توبة الراقصة زيزي مصطفى.
عشرون عاماً من عمرها قضتها في حياة الرقص والمجون والعبث، وفي (عرفات) عرفت طريق الحق وذاقت حلاوة الإيمان، فكانت التوبة.
تقول زينب مصطفى (زيزي مصطفى سابقاً)) في بداية حديثها:
ظروفي الماديّة العصيبة هي التي جعلتني أعمل في هذا المجال حوالي عشرين سنة، فأنا أعول أمّي المريضة، وأخواتي البنات، وليس لي مصدر آخر للرزق.
ثمّ لم أكن أدري أنّ هذا العمل حرام! ولم يكلّمني أحد في ذلك، وظللت على هذه الحال حتّى أنجبت ابنتي الوحيدة.
ثمّ تضيف: بعد إنجابي لابنتي هذه حدثت تحوّلات جذريّة في حياتي..
فجأة ، ودون سابق إنذار بدأت أصلّي وأشكر الله على هذه النعمة –نعمة الإنجاب-، ثمّ بدأت أفكّر لأوّل مرّة أنّه لابدّ أن أنفق على ابنتي من حلال، ولا أدري من أين جاءني هذا الشعور، الذي يعني أنّ عملي حرام، وأنّ المال الذي أجنيه من ورائه حرام.
وبدأت أشعر بتغيّرات نفسية دون أن أدري مصدرها.
وشيئاً فشيئاً بدأت أتوضّأ، وأنتظم في أداء الصلاة، وبدأت أدخل في نوبات بكاء حادّ ومتواصل أثناء صلاتي، دون أن أدري لذلك سبباً.
ومع كلّ هذه البكاء، وتلك الصلاة، كنت أذهب إلى صالة الرقص، لأنّني ملتزمة بعقد، وفي مسيس الحاجة إلى ما يدرّه عليّ من دخل.
وظللت على هذه الحال: أصلّي، وأبكي، وأذهب إلى الصالة، حتّى شعرت بأنّ الله –سبحانه وتعالى– يريد لي التوبة من هذا العمل، عندها أحسست بكرهي الشديد للبدلة التي أرتديها أثناء عملي.
كنت كثيراً ما أستفتي قلبي: هل بدلة الرقص التي أرتديها يمكن أن أنزل بها إلى الشارع؟ فكنت أجيب نفسي، وأقول: طبعاً لا، وبعد عشرين سنة من الرقص، لم يمنعني عملي المحرّم أن أميّز بين الحلال والحرام.
إنّ الحلال والحرام بداخلنا، ونعرفهما جيداً حتّى دون أن نسأل أهل العلم.
لكنّ الشيطان يزيّن لنا طريق الحرام حتّى يغرقنا فيه .
كانت هناك رسائل ذات معنى أرسلها الله سبحانه لي حتّى أستيقظ من الغفلة التي أحاطتني من كلّ جانب.
كان الحادث الذي تعرّضت له هو أوّل هذه الرسائل.. وبسبب هذا الحادث قُطع الشريان الذي بين الكعب والقدم، وقال لي أحد الأطباء: بحسب التقرير، وحسب العلم الذي تعلّمناه، سوف تعيشين بقيّة حياتك على عكّاز.
وبعد فكّ الضماد وجدتني أسير بطريقة طبيعية وسليمة مع تساوي قدميّ كما أفادت التقارير الطبيّة .
اعتبرت ذلك رسالة لها معنى من الله –سبحانه وتعالى– وأنّ قدرته المعجزة فوق كلّ شيء، فقد نجوت من موت محقّق، ونجوت من عمليّات كثيرة في قدمي كان من الممكن أن أعيش بعدها عاجزة.
أمّا الرسالة الثانيّة فقد كانت أشدّ وضوحاً، أرسلها الله إليّ عن طريق صديقة ابنتي في المدرسة عند ما عيّرتها بمهنتي، وجاءت ابنتي تبكي، فبكيت معها، وتأكدّ لي أنّ مهنتي غير مقبولة في المجتمع.
ثم جاءت الرسالة الثالثة، وكان لها صوت عالٍ بداخلي، فكثيراً ما كنت أحدّث نفسي أنّني أريد أن أربّي ابنتي من مال حلال، وأن أعلّمها القيم والمثل والأخلاق الفاضلة، وكنت أسخر من نفسي، وأقول: وأيّ قيم سوف أعلّمها ابنتي وأنا أقوم بذلك العمل.
ثمّ مرضت ابنتي، فكنت أهرع إلى سجّادة الصلاة.. أركع، وأسجد، وأدعو الله أن يشفيها.
وبعد أن شفيت، كان لا بدّ من التفكير في الاعتزال النهائي، لأنّه لا يجتمع في قلب المؤمن إيمان وفجور، ولأنّ الصورة أصحبت واضحة تماماً أمامي، ولا تحتاج إلى تفسير آخر.
وفي الأيّام الأخيرة كنت أشعر شعوراً حقيقيّاً بالشوك يشكّني في جسدي كلّما ارتديت بدلة الرقص، وفي مرّة من المرّات كنت أصلّي، وأبكي، وأدعو الله أن يتوب عليّ من هذا العمل الذي يبغضه، وفجأة..
وأثناء دعائي وتضرّعي بين يدي الله قمت من فوري لأتوجّه إلى خزانة ملابسي، وفتحتها، ونظرت إلى بدل الرقص باحتقار شديد، وقلت بصوت عالٍ أشبه بالصراخ: لن أرتديكِ بعد اليوم.
وكرّرت هذه الجملة كثيراً، وأنا أبكي كما لم أبكِ من قبل.
وبعد هذه النوبة البكائية شعرت براحة نفسيّة عجيبة، تسري في أنحاء جسدي، وتُدخلني في حالة إيمانية أخرى مكّنتني من التخلّص من حياتي السابقة بيسر وسهولة، ولو كنت في أمسّ الحاجة إلى المال الذي أعول به نفسي، وأمّي، وأخواتي، وابنتي.
لقد جاء قرار الاعتزال من أعماقي، وسبقه وقت أمضيته في التفكير والبكاء، ومراجعة النفس، حتّى رسوت على شاطيء اليقين بعد حيرة وعذاب، وشهرة زائفة، وعمل مُرهِق مجرّد من الإنسانية والكرامة، كلّه ابتذال ومهانة وعريّ، وعيون شيطانيّة زائغة تلتهم جسدي كلّ ليلة، ولا أقدر على ردّها.
هذه الرجعة إلى طريق النور منّة من الله –سبحانه وتعالى– وحده، فهو الذي امتنّ عليّ بها، وليس لأحد من الخلق أيّ فضل فيها.
ثمّ أديت العمرة مرّتين، وفي المرّة الثانية بعد أن عدت إلى بلدي، قرّرت الاعتزال النهائي، وبعدها بشهرين فقط كتب الله لي الحجّ، وفهمت بأنه مكافأة من الله عزّ وجلّ، وفي الحجّ، ونحن على صعيد عرفات الطاهر، بكيت بكاء أشبه بالهستيريا، حتّى بكى لبكائي جميع من في الخيمة، ثمّ عدت من الحجّ بحجاب كامل، أدعو الله أن يغفر لي، وأن يسامحني، لأنّني كنت في غفلة، لا أدرك ما أعمله حرام، ولم يعظني أحد في ذلك.
لم يعجب اعتزالي أولئك المهتمّين بالفن، وبدأت العروض المغرية تنهال عليّ بأكثر ممّا أتوقّع، واعتقدت في نفسي أنّ هذه العروض ما هي إلا اختبارات حقيقيّة من الله تعالى ليختبر صدق إيماني؛ هل أنا صادقة في توبتي أم أنّها لحظات مؤقّتة، وأعود بعدها لأنجذب من جديد لهذه العروض الشيطانية، ووقفت أتحدّاهم بالرفض، وأتحدّى نفسي، وأوّل هذه العروض التي رفضتها كانت بمبلغ ضخم للعمل في مسرحية مع ممثل مشهور تستمّر عروضه المسرحية لسنوات عديدة.
وثاني هذه العروض جاءني من شركة سياحية لا أعرف لحساب من تعمل، إذ عرضت عليّ أن أذهب إلى ألمانيا لتعليم الرقص الشرقي بمبلغ عشرة آلاف دولار شهريّاً، وسيّارات أحدث موديل، وشقّة فخمة في حي راقٍ بألمانيا.
رفضت كلّ ذلك ولم يصدّقوا، فاتّصلوا بي وأملوا حججهم: كيف ترفضين عرضاً كهذا؟ فسوف تعملين بالحجاب، ثمّ إنّ الفتيات اللاتي ستقومين بتعليمهنّ لسن على دينك، فلماذا ترفضين؟! وكان ردّي: إنّ كلّ بنت صغيرة، أو فتاة يافعة سوف أقوم بتعليمها سوف آخذ وزرها حتى لو كانت غير مسلمة.
أمّا السؤال الأكثر وقاحة، الذي لم أكن أتوقّعه، فقد قيل له: إذا كنت اعتزلتِ، حذا حذوك راقصات، فأين يذهب الرقص الشرقي؟!.
وأسئلة أخرى أكثر سخافة وفضوليّة، مثل: من أين تدبّرين أمورك؟ وتربيّن ابنتكِ؟ فأجبتهم بالرفض القاطع من أجل أن أعيش بقية عمري تحت مظلّة الإيمان، وقلت: أنا سعيدة بوضعي الجديد، وقانعة به، وسوف يرزقني ربّي، ولن يتخلّى عنّي بعد أن منّ عليّ بالتوبة.
أمّا العرض الأكثر إغراء الذي لم أتوقَّعه في حياتي البتّة، فقد تلقّيته من أحد الغيورين (!) على اندثار الرقص الشرقيّ بخمسين ألف دولار نظير إحياء ليلة واحدة من الرقص، أحييه وسط النساء فقط، ولمدّة ساعتين، وكان جوابي الصارم: لا، وألف لا، لأنّ هذه المحاولة دوافعها مفهومة لي ، فإذا كان أكبر أجر تلقّيته في حياتي أثناء عملي في دول أوربيّة كان ألفين أو ثلاثة أو أربعة آلاف دولار، نظير عقد كامل لمدّة معينة؛ فلماذا يعرض عليّ هذا المبلغ نظير إحياء ليلة واحدة؟!
المقصود هو إخراجي من حجابي، ومن دائرة إيماني التي ولجت فيها عن صدق ويقين.
بعد هذا الرفض الأخير أصابهم اليأس، وتوقّفوا عن محاولاتهم الدنيئة لإغرائي بالابتعاد عن طريق النور الذي سلكته ورضيته، والحمد لله على كلّ حال..