قال جمال الدين القاسميّ –رحمه الله–
((إنّ كتاباً واحداً تتناوله الأيدي على اختلاف طبقاتها، خير من مئة داعٍ وخطيب؛ لأنّ الكتاب يبقى أثره، ويأخذه الموافق والمخالف)).
توبة الشيخ محمد جميل زينو
من ضلالات الصوفيّة إلى نور العقيدة السلفيّة
الشيخ محمّد جميل زينو –حفظه الله– عرفناه من خلال مؤلّفاته النافعة التي تُعنى بنشر العقيدة السلفيّة، وبيانها بأسلوب واضح ميسر، وقد نفع الله بهذه المؤلّفات، وهدى بها من الضلال بإذنه.. وللشيخ قصّته مع الهداية إلى هذه العقيدة الصحيحة، وقد رواها بنفسه.
فقـال: ولدتُ في مدينة حلب بسورية.. ولمّا بلغتُ العاشرة من عمري التحقتُ بمدرسة خاصّة تعلّمت فيها القراءة والكتابة، ثم التحقت بمدرسة دار الحفّاظ لمدّة خمس سنين حفظت خلالها القرآن الكريم كاملاً ولله الحمد، ثمّ التحقت بما يسمّى آنذاك بالكليّة الشرعيّة التجهيزيّة –وهي الآن الثانوية الشرعيّة– وهي تابعة للأوقاف الإسلامية، وهذه المدرسة تجمع بين تدريس العلوم الشرعيّة والعصريّة.
وأذكر أنّني درست فيها علم التوحيد في كتاب اسمه: ((الحصون الحميديّة)) والذي يقرّر فيه مؤلّفه توحيد الربوبيّة، وأنّ لهذا العالم ربّاً وخالقاً!.. وقد تبيّن لي فيما بعد خطأ هذا المنهج في تقرير العقيدة، فإنّ المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مقرّين بأنّ الله هو الخالق الرازق: ((وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)) (الزخرف: 87)، بل إنّ الشيطان الذي لعنه الله كان مقرّاً بذلك؛ ((قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي)) (الحجر: 39).
أمّا توحيد الإله الذي هو الأساس والذي به ينجو المسلم، فلم أدرسه ولا كنت أعلم عنه شيئاً.
كنت نقشبنديّاً:
لقد كنت منذ الصغر أحضر الدروس وحلقات الذكر في المساجد، وقد شاهدني شيخ الطريقة النقشبندية فأخذني إلى زاوية المسجد، وبدأ يعطيني أوراد الطريقة ولكن لصغر سنّي لم أستطع أن أقوم بها، لكنّي كنت أحضر مجالسهم مع أقاربي في الزوايا، وأستمع إلى ما يردّوونه من أناشيد وقصائد، وحينما يأتي ذكر اسم الشيخ كانوا يصيحون بصوت مرتفع، فيزعجني هذا الصوت المفاجئ، ويسبب لي الرعب والهلع.
وعند ما تقدّمت بي السنّ بدأ قريب لي يأخذني إلى مسجد الحيّ لأحضر معه ما يسمّى بالختم، فكنّا نجلس على شكل حلقة، فيقوم أحد الشيوخ ويوزّع علينا الحصى ويقول: ((الفاتحة الشريفة، الإخلاص الشريف))، فنقرأ بعدد الحصى سورة الفاتحة وسورة الإخلاص، والاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بالصيغة التي يحفظونها، ويجعلون ذلك آخر ذكرهم.
ثم يقول الشيخ المُوَكَّل، لأنّ الشيخ –بزعمهم– هو الذي يربطهم بالله؛ فيهمهمون، ويصيحون، ويعتريهم الخشوع، حتّى إنّ أحدهم ليقفز فوق رؤوس الحاضرين كأنّه البهلوان من شدّة الوجد.. إلى آخر ما كانوا يفعلونه من البدع المُحدثة التي ما أنزل الله بها من سلطان.
كيف اهتديت إلى التوحيد؟
كنت أقرأ على شيخي الصوفيّ حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، وهو قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله..))،
فأعجبني شرح الإمام النوويّ -رحمه الله– حين قال: (ثمّ إن كانت الحاجة التي يسألها لم تجر العادة بجريانها على أيدي خلقه، كطلب الهداية والعلم، وشفاء المرضى، وحصول العافية، سأل ربّه ذلك.
وأمّا سؤال الخلق، والاعتماد عليهم فمذموم)).
فقلت للشيخ:
هذا الحديث وشرحه يفيدان عدم جواز الاستعانة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله.
فقال لي: بل تجوز!!
قلت له: وما الدليل؟ فغضب الشيخ، وصاح قائلاً: إنّ عمّتي كانت تقول: يا شيخ سعد (وهو من الأولياء المزعومين الأموات) فأقول لها: يا عمّتي، وهل ينفعك الشيخ سعد؟ فتقول: أدعوه فيتدخّل على الله فيشفيني!!
قلت له: إنّك رجل عالم، قضيت عمرك في قراءة الكتب، ثمّ تأخذ عقيدتك من عمّتك الجاهلة!!
فقال لي: عندك أفكار وهّابيّة! (نسبة إلى الشيخ المجدد محمّد بن عبد الوهّاب -رحمه الله-).
وكنت لا أعرف شيئاً عن الوهّابية إلا ما أسمعه من المشايخ، فيقولون عنهم: إنّهم مخالفون للناس، لا يؤمنون بالأولياء وكراماتهم المزعومة، ولا يحبّون الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من التهم الكثيرة الكاذبة التي لا حقيقة لها.
فقلت في نفسي؛ إن كانت الوهّابيّة تؤمن بالاستعانة بالله وحده، وأنّ الشافي هو الله وحده، فلابدّ أن أتعرّف عليها.
وبحثت عن هذه الجماعة، فاهتديت إليها، كان لهم لقاء مساء كلّ خميس يتدارسون فيه التفسير والفقه والحديث، فذهبت إليهم بصحبة أولادي وبعض الشباب المثقّف.. دخلنا غرفة كبيرة، وجلسنا ننتظر الدرس، وبعد برهة من الزمن دخل الشيخ، فسلّم علينا، ثمّ جلس على مقعده، ولم يقم له أحد، فقلت في نفسي، هذا الشيخ متواضع، لا يحب القيام له.
وبدأ الشيخ درسه بقوله: إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره.. إلى آخر الخطبة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح بها خطبه ودروسه، ثمّ بدأ يتكلّم باللغة العربية الفصحى، ويورد الأحاديث، ويبيّن صحّتها وراويها، ويصلّي على النبيّ صلى الله عليه وسلم كلّما ذكر اسمه.
وفي ختام الدرس وجّهت له الأسئلة فكان يجيب عليها بالدليل من الكتاب والسنّة، ويناقشه بعض الحاضرين فلا يردّ سائلاً أو متكلماً، ثمّ قال في آخر درسه: الحمد لله، إنّنا مسلمون سلفيون، وبعض الناس يقولون إنّنا وهّابيون، فهذا تنابز بالألقاب، وقد نهانا الله عن ذلك بقوله: ((وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ)) (الحجرات: 11).
ولمّا انتهى الشيخ من درسه، خرجنا ونحن معجبين بعلمه وتواضعه، وسمعت أحد الشباب يقول: هذا هو الشيخ الحقيقيّ.
ومن هنا بدأت رحلتي إلى التوحيد الخالص، والدعوة إليه، ونشره بين الناس اقتداء بسيّد البشر صلى الله عليه وسلم.
وإنّي لأحمد الله -عزّ وجلّ- الذي هداني لهذا، وما كنت لأهتدي لولا أن هداني الله، والحمد لله أوّلاً وآخراً.