موسـوعة القصص القرآني
العُــــــزير عليـــه السـلام
*********************
منـير عـرفه
monirrrrrrr@yahoo.com
******************************
بسم الله الرحمن الرحيم
".... فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" (الأعراف: 176).
العُزَيرُ ...
ذلك الرجل الصالح
و الاسم اللامع عند بنى إسرائيل جميعًا ..
ولم لا ؟!
وقد كان بحق ، نعم العالم الزاهد .. ونعم المؤمن الحق ، الذى ينصح قومه، لا لشئ .. إلا لله .
وبلغ من مكانته وعلمه أنه كان واحدًا من الأربعة الذين حفظوا التوراة فى تاريخ بنى إسرائيل كله .
فالذين حفظوا التوراة فى صدورهم على مر تاريخ بنى إسرائيل كله هم : موسى عليه السلام ، عيسى عليه السلام ، يوشع بن نون ، وكذلك العزير عليه السلام .
وقد كان حفظ العُزَير عليه السلام للتوراة ، فى زمن تضاعف حبّ بنى اسرائيل للذهب و المال ،
و عادت الروح الوثنية الى نفوسهم من جديد ، و حرّفوا تعاليم التوراة .
من أجل هذا ضعفت روحهم القتالية ، و أصبحوا يخافون الموت ، و يحرصون على الحياة.
فسلط الله عليهم بختنصر ، ذلك الملك الجبار ، الذى قتل منهم فى يوم واحد سبعين ألفا .. و سقطت " أورشليم " العاصمة .
و راح بخت نصر يقتل و يقتل ، و يدّمر البلاد و يحرق الكتب المقدسة و في طليعتها التوراة ، كما خرّب الهيكل الذي يقدسه اليهود .
و عندما عاد بخت نصر الى بابل بالعراق أخذ اليهود معه كعبيد وسبايا ، وأذلهم غاية المذلة .
و ظلّ اليهود في بابل مائة عام تقريباً ، و في تلك الفترة وُلد العُزَير عليه السلام .
ثم اندلعت الحرب بين بابل و فارس ، و انتصر "كورش " ملك فارس في الحرب و دخل بابل فاتحاً .
تعرّف "كورش" على العُزَير فأحبّه لأخلاقه و أدبه ، و طلب منه أن يسمح لليهود بالعودة الى بلادهم ، و هكذا عاد اليهود الى بلادهم ، فأحبوا العزير عليه السلام كثيراً .
و كان العُزَير عليه السلام يحبّ الناس و يعطف عليهم ، يقوم بنصيحتهم أن يتمسكوا بما أمرهم الله تعالى به .
و يعلمهم التوراة ويرشدهم الى ما ينفعهم فى حياتهم وآخرتهم .
وكانت للعزير مهمةٌ أكبرُ من أى مهمة أخرى ، وهى مهمةُ جمعِ التوراة من جديد ، بعد أن ضاع الكثير منها ، وبعد أن حرق بخت نصر النسخ الكثيرة منها .
و قضى العزير عليه السلام في ذلك سنوات عديدة .
وبعد تمام جمعها من جديد ، أقر العلماء له بتلك التوراة وراجعوها معه فكانت نسخة أصلية خافوا عليها من الضياع .
وفكروا طويلا ، وقالوا لا بد أن نصون هذه النسخة من الضياع .
خوفا من أن يأتى عليهم غزاة فيحرقوها .
ولكن كيف نحفظها ؟
فقالوا : إن العُزَير عليه السلام هو خير من يحفظ هذه النسخة ، واتفقوا أن يقوم بحفظها وصيانتها فى مكان لا يعرفه أحد غير العُزَير عليه السلام .
لأنه أكثر الناس إيمانًا وعلمًا ، فلن يبوح بمكانها لأى عدوٍ مهما كان .
وفعلا قام العُزَير عليه السلام بترتيبها وجمعها جيداً ، ووضعها فى صندوق محكم ، ودفنها فى مكان بعيد لا يعلمه إلا الله سبحانه .
وعلم علماء بنى إسرائيل تلك الحقيقة وعلم أولاد العُزَير عليه السلام بتلك الحقيقة وبذلك اجتمع للعُزَير عليه السلام أمرين :
الأول : حفظ التوراة فى صدره .
الثانى : حفظ التوراة المكتوبة فى مكان لا يعرفه معه أحد آخر .
والله من فوق الجميع يعلم السر وأخفى .
كان العُزَير عليه السلام يعمل بيديه مثل سائر الأنبياء .
حيث كان له بستان وأراضى ، يقوم بزراعتها ، ومتابعتها بالرى وأعمال الزراعة ، حتى يجنى الثمار بصورة طيبة .
وكان له حمار يرعاه و يشفق عليه ، فلم يضربه ، ولم يكلفه من العمل ما لا يطيق ، وكان يستخدمه في ذهابه إلى البستان و عودته .
وفى أحد الأيام ... ركب العُزَير عليه السلام حماره و توجه الى البستان ، لم يكن البستان قريباً بل كان بعيداً ، وبينما كانت الطريق الذي يمتد إليها يمرّ ببقايا مدينة مندثرة و مقابر قديمة مبعثرة ، وكان الهواء منعشاً في الصباح ، و كانت نسمات طيبة تهبّ من الحقول الخضراء .
مضى الحمار يشق طريقه وسط المزارع الخضراء ، حتى وصل الطريق الترابي الذي يمرّ بخرائب المدينة المندثرة و المقابر القديمة .
ارتفعت الشمس في السماء و راحت ترسل أشعتها الدافئة، و لاحت خرائب المدينة ، المنازل مهدمة ، و الحجارة مبعثرة هنا و هناك ، و في جانب آخر كانت المقبرة هي الأخرى خربة ، و بعض العظام كانت مبعثرة .
نزل العُزَير عليه السلام عن حماره ، و جلس في ظل شجرة.
كان جائعاً و متعباً أخرج قليلا من الطعام ليتناوله ، ثم راح يجيل بصره في القبور و في خرائب المدينة و العظام البالية .
وأخذ يفكر فى نفسه ... كيف تعود الحياة الى هؤلاء الذي ماتوا منذ مئات السنين ؟!
وكيف تعود الحياة الى هذه المناطق بعد أن خربها بخت نصر بجبروته وقوته وقتل الكثير من الناس .
و بعد أن ملأت قدرة الله نفسه و قلبه ، قال العُزَير عليه السلام في نفسه:
{ أنّى يُحيى هذه اللهُ بعد موتها }؟! فأراد الله أن يجعل له من نفسه آية ، وهنا شعر العُزَير عليه السلام بالنعاس يُثقل جفنيه و أغمض عينيه قبل أن يتناول طعامه.
ولم يستيقظ ، لقد مات.. و مات حماره أيضاً .
مرّت الأيامُ و السنون، لم يرجع العُزَير عليه السلام الى قريته ، خرج أبناؤه يبحثون عنه و لكن أحداً لم يعثر عليه ، ذهبوا الى البستان ، ولكن لا فائدة .
وخرج علماء بنى إسرائيل يبحثون فى كل مكان عن عالمهم الذى يحفظ التوراة ويعرف مكانها ولا يعرف مكانها من البشر سواه .
وأصيب الأبناء والعلماء والجميع بخيبة أمل ، فلم يرجع !
و بمرور الأيام نسي الناسُ العُزَير عليه السلام و لم يعد يذكره أحد، مرّت الشهور ، و الأعوام ، و العُزَير عليه السلام في مكانه ميت ، و أصبح الحمار هيكلاً من العظام ، تبعثرت العظام ، و أصبح بعضها مثل التراب .
و لكن العجيب أن الطعام والشراب ظل كما هو على حاله لم تغيره السنون .
وبمرور الأيام دبت الحياة فى القرية بأكملها ، وتكامل بنيانها وسكانها بعد سبعين عاماً فقط ..
واستمر العُزَير عليه السلام على حاله .
و ذات يوم .. و في لحظة اختارها الله .. عادت الروح الى العُزَير عليه السلام .. وعادت أنفاسه تتردد ، ودبت فيه الحياة من جديد .
وناداه الله قائلا : يا عزير . كم لبثت .
أجاب العُزَير عليه السلام و هو يفرك عينيه : نمتُ يوماً أو جزءً من اليوم !
وناداه الله قائلا : بل لبثتَ مائة عام !!
قال العُزَير عليه السلام : مائة عام ؟!
نعم ، وشاء الله أن يعيد إليك الحياة .. ليجعل منك آية للذين ينكرون البعث و المعاد .. انظر يا عزير الى طعامك .. انه لم يفسد بالرغم من عشرات السنين التي مرّت !!
إن بدنك يا عزير ظل على حاله لم يتغير .. لقد حفظه الله ثم قال : انظر الى حمارك .
نظر العُزَير عليه السلام إلى حماره ، فلم يجد حمارًا ، إنما وجد عظامًا لحمار مات منذ مائة عام عظام بالية متناثرة بعضها اختلط مع التراب .
انظر يا عزير كيف سيعيد الله سبحانه الحياة للحمار ؟!
كان العُزَير عليه السلام يراقب مدهوشاً بما يجري .. العظام البالية تتجمع من جديد لتؤلف هيكلاً عظمياً للحمار .. الجمجمة فى مكانها ، ثم عظام الرقبة ، ثم القفص الصدرى والظهر وقوائم الحمار ..
هو هو هيكل الحمار العظمى .
ثم نبت اللحم و ظهرت العروق !! و نبت الجلد !! و عاد الشعر .. ثم عادت أنفاسه مرّة أخرى !!
فجأة نهض الحمار ، و راح يطلق نهيقاً عالياً ، و هتف العُزَير عليه السلام من أعماقه : أعلم أن الله على كل شيء قدير !!
و استغرق العُزَير عليه السلام في صلاة خاشعة كان يبكي حبّاً لله وشوقاً إليه . ولسان حاله يقول : سبحانك يا رب ..
ولا تُقال إلا لك ..
سبحانك .. سبحانك
و تناول العُزَير عليه السلام لقمات من طعامه ، و كان متأثراً بشدّة، فطعامه ظل طازجاً كل هذه السنين ، لم يتغير طعمه أبداً بمرور السنين.
كيف أوقف الله عامل الزمن بالنسبة للطعام والشراب ..
واستمرت فى حق الحمار ..
إنها آية بل آيات من الله سبحانه .
نهض العُزَير عليه السلام و اعتلى ظهر حماره ، عائداً الى قريته .
ومن بعيد لاحت القرية ، وظنّها العُزَير عليه السلام قرية أخرى ! كل شيء فيها قد تغير ، حتى وجوه الناس لم يعرف فيهم أحدًا .
ولم يعرفه أحدٌ .
وبصعوبة بالغة تعرف على منزله فنادى فلم يجبه أحد ، ثم تابع النداء والطرق حتى ردت عليه امرأة عجوز عمياء ،
كانت جارية لهم ابنة عشرين عاما حين خرج عنهم.
فأصبح عمرها الآن ... مائة وعشرين عاما .
فقال لها العُزَير عليه السلام : أهذا منزل عزير ؟!
فقالت نعم ! ثم بكت .
وقالت : فارقنا العُزَير عليه السلام منذ أمدٍ بعيد ولم يعد أحد يذكره !
قال : فأنا العُزَير
قالت : إن العُزَير عليه السلام فقدناه منذ مائة سنة .
قال : فالله أماتني مائة سنة ثم بعثني
قالت : سيدى العُزَير عليه السلام كان مستجاب الدعوة ،
فإن كنت أنت العُزَير ، فادع الله يرد عليَّ بصري
فدعا الله ومسح على عينيها بيده فأبصرت بإذن الله .
فنظرت فإذا هو العُزَير عليه السلام بشحمه ولحمه ، فخرجت تهوى فى طرقات القرية كالمجنونة ، تقول : العزير حى !! العزير حى !!
فأقبل الناس عليها من كل مكان فلم يعهدوا عليها كذبا قط .
وأقبل أحفاد العُزَير عليه السلام شيوخا ،
يتقدمهم ابنٌ للعُزَير عليه السلام شيخ ابن مائة وثمانية وعشرين سنة .
فقالت العجوز : يا قوم هذا والله العُزَير!
فنظروا ليجدوا رجلاً مهيبا يعلوه الوقار و النور ،
رجلاً في الخمسين من عمره .
فقال ابنه : كانت لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه
فنظروها فوجدوها كما هى شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه
فأكب الشيخ الكبير ابن العزير على أبيه العزير يحتضنه ويبكى ،
وصار الناس يتحدثون الابن أكبر من أبيه .
بل والحفيد أكبر من الجد !
بل يرون الأحفاد والأبناء شيوخًا ، ويرونه أقرب الى الشباب !
وأقبل العلماء فقالوا : إن العُزَير عليه السلام يعرف مكان التوراة .
لقد وضعها في مكان لا يعرفه أحد.
ولقد بحثنا عنها كثيراً و لا فائدة . . لقد بحثنا عنها لأن كل النسخ
الأخرى ضاعت في الحروب .
قال العُزَير عليه السلام : سأدلكم عليها .
انطلق الجميع الى المكان . . رأوا شجرة زيتون قديمة .
كانت الأعشاب قد نبتت ، توجه العُزَير عليه السلام الى المكان ،
راح يحفر و يحفر الى أن عثر على الصندوق الخشبي.
كان الصندوق قد تسوس كثيراً ، و لكن نسخة التوراة ما تزال صحيحة
بل إنهم سألوه أن يتلوها من حفظه،
فتطابق النص المكتوب مع النص المنطوق من فم العُزَير عليه السلام ،
فأقر له العلماء والجميع .
و آمن الجميع بالمعجزة لقد عاد العُزَير عليه السلام حقاً . . بعد أن اختفى و أصبح حكاية . . بعد أن مات مائة عام ثم بعثه الله ليجعله آية لعباده على قدرة الله في بعث الموتى و حشرهم يوم القيامة.
البعض آمن بالمعجزة ، لأن قلبه . . عرف أن الموت حق و أن البعث حق . . و أن الله قادر على كل شيء .
و همس البعض قائلا : عزير ابن الله !!
البعض صدّق ذلك و البعض سكت راضياً . .
و هتف العُزَير عليه السلام مندداً :
ما أنا إلا عبد لله .. جعلني الله آية لكم .. أفى كل موطن لا تعقلون ؟!
و ضاع صوته بين هذه الأصوات المُغَالِية .
قالوا ذلك لأنهم يريدون أن يعبدوا شيئاً يرونه بأعينهم .
و مات العُزَير عليه السلام ، و رحل عن تلك الدينا . .
أما اليهود .. فيا ويلهم !!
لقد صنعوا منه أسطورة الابن الإلهي .
وسجل الله فى قرآنه الكريم تلك المعجزة لتكون آية للناس فقال تعالى :
" أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"
سورة البقرة (259)
وندد الله تعالى بكل من قال أن العُزَير ابن الله فقال تعالى :
" وقَالت اليهودٌ عزيرٌ ابنُ اللهِ وقالت النصارى المسيحُ ابنُ اللهِ ذلك قولُهم بأفواهِم يضاهئون قولَ الذين كفروا من قبل قاتلَهم اللهُ أنَّى يؤفكون "
سورة التوبة (30)
فالله لم يلد .. ولم يولد .. ولم يكن له كفوا أحدا ..
وهو على كل شئ قدير .