حول حديث:
يوشك أن تتداعى عليكم الأمم
ما كتبه الشيخ بقلمه
( السؤال ):
ورد المجلة سؤال من أحد الأساتذة المحامين في بغداد يرجو فيه التحقيق من قبل الأستاذ ناصر الدين الألباني في صحة الحديث المشهور : ” تتداعى عليكم الأمم . . . ” .
ويقول : ” إنني أرتاب في صحة هذا الحديث لسببين :
الأول : أنه يخبر عن الغيب ، ولا يعلم الغيب غير الله .
والثاني : يهدف إلى حمل الناس على الرضا بما نحن فيه والبقاء عليه وعدم العمل على تغييره ” .
ثم يستنتج من ذلك أنه :
” لا بد أن يكون الحديث من وضع عدو للإسلام ولدينهم ” .
( الجواب ) : وجواب الأستاذ الألباني :
إن الحديث صحيح بلا ريب ، وهو يخبر عن أمر غيبي بإطلاع الله تبارك وتعالى له عليه ، وهذا أمر سائغ جائز لا غبار عليه بل هو من مستلزمات النبوة والرسالة ، والحديث يهدف إلى خلاف ما ظنه السائل ، هذا مجمل الجواب ، واليك التفصيل :
1- صحة الحديث :
لا يشك حديثي في صحة هذا الحديث البتة ، لوروده من طرق متباينة وأسانيد كثيرة، عن صاحبين جليلين:
الأول : ثوبان مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
والثاني : أبو هريرة -رضى الله تعالى عنه- الذى حفظ لنا ما لم يحفظه غيره من الصحابة -رضوان الله عليهم- من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- فجزاه الله عن المسلمين خيراً.
أما ثوبان -رضي الله عنه- فله عنه ثلاث طرق :
1- عن أبي عبد السلام ، عن ثوبان ، قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :
” يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ” ، فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ ؟ قال : ” بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن ” ، فقال قائل : يا رسول الله وما الوهن ؟ قال : ” حب الدنيا ، وكراهية الموت ” .
أخرجه أبو داود في سننه (2/10 2) والروياني في مسنده (ج 25/134/2) من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عنه ، ورجاله ثقات كلهم غير أبي عبد السلام هذا فهو مجهول ، لكنه لم يتفرد به بل توبع -كما يأتي- فالحديث صحيح .
2- عن أبي أسماء الرحبي ، عن ثوبان مثله .
أخرجه أحمد (5/287) ومحمد بن محمد بن مخلد البزار في ” حديث ابن السمان ” (ق 182-183) عن المبارك بن فضالة ، حدثنا مرزوق أبو عبد الله الحمصي ، أنا أبو أسماء الرحبي به ، وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات ، وإنما يخشى من المبارك التدليس ، وقد صرح بالتحديث فأمنا تدليسه.
3- عن عمرو بن عبيد التميمي العبسي ، عن ثوبان مختصراً .
أخرجه الطيالسي في سنده (ص 123) ، (2/211 من ترتيبه للشيخ البنا) وسنده ضعيف لكنه قوي بما قبله .
فالطريق الثاني حجة وحده لقوة سنده ، وبانضمام الطريقين الآخرين إليه يصير الحديث صحيحاً لا شك فيه .
وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أحمد في المسند أيضاً (2/259) عن شبيل بن عوف ، عنه ، قال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لثوبان :
” كيف أنت يا ثوبان إذا تداعت عليكم الأمم . . . الحديث نحوه وسنده لا بأس به في الشواهد ” ، وقال الهيثمي في ” مجمع الزوائد ” (7/287) : ” رواه أحمد والطبرانى فى الأوسط بنحوه ، وإسناد أحمد جيد ” !
وجملة القول :
إن الحديث صحيح بطرقه وشاهده ، فلا مجال لرده من جهة إسناده ، فوجب قبوله والتصديق به .
2- إخباره -صلى الله عليه وسلم- عن الغيب :
من المستغرب جداً عندنا الشك في صحة الحديث بدعوى ” إنه يخبر عن الغيب ، ولا يعلم الغيب إلا الله ” ومن المؤسف حقاً أن تروج هذه الدعوى عند كثير من شبابنا المسلم فقد سمعتها من بعضهم كثيراً ، وهي دعوى مباينة للإسلام تمام المباينة ، ذلك لأنها قائمة على أساس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بشر كسائر البشر الذين لا صلة لهم بالسماء ، ولا ينزل عليهم الوحي من الله تبارك وتعالى .
أما والأمر عندنا معشر المسلمين على خلاف ذلك ، وهو أنه عليه السلام مميز على البشر بالوحي ، ولذلك أمره الله -تبارك وتعالى- أن يبين هذه الحقيقة للناس فقال في آخر سورة الكهف : ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ) وعلى هذا كان لكلامه -صلى الله عليه وسلم- صفة العصمة من الخطأ لأنه كما وصفه ربه عز وجل : ( وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى ) ، وليس هذا الوحى محصوراً بالأحكام الشرعية فقط ، بل يشمل نواحي أخرى من الشريعه منها الأمور الغيبيه ، فهو -صلى الله عليه وسلم- وإن كان لا يعلم الغيب كما قال فيما حكاه الله عنه : ( ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) ( الأعراف : 187 ) فإن الله تعالى يطلعه على بعض المغيبات وهذا صريح فى قول الله تبارك وتعالى ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول ) وقال : ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) .
فالذى يجب اعتقاده أن النبى -صلى الله عليه وسلم- لا يعلم الغيب بنفسه ولكن الله تعالى يعلمه ببعض الأمور المغيبه عنا ، ثم هو -صلى الله تعالى عليه وسلم- يظهرنا على ذلك بطريق الكتاب والسنة ، وما نعلمه من تفصيلات أمور الآخرة من الحشر والجنة والنار ومن عالم الملائكه والجن ونحو ذلك مما وراء المادة ، وما كان وما سيكون ، ليس هو إلا من الأمور الغيبية التي أظهر الله تعالى نبيه عليها ، ثم بلغنا إياها ، فكيف يصح بعد هذا أن يرتاب مسلم فى حديثه لأنه يخبر عن الغيب ؟!
ولو جاز هذا للزم منه رد أحاديث كثيرة جداً قد تبلغ المائه حديثاً أو يزيد ، هى كلها من أعلام نبوته -صلى الله عليه وسلم- وصدق رسالته ، ورد مثل هذا ظاهر البطلان ، ومن المعلوم أن ما لزم منه باطل فهو باطل ، وقد استقصى هذه الأحاديث المشار إليها الحافظ ابن كثير فى تاريخه وعقد لها باباً خاصاً فقال : ” باب ما أخبر به -صلى الله عليه وسلم- من الكائنات المستقبلة فى حياته وبعده فوقعت طبق ما أخبر به سواء بسواء ” ثم ذكرها فى فصول كثيرة فليراجعها حضرة السائل إن شاء في ” البداية والنهاية ” (6/ 182 - 256) يجد فى ذلك هدى ونوراً بإذن الله تعالى ، وصدق الله العظيم إذ يقول :
( وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير ) وقال : ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليٌ حكيم * وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور ) .
فليقرأ المسلمون كتاب ربهم وليتدبروه بقلوبهم يكن عصمة لهم من الزيغ والضلال ، كما قال -صلى الله عليه وسلم- : ” إن هذا القرآن طرفه بيد الله ، وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبداً ” . (1)
3- هدف الحديث :
عرفنا مما سبق أن الحديث المسؤول عنه صحيح الإسناد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وأن ما فيه من الإخبار عن أمر مغيب إنما هو بوحي من الله تعالى إليه -صلى الله عليه وسلم- ، فإذا تبين ذلك استحال أن يكون الهدف منه ما توهمه السائل الفاضل من ” حمل الناس على الرضى بما نحن فيه . . . ” بل الغاية منه عكس ذلك تماماً ، وهو تحذيرهم من السبب الذي كان العامل على تكالب الأمم وهجومهم علينا ، ألا وهو ” حب الدنيا وكراهية الموت ” فإن هذا الحب والكراهية هو الذي يستلزم الرضا بالذل والاستكانة إليه والرغبة عن الجهاد في سبيل الله على اختلاف أنواعه من الجهاد بالنفس والمال واللسان وغير ذلك ، وهذا هو حال غالب المسلمين اليوم مع الأسف الشديد .
فالحديث يشير إلى أن الخلاص مما نحن فيه يكون بنبذ هذا العامل ، والأخذ بأسباب النجاح والفلاح فى الدنيا والآخرة ، حتى يعودوا كما كان أسلافهم ” يحبون الموت كما يحب أعداؤهم الحياة ” .
وما أشار إليه هذا الحديث قد صرح به حديث آخر فقال -صلى الله عليه وسلم- : ” إذا تبايعتم بالعينة (2) ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ” . (3)
فتأمل كيف اتفق صريح قوله فى هذا الحديث ” لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ” مع ما أشار إليه الحديث الأول من هذا المعنى الذى دل عليه كتاب الله تعالى أيضاً ، وهو قوله : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ).
فثبت أن هدف الحديث إنما هو تحذير المسلمين من الاستمرار في ” حب الدنيا وكراهية الموت ” ، ويا له من هدف عظيم لو أن المسلمن تنبهوا له وعملوا بمقتضاه لصاروا سادة الدنيا ، ولما رفرفت على أرضهم راية الكفار ، ولكن لا بد من هذا الليل أن ينجلي ، ليتحقق ما أخبرنا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى أحاديث كثيرة ، من أن الإسلام سيعم الدنيا كلها ، فقال عليه الصلاة والسلام :
” ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين ، بعز عزيز ، أو بذل ذليل ، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر ” . (4)
ومصداق هذا الحديث من كتاب الله تعالى قوله عز وجل : ( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) .
وصدق الله العظيم إذ يقول : ( ولتعلمن نبأه بعد حين ).
أبو عبد الرحمن
محمد ناصر الدين الألباني
المصدر: مجلة التمدن الإسلامي (24 / 421 – 426).
*************************************
(1) حديث صحيح ، أخرجه ابن نصر في ” قيام الليل ” (ص 74) وابن حبان في صحيحه (ج 1 رقم 122) بسند صحيح ، وقال المنذري في ” الترغيب ” (1 / 40) : ” رواه الطبراني في الكبير بإسناد جيد “.
(2) هي أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى ثم يشتريها منه نقداً بأقل من الثمن الذي باعها به .
(3) أخرجه أبو داود (2/ 100) وأحمد (رقم 4825 ، 5007 ، 2562) والدولابي في ” الكنى ” (52) والبيهقي (5/ 316) من طرق عن ابن عمر ، صحح أحدها ابن القطان ، وحسن آخر شيخ الإسلام ابن تيمية في ” الفتاوى ” (3/32 ، 278) .
(4) أخرجه أحمد (4/103) والطبراني في ” المعجم الكبير ” (1 /126 /2) والحاكم (4/ 430) وابن بشران في ” الأمالي ” (60/1) وابن منده في ” كتاب الإيمان ” (102/1) والحافظ عبد الغنى المقدسى في ” ذكر الإسلام ” (126/2) من طريق أحمد عن تميم الداري مرفوعاً .
وسنده صحيح ، وصححه الحاكم أيضاً ووافقه الذهبي وقال المقدسي : ” حديث حسن صحيح ” ، وله شاهدان : أحدهما عن المقداد بن الأسود أخرجه ابن منده والحاكم وسنده صحيح ، والآخر عن أبي ثعلبة الخشني أخرجه الحاكم (1 /488).