التغيرات الكونية في آخر الزمــان
فضيلة الشيخ: محمد صالح المنجد
***********************
النبــــــــــذة:
ما نراه اليوم من تغيرات في الأجواء، وما نسمع من كثرة الزلازل لا شك أنه مؤذن بالتغيرات العظام القادمة، وبعد ذلك التغيرات العلوية، وبعد ذلك تقوم الساعة، وليس الأمر أن ننشغل الآن متى سيحدث كذا، ومتى سيخرج الدجال...، وإنما الانشغال هو بالإقبال على الأعمال الصالحة قبل هذا.
عناصـــــــر المــــــادة:
الأحداث والتغيرات قبل قيام الساعة
ذكر بعض الأحداث والأشراط
تفسير الأحداث بين المؤمنين والمنافقين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد..
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الأحداث والتغيرات قبل قيام الساعة:
عباد الله... يقول ربنا تبارك وتعالى "إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ" مريم: من الآية40".
ولا بد أن تقوم الساعة: "وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" الحديد: من الآية10.
والله -عز وجل- إذا أذن بخراب العالم والنفخ في الصور، فإنه يجري قبل ذلك أحداثاً عظيمة في الأرض وفي السماء، وتغيرات رهيبة، تصيب أهل الأرض، فما هي يا ترى في أشراط الساعة وإنذاراتها، وعلاماتها وأمارتها، ما الذي سيكون قبيل خراب العالم، وكلما اقترب الزمن من قيام الساعة حصل في الأرض أحداث مؤذنة بذلك، ولذلك أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أمور من الاضطراب والفوضى التي تصيب الناس من كثر الهرج والقتل، وكذلك ما يصيب العالم العلوي والسفلي، ما يصيب الأرض في جوها، ما يصيبها في قرارها، وما يصيبها في هوائها ومائها ومطرها وشمسها، ستحدث في آخر الزمان من الأقدار العظيمة التي يجريها الله تعالى زلازل وهزات، فتن وحروب وقتل وموتان عام، والله -عز وجل- يوقظ بهذه الأحداث الغافلين، وينبّه العاصين، ونحن نرى في الأرض اليوم تغيرات، تارة بغبارٍ عارم، وتارة بسيلٍ جارف، وتارة بزلازل، تغيرت الأجواء، هذا يلمسه الكبير والصغير، تغير الأجواء، وهذا التغير ونحن في آخر الزمن، ولا شك أنه نذير بقرب تغيرات أخرى أكبر وأشمل، أعظم وقعاً وأخطر .
ذكر بعض الأحداث والأشراط:
فماذا أخبرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- من العلامات والأمارات التي تكون قبل أشراط الساعة مما يتعلق بالأرض وجوها وبالسماء وشمسها، قال -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ تُضِيءُ أَعْنَاقَ الْإِبِلِ بِبُصْرَى) .
وقد ظهرت هذه النار في منتصف القرن السابع في عام 654هـ، وكانت نار عظيمة، وأفاض العلماء ممن عاصروا ظهورها ومن بعدهم في وصفها، وَقَالَ النَّوَوِيّ: تَوَاتَرَ الْعِلْم بِخُرُوجِ هَذِهِ النَّار عِنْدَ جَمِيع أَهْل الشَّام .
وقال ابن حجر: " وهي النَّار الَّتِي ظَهَرَتْ بِنَوَاحِي الْمَدِينَة " .
ونقل ابن كثير أن غير واحد من الأعراب ممن كان بحاضرة بصرى شاهدوا أعناق الإبل في ضوء هذه النار التي ظهرت من أرض الحجاز .
قَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي "التَّذْكِرَة": "قَدْ خَرَجَتْ نَار بِالْحِجَازِ بِالْمَدِينَةِ, وَكَانَ بَدْؤُهَا زَلْزَلَة عَظِيمَة فِي لَيْلَة الْأَرْبِعَاء بَعْدَ الْعَتَمَة الثَّالِث مِنْ جُمَادَى الْآخِرَة سَنَة أَرْبَع وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَاسْتَمَرَّتْ إِلَى ضُحَى النَّهَار يَوْمَ الْجُمُعَة فَسَكَنَتْ...." .
قال ابن حجر رحمه الله: "وَقَالَ لِي بَعْض أَصْحَابنَا: رَأَيْتهَا صَاعِدَة فِي الْهَوَاء مِنْ نَحْو خَمْسَة أَيَّام, وَسَمِعْت أَنَّهَا رُؤِيَتْ مِنْ مَكَّة وَمِنْ جِبَال بُصْرَى" .
وذكر ابن حجر عن حدثين: "إنَّ إِحْدَاهُمَا تَقَع قَبْلَ قِيَام السَّاعَة مَعَ جُمْلَة الْأُمُور الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا الصَّادِق صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; وَالْأُخْرَى هِيَ الَّتِي يَعْقُبهَا قِيَام السَّاعَة بِغَيْرِ تَخَلُّل شَيْء آخَر" .
ومن الآيات التي أخبر -عليه الصلاة والسلام- عنها قبيل قيام الساعة ما جاء في قوله: (بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ مَسْخٌ وَخَسْفٌ وَقَذْفٌ) .
وفي رواية: (يَكُونُ فِي آخِرِ الْأُمَّةِ خَسْفٌ، وَمَسْخٌ، وَقَذْفٌ)
قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ ؟
قَالَ: (نَعَمْ إِذَا ظَهَرَ الْخُبْثُ) [أي: الْمَعَاصِي] .
فأما الخسف: فهو ذهاب الشيء في الأرض، وأما المسخ: فهو تغيير الخلقة إلى أخرى أقبح، وأما القذف: فهو الرمي بالحجارة .
فإذا كثرت المعاصي في الأرض، وعم الفساد يبدأ الهلاك العام بالحصول، ويبدأ الموت الكبير بالوقوع، ولو كان هنالك صالحون يعمهم العذاب لأنهم لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، فإذا صاروا مصلحين استثناهم الله من العذاب، وقد جاء هذا الوعيد أي الخسف والمسخ والقذف لأناسٍ من أهل المعازف والغناء وشُرّاب الخمور، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الراعي لديهم يعود إليهم وقد باتوا على لهوٍ ولعبٍ وقيانٍ يعني مغنيات، فيجدهم قد مُسخوا، وبدل الله صورهم صور القردة والخنازير، وهذا الاسترسال في الحرام قد وقع منه الآن أشياء كثيرة جداً، فأما الزلازل فقد قال أهل العلم: أنها قد وقع منها الشيء الكثير فيما تقدم، وهلك بسببها خلق كثير، وقال القرطبي: وقع بعضها بعراق العجم والمغرب وهلك، بسببها خلق كثير. (عون المعبود) .
وفي شعبان سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وقعت زلزلة بغرناطة وخسف بعدة أماكن .
وفي سنة ست وأربعين وثلاثمائة وقع بالري ونواحيها زلازل عظيمة، وخسف ببلد طالَقان ولم يفلت من أهلها إلا نحو ثلاثين نفساً .
" وخُسف بمائة وخمسين قرية من قرى الري، واتصل الأمر إلى حلوان فخسف بأكثرها، وقذفت الأرض عظام الموتى، وتفجرت فيها المياه وتقطع بالري جبل، وخسف بقرية أخرى، فانخرقت الأرض خروقا عظيمة، وخرج منها مياه منتنة ودخان عظيم. اهـ. (البرزنجي في "الإشاعة في أشراط الساعة" (ص 78)) .
وقد توعد الله تعالى من خالف أمره بالخسف، فقال -عز وجل-: "أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ" (النحل: 45) .
وقال -عز وجل-: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً الإسراء: من الآية68.أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ "أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ" (الملك: 16) .
وهذه الخسوف والزلازل تكثر في آخر الزمان، فأما من أشراط الساعة الكبرى فهنالك ثلاثة خسوف عظيمةٍ جداً، وهي أعظم ما يصيب الأرض من الخسف على الإطلاق، ولذلك صارت من أشراط الساعة الكبرى، فقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك بقوله: (إِنَّ السَّاعَةَ لَا تَكُونُ حَتَّى تَكُونَ عَشْرُ آيَاتٍ خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ..) .
والله -سبحانه وتعالى- يُحدث ما يشاء .
قال الحافظ رحمه الله: وقد وُجِدَ الخسف في مواضع -يعني ذهاب الشيء في الأرض يكون على سطح الأرض، ثم يذهب فيها فتنشق الأرض وتبتلعه هذا قد حدث فيما مضى-، ولكن يحتمل أن يكون المراد بالخسوف الثلاثة قدراً زائداً على ما وجد كأن يكون أعظم منه مكاناً وقدراً..
فهو يتميز عن ما حصله قبله بشدته واتساعه .
ومن تلك الآيات التي تجري في الأرض في آخر الزمان وتكثر، الزلازل كما قال -عليه الصلاة والسلام-: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى.. تَكْثُرَ الزَّلَازِلُ...) .
وفي رواية: (وَبَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ.. سَنَوَاتُ الزَّلَازِلِ) .
وفي رواية لأبي داود في حديثٍ صحيحٍ: (وتدنو الزَّلَازِلُ وَالْبَلَابِلُ وَالْأُمُورُ الْعِظَامُ) .
قال العلماء هي: الهموم والأحزان .
وهي مقدمات لزلزلة الساعة التي هي شيء عظيم .
وقد استمرت الزلزلة في بلدة من بلاد الروم التي هي للمسلمين ثلاثة عشر شهراً .
قال المهلب: "ظهور الزلازل والآيات وعيد من الله تعالى لأهل الأرض قال تعالى: "وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا" (الإسراء: 59) .
وماذا أيضاً من التغيرات التي تكون في الأرض في آخر الزمان، هنالك تغيرات تصيب الوقت، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ فَتَكُونُ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ وَتَكُونُ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ وَيَكُونُ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ وَتَكُونُ السَّاعَةُ كَالضَّرَمَةِ بِالنَّارِ) .
والضَّرْمَةُ: غُصْنُ النَّخْلِ فَإِنَّهَا إِذْ اِشْتَعَلَتْ تُحْرَقُ سَرِيعًا اِنْتَهَى .
وهو –هذا التعبير- كناية عن قصر مدة الأزمنة عما جرت به العادة .
وقيل المراد: قصر الأعمار بقلة البركة فيها.." .
"ويُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى قِلَّةِ بَرَكَةِ الزَّمَانِ ونَزْعها مِنْ لَيْله وَنَهَاره، وَذَهَابِ فَائِدَتِهِ فِي كُلِّ مكان" .
قال ابن حجر رحمه الله: "وقَدْ وُجِدَ فِي زَمَاننَا هَذَا فَإِنَّا نَجِد مِنْ سُرْعَة مَرَّ الْأَيَّام مَا لَمْ نَكُنْ نَجِدهُ فِي الْعَصْر الَّذِي قَبْلَ عَصْرنَا هَذَا" .
فإذا قالها رحمه الله على القرن التاسع، فماذا نقول نحن اليوم في هذا القرن .
قَالَ النَّوَوِيّ: "فيَصِير الِانْتِفَاع بالْيَوْمِ مثلاً بِقَدْرِ الِانْتِفَاع بِالسَّاعَةِ الْوَاحِدَة" .
فما هو سبب قلة البركة في الزمان؟
قال العلماء: بِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنْ ضَعْف الْإِيمَان لِظُهُورِ الْأُمُور الْمُخَالِفَة لِلشَّرْعِ مِنْ عِدَّة أَوْجُهُ, وَأَشَدّ ذَلِكَ الْأَقْوَات فَفِيهَا مِنْ الْحَرَام الْمَحْض وَمِنْ الشُّبَه مَا لَا يَخْفَى حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاس لَا يَتَوَقَّف فِي شَيْء –إذا عرف أنه حرام أكل مباشرة دون تردد- وَمَهْمَا قَدَرَ عَلَى تَحْصِيل شَيْء هَجَمَ عَلَيْهِ وَلَا يُبَالِي, لأَنَّ الْبَرَكَة فِي الزَّمَان وَفِي الرِّزْق وَفِي النَّبْت إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ طَرِيق قُوَّة الْإِيمَان وَاتِّبَاع الْأَمْر وَاجْتِنَاب النَّهْي, وَالشَّاهِد لِذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ" (الأعراف: من الآية: 96) .
وأيضاً من التغيرات التي تكون في الأرض تقارب الأسواق، وهذه يشمل سرعة العلم فيها، وسرعة السير من سوقٍ إلى سوقٍ ومقاربة بعضها بعضاً في المكان والأسعار، فبين كل سوقين سوق، وهذا مُشاهد اليوم في عالم المولات فكثرتها ولا شك مما أخبر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- تقارب الأسواق وكثرة الأسواق، وقد صارت الأسواق في الشبكات يفتحون منها ما يشاءون، وليس هذا الشرط شرط مذموماً، لأن من أشراط الساعة ما هو مذموم ككثرة الزنا وكثرة الربا، ومنه ما ليس بمذموم كفشو القلم وانتشار الكتابة والطباعة، وكذلك تقارب الأسواق، فإنه في الأصل ليس مذموماً إذا لم ينه عن ذكر الله وعن الصلاة، ولكن كثير مما في الأسواق لا يُرضي الله .
ومن الآيات العظيمة التي أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن وقوعها من التغيرات في آخر الزمان ونحن نرصد وإياكم هذه التغيرات ونتدبر فيها ونتفكر على ضوء ما نرى في واقعنا من حدوث شيء من هذه التغيرات الملموسة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من اقتراب الساعة انتفاخ الأهلة) .
ومعناه: أن يعظم الهلال وكبره، فيُرى الهلال حين طلوعه أكبر مما هو معتاد في أول الشهر، فيُرى وهو ابن ليلة كأنه ابن ليلتين .
هكذا فسر العلماء، قال السفاريني في لوامع الأنوار وهو من العلماء المتأخرين: وهي من العلامات التي بدأ ظهورها ولا تزال في ازدياد وتكامل .
وقال بعض العلماء: هي من العلامات التي لم تقع بعد .
ومن التغيرات التي تكون في الأرض أيضاً قبيل قيام الساعة أن تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً .
وهذه من الشروط غير المذمومة كما تقدم تقسيم الأشراط، إلى أشراط مذمومة وأشراط لا تدل على ذمٍ في ذاتها، فقال -عليه الصلاة والسلام-: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ الْمَالُ وَيَفِيضَ حَتَّى يَخْرُجَ الرَّجُلُ بِزَكَاةِ مَالِهِ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهَا مِنْهُ, وَحَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا) .
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "المقصود بأرض العرب الجزيرة العربية" .
"فترجع مُروجاً ورياضاً كما كانت بنباتاتها وأشجارها وأثمارها, وتُخلى فيها الدواب لتسرح مختلطة كيف شاءت، وتعود مياهها كثيرة, وأنهارها جارية بسبب كثرة الأمطار" .
وقوله: (حتى ترى ما ها هنا وها هنا) لمعاذ في غزوة تبوك مروجاً وأنهاراً فيه بيان للمزيد من هذا يحدث في تلك الجهة في شمال الجزيرة حول تبوك .
ومن الأشراط والعلامات أيضاً التي ستحدث انحسار نهر الفرات، ونقص المياه ونزول المنسوب، فقال -عليه الصلاة والسلام-: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَحْسِرَ الْفُرَاتُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ, فَإِذَا سَمِعَ بِهِ النَّاسُ, سَارُوا إِلَيْهِ, فيَقْتَتِلُ النَّاسُ عَلَيْهِ, فَيُقْتَلُ مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ, وَيَقُولُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ: لَعَلِّي أَكُونُ أَنَا الَّذِي أَنْجُو) .
وفي رواية: (فَمَنْ حَضَرَهُ فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا) .
ومعنى قوله يحسر الفرات: أي يذهب ماءه فينكشف عن كنز عظيم مثل الجبل، وقد أخبر عنه أنه من الذهب، (عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ) كما جاء في رواية، ومعلوم أن الذهب أصفر، وأنه الجبل فوق الأرض، وأن حسر الماء إنما يكون سبب الظهور، فقام بعض الجهلة بتفسيره بالبترول، وهذا غباء ومخالفة لما ورد في النص واللغة العربية، وكثير من الذين يتكلمون في جوانب يظنونها من الإعجاز في القرآن والسنة من الجهلة باللغة العربية، وبتفسير العلماء، فيلجئون إلى عقولهم المجردة على شيء من الثقافة والدكترة لكي يصبوا جام جهلهم بجانب هذه النصوص .
والذهب أصفر معروف، والجبل ما ارتفع عن الأرض، وذاك أسود في باطنها، وإنما يستخرج استخراجاً، وكذلك فإن الأخذ من هذا ممكن كما يدل عليه ظاهر الحديث، ولذلك نهي عن الأخذ، لماذا؟ "لما ينشأ عن أخذه من الفتنة والاقتتال عليه"أ.هـ، "ولأنه مستعقِبٌ للبليات, وهو آية من الآيات".أ.هـ .
وهذا فيه تنبيه من النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى ترك الطمع، فإن بعض الناس لا يزال يزداد طمعه وشرهه، فإذا رأى من هذا يمشون إليه، ويكون بين الناس مقتلة عظيمة حتى يهلك تسعة وتسعون بالمائة من الناس الذين اجتمعوا يريدون الثروة، وحذرنا -عليه الصلاة والسلام- من الأخذ وأن يلجم الإنسان نفسه .
ومن التغيرات أيضاً التي ستكون كثرة المطر وقلة النبات، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُمْطَرَ النَّاسُ مَطَرًا عَامًّا, وَلَا تَنْبُتَ الْأَرْضُ شَيْئًا) .
وهذا من المصائب العظام والعقوبات العامة، فهي أمطار كثيرة مغرقة لكن الأرض لا تنبت بسببها، وقال -عليه الصلاة والسلام-: (لَيْسَتْ السَّنَةُ) أي: الجدب والقحط (بِأَنْ لا تُمْطَرُوا, وَلَكِنْ السَّنَةُ أَنْ تُمْطَرُوا, وَتُمْطَرُوا, وَلَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ شَيْئًا) .
وهذا من أنواع القحط فليس القحط فقط أن لا ينزل المطر، لكن أن ينزل فلا تنبت الأرض، لماذا؟ لأن المعاصي التي عملت عليها منعت من ظهور نباتها .
ومن التغيرات أيضاً خروج كنوز الأرض وراء الدجال، وقد ورد أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، وتتبعه كنوزها، قال -عليه الصلاة والسلام-: (.. ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ –أي الدجال- فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ –أي يكفرون به- فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ -أي قد أصابهم القحط والجدب- لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا أَخْرِجِي كُنُوزَكِ فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ..) .
(يَعَاسِيب النَّحْل) هِيَ ذُكُور النَّحْل، وقيل: ويقصد جَمَاعَة النَّحْل .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى: "ويأتي إلى الخربة.. أرض خربة ما بها بناء ولا أناس، فيقول: أيتها الأرض أخرجي كنوزك فتخرج كنوزها وما بها من معادن من ذهب وفضة وغير ذلك فتتبعه كيعاسيب النحل" .
وهذه فتنة يمتحن بها عباده، فينظر أيتبعون الحق أم يتبعون الدجال .
ومن التغيرات التي تعتري أيضاً الأرض أنه قبيل خروج الدجال ثلاث سنوات، يأمر الله الأرض في السنة الأولى أن تمسك ثلث نباتها والسماء أن تمسك ثلث مطرها، وفي السنة الثانية يأمر الله الأرض أن تمسك ثلثي النبات، والسماء أن تمسك ثلثي المطر، وفي السنة الثالثة قبل خروجه يأمر الله الأرض فلا تنبت شيئاً، ويأمر السماء فلا تمطر شيء، فلا يبقى ذات ظلف إلا هلكت إلا ما شاء الله .
سئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: فما يعيش الناس؟ فأخبرهم أن التهليل والتحميد والتكبير والذكر يجزئ عنهم مجزأة الطعام .
وكذلك أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ريحٍ طيبةٍ تخرج لقبض أرواح المؤمنين في آخر الزمان، فتهب فلا يبقى على ظهر الأرض من يقول الله إلا وأخذته، فيبقى شرار الناس عليهم تقوم الساعة، وقد جاء في وصفها أنها أنعم من الحرير، فقال -عليه الصلاة والسلام- يصف الحال بعد خروج الدجال وقتله وبعد خروج يأجوج ومأجوج وفنائهم، قال: (فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ –أي المسلمون- إِذْ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّأْمِ فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ، فَلا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ إِيمَانٍ إِلَّا قَبَضَتْهُ حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ فِي كَبِدِ جَبَلٍ لَدَخَلَتْهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَقْبِضَهُ.. وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ] أي يجامع الرجال النساء علانية كما يفعل الحمير [فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ) .
ومنها التغيرات أيضاً التي ستعتري الأرض الدخان، قال تعالى: "فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ* يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ" (الدخان:10-11) .
واطَّلَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ، فَقَالَ: (مَا تَذَاكَرُونَ؟) قَالُوا: نَذْكُرُ السَّاعَةَ. قَالَ: (إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ؛ فَذَكَرَ منها: الدخان..) .
وهو دخان يأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمن منه كهيئة الزكام كما قال بعض أهل العلم، وهو يكون قريبا من قيام الساعة. (شرح النووي) .
وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ –يا أيها الناس سابقوا انتهزوا الفرصة اغتنموا حياتكم– سِتًّا -قبل أن تقع ستاً-: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا أَوْ الدُّخَانَ أَوْ الدَّجَّالَ أَوْ الدَّابَّةَ أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ أَوْ أَمْرَ الْعَامَّةِ) .
فالشاهد من الحديث قوله: ((الدخان)) فهذا سيكون ولا شك .
ومن التغيرات الكونية أيضاً طلوع الشخص من مغربها: "هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ" (الأنعام: 158) .
فهذه الآيات الخارقة للعادة، التي يُعلم بها أن الساعة ستقوم بعدها بقليل، هذه الآيات منها طلوع الشمس من مغربها، لكن هذه آيات مفحمة هائلة قوية، ليس هناك اختيار للعبد إلا الإيمان، عندها يكون الإيمان اضطرارياً، فلما ينتفي الاختيار في الإيمان ويصبح إجبارياً واضطرارياً من هول ما يرون لا تقبل التوبة، قال سبحانه: "فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ" (غافر: 84 - 85) .
فهذا الإيمان الاضطراري كإيمان الغريق فرعون، أو الذي نزل به الموت لا ينفع صاحبه، لا بد أن يكون إيماناً اختيارياً يختاره العبد بتلقاء نفسه .
قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ فَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ –لأن هذا الشيء الهائل الذي يحدث يجبر كل واحد مهما كان كافر أو عاصياً على لإيمان- فَذَلِكَ حِينَ: "لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا" .
وقال -عليه الصلاة والسلام-: (مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ) .
هذه الآية قضية طلوع الشمس من مغربها لها مدلول خاص، فإن ما سبق ذكره من الخسف والزلازل ونحو ذلك تغيرات في العالم السفلي والأرضي .
أما طلوع الشمس من مغربها..
قال ابن كثير رحمه الله: "وطلوع الشمس من مغربها على خلاف عادتها المألوفة أول الآيات السماوية"، هنا يبدأ التغير في العالم العلوي، يبدأ التغير في السماوات .
قال ابن حجر: "وهي أَوَّلِ الْآيَات الْعِظَام الْمُؤْذِنَة بِتَغَيُّرِ أَحْوَال الْعَالَم الْعَلَوِيّ، وَيَنْتَهِي ذَلِكَ بِقِيَامِ السَّاعَة" .
إن ما نراه اليوم من تغيرات في الأجواء، وإن ما نسمع أيضاً من كثرة الزلازل لا شك أنه مؤذن بالتغيرات العظام القادمة .
أيها الأخوة..
إن ما نراه اليوم من تغيرات في الأجواء، وإن ما نسمع أيضاً من كثرة الزلازل لا شك أنه مؤذن بالتغيرات العظام القادمة، وبعد ذلك التغيرات العلوية وبعد ذلك تقوم الساعة، وليس الأمر أن ننشغل الآن متى سيحدث كذا ومتى سيخرج الدجال، ومتى سيكون الدخان، وإنما الانشغال هو بالإقبال على الأعمال الصالحة قبل هذا، فإنه إذا دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام ذهلت النفوس وتحيرت، فانشغلت عن العبادة، فاعبد يا عبد الله الآن قبل فوات الآوان .
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه أنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية:
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، وأشهد أن محمداً عبد الله، أرسله الله للعالمين بشيراً ونذيراً، اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، اللهم صلي على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمدٍ وآل محمدٍ كما باركت على آل إبراهيم، أشهد أن لا إله إلا الله حقاً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إليه صدقاً، بلغنا وعلمنا، وأنذرنا وبشرنا، وكان مما قاله لنا عن أشراط الساعة مما يحدث في الأرض قبل قيامها، قوله: (وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ) .
ولا يبقى بعد هذا إلا النفخ في الصور وقيام الساعة، بعد هذه النار آخر أشراط الساعة الأرضية، آخر أشراط الساعة الكبار العظام هذه النار، ما بعدها إلا النفخ في الصور .
قال: (وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ الْيَمَنِ) وفي رواية: (سَتَخْرُجُ نَارٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ أَوْ مِنْ نَحْوِ بَحْرِ حَضْرَمَوْتَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَحْشُرُ النَّاسَ) .
وفى رواية لمسلم: (... وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قُعْرَةِ عَدَنٍ تَرْحَلُ النَّاسَ) .
وهذه نار حقيقة، ليست كناية عن نار الحروب والفتن، فهي نار واحدة كما قال ابن حجر رحمه الله، فإن قيل في الأرض أناس كثيرون، قال ابن حجر: فابتداء خروجها من قعر عدن، فإذا خرجت انتشرت في الأرض كلها -أي ذهبت شرقاً وغربت لتسوق الناس إلى الشام، حيث المحشر هناك-، ثم تحشر الناس من المشرق إلى المغرب (فتح الباري بتصرف) .
ومكان خروجها من جهة اليمن من حضرموت، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن حال الناس عندما يحشرون بالنار هذه فقال: (يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثِ طَرَائِقَ رَاغِبِينَ رَاهِبِينَ، وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، وَثَلَاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَعَشَرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ -قال بعضهم العشرة يعتقبونه فيركب الواحد وينزل الآخرون وهكذا-، وَيَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمْ النَّارُ، تَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا –من القيلولة- وَتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا –نوم الليل-، وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسَوْا) .
فهذه ملازمة، لأنه لا مناص من حشرهم، وإخراجهم من أماكنهم وبلدانهم وقبائلهم وبيوتهم ومزارعهم بالإجبار بالإحراق، لابد أن يخرجوا، فهذه تحشر الناس في آخر الزمان، في آخر عمر الدنيا، قال ابن كثير رحمه الله: (وهذا الحشر هو حشر الموجودين في آخر الدنيا –يعني ليس هو الحشر العام يوم القيامة من القبور إلى أرض المحشر وأرض الجزاء والحساب، هذا حشر آخر قبله مصغر قبل قيام الساعة مباشرة-، من أقطار محلة الحشر، وهى أرض الشام، وأنهم يكونون على أصناف ثلاثة، فقسم يحشرون طاعمين كاسين راكبين، وقسم يمشون تارة ويركبون أخرى وهم يعتقبون على البعير الواحد من قلة الظهر -من قلة الدواب- وتحشر بقيتهم النار، وهى التي تخرج من قعر عدن، فتحيط بالناس من ورائهم، تسوقهم من كل جانب إلى أرض المحشر، ومن تخلف منهم أكلته النار.. وهذا كله مما يدل على أن هذا في آخر الدنيا، حيث الأكل والشرب والركوب، والظهر المستوي وغيره، وحيث يهلك المتخلفون منهم بالنار، ولو كان هذا بعد نفخة البعث، لم يبق موت ولا ظهر يَسْرِي، ولا أكل ولا شرب ولا لبس في العرصات) .
تفسير الأحداث بين المؤمنين والمنافقين:
عباد الله، إن الدروس العظيمة التي تؤخذ مما أخبرنا عنه الله ورسوله، في آخر الزمان الاتعاظ والاعتبار، ومعرفة قدرة العزيز الجبار، وأن الله -سبحانه وتعالى- هو المهيمن، وهو القوي، وهو الذي يتحكم في الأرض والسماء، -سبحانه وتعالى- بيده كل شيء، ليس بيد قوةٍ في الأرض ولا بشرٍ، وأنهم جميعاً إلى الموت سائرون، وأن هذه الأرض بما عليها إلى الله -عز وجل- تصير، وأنه -سبحانه وتعالى- يرث الأرض ومن عليه، والعظة أن يعتبر الناس بما يصيبهم .
وأنت ترى يا عبد الله تفسير أهل الإيمان بالأحداث يختلف عن أهل الكفر والنفاق، أهل الإيمان إذا وقعت المصيبة في الأرض قالوا: بما كسبت أيدينا، ارجعوا إلى الله وتوبوا يا أيها الناس، وأما أهل النفاق فيقولون: لا علاقة للحدث بالذنوب، وهذه معركة قائمة الآن في المقالات، بين أهل الإيمان وأهل النفاق، فأهل النفاق يصرون إصراراً تاماً على تفسير الحدث بظاهر من الحياة الدنيا، تفسير الحدث التفسير العلمي الجيولوجي الفلكي التفسير المعروف عندهم فقط ولا يربطون ذلك بأي شيء من قدرة الله، قوة الله، انتقام الله، بطش الله، تذكير الله للعباد، مكذبين بآيات الله في كتابه، لما قال: "وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا" (الإسراء: 59) .
فهؤلاء يقولون: لا تخويف ولا شيء هذه ظاهرة طبيعية، يقول بما كسبت أيديكم: "وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ" (النساء: من الآية 79)، يقول لا علاقة لها بما كسبت أيديكم ولا علاقة لها بما يقترفه الناس من الذنوب، والقضية كلها قضية جيولوجية قضية أرضية قضية علمية، ظاهرة طبيعية، ليطبعوا الحدث لأنهم لا يريدون للناس أن يتعظوا، أهل النفاق لا يريدون للناس أن يتوبوا، ولا يريدون للناس أن يتأثروا، يريدون الناس أن يستمروا في لهوهم سادرين، وفي غيهم مستمرين، ولا يريدون توبةً ولا استغفاراً لأن قضية سماع الاستغفار أو الذكر لا يطيقونه، ولذلك ترى استهزائهم ما ذنب الناس الفلانين حتى يحصل عندهم الزلازل، الغباء العلماني لا يهتدي إلى أن المصيبة إذا صارت في قوم لا يشترط أن يكون هم أنجس أهل الأرض، ولا أفسق أهل الأرض، ولا أعصى أهل الأرض، بل قد يكونون أقل ذنوباً فيُصيبُهم الله ليُكفر عنهم من سيئاتهم، ويبقى الأفسق والأعصى تُدخر له سيئاتهم إلى يوم الدين، الغباء العلماني يرفض رفضاً تاماً أن يربط بين الحدث والذنب، قاطعاً للطريق لأنهم لصوص قلوب، بين الناس وبين التوبة، هذه خطة واضحة جداً، ثم قضية ما يسمونه بالتفسيرات الدينية، لأن نفوسهم المريضة التي تحب الدنيا وعميت عن الآخرة لا ترى إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، وهو التفسير الطبعي الأرضي العلمي كما يقولون، وأما التفسير الشرعي القرآني النبوي فهم عنه معرضون، وهذا واضح اختلاف المنطلقات واضح جداً أثره على تفسير الأحداث، وعلى أخذ العبر والعظات من الأحداث، قال الإمام القرطبي رحمه الله: والحكمة في تقديم الأشراط ودلالة الناس عليها يعني لماذا ذكر لنا أشراط الساعة تكثر الزلازل مثلاً؟ تنبيه الناس عن رقدتهم، وحثهم على الاحتياط لأنفسهم بالتوبة والإنابة لكي لا يباغتوا، فينبغي أن يكون الناس بعد ظهور أشراط الساعة قد نظروا إلى أنفسهم واستعدوا للساعة .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "والحكمة في تقدم الأشراط إيقاظ الغافلين، وحثهم على التوبة والاستعداد" اهـ، وأما الذين يقتصرون على النظر إلى الأمور من منظر الدنيا فقد قال فيهم شيخ الإسلام: "فالذي يُضيف خلق الحيوان والنبات إلى ما في مادتها من الطبع أليس هو أحمق وأجهل وأظلم وأكفر، وكذلك خلق السحاب والمطر من الهواء والبخار هو كذلك، وإضافة الزلزلة –يقول شيخ الإسلام عن تفسير الطباعيين للزلازل- إلى احتقان البخار، وإضافة حركة الرعد إلى مجرد اصطكاك أجرام السحاب، إلى غير ذلك من الأسباب –يعني يعرضون عما ذكره الله- التي ضلوا فيها ضلالاً مبيناً" .
وقال -عز وجل-: "فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ" (محمد: 18) .
إذا جاءت الساعة انتهى، والتذكر لا ينفع، وقد اقتربت ودنت وأزفت، ومن كثرة العمارة في الأرض والمصانع والمزارع والمباني وناطحات السحاب وما فيها من أنواع اللهو والملاهي والملذات يظن الناس أنها خالدة باقية ستبقى تُعمّر وتُعمّر، وتبنى فيها الأشياء بلا حدود، والصناعات ستستمر وتستمر بلا قيود، كلا والله بل إنها آيلة إلى الخراب ولا شك، وليس معنى هذا أن لا نعمر وأن لا نزرع، كلا والله، ولكن أن نبتغي به وجه الله، وأن لا ننشغل به عن ذكر الله .
"وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا" (القمر: من الآية 2)، وقال سبحانه عن المعرضين: "فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ" (يونس: من الآية: 88) .
وأما أهل الإيمان إذا رأوا أشياء من أشراط الساعة قالوا: "هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً" (الأحزاب: من الآية: 22) .
وليس معنى ذكر الأشراط أن تأول الأحداث لتوافق الشرط بزعم جاهل، ليقول هذا هو هذا، فإن هذا يحتاج إلى علم بالكتاب والسنة وعلم بالواقع، وعلم باللغة العربية، حتى يفسر هذا هو الشرط، فبعض الناس بجهلهم يفسرون أشراط الساعة بأحداث تحدث، ليست هي، ربما يكون من مقدماتها، ربما يكون من أوائلها، ربما لا يكون له علاقة أصلاً، والمهم أن الله ذكر لنا هذه الأشراط للاعتبار، والإخبار بأن هذه الأرض زائلة وأن موعدنا مع الله وأن مردنا إلى الله.
فجُزها ممراً لا مقرا وكن بها غريباً تعش فيها حميدا وتسلمُ
أو ابنَ سبيل قَالَ في ظل دوحة وراح وخـــــــلَّى ظلها يتقسَّمُ
أخا سفر لا يستقرُ قراره إلى أن يرى أوطــــانه ويسلمُ
قَالَ: أي نام القيلولة .
أوطانه: الجنة .
وهكذا يا عباد الله ينبغي أن يكون عملنا لله، وأن نعود إلى الله، وأن نستعد للآخرة وأن هذه الدنيا زائلة فلا انشغال بها عما يكون في ذلك المقام .
اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، اللهم تقبل عملنا واغفر ذنبنا، واقض ديننا، واستر عيوبنا، واهد ضآلنا، وردنا إلى الحق رداً جميلا، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وأصلح نياتنا وذرياتنا، أعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، ارزقنا فعل الخيرات، والوقاية من المنكرات، وحب المساكين، اللهم إنا نسألك حسن الخاتمة، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين .
المراجع:
1 - البخاري (7118) ومسلم.
2 - فتح الباري.
3 - فتح الباري.
4 - فتح الباري.
5 - فتح الباري.
6 - فتح الباري.
7 - ابن ماجه (4059) وصححه الألباني.
8 - الترمذي (2185) وصححه الألباني.
9 - مسلم (5163).
10 - فتح الباري.
11 - البخاري (1036).
12 - أحمد (16516) وصحح سنده شعيب وأغرب متنه. قال الهيثمي: "ورجاله ثقات". مجمع الزوائد.
13 - أبو داود (2535) وصححه الألباني.
14 - مرقاة المفاتيح (15/443).
15 - عمدة القاري.
16 - البخاري (1036) وأحمد (10560) والترمذي (2332) واللفظ له، وصححه الألباني.
17 - تحفة الأحوذي والأزهار.
18 - عمدة القاري شرح البخاري (10/482).
19 - تحفة الأحوذي.
20 - الفتح.
21 - فتح الباري.
22 - فتح الباري.
23 - رواه الطبراني في الأوسط(6864) وصححه الألباني في الصحيحة (2292).
24 - لوامع الأنوار (2/68).
25 - مسلم (157).
26 - فتاوى إسلامية (4/156).
27 - مرقاة المفاتيح (15/433).
28 - مسلم (2894)(2895).
29 - البخاري (1179).
30 - فتح الباري (13/81).
31 - عمدة القاري (35/186).
32 - أحمد (12021)، وصححه الألباني.
33 - مسلم (2904).
34 - مسلم (5228).
35 - شرح رياض الصالحين.
36 - مسلم (5228) (2940).
37 - مسلم(2901).
38 - مسلم (2947).
39 - البخاري (6506) ومسلم (157).
40 - مسلم (2703).
41 - البداية والنهاية.
42 - الفتح.
43 - مسلم (2901).
44 - الترمذي(2247)، وصححه الألباني.
45 - البخاري( 6522) مسلم(2861) واللفظ له.
46 - النهاية في الفتن والملاحم.
47 - قاعدة في المحبة (1/31).
المصدر:
http://almunajjid.com/khotab/59