الثالث: حبُّ الدنيا وما تتضمَّن من جاهٍ أو مال أو رياسة من غير قصدٍ شرعيٍّ:
فقد يكون ممن يحب الجاهَ والرِّياسة، وغير ذلك من أمور الدنيا التي يتنافس عليها كثيرٌ من الناس، فإذا أحس بأن هناك من ينافسه على ذلك، فإنه يتمنَّى له أن يصاب بشيء من المصائب والبلايا وغير ذلك؛ حتى يبتعد عما ينافسه فيه، نسأل الله السلامةَ والعافية، ومنه أيضًا ما يكون من تنافسٍ بين الضَّرائر، في كسبِ حبِّ وقربِ الزوج، فإذا حصل لضَرَّتِها نعمةٌ حسَدتها.
الرابع: ضعف الإيمان:
فإنَّ الحسد قد لا يكون في البعض ابتداءً، لكن قد ينشأ بعد ذلك، فالمؤمن القويُّ يَدْفَعُ ذلك، ويتذكر أن هذا إنما هو محض فضلِ الله على عبده، ويتمثَّل ما أنزل الله في كتابه، قال -تعالى-: "وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى" [طه: 131]، وقال -جل وعلا-: "ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ" [الحديد: 21].
أما الضعيف، فيسترسل في هوى نفسه والشيطان، ويتسلسل في خطوات البُغض والحسد.
الخامس: الرغبة في تسخير الناس له:
وذلك أن يكون صاحبَ مالٍ والناس حوله، منهم من يخدُمه، ويطلب ودَّه، ويراعي مشاعره، فإذا حصل لأحدهم نعمةٌ خرج بها من رِبقة تبعيَّته، حسده على هذه النعمةِ وتمنَّى زوالها؛ حتى يعود خاضعًا متذللاً له.
ومن هذا ما جاء في حديث سعد بن أبي وقاص قال: "كنَّا مع النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- ستة نفر، فقال المشركون للنبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: اطرد هؤلاء عنك، لا يجترئون علينا، قال: وكنت أنا وابنُ مسعود ورجلٌ من هذيل وبلال ورجلان لست أسمِّيهما، فوقع في نفس رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ما شاء اللهُ أن يقعَ، فحدَّث نفسه، فأنزل الله -عز وجل-: "وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ" [الأنعام: 52].
السادس: التنافس بين الأقران:
فقد يحصل بين بعض الأقران؛ مثل: طلاب العلم، أو العلماء، أو غيرِهم - التنافسُ في الطلب، فيتطوَّر حتى يكون تحاسُدًا فتدابُرًا، وهذا منشؤه دخولُ الدنيا في قلبه.
قال ابن الجوزيِّ:
تأمَّلت التحاسد بين العلماء، فرأيت منشأَه من حبِّ الدنيا.
ولا شك أن هذا خلافُ الحق، وأن علماء الآخرة يتوادُّون ولا يتحاسدون؛ كما قال -تعالى-: "وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا" [الحشر: 9].
وقوله -تعالى-: "وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ" [الحشر: 10].
والغِلُّ بابٌ من الحسد، إن لم يكن مرحلةً متقدِّمة منه.
آثار الحسد
آثاره على الفرد
الحسد له أضرار كثيرة، وعواقبُ وخيمة، منها:
1- أنه مجلبةٌ لسخط الله:
قال الجاحظ:
"ولو لم يَدخُل -رحمك الله- على الحاسد بعدَ تراكمِ الهموم على قلبه، واستمكانِ الحزن في جوفه، وكثرةِ مضضِه، ووسواسِ ضميره، وتنغيصِ عمره، وكدَرِ نفْسِه، ونكَدِ لذاذة معاشه -إلا استصغارُه لنعمة الله عنده، وسخطُه على سيِّده بما أفاء الله على عبده، وتمنِّيه عليه أن يرجع في هِبته إياه، وألا يَرزُق أحدًا سواه- لكان عند ذوي العقول مرحومًا، وكان عندهم في القياس مظلومًا".
2- الحاسد متشبِّهٌ بالمشركين:
فوجه الشبه بينه وبين المشركين هو تمنِّي زوال ما أنعم الله على المؤمنين من الدِّين، قال -تعالى-: "إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا" [آل عمران: 120].
3-أنه متشبِّهٌ بإبليس:
فقد خلق الله آدمَ -عليه السلام- وشرَّفه ورفَع منزلته، وأمر الملائكة بالسجود له، ولكنَّ إبليس تكبَّر وحسده على هذه المنزلة؛ قال -تعالى-: "وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ" [الأعراف: 11، 12].
قال قتادة:
حسد عدوُّ اللهِ إبليسُ آدمَ -عليه السلام- ما أعطاه من الكرامة، وقال: أنا ناريٌّ، وهذا طيني.
قال ابن القيم:
الحاسد شبيهٌ بإبليس، وهو في الحقيقة من أتباعه؛ لأنه يطلب ما يحبه الشيطان من فساد الناس، وزوالِ نِعَمِ الله عنهم، كما أنَّ إبليس حسد آدم لشرفه وفضله، وأبى أن يسجد له حسدًا، فالحاسد من جُند إبليس.
4- حسرة الحاسد في نفسه:
فالحسرة تسري في قلب الحاسد ألَمًا يعصره عصرًا؛ فإنه يُكِنُّ في نفسه الهمَّ والغم والبغض للناس وتمنِّيَ زوال النِّعم عنهم، وكلما زادت هذه النعم، زاد ألَمًا وحزنًا.
قال الشاعر:
اصْبِرْ عَلَى كَيْدِ الْحَسُو = دِ فَإِنَّ صَبْرَكَ قَاتِلُهْ
كَالنَّــــــارِ تَأْكُلُ بَعْضَهَا = إِنْ لَمْ تَجِدْ مَا تَأْكُلُهْ
5- ما يصيبه من مصائب الدنيا قبل الآخرة:
قال السَّمرقنديُّ:
ليس شيءٌ من الشر أضرَّ من الحسد...
لأنه يصل إلى الحاسد خمسُ عقوبات قبل أن يصل إلى المحسود مكروهٌ:
1- غمٌّ لا ينقطع.
2- مصيبة لا يؤجَر عليها.
3- مذمَّة لا يحمد عليها.
4- يسخط عليه الربُّ.
5- تُغلَق عليه أبوابُ التَّوفيق.
قال -تعالى-: "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ" [الشورى: 30].
6- ذهابُ حسناته:
فإن الحاسد بفعله هذا، قد أهدى حسناتِه إلى مَن حسده، شأنه في ذلك شأن المغتاب، وسائر من كانت عليه مظلمة لأخيه.
آثاره على المجتمع:
وكما أن الحسد له آثار على الفرد، فكذلك له آثار على المجتمع، فالفرد هو نواة المجتمع.
وقد بيَّن العلامة ابنُ جبرين -رحمه الله- آثار الحسد على المجتمع، فقال -رحمه الله-:
"لقد أمر الله -تعالى- بالاستعاذة من شرِّ الحاسد في قوله: "وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ" [الفلق: 5]، وهذا دليل على أن له شرًّا وفيه ضررًا، ولا يُتحصَّن منه إلا بالاستعاذة بالله -تعالى- حيث إنَّ الحسد من أعظم الأمراض الفتَّاكة بالمجتمع؛ فهو يجبر صاحبه على أصعب الأمور، ويُبعده عن التقوى، فيَضيق صدرُ الحسود، ويتفطر قلبه إذا رأى نعمة الله على أخيه المسلم، ولقد كثُر الحسد بين الأقران، والإخوان، والجيران، وكان من آثار ذلك التقاطع والتهاجر، والبغضاء والعداوة، فأصبح كلٌّ من الأخوين أو المتجاورَيْنِ يتتبَّع العثرات، ويفشي أسرار أخيه، ويحرص على الإضرار به، والوشاية به عند من يضرُّه أو يكيد له، ولا شك أن ذلك من أعظم المفاسد في المجتمعات الإسلامية، فإنَّ الواجب على المسلمين أن يتحابُّوا، ويتقاربوا، ويتعاونوا على الخير والبِر والتقوى، وأن يكونوا يدًا واحدة على أعدائهم من الكفار والمنافقين، فمتى أوقع الشيطان بينهم العداوةَ والبغضاء، وتمكَّنت من قلوبهم الأحقادُ والضغائن، حَصَلَ التفرُّق والتقاطع، وصار كلُّ فرد يلتمس من أخيه عثرةً، أو زلةً فيفشيها، ويعيبه بها، ويكتم ما فيه من الخير، ويسيء إلى سمعته، ويجعل من الحبَّة قبَّةً، ويَقوم الثاني بمثل ذلك، وكلٌّ منهما يُوهم أنَّ الصواب معه، وأن صاحبَه بعيدٌ عن الصواب، ثم إنَّ كلاًّ منهما يحرص على الإضرار بالآخر، ويعمل على حِرمانه من الخير، فيصرف عنه المنفعة العاجلة، ويحول بينه وبين المصالح المطلوبة؛ من فائدة مالية، أو حِرفة، أو أرباح، أو معاملات مفيدة، ونحو ذلك، ولا شك أن هذا يضرُّ المجتمعات، ويقضي على المصالح، ويُمكِّن الأعداء من المنافع ومن استغلال الفوائد، وبتمكُّنِهم يَضعف المسلمون المخلِصون، ولا ينالون مطلوبَهم من ولايةٍ أو رئاسة، أو شرَفٍ أو منفعة، وسبب ذلك: هذه المنافسات التي تمكَّنت من النفوس، حتى حرَموا إخوانهم وأنفسهم من الخير، وسلطوا عليهم أعداءهم.
علاج الحسد:
لا شك أن لكل داءٍ دواءً، ولكل مرض شفاء بإذن الله؛ فقد روى ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاءً، علِمه من علِمه، وجهِله من جهِله))، وعلاج هذا الدَّاء لا بد له من مصابرة، فالتخلص منه ليس بالأمر اليسير إلا على من يسَّره الله له.
وقد أشار ابن القيم إلى صعوبة علاج الحسد، وعدَّه أحَد أركان الكفر الأربعة؛ حيث قال:
"أركان الكفر أربعة: الكِبْر والحسد والغضب والشهوة..."، إلى أن قال: "وزوال الجبال عن أماكنها أيسرُ من زوال هذه الأربعة عمَّن بُلِيَ بها، ولا سيما إذا صارت هيئاتٍ راسخةً، وملكاتٍ وصفات ثابتة، فإنه لا يستقيم له معها عملٌ ألبتَّة، ولا تزكوا نفسُه مع قيامها بها، وكلما اجتهد في العمل، أفسدتْه عليه هذه الأربعةُ، وكل الآفات متولِّدة منها".
فمن ابتُلي بداء الحسد وأراد أن يتخلص منه، فلا بد من أمور:
أولاً: أن يتقي الله -سبحانه وتعالى-:
باتِّباع ما أمره، واجتناب ما نَهى عنه من محرَّمات، ومنها محل البحث، وهو "الحسد"؛ بقهر نفسه الخبيثة الداعية إلى هذه الصفةِ الذميمة، وعدم اتِّباع هواه، قال -تعالى-: "وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى" [النازعات: 40، 41].
ثانيًا: أن يرضى بقضاء الله وقدره:
ويعلم أن هذه النعمةَ التي حسد أخاه عليها إنما هي من الله، فهو القاسم للأرزاق بين عباده، قال -تعالى-: "أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ" [الزخرف: 32].
ثالثًا: أن يعلم أنه سيؤذي نفسه قبل أن يؤذيَ غيره، وذلك من عدَّة وجوه، منها:
حُرقة قلبه، ذهاب أعماله، بغض وتجنُّب الناس له، قال -تعالى-: "وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ" [فاطر: 43] وغير ذلك.
رابعًا: أن يصرف ما في قلبه من هوًى وشهوة في ما يرضي الله:
فقد جعل الله -سبحانه- في طاعته ما يملأ قلبَه بالخير والمحبة، وما من صفة ذميمة إلا وقد جعل الله لها ما يكون بديلاً لها من صفةٍ حميدة، فبديلُ الحسدِ المنافسةُ في الخيرات، والغِبطةُ، وجعَلَ لصفة الكبْرِ التي تؤدي لصفة الحسد مصرفًا، وهو التكبُّر على أعداء الله؛ فقد جاء في صحيح مسلم عن أنسٍ أن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أخذ سيفًا يوم أحد فقال: ((مَن يأخذ منِّي هذا؟)) فبسطوا أيديَهم، كلُّ إنسان منهم يقول: "أنا، أنا"، فقال: ((مَن يأخذُه بحقه؟)) فأحجم القومُ، فقال له أبو دُجانةَ سِماكٌ: أنا آخذُه بحقه، قال: "فأخذه ففلَقَ به هامَ المشركين".
وفي رواية: أن أبا دجانة يوم أحُدٍ أَعلمَ بعصابة حمراءَ، فنظر إليه رسول الله وهو مختالٌ في مِشيته بين الصَّفين، فقال: ((إنَّها مِشية يُبغضها اللهُ إلا في هذا الموضع)).
خامسًا: أن يصبر على ما يجدُ في نفسه، وأن يدافعها بالمستطاع:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
"فمن وجد في نفسه حسدًا لغيره، فعليه أن يستعمل معه التقوى والصبر، فيكره ذلك من نفسه، وكثيرٌ من الناس الذين عندهم دينٌ لا يعتدون على المحسود، فلا يُعينون مَن ظلمه، ولكنهم أيضًا لا يقومون بما يجب من حقه، بل إذا ذمَّه أحد لم يوافقوه على ذمِّه، ولا يذكرون محامده، وكذلك لو مدحه أحدٌ لسكتوا، وهؤلاء مدينون في ترك المأمور في حقه، مفرِّطون في ذلك، لا معتدون عليه، وجزاؤهم أنهم يُبخسون حقوقهم؛ فلا يُنصَفون أيضًا في مواضع، ولا يُنصَرون على مَن ظلمهم؛ كما لم يَنصُروا هذا المحسود، وأما من اعتدى بقول أو فعل، فذلك يعاقَب".
سادسًا: الهديَّة، وذلك أن تُهدي له هدية؛
فإنَّ هذا من أعظم ما يُدخل السرورَ على القلب، وقد جاء فضل الهدية في الكتاب والسنة، قال -تعالى-: "وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ" [النمل: 35].
وقد فهم سليمان -عليه السلام- المغزى من هذه الهديةِ؛ فامتنع عن قبولها، وأمر بردِّها؛ لأنَّه شعَر بأنَّ ملكة سبأٍ بعثت بهديَّتها؛ إغراءً له، واستمالة له؛ كيما ينصرف عنها وعن قومها، ولم يردَّها سليمان إلا حين علِم المقصد منها، وإلا فإن الأنبياء لا تردُّ الهدايا.
قال القُرطبي:
كان النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقبَل الهدية، ويُثيب عليها، وكذلك كان سليمانُ وسائرُ الأنبياء -عليهم السلام-.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((تهادَوْا تحابُّوا)).
قال ابن قُدامة:
الهدية مستحبَّة عند أهل العلم.
وقال القرطبي:
"الهدية مندوب إليها، وهي ممَّا تُورث المودة، وتُذهب العداوة"، وقال: "ومن فضل الهدية مع اتباع السنَّة: أنها تزيل حزازات النفوس، وتُكسب المُهدِي والمُهدَى إليه رنَّة في اللقاء والجلوس".
سابعًا: شغل النفس فيما ينفع؛
لمنعها من أن تشتغل بما لا ينفع من حَسد أو غير ذلك.
طريقة التعامل مع الحاسد
لا شك أن الوقاية خيرٌ من العلاج، وباعتبار الحاسد طرفًا قد يحصل منه ضرر؛ فلابد من أمور يجب اتِّباعها لتفادي ضرره -بإذن الله- ومنها:
أولاً: أنْ تتوكل على الله -سبحانه وتعالى- وتؤمِنَ بالقدر خيرِهِ وشره، وتعلمَ أنه لا يضرُّك شيءٌ إلا بإذن الله، والعكس، قال -تعالى-: "وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ" [البقرة: 102].
ثانيًا: أن تبتعد عن موطن الأذى، ومنها هذا الحاسد، فلا تحرص على مقابلته إلا ما عجزت عن دفعه.
قيل لعبدالله بن عروة: لِمَ لزمتَ البدو وتركت قومَك؟ قال: وهل بقِي إلا حاسدٌ على نعمة، أو شامت على نكبة.
ثالثًا: أن تخفي النعمة عن الحاسد بقدر ما تستطيع، وتأمَّل قول يعقوب لابنه يوسف -عليهما السلام-: "قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ" [يوسف: 5].
قال ابن القيم -رحمه الله-:
"وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد، وألا يقصِد إظهارَها له، وقد قال يعقوبُ ليوسف: "قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ" [يوسف: 5]، وكم من صاحبِ قلبٍ وحال مع الله قد تحدَّث بها وأخبر بها فسلبه إياها الأغيارُ، فأصبح يقلِّب كفيه؛ ولهذا يوصي العارفون والشيوخ بحفظ السرِّ مع الله، وألا يُطلعوا عليه أحدًا، ويتكتَّمون به غاية التكتم".
من نوادر التحاسُد:
قال الأصمعيُّ:
كان رجلٌ من أهل البصرة بذيئًا شرِّيرًا، يؤذي جيرانه ويشتم أعراضهم، فأتاه رجلٌ فوعظه، فقال له: ما بالُ جيرانك يشكونك؟ فقال: إنهم يحسُدونني؛ قال على أيِّ شيء يحسدونك؟ قال: على الصَّلب، قال: وكيف ذلك؟ فقال: أقبلْ معي، فأقبل معه على جيرانه، فقعد متحازناً فقالوا له: ما لَكَ؟ قال: طرق الليلةَ كتابُ معاوية: أني أُصلب أنا ومالكُ بن المنذر وفلان وفلان، فذكر رجالاً من أشراف أهل البصرة، فوثبوا عليه، وقالوا: يا عدو الله، أنت تُصلب مع هؤلاء، ولا كرامة لك؟! فالتفت إلى الرَّجُل، فقال: أما تراهم قد حسَدوني على الصَّلب، فكيف لو كان خيرًا؟!
ضعيف بعض الأحاديث الواردة في ذم الحسد:
الحديث الأول:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: ((الحسَد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، والصدقة تُطفئ الخطايا، والصلاة نورُ المؤمن، والصيام جُنَّة من النار)).
الحديث الثاني:
عن عبدالله بن بسر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((ليس مني ذو حسدٍ، ولا نميمةٍ، ولا كهانة، ولا أنا منه، ثًم تلا رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- هذه الآية: "وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا" [الأحزاب: 58])).
الحديث الثالث:
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كنا جلوسًا عند رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقال: ((يطلع عليكم الآن من هذا الفجِّ رجلٌ من أهل الجنة))، قال: فطلع رجلٌ من أهل الأنصار تنطِف لحيتُه من وضوئه، قد علَّق نعليه في يده الشمال، فسلَّم، فلما كان الغدُ قال النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- مثلَ الذي قال، فطلع ذلك الرجل، فلما كان اليوم الثالث قال النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- مثل الذي قال، فطلع ذلك الرجل، فلما قام النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- تبِعه عبدالله بن عمرو بن العاص، فقال: إني لاحيْتُ أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيتَ أن تُؤْوِيَنِي إليك حتى تمضي فعلتَ، قال: نعم، قال أنس: فكان عبدالله يحدِّث أنه بات معه تلك الثَّلاث الليالي فلم يره يقوم من الليل، غير أنه إذا تعارَّ وتقلَّب على فراشه ذكر الله -عز وجل- وكبَّر حتى تقوم صلاة الفجر، قال عبدالله: إني لم أسمعه يقول إلا خيرًا، فلما مضت الثلاثُ، وكدت أن أحتقر عملَه، قلت: يا عبدالله، لم يكن بيني وبين أبي غضبٌ ولا هجرةٌ، ولكني سمعت رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول لك ثلاث مرَّات: ((يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة))، فطلعتَ أنت الثَّلاث المرات، فأردت أن آويَ إليك؛ لأنظر ما عملُك فأقتدي به، فلم أرَك تعمل كبيرَ عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-؟
قال: ما هو إلا ما رأيتَ، قال: فلمَّا وليتُ دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيتَ، غيرَ أنِّي لا أجد في نفسي لأحدٍ من المسلمين غشًّا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله -عز وجل- إياه، فقال عبدالله: هذه التي بلغتْ بك، وهي التي لا نطيق.
الحديث الرابع:
عن الزبير بن العوام -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: ((دبَّ إليكم داءُ الأمم قبلكم: الحسدُ والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول تحلِق الشَّعر، ولكن تحلِق الدين، والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بمَا يثبت ذلك لكم، أفشوا السَّلام بينكم)).
الحديث الخامس:
عن بَهز بن حكيم عن أبيه عن جده يرفعه: ((الحسَد يُفسد الإيمانَ كما يفسد الصَّبر العسلَ)).
الخــــــــــــــــــاتمة
الحمد لله على ما يسَّر من إتمام هذا البحث، الذي تضمَّن عدة محاور، وقد عرضت في هذا البحثِ الموسومِ بالحسد وآثاره، تعريفَه، وأدلَّة تحريمه، وأسبابه، ومراتبه، وآثاره، وطرق علاجه، وقد بيَّنت خطر هذا الداء، وما يترتَّب عليه من آثار سلبية على الفرد والمجتمع.
وهذا العمل هو جُهد المقلِّ المقصِّر، وهي بضاعةٌ مزجاة، أقدِّمها بين يديك, رغبة في الإهداء لا الإدلاء، فمن عثر على شيءٍ مما غلب به القلم، فليمتثل قول الله -تعالى-: "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ" [المؤمنون: 96]، وليدرأ السيئة بالحسنة.
أسأل الله -بمنِّه وكرمه- أن ينفع بهذا البحثِ الكاتبَ والقارئ؛ إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.
وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمَّد.
---------------------------------------
فهرس الموضوعات
الحسد وآثاره الصفحة
المقدمة 2
خطة البحث 2
الفصل الأول: تعريف الحسد 4
المبحث الثالث: الحسد في الشرع 5
المطلب الأول: الحسد في القرآن 5
المطلب الثاني: الحسد في السنة 6
المطلب الثالث: الحسد من أقوال السلف 8
المطلب الرابع: مراتب الحسد 9
الفصل الثاني: الحسد: أسبابه وآثاره 12
المبحث الأول: أسباب الحسد 12
المبحث الثاني: آثار الحسد 15
المطلب الأول: آثاره على الفرد 15
المطلب الثاني: آثاره على المجتمع 16
المطلب الثالث: علاج الحسد 20
المبحث الرابع: طريقة التعامل مع الحاسد 21
الخاتمة 28
-------------------------------------------------
صـــــــــــــــــــدر للمــــــــــــــــــــــــــــــؤلِّف:
1- الدرة السنية بشرح المنظومة البيقونية.
2- الصحيح المجتبى من أذكار الصباح والمسا.
3- نثر الورود بأحكام المولود.
4- الحسد وآثاره.