوها، وبقي محصورا فيما سمي "الأحوال الشخصية" كما أقصى عن التوجيه والتأثير في الحياة الثقافية والتربوية والاجتماعية إلا في حدود ضئيلة. وفسح المجال كل المجال للتوجيه الغربي والثقافة الغربية والتقاليد الغربية.
وكان من أبرز المظاهر لنجاح الغزو الثقافي الغربي أن "الفكر العلماني" الدخيل الذي ينادي بفصل الدين عن الدولة، لم يقف عند الرجال "المدنيين" وحدهم، بل تعداهم إلى بعض الذين درسوا دراسة دينية في معهد إسلامي عريق كالأزهر، كما تجلى ذلك في كتاب الشيخ على عبد الرزاق "الإسلام وأصول الحكم".
ومن الإنصاف أن نقول:
إن هذا الكتاب قد أحدث ضجة هائلة حين صدوره، في المجتمع عامة، وفي الأزهر خاصة، وقد شكلت هيئة من كبار علماء الأزهر لمحاكمة مؤلفه، فقضت بتجريده من شهادة العالمية، وإخراجه من زمرة العلماء، كما رد عليه كثير من العلماء والمفكرين أزهريين وغير أزهريين.
كان لا بد إذن من تأكيد الوقوف في وجه العلمانية ودعاتها ومبرريها، بتأكيد شمول الإسلام، وإبراز هذا الجانب الحي من أحكامه وتعاليمه: جانب الدولة، وتنظيمها وتوجيهها بأحكامه وآدابه، وإعلان أن ذلك جزء لا يتجزأ من نظام الإسلام.
الدليل من نصوص الإسلام:
ولم يكن هذا ابتكارا من الحركة الإسلامية ومؤسسها ودعاتها. بل هو ما تنطق به نصوص الإسلام القاطعة، ووقائع تاريخه الثابتة، وطبيعة دعوته الشاملة.
أما نصوص الإسلام فحسبنا منها آيتان من سورة النساء: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به، إن الله كان سميعا بصيرا، يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول).
فالخطاب في الآية للولاة والحكام:
أن يرعوا الأمانات ويحكموا بالعدل، فإن إضاعة الأمانة والعدل نذير بهلاك الأمة وخراب الديار، ففي الصحيح: "إذا ضيعت الأمانة فانتظروا الساعة". قيل: وكيف إضاعتها؟ قال: "إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة".
والخطاب في الآية الثانية للرعية المؤمنين:
أن يطيعوا "أولى الأمر" بشرط أن يكونوا "منهم" وجعل هذه الطاعة بعد طاعة الله وطاعة الرسول، وأمر عند التنازع برد الخلاف إلى الله ورسوله، أي إلى الكتاب والسنة، وهذا يفترض أن يكون للمسلمين دولة تهيمن وتطاع، وإلا لكان هذا الأمر عبثا.
وفي ضوء الآيتين المذكورتين ألف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه المعروف "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية" والكتاب كله مبني على الآيتين الكريمتين.
وإذا ذهبنا إلى السنة، رأينا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية". ولا ريب أن من المحرم على المسلم أن يبايع أي حاكم لا يلتزم بالإسلام. فالبيعة التي تنجيه من الإثم أن يبايع من يحكم بما أنزل الله… فإذا لم يوجد ذلك فالمسلمون آثمون حتى يتحقق الحكم الإسلامي، وتتحقق به البيعة المطلوبة. ولا ينجي المسلم من هذا الإثم إلا أمران: الإنكار ـ ولو بالقلب ـ على هذا الوضع المنحرف المخالف لشريعة الإسلام..
والسعي الدائب لاستئناف حياة إسلامية قويمة، يوجهها حكم إسلامي صحيح.
وجاءت عشرات الأحاديث الصحيحة عن الخلافة والإمارة والقضاء والأئمة وصفاتهم وحقوقهم من الموالاة والمعاونة على البر، والنصيحة لهم وطاعتهم في المنشط والمكره، والصبر عليهم، وحدود هذه الطاقة وهذا الصبر، وتحديد واجباتهم من إقامة حدود الله ورعاية حقوق الناس، ومشاورة أهل الرأي، وتولية الأقوياء الأمناء، واتخاذ البطانة الصالحة، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. إلى غير ذلك من أمور الدولة وشئون الحكم والإدارة والسياسة.
ولهذا رأينا شئون الأمة والخلافة تذكر في كتب العقائد وأصول الدين، كما رأيناها تذكر في كتب الفقه، كما رأينا كتبا خاصة بشئون الدولة الدستورية والإدارية والمالية والسياسية، كالأحكام السلطانية للماوردي، ومثله لأبي يعلى، والغياثي لإمام الحرمين، والسياسة الشرعية لابن تيمية، وتحرير الأحكام لابن جماعة، والخراج لأبي يوسف، ومثله ليحيى بن آدم، والأموال لأبي عبيد، ومثله لابن زنجويه.. وغير ذلك مما ألف ليكون مرجعا للقضاة والحكام كالطرق الحكمية، والتبصرة، ومعين الحكام. وما شابهها.
الدليل من تاريخ الإسلام:
أما تاريخ الإسلام.. فينبئنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سعى بكل ما استطاع من قوة وفكر ـ مؤيدا بهداية الوحي ـ إلى إقامة دولة للإسلام، ووطن لدعوته، خالص لأهله، ليس لأحد عليهم فيها سلطان، إلا سلطان الشريعة. ولهذا كان يعرض نفسه على القبائل ليؤمنوا به ويمنعوه ويحموا دعوته، حتى وفق الله "الأنصار" من الأوس والخزرج إلى الإيمان برسالته، فلما انتشر فيهم الإسلام جاء وفد منهم إلى موسم الحج مكون من 73 رجلا وامرأتين، فبايعوه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أن يمنعوه مما يمنعون أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم، وعلى السمع والطاعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر… الخ… فبايعوه على ذلك… وكانت الهجرة إلى المدينة ليست إلا سعيا لإقامة المجتمع المسلم المتميز، تشرف عليه دولة مسلمة متميزة.
كانت "المدينة" هي "دار الإسلام" وقاعدة الدولة الإسلامية الجديدة، التي يرأسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو قائد المسلمين وإمامهم، كما إنه نبيهم ورسول الله إليهم.
وكان الانضمام إلى هذه الدولة، لشد أزرها، والعيش في ظلالها، والجهاد تحت لوائها، فريضة على كل داخل في دين الإسلام حينذاك، فلا يتم إيمانه إلا بالهجرة إلى دار الإسلام، والخروج من دار الكفر والعداوة للإسلام، والانتظام في سلك الجماعة المؤمنة المجاهدة التي رماها العالم في قوس واحدة، يقول الله تعالى: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولا يتهم من شيء حتى يهاجروا).
ويقول في شأن قوم:
(فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله)k كما نزل القرآن الكريم يندد أبلغ تنديد بأولئك الذين يعيشون مختارين في دار الكفر والحرب، دون أن يتمكنوا من إقامة دينهم وأداء واجباتهم وشعائرهم: (إن الذين توفآهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم، وساءت مصيرا، إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفوا غفورا)k وعند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما شغل أصحابه رضي الله عنهم، أن يختاروا "إماما" لهم، حتى إنهم قدموا ذلك على دفنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فبادروا إلى بيعة أبي بكر، وتسليم النظر إليه في أمورهم، وكذا في كل عصر من بعد ذلك، وبهذا الإجماع التاريخي ابتداء من الصحابة والتابعين ـ مع ما ذكرنا من النصوص ـ استدل علماء الإسلام على وجوب نصب الإمام الذي هو رمز الدولة الإسلامية وعنوانها.
ولم يعرف المسلمون في تاريخهم انفصالا بين الدين والدولة إلا عندما نجم قرن العلمانية في هذا العصر، وهو ما حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منه، وأمر بمقاومته كما في حديث معاذ: "ألا إن رحى الإسلام دائرة، فدوروا مع الإسلام حيث دار، ألا إن القرآن والسلطان سيفترقان (أي الدين والدولة) فلا تفارقوا الكتاب. ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم، فإن عصيتموهم قتلوكم، وإن أطعتموهم أضلوكم". قالوا: وماذا نصنع يا رسول الله؟ قال: "كما صنع أصحاب عيسى ابن مريم: نشروا بالمناشير، وحملوا على الخشب. موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله".
الدليل من طبيعة الإسلام:
أما طبيعة الإسلام ورسالته، فذلك أنه دين عام، وشريعة شاملة، وشريعة هذه طبيعتها لا بد أن تتغلغل في كافة نواحي الحياة، ولا يتصور أن تهمل شأن الدولة، وتدعها للمتحللين والملحدين، أو الفسقة، يديرونها تبعا للهوى.
كما إن هذا الدين يدعو إلى التنظيم وتحديد المسئولية، ويكره الاضطراب والفوضى في كل شيء، حتى رأينا الرسول صلى الله عليه وسلم يأمرنا في الصلاة أن نسوي الصفوف وأن يؤمنا أعلمنا، وفي السفر يقول: أمروا أحدكم.
يقول الإمام ابن تيمية في "السياسة الشرعية":
يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع، لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد عند الاجتماع من رأس. حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا خرج ثلاثة في سفر، فليؤمروا أحدهم" (رواه أبو داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة).
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لثلاثة أن يكونوا بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم" فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع.
"ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل، وإقامة الحج والجمع والأعياد، ونصرة المظلوم، وإقامة الحدود، لا تتم إلا بالقوة والإمارة. ولهذا روى: "إن السلطان ظل الله في الأرض". ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون: لو كانت لنا دعوة مجابة، لدعونا بها للسلطان". وذلك لأن الله يصلح بصلاحه خلقا كثيرا.
ثم إن طبيعة الإسلام باعتباره منهجا يريد أن يسود ويقود ويوجه الحياة، ويحكم المجتمع، ويضبط سير البشر وفق أوامر الله، لا يظن به أن يكتفي بالخطابة والتذكير والموعظة الحسنة، ولا أن يدع أحكامه ووصاياه وتعليماته في شتى المجالات إلى ضمائر الأفراد وحدها، فإذا سقمت هذه الضمائر أو ماتت، سقمت معها وماتت تلك الأحكام والتعاليم. وقد قال الخليفة الثالث رضي الله عنه: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
فمن الناس من يهديه الكتاب والميزان، ومنهم من لا يردعه إلا الحديد والسنان. ولذا قال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس).
قال ابن تيمية: فمن عدل عن الكتاب عدل بالحديد، ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف.
يتبع إن شاء الله...