أحاديث لها قصة (4)
د/ خالد سعد النجــــار
الاستئذان من النـــظر
*****************
عن هزيل بن شرحبيل رضي الله عنه قال: جاء رجل فوقف على باب النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن فقام على الباب وفي رواية مستقبل الباب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (هكذا عنك أو هكذا فإنما الاستئذان من النظر) (1).
لقد جعل الله تعالى البيوت سكناً, يفئ إليها الناس فتسكن أرواحهم وتطمئن نفوسهم ويأمنون على عوراتهم وحرماتهم ويلقون أعباء الحذر والحرص المرهقة للأعصاب, والبيوت لا تكون كذلك إلا حين تكون حرماً آمناً لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم, وفي الوقت الذي يريدون وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس.
ذلك إلى أن استباحة حرمة البيت من الداخلين دون استئذان يجعل أعينهم تقع على عورات وتلتقي بمفاتن تثير الشهوات وتهيئ الفرصة للغواية الناشئة من اللقاءات العابرة والنظرات الطائرة التي قد تتكرر فتتحول إلى نظرات قاصدة تحركها الميول التي أيقظتها اللقاءات الأولى على غير قصد ولا انتظار وتحولها إلى علاقات آثمة بعد بضع خطوات أو إلى شهوات محرومة تنشأ عنها العقد النفسية والانحرافات.
ولقد كانوا في الجاهلية يهجمون هجوماً فيدخل الزائر البيت ثم يقول: لقد دخلت! وكان يقع أن يكون صاحب الدار مع أهله في الحالة التي لا يجوز أن يراهما عليها أحد, وكان يقع أن تكون المرأة عارية أو مكشوفة العورة هي أو الرجل وكان ذلك يؤذي ويجرح ويحرم البيوت أمنها وسكينتها, كما يعرض النفوس من هنا وهناك للفتنة حين تقع العين على ما يثير.
من أجل هذا وذاك أدَّبَ اللهُ المسلمينَ بهذا الأدب العالي, أدب الاستئذان على البيوت والسلام على أهلها لإيناسهم وإزالة الوحشة من نفوسهم قبل الدخول (2).
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها, ذلكم خيرٌ لكم لعلكم تَذَكَّرُون) النور: 27.
والأصل في الاستئذان أن يكون باللفظ وصيغته المثلى أن يقول المستأذن: [السلام عليكم أأدخل؟]، فيجمع بين السلام والاستئذان, وينبغي أن يكون الاستئذان ثلاث مرات يقول المستأذن في كل مرة: [السلام عليكم أأدخل؟]، فإن لم يؤذن له في الثالثة فليرجع ولا يزد على الثلاث, وإذا قال له رب المنزل للمستأذن: [من أنت]؟ فلا يجوز له أن يقول: [أنا]، بل يُفصح باسمه وكنيته إن كان مشهوراً بها.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي فدققت الباب فقال: (مَنْ ذا؟) فقلت: أنا, فقال صلى الله عليه وسلم: (أنا أنا) كأنه كرهها (3).
ومن آداب الاستئذان أن لا يقف المستأذن قبالة الباب مستقبلاً إياه, ولكن يقف بجنب وينحرف جاعلاً الباب عن يمينه أو يساره, والمقصود أن يقف على صفة لا يطلع معها على داخل البيت في إقباله وإدباره.
فعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى بابَ قومٍ لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه, ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول: (السلام عليكم, السلام عليكم)، وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور (4).
وفي حديثنا الجليل قال صلى الله عليه وسلم: (هكذا عنك أو هكذا) أي تنح عن الباب إلى جهة أخرى: (فإنما الاستئذان من النظر)، قال الحافظ: أي إنما شرع من أجله لأن المستأذن لو دخل بغير إذن لرأى بعض ما يكرهه مَنْ يدخل إليه أن يطلع عليه.
وقال الكرماني: أي إنما شرع الاستئذان في الدخول لأجل أن لا يقع النظر على عورة أهل البيت ولئلا يطلع على أحوالهم (5).
وأخيراً قد يأتي اعتذار صاحب البيت عن الإذن بدخوله ضمنياً أو صريحاً وقد دل قوله تعالى: (فإن لم تجدوا فيها أحد) النور: 28.
على حالة الاعتذار الضمني, فربما كان في البيت صاحبه لكنه لم يشأ أن يرد على المستأذن, فيصدق على المستأذن أنه لم يجد فيها أحد, لأنه تعالى نفى الوجدان ولم ينف الوجود ولو قال: (فإن لم يكن فيها أحد) لما كان هذا المنزع اللطيف والسر الدقيق, ودل على الاعتذار الصريح قوله تعالى: (وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم) النور: 28.
فإذا استأذن شخص وأجيب بقول صاحب الدار: [ارجعوا] فالواجب الانصراف فوراً وهو على يقين أن هذا أفضل له, لأن ما قال الله إنه أزكى لنا لا شك أن لنا فيه خيراً وأجراً.
-----------------------------
الهوامش:
(1) رواه أبو داود ــ أبواب النوم / باب في الاستئذان رقم 5165 وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم 4310, 3/972.
(2) في ظلال القرآن / سيد قطب رحمه الله تعالى ص 2508.
(3) رواه البخاري -كتاب الاستئذان- باب إذا قال من ذا فقال أنا رقم 5781, ومسلم -كتاب الآداب- باب كراهة قول المستأذن: أنا إذا قيل مَنْ ذا رقم 4011.
(4) رواه البخاري في الأدب المفرد رقم 1082 وأبو داود 5186 وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد ص 417 رقم 822. .
(5) عون المعبود شرح سنن أبي داود ج 14 ص 63 ط دار الفكر.
يتبع إن شاء الله...