كتـــــاب لا تحـــــــــــزن 23
ومن يؤمنْ بالله يهدِ قلبَه
أسوقُ هنا قصةً لتظهر سعادة من رضي بالقضاءِ ، وحيرة وتكدُّر وشكَّ منْ سخِط مِن القضاءِ ، فهذا كاتبٌ أمريكيٌ لامعٌ ، اسمُه « بودلي » مؤلّفُ كتابِ « رياح على الصحراءِ » ، و « الرسول -صلى الله عليه وسلم- » وأربعة عشرَ كتاباً أخرى ، وقد استوطن عام 1918م إفريقية الشمالية الغربية ، حيث عاش مع قومٍ من الرُّحَّل البدوِ المسلمين ، يصلُّون ويصومون ويذكرون الله .
يقولُ عن بعضِ مشاهدِه وهو معهم:
هبَّتْ ذات يومٍ عاصفةٌ عاتية ، حملت رمال الصحراءِ وعبرتْ بها البحر الأبيض المتوسط ، ورمتْ بها وادي الرون في فرنسا ، وكانت العاصفة حارةً شديدةً الحرارةِ ، حتى أحسستُ كأنَّ شعْر رأسي يتزعزعُ من منابتِهِ لفرطِ وطأةِ الحرِّ ، فأحسستُ من فرطِ الغيظِ كأنني مدفوعٌ إلى الجنون ، ولكنَّ العرب لم يشكوا إطلاقاً ، فقد هزُّوا أكتافهم وقالوا: قضاءٌ مكتوبٌ. واندفعوا إلى العمل بنشاطٍ ، وقال رئيسُ القبيلةِ الشيخُ: لم نفقدِ الشيء الكثير ، فقد كنا خليقين بأن نفقد كلَّ شيءٍ ، ولكن الحمدُ للهِ وشكراً ، فإن لدينا نحو أربعين في المائة مِن ماشيِتنا ، وفي استطاعِتنا أن نبدأ بها عملنا من جديد .
وثمَّة حادثةٌ أخرى:
فقدْ كنا نقطعُ الصحراء بالسيارةِ يوماً فانفجر أحدُ الإطارات ، وكان السائقُ قد نسي استحضار إطار احتياطيٍّ ، وتولاني الغضبُ ، وانتابني القلقُ والهمُّ ، وسألتُ صحبي من الأعرابِ: ماذا عسى أن نفعل ؟ فذكَّروني بأن الاندفاع إلى الغضبِ لن يُجدي فتيلاً ، بل هو خليقٌ أن يدفع الإنسان إلى الطيشِ والحُمْقِ ، ومنْ ثم درجتْ بنا السيارة وهي تجري على ثلاثة إطارات ليس إلا ، لكنها ما لبثت أن كفَّتْ عن السير ، وعلمت أن البنزين قد نفَدَ ، وهناك أيضاً لم تثرْ ثائرة أحدٍ منْ رفاقي الأعرابِ ، ولا فارقهُم هدوؤهم ، بل مضوْا يذرعون الطريق سيراً على الأقدامِ ، وهم يترنَّمون بالغناءِ !
قد أقنعتني الأعوامُ السبعةُ التي قضيتُها في الصحراءِ بين الأعرابِ الرحَّلِ ، أنَّ الملتاثين ، ومرضى النفوسِ ، والسكيرين ، الذين تحفلُ بهم أمريكا وأوربة ، ما هم إلا ضحايا المدينةِ التي تتخذُ السرعة أساساً لها .
إنني لم أعانِ شيئاً من القلق قطُّ ، وأنا أعيشُ في الصحراءِ ، بل هنالك في جنةِ اللهِ ، وجدتُ السكينة والقناعة والرضا ، وكثيرون من الناسِ يهزؤون بالجبريةِ التي يؤمن بها الأعرابُ ، ويسخرون من امتثالِهِم للقضاءِ والقدرِ .
ولكن منْ يدري ؟ فلعلَّ الأعراب أصابُوا كبِد الحقيقة ، فإني إذ أعودُ بذاكرتي إلى الوراءِ .. وأستعرضُ حياتي ، أرى جلياً أنها كانت تتشكَّلُ في فتراتٍ متباعدةٍ تبعاً لحوادث تطرأ عليها ، ولم تكنْ قطُّ في الحُسبانِ أو مما أستطيعُ له دفعاً ، والعربُ يطلقون على هذا اللون من الحوادث اسم: « قدَر » أو « قِسْمة» أو « قضاءُ اللهِ » ، وسمِّه أنت ما شئت .
وخلاصةُ القولِ:
إنني بعد انقضاءِ سبعةَ عشر عاماً على مغادرتي الصحراء ، ما زلتُ أتخذ موقف العربِ حيال قضاءِ اللهِ ، فأقابلُ الحوادث التي لا حيلة لي فيها بالهدوء والامتثال والسكينة ، ولقد أفلحت هذه الطباعُ التي اكتسبتُها من العرب في تهدئِة أعصابي أكثر مما تفلحُ آلاف المسكِّناتِ والعقاقيرِ! ...اهـ .
أقولُ: إن أعراب الصحراءِ تلقَّنُوا هذا الحقَّ من مشكاةِ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وإن خلاصة رسالةِ المعصومِ هي إنقاذ الناسِ من التِّيهِ ، وإخراجِهم من الظلماتِ إلى النورِ ، ونفْضِ الترابِ عن رؤوسِهم ، ووضعِ الآصارِ والأغلالِ عنهم .
إنّ الوثيقة التي بُعِث بها رسولُ الهُدى -صلى الله عليه وسلم- فيها أسرارُ الهدوءِ والأمنِ ، وبها معالمُ النجاةِ من الإخفاق ، فهي اعترافٌ بالقضاء وعمل بالدليل ، ووصول إلى غاية ، وسعي إلى نجاة ، وكدح بنتيجة .
إن الرسالة الربانية جاءت لتحدد لك موقعك في الكون المأنوس ، ليسكن خاطرك ، ويطمئن قلبك ، ويزول همك ، ويزكو عملك ، ويجمُل خلقك ، لتكون العبد المثالي الذي عرف سرَّ وجوده ، وأدرك القصد من نشأته .
******************
المنهج وَسَط
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ﴾ .
السعادة في الوَسَطِ ، فلا غُلُوَّ ولا جَفَاءَ ، ولا إفراط ولا تفريط ، وإن الوسطيَّة مِنْهجٌ ربَّانيٌّ حميدٌ يمنعُ العبد من الحَيْفِ إلى أحدِ الطرفيْن .
إن من خصائصِ الإسلامِ أنه دينُ وسطٍ.
فهو وسطٌ بين اليهوديةِ والنصرانيةِ:
اليهوديةِ التي حملتِ العِلمِ وألغتِ العَمَلِ ، والنصرانيةِ التي غالتْ في العبادةِ واطَّرحتِ الدليل ، فجاء الإسلامُ بالعِلْمِ والعَمَلِ ، والروحِ والجَسَدِ ، والعقلِ والنقلِ .
وإن ممَّا يسعدُك في حياتِك الوسطية ، الوسطيةُ في عبادتِك:
فلا تغْلُ فتنهك جسمك وتقضي على نشاطك ومداومتِك، ولا تجف فتطرح النوافل وتخدش الفرائض وتركن إلى التسويقِ .
وفي إنفاقكِ:
فلا تتلفْ أموالك وتهلكْ دخلك فتبقى حسيراً مُمْلِقاً ، ولا تمسكْ عطاءك وتبخلْ بنوالك ، فتبقى ملوماً محروماً .
ووسطٌ في خلقِك:
بين الجدّ المفرطِ واللِّينِ المتداعي ، بين العبوسِ الكالحِ والضحكِ المتهافتِ ، بين العزلةِ الموحشةِ والخلطةِ الزائدةِ على الحدِّ .
إنّه مِنهجُ الاعتدالِ في أخذِ الأمورِ ، والحكمِ على الأشياءِ ، ومعاملةِ الآخرين ، فلا زيادة يطفو بها كيْلُ القِيمِ ، ولا نقْص يضمحلُّ به أصلُ الخيْر ، لأن الزيادة ترفٌ وسَرفٌ ، والنقص جفاءٌ و‘حفاءٌ: ﴿ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ .
إنّ الحسنة بين السيِّئتين:
سيئة الإفراط وسيئة التفريط.
وإن الخيْر بين الشرَّين:
شرِّ الغُلُوِّ وشرِّ المجافاةِ ، وإن الحقَّ بين الباطلينِ: باطلِ الزيادةِ وباطلِ النقصِ.
وإن السعادة بين الشقاءين:
شقاءِ التهورِ وشقاءِ النكوصِ .
لا هذا ولا هذا
يقولُ مطرِّف بنُ عبدالله: أشرُّ السَّيْرِ الحقحقة .
وهو الذي يجتهد في السيرِ حتى يضرَّ بنفسهِ ودابتِه .
وفي الحديثِ: (( شرُّ الرِّعاء الحُطَمَةُ )) .
وهو الذي يتعسّفُ في ولايتِه لأهلِه أو من ولاه اللهُ شأنه .
إن الكرم بين الإسرافِ والبخلِ ، وإن الشجاعة بين الجبنِ والتهورِ ، وإن الحلم بين الحدَّةِ والتبلُّد ، وإن البسمة بين العبوس والضحك ، وإن الصبر بين القسوة والجزعِ ، وللغلوِّ دواءٌ هو التخفيفُ من هذا الغلوِّ ، وإطفاءُ شيءٍ من هذا اللهيب المحرق وللجفاءِ دواء هو سوْطُ عزمٍ ، وومضةُ هِمَّة ، وبارقةُ من رجاءٍ: ﴿ اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ {6} صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴾.
*******************************
وقفـــــةٌ
« ليس في الوجود شيءٌ أصعبُ من الصبرِ ، إما عن المحبوبِ، أو على المكروهاتِ. وخصوصاً إذا امتدَّ الزمان ، أو وقع اليأسُ من الفرجِ . وتلك المدةُ تحتاجُ إلى زادٍ يُقطعُ به سفرُها ، والزاد يتنوعُ من أجناسٍ:
فمنه: تلمُّحُ مقدارِ البلاءِ ، وقد يمكنُ أن يكون أكثر .
ومنه: أنه في حالِ فوقها أعظمُ منها ، مثل أن يُبتلى بفقْدِ ولدٍ وعنده أعزُّ منه .
ومن ذلك: رجاء العِوضِ في الدنيا .
ومنه: تلمُّح الأجرِ في الآخرةِ .
ومنه: التلذُّذُ بتصويرِ المدحِ والثناءِ من الخلْقِ فيما يمدحون عليه ، والأجرُ من الحقِّ عزَّ وجلَّ .
ومن ذلك: أن الجزع لا يفيدُ ، بل يفضحُ صاحِبهُ .
إلى غيْرِ ذلك من الأشياء التي يقدحُها العقلُ والفكرُ ، فليس في طريقِ الصبرِ نفقةٌ سواها ، فينبغي للصابرِ أن يشغل بها نفسه ، ويقطع بها ساعاتِ ابتلائِهِ » .
*********************************************
مَنْ هُمُ الأولياءُ
من صفات الأولياء: انتظارُ الأذانِ بالأشواقِ ، والتَّهافُتُ على تكبيرةِ الإحرامِ ، والوَلَهُ بالصفِّ الأوّلِ ، ومداومةِ الجلوسِ في الروضةِ ، وسلامةُ الصدرِ ، وظهورُ مراسيمِ السُّنَّةِ ، وكثرةُ الذِّكرِ ، وأكل الحلالِ ، وتركُ ما لا يعني ، والرضا بالكفافِ ، وتعلُّمُ المحييِ كتاباً وسنةً ، وطلاقةُ المُحَيَّا ، والتوجُّعُ لمصائب المسلمين ، وتركُ الخلافِ ، والصبرُ للشدائدِ ، وبذْلُ المعروفِ .
التوسطُ في المعيشةِ أفضلُ ما يكونُ ، فلا غنىً مطغياً ولا فقراً منسياً ، وإنما ما كفى وشفى ، وقضى الغرض ، وأتى بالمقصودِ في المعيشةِ ، فهو أجلُّ العيشِ عائدةً ، وأحسنُ القوتِ فائدةً .
والكفايةُ: بيتٌ تسكُنهُ ، وزوجةٌ تأوي إليها ، ومركبٌ حَسَنٌ ، وما يكفي من المالِ لسدِّ الحاجةِ وقضاءِ اللازمِ
************
اللهُ لطيفٌ بعبادِهِ
أخبرني أحدُ أعيانِ مدينةِ الرياضِ أنه في عام 1376 هـ ، ذهب مجموعةٌ من البحارةِ من أهلِ الجبيلِ إلى البحرِ ، يريدون اصطياد السمكِ ، ومكثوا ثلاثة أيام بلياليهنَّ لم يحصلُوا على سمكةٍ واحدةٍ ، وكانوا يصلون الصلواتِ الخمس ، وبجانبهم مجموعةٌ أخرى لا تسجدُ للهِ سجدةً ، ولا تصلّي صلاةً ، وإذا هم يصيدون ، ويحصلون على طلبِهم من هذا البحرِ ، فقال بعضُ هؤلاءِ المجموعةِ: سبحان اللهِ! نحن نصلي للهِ عزَّ وجلَّ صلاةٍ ، وما حصلْنا على شيءٍ من الصيدِ ، وهؤلاء لا يسجدون للهِ سجدةً وها هو صيدُهم!!
فوسوس لهم الشيطانُ بتركِ الصلاةِ ، فتركُوا صلاة الفجرِ ، ثم صلاة الظهرِ ، ثم صلاة العصرِ ، وبعد صلاةِ العصرِ أتوْا إلى البحرِ فصادُوا سمكةً ، فأخرجُوها وبقرُوا بطنها ، فوجدُا فيها لؤلؤةً ثمينةً ، فأخذها أحدُهم بيدِه ، وقلَّبها ونظر إليها ، وقال: سبحان اللهِ! لما أطْعنا الله ما حصلنا عليها ، ولما عصيناه حصلْنا عليها !! إن هذا الرزق فيه نظرٌ .
ثم أخذ اللؤلؤة ورمى بها في البحرِ ، وقال: يعوضُنا اللهُ ، واللهِ لا آخذُها وقد حصلتْ لنا بعد أن تركْنا الصلاة ، هيا ارتحلُوا بنا من هذا المكان الذي عصينا الله فيه ، فارتحلُوا ما يقاربُ ثلاثة أميالٍ ، ونزلُوا هناك في خيمتِهم ، ثم اقتربُوا من البحرِ ثانية ، فصادُوا سمكة الكنعد ، فبقروا بطنها فوجدوا اللؤلؤة في بطنِ تلك السمكةِ ، وقالوا: الحمدُ للهِ الذي رزقنا رزقاً طيباً. بعد أنْ بدؤوا يصلُّون ويذكرون الله ويستغفرونه ، فأخذوا اللؤلؤة . اهـ .
فانظرْ كيف كان منْ ذي قبل ، في وقت معصيةٍ ، وكان رزقاً خبيثاً ، وانظر كيف أصبح الآن في وقتِ طاعةٍ ، وأصبح رزقاً طيباً: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ ﴾ .
إنه لطفٌ اللهِ ، ومن ترك شيئاً للهِ عوَّضه اللهُ خيراً منه .
يذكِّرني هذا بقصةٍ لعليٍّ –رضي الله عنه- ، وقد دخل مسجد الكوفةِ ليصلي ركعتي الضحى ، فوجد غلاماً عند البابِ ، فقال: يا غلامُ ، احبسْ بغلتي حتى أصلي .
ودخل عليٌّ المسجد ، يريدُ أن يعطي هذا الغلام درهماً ، جزاء حبْسه للبغلةِ ، فلما دخل عليٌّ المسجد ، أتى الغلام إلى خطامِ البغلةِ ، فاقتلعه منْ رأسِها وذهب به إلى السوقِ ليبيعه ، وخرج عليٌّ فما وجد الغلام ، ووجد البغلة بلا خطامٍ ، فأرسل رجلاً في أثرِهِ ، وقال: اذهبْ إلى السوقِ ، لعلَّه يبيعُ الخطام هناك .
وذهب الرجلً ، فوجد هذا الغلام يحرِّجُ على الخطامِ ، فشراه بدرهمٍ ، وعاد يخبرُ علياً ، قال سبحان الله ! واللهِ لقدْ نويتُ أن أعطيهَ درهماً حلالاً ، فأبى إلا أنْ يكون حراماً .
إنه لطفُ الله عزَّ وجلَّ ، يلاحقُ عباده أينما سارُوا وأينما حلُّوا وأينما ارتحلُوا: ﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ﴾ .
*******************
﴿ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾
وقد ذَكَرَ التنوخيُّ في كتابهِ: «الفَرَجِ بعد الشِّدَّةِ » ما يناسبُ هذا المقام:
أن رجلاً ضاقتْ عليه الحِيلُ ، وأُغلقتْ عليه أبوابُ المعيشةِ ، وأصبح ذات يومٍ هو وأهلُه لا شيء في بيتهم ، قال: فبقيت أنا وأهلي اليوم الأول جوْعى وفي الثاني ، فلما دنتِ الشمسُ للمغيبِ ، قالت لي زوجتي: اذهبْ وانطلقْ والتمسْ لنا رزقاً أو طعاماً أو أكلاً ، فقد أشرفْنا على الموتِ .
قال: فتذكَّرتُ امرأةً قريبة لي ، فذهبتُ إليها وأخبرتُها الخَبَرَ ، قالت: ما في بيتِنا إلا هذهِ السمكةُ وقد أنتنتْ .
قلتُ: عليَّ بها ، فإنا قد أشرفْنا على الهلاكِ .
وذهبتُ بها وبقرتُ بطنها ، فأخرجتُ منها لؤلؤةً بعتُها بآلافِ الدنانيرِ ، وأخبرتُ قريبتي ، قالتْ: لا آخذُ معكم إلا قسمي .
قال: فاغتنيتُ فيما بعدُ ، وأثَّثتُ من ذلك بيتي ، وأصلحتُ حالي ، وتوسّعتُ في رزقي .
فهو لطفُ اللهِ سبحانه وتعالى ليس غيرَهُ .
﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ﴾ .
﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ﴾ .
******************************************
﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ ﴾
حدَّثنا أحدُ الفضلاءِ من العُبَّادِ: أنه كان بأهلِه في الصحراءِ ، في جهةِ الباديةِ ، وكان عابداً قانتاً منيباً ذاكراً للهِ .
قال: فانقطعتْ المياهُ المجاورةُ لنا ، وذهبتُ ألتمسُ ماءً لأهلي ، فوجدتُ أن الغدير قد جفَّ ، فعُدتُ إليهم ، ثم التمسْنا الماء يمْنةً ويسْرَةً ، قلم نجدْ ولو قطرةً ، وأدركنا الظمأُ ، واحتاج أطفالي للماء ، فتذكرتُ ربَّ العزةِ –سبحانه- القريب المجيب ، فقمتُ فتيمَّمتُ ، واستقبلتُ القبلة وصلَّيتُ ركعتين ، ثم رفعتُ يديَّ وبكيتُ ، وسالتْ دموعي ، وسألتُ الله بإلحاحٍ ، وتذكرتُ قوله: ﴿ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ... ﴾ الآية ، وواللهِ ما هو إلا أن قمتُ من مقامي ، وليس في السماء من سحاب ولا غيْم ، وإذا بسحابة قد توسَّطتْ مكاني ومنزلي في الصحراءِ ، واحتكمتْ على المكان ، ثم أنزلتْ ماءها ، فامتلأتِ الغدرانُ من حولِنا وعن يميننا وعن يسارِنا ، فشرْبنا واغتسْلنا وتوضأنا ، وحمدْنا الله سبحانه وتعالى ، ثم ارتحلتُ قليلاً خلْف هذا المكان ، وإذا الجدْبُ والقحطُ ، فعلمتُ أن الله ساقها لي بدعائي ، فحمدتُ الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ .
إنه لابدَّ أن نلحَّ على اللهِ سبحانه وتعالى ، فإنه لا يُصْلِحُ الأنفس ، ولا يرزقُ ولا يهدي ، ولا يوفِّقُ ولا يثبِّتُ ، ولا يعينُ ولا يغيثُ ، إلاَّ هو سبحانه وتعالى .
واللهُ ذكَرَ أحدَ أنبيائه فقال: ﴿ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ .
**************
عوَّضهُ اللهُ خيراً منهُ
ذكر ابنُ رجب وغيرُه أنَّ رجلاً من العُبَّادِ كان في مكة ، وانقطعتْ نفقتُه ، وجاع جوعاً شديداً ، وأشرف على الهلاكِ ، وبينما هو يدورُ في أحدِ أزقَّةِ مكة إذ عثر على عِقْدِ ثمينٍ غالٍ نفيسٍ ، فأخذه في كمِّه وذهب إلى الحَرَمِ وإذا برجلٍ ينشدُ عن هذا العقد ، قال: فوصفه لي ، فما أخطأ من صفتِه شيئاً ، فدفعتُ له العِقْد على أن يعطيني شيئاً .
قال: فأخذ العقد وذهب ، لا يلوي على شيء ، وما سلَّمني درهماً ولا نقيراً ولا قطميراً .
قلتُ: اللهمّ إني تركتُ هذا لك ، فعوِّضني خيراً منه ، ثم ركب جهة البحرِ فذهب بقاربٍ ، فهبَّتْ ريحٌ هوجاءُ ، وتصدَّع هذا القاربُ ، وركب هذا الرجل على خشبةٍ ، وأصبح على سطحِ الماءِ تلعبُ به الريح يمْنَةً ويَسْرَةً ، حتى ألقتْه إلى جزيرةِ ، ونَزلَ بها ، ووجد بها مسجداً وقوماً يصلُّون فصلَّى ، ثم وجد أوراقاً من المصحفِ فأخذ يقرأ ، قال أهل تلك الجزيرة: أئنك تقرأ القرآن ؟ قلتُ: نعمْ .
قالوا: علِّمْ أبناءنا القرآن .
فأخذتُ أعلِّمهم بأجرةٍ ، ثم كتبتُ خطاً ، قالو: أتعلِّم أبناءنا الخطَّ ؟ قلتُ: نعم .
فعلَّمتُهم بأجرةٍ .
ثم قالوا: إن هنا بنتاً يتيمةً كانت لرجلٍ منا فيه خيْرٌ وتُوفِّي عنها، هل لك أن تتزوجها؟
قلتُ: لا بأس.
قال: فتزوجتُها ، ودخلتُ بها فوجدتُ العقْد ذلك بعينهِ بعنقِها .
قلتُ: ما قصةُ هذا العقدِ ؟ فأخبرتِ الخَبَرَ ، وذكرتْ أن أباها أضاعه في مكة ذات يوم، فوجده رجلٌ فسلّمه إليه ، فكانَ أبوها يدعو في سجودِه ، أن يرزق ابنته زوجاً كذلك الرجل .
قال: فأنا الرجلُ .
فدخل عليه العِقْدُ بالحلالِ ، لأنه ترك شيئاً للهِ ، فعوَّضه الله خيراً منه (( إنَّ الله طيبٌ لا يقبلُ إلاَّ طيِّباً )) .
******************************************
إذا سألت فاسألِ الله
إنَّ لطف اللهِ قريبٌ ، وإنه سميعٌ مجيبٌ ، وإن التقصير منا ، إننا بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى أن نلحَّ وندعوه ، ولا نَمَلّ نسأمُ ، ولا يقولُ أحدنا: دعوتُ دعوتُ فلم يُستجبْ لي . بل نمرِّغُ وجوهنا في الترابِ ، ونهتفُ ، ونلظُّ بـ (( يا ذا الجلالِ والإكرامِ )) ، ونعيدُ ونبدئُ تلك الأسماءِ الحسنى والصفاتِ العُلى ، حتى يجيبَ اللهُ سبحانه وتعالى طلبنا ، ، أو يختار لنا خبرةً من عنده سبحانه وتعالى ﴿ ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ﴾ .
ذكر أحدُ الدعاةِ في بعضِ رسائِله أن رجلاً مسلماً ذهب إلى إحدى الدول والتجأ بأهِله إليها ، وطلب بأن تمنحه جنسية ، فأغلقتْ في وجههِ الأبوابُ ، وحاول هذا الرجل كلَّ المحاولةِ ، واستفرغ جهده ، وعرضَ الأمرَ على كلِّ معارفِه ، فبارتِ الحِيَلُ ، وسُدَّتِ السبل ، ثم لقي عالماً ورِعاً فشكا إليه الحال ، قال: عليك بالثلث الأخيرِ من الليلِ ، ادع مولاك ، فإنه الميسرُ سبحانه وتعالى –وهذا معناه في الحديث: (( إذا سألتَ فاسألِ الله ، وإذا استعنت فاستعنْ بالله ، واعلمْ أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيءٍ ، لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك ))– قال هذا الرجل: فواللهِ لقد تركتُ الذهاب إلى الناس ، وطلب الشفاعات ، وأخذتُ أداومُ على الثلث الأخير كما أخبرني هذا العالِم ، وكنتُ أهتفُ للهِ في السَّحرِ وأدعوه ، فما هو إلا بعد أيام ، وتقدَّمتُ بمعروضٍ عادي ولم أجعل بيني وبينهم واسطة ، فذهب هذا الخطابُ ، وما هو إلا أيام وفوجئْتُ في بيتي ، وإذ أنا أُدعى وأسلَّمُ الجنسية ، وكنت في ظروفٍ صعبةٍ .
********************************************
﴿ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ﴾
الدقائقُ الغاليةُ:
ذكر التنوخيُّ: أن أحدُ الوزراءِ في بغداد –وقد سمَّاه– اعتدى على أموالِ امرأةٍ عجوزٍ هناك ، فسلبها حقوقها وصادر أملاكها ، ذهبتْ إليه تبكي وتشتكي من ظلمِه وجوْزِه ، فما ارتدع وما تاب وما أناب ، قالت: لأدعونَّ الله عليك ، فأخذ يضحكُ منها باستهزاءٍ ، وقال: عليك بالثلثِ الأخيرِ من الليل .
وهذا لجبروتِه وفسْقِه يقول باستهزاءٍ ، فذهبتْ وداومتْ على الثلثِ الأخير ، فما هو إلا وقتٌ قصيرٌ إذ عُزِل هذا الوزيرُ وسُلبتْ أموالُه ، وأُخذ عقارُه ، ثم أُقيم في السوقِ يُجلدُ تعزيراً له على أفعالِه بالناسِ ، فمرَّتْ به العجوزُ ، فقالتْ له: أحسنتَ! لقد وصفت لي الثلث الأخير من الليلِ ، فوجدتُه أحسنَ ما يكونُ .
إنَّ ذاك الثلث غالٍ منْ حياتِنا ، نفيسٌ في أوقاتنا ، يوم يقولُ ربُّ العزةِ:
(( هلْ منْ سائلٍ فأعطيه ، هلْ منْ مستغفرٍ فأغفرَ له ، هلْ منْ داعٍ فأجيبه )) .
لقد عشتُ في حياتي على أني شابٌّ .
وسمعتُ سماعاتٍ وأثر في حياتي حادثاتٌ لا أنساها أبد الدهرِ ، وما وجدتُ أقرب من القريبِ ، عنده الفرجُ ، وعنده الغوْثُ ، وعنده اللطفُ سبحانه وتعالى .
ارتحلتُ مع نَفَرٍ من الناسِ في طائرٍة من أبها إلى الرياضِ في أثناءِ أزمةِ الخليجِ ، فلما أصبحْنا في السماءِ أُخبِرْنا أننا سوف نعودُ مرةً ثانيةً إلى مطارٍ أبها لخللٍ في الطائرِة ، وعدْنا وأصلحُوا ما استطاعُوا إصلاحه ، ثم ارتحلْنا مرةً أخرى ، فلما اقتربنا من الرياضِ أبتْ العجلاتُ أنْ تنزل ، فأخذ يدورُ بنا على سماء الرياضِ ساعةً كاملةً ، ويحاولُ أكثر منْ عشْرِ محاولاتٍ يأتي المطار ويحاولُ الهبوط فلا يستطيعُ ، فيرتحلُ مرةً أخرى ، وأصابنا الهلعُ ، وأصاب الكثير الانهيارُ ، وكثرُ بكاءُ النساءِ ، ورأيتُ الدموع تسيلُ على الخدودِ ، وأصبحْنا بين السماءِ والأرضِ ننتظرُ الموت أقرب منْ لمحِ البَصَرِ ، وتذكرتُ كلَّ شيءٍ فما وجدتُ كالعملِ الصالحِ ، وارتحل القلبُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ وإلى الآخرةِ ، فإذا تفاهَةُ الدنيا ، ورخصُ الدنيا ، وزهادةُ الدنيا ، وأخذْنا نكرِّر:
(( لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملكُ وله الحمدُ وهو كلِّ شيءٍ قديرٌ )) .
في هتافٍ صادقٍ ، وقام شيخٌ كبيرٌ مسنٌّ يهتفُ بالناسِ أن يلجؤُوا إلى اللهِ وأنْ يدعوهُ ، وأنْ يستغفروهُ وأنْ ينيبُوا له .
وقد ذكر اللُهِ عن الناسِ أنهم: ﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾.
ودعوْنا الذي يجيبُ المضطر إذا دعاه ، وألححْنا في الدعاءِ ، وما هو إلا وقتٌ ، ونعودُ للمرةِ الحادية عشرة والثانية عشرة ، فنهبطُ بسلام ، فلما نزلْنا كأنا خرجْنا من القبورِ ، وعادتِ النفوسُ إلى ما كانتْ ، وجفتِ الدموعُ ، وظهرتِ البَسَماتُ ، فما أعظم لطف اللهِ سبحانه وتعالى .
كمْ نطلبُ الله في ضُرِّ يحِلُّ بِنا
فإنْ تولَّتْ بلايانا نَسِيَناهُ
ندعوه في البحرِ أنْ يُنْجي سفينتَنا
فإنْ رجعنا إلى الشاطي عصيناهُ
ونركبُ الجوَّ في أمنٍ وفي دَعَةٍ
وما سقطْنا لأنَّ الحافظ اللهُ
إنهُ لطفُ الباري سبحانه وتعالى ، وعنايتُه ، ليس إلا .
**************************************
« مَنْ لَنَا وقت الضائقةِ ؟ »
ذكرتْ جريدةُ « القصيم » -وهي جريدةٌ قديمةٌ كانتْ تصدُر في البلاد- ذكرتْ أن شابّاً في دمشق حجزَ ليسافرَ ، وأخبر والدته أنَّ موعدَ إقلاعِ الطائرةِ في الساعةِ كذا وكذا ، وعليها أنْ توقظه إذا دنا الوقتُ ، ونام هذا الشابُّ ، وسمعتْ أمُّه الأحوال الجوية في أجهزةِ الإعلامِ ، وأنَّ الرياح هوجاءُ وأنَّ الجوَّ غائمٌ ، وأنَّ هناك عواصف رمليَّةً ، فأشفقتْ على وحيدها وبخلتْ بابنها ، فما أيقظتْه أملاً منها أن تفوته الرحلةُ ، لأنَّ الجوَّ لا يساعدُ على السفرِ ، وخافْت منْ الوضعِ الطارئِ ، فلما تأكَّدتْ من ْ أنَّ الرحلة قد فاتتْ ، وقد أقعلتِ الطائرةُ بركَّابِها ، أتتْ إلى ابنِها توقظُه فوجدتْه ميِّتاً في فراشِه .
﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ .
فرَّ من الموتِ وفي الموتِ وَقَع .
وقدْ قالتِ العامةُ: « للناجي في البحر طريقٌ » .
وإذا حضر الأجلُ فأيُّ شيء يقتلُ الإنسان .
*************************************
منَ قصصِ الموتِ
ذكر الشيخُ علي الطنطاوي في سماعاتِه ومشاهداتِه:
أنه كان بأرضِ الشام رجلٌ له سيارةُ لوري ، فركب معه رجلٌ في ظهرِ السيارة ، وكان في ظهرِ السيارة نَعشٌ مهيَّأ للأمواتِ ، وعلى هذا النعش شراعٌ لوقتِ الحاجةِ ، فأمطرتِ السماءُ وسال الماءُ فقام هذا الراكبُ فدخل في النعش وتغطَّى بالشراعِ ، وركب آخرُ فصعِد في ظهرِ الشاحنةِ بجانبِ النعشِ ، ولا يعلمُ أنَّ في النعشِ أحداً ، واستمرَّ نزولُ الغيثِ ، وهذا الرجلُ الراكبُ الثاني يظنُّ أنه وحده في ظهر السيارةِ ، وفجأةً يْخرج هذا الرجلُ يده من النعشِ ، ليرى: هلْ كفَّ الغيثُ أم لا ؟ ولما أخرج يده أخذ يلوحُ بها ، فأخذ هذا الراكبُ الثانيِ الهلعُ والجزعُ والخوفُ ، وظنَّ أن هذا الميت قد عاد حيّاً ، فنسي نفسه وسقط من السيارةِ ، فوقع على أمِّ رأسهِ فمات .
وهكذا كتب اللهُ أن يكون أجلُ هذا بهذهِ الطريقةِ .
وأنْ يكون الموتُ بهذه الوسيلةِ .
كلُّ شيءٍ بقضاءٍ وقدرْ
والمنايا عِبرٌ أيُّ عِبرْ
وعلى العبدِ أنْ يتذكَّر دائماً أنه يحمِلُ الموت ، وأنه يسعى إلى الموتِ ، وأنه ينتظرُ الموت صباح مساء ، وما أحسن الكلمة الرائقة الرائعة التي قالها عليُّ بنُ أبي طالب –رضي اللهُ عنه– وهو يقولُ: (( إن الآخرة قد ارتحلتْ مقبلةً ، وإن الدنيا قد ارتحلتْ مُدْبِرة ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عملٌ ولا حسابُ ، وغداً حسابٌ ولا عملٌ )) .
وهذا يفيدُنا أنَّ على الإنسان أن يتهيَّأ وأن يتجهزَّ وأن يُصلح من حالِه ، وأن يُجدِّد توبته ، وأن يعلم أنه يتعاملُ مع ربِّ كريمٍ قويٍ عظيمٍ لطيفٍ .
إن الموت لا يستأذنُ على أحدٍ ، ولا يحابي أحداً ، ولا يجاملُ ، وليس للموت إنذارٌ مبكر يخبرُ به الناس: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ .
*****************************************
﴿ لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ ﴾
ذكر الطنطاويُّ أيضاً في سماعاتِه ومشاهداتِه:
أن باصاً كان مليئاً بالركاب ، وكان سائقُه يلتفتُ يَمْنَةً ويسْرَةً ، وفجأة وقف ، فقال له الركابُ: لِم تقفُ ؟ قال: أقفُ لهذا الشيخ الكبيرِ الذي يُشيرُ بيده ليركب معنا .
قالوا: لا نرى أحداً ، قال: انظروا إليه .
قالُوا: لا نرى أحداً ! قال: هو أقبل الآن ليركب معنا.
قالوا كلُّهم: واللهِ لا نرى أحداً من الناسِ !
وفجأة مات هذا السائقُ على مقعدِ سيارتِهِ .
لقدْ حضرتْ منيَّتُه ، وحلَّتْ وفاتُه ، وكان هذا سبباً:
﴿ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ ، إنَّ الإنسان يجبُن من المخاوفِ ، وينخلعُ قلبه منِ مظانِّ المنايا ، وإذا بالمآمنِ تقتلُه: ﴿ الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ .
والعجيبُ فينا أننا لا نفكرُ في لقاءِ اللهِ عزَّ وجلَّ ، ولا في حقارةِ الدنيا ، ولا في قصةِ الارتحالِ منها إلا ذا وقعْنا في المخاوفِ .
******************
فربما صحَّتِ الأجسامُ بالعللِ
ذكر أهلُ السيِّرِ:
أن رجلاً أصابه الشللُ ، فأُقعد في بيته ، ومرتْ عليه سنواتٌ طوالٌ من المللِ واليأسِ والإحباطِ ، وعَجَزَ الأطباءُ في علاجِه ، وبلَّغوا أهله وأبناءه ، وفي ذات يومٍ نزلتْ عليه عقربٌ من سقفِ منزلِه ، ولم يستطعْ أن يتحرك من مكانِه ، فأتتْ إلى رأسِه وضربتْه برأسِها ضرباتٍ ولدغتْه لدغاتٍ ، فاهتزَّ جسمُه من أخمصِ قدميه إلى مشاشِ رأسِه ، وإذا بالحياةُ تدبُّ في أعضائِه ، وإذا بالبُرءِ والشفاء يسير في أنحاءِ جسمِه ، وينتفضُ الرجلُ ويعودُ نشيطاً ، ثم يقفُ على قدميه ، ثم يمشي في غرفتِه ، ثم يفتحُ بابه ، ويأتي أهله وأطفاله ، فإذا الرجلُ واقفاً ، فما كانوا يصدِّقون وكادوا من الذهول يُصعقون ، فأخبرهم الخَبَرَ .
فسبحان الذي جعل علاج هذا الرجلِ في هذا !!
وقد ذكرتُ هذا لبعضِ الأطباءِ فصدَّق المقولة ، وذكَرَ أن هناك مصْلاً سامّاً يُستخدم بتخفيفٍ كيماويٍّ ، ويعالجُ به هؤلاءِ المشلولون .
فجلَّ اللطيفُ في علاه ، ما أنزل داءً إلا وأنزل له دواءً .
**************
وللأولياء كرامات
هذا صلةُ بن أشيم العابدُ الزاهدُ من التابعين:
يذهب إلى الشمالِ ليجاهد في سبيل اللهِ ، ويضمُّه الليلُ فيذهبُ إلى غابةٍ ليصلي فيها ، ويدخل بين الشجرِ ويتوضَّأ ، ويقوم مصلياً ، وينهدُّ عليه أسدٌ كاسرٌ ، ويقتربُ من « صِلة » وهو في صلاته ، ويدورُ به ، وصلةُ في تبتُّله مستمرٌّ ، ولم يقطعْ صلاته وذِكره ، ويسلِّمُ صلةُ بن أشيم من ركعتين ، ثم يقولُ للأسدِ: إن كنت أُمرت بقتلي فكلْني ، وإن لم تُؤْمر فاتركْني أناجي ربي .
فأرخى الأسدُ ذيله وذهب من المكان ، وترك صلة يصلي .
ولك أن تنظر في « البداية والنهاية » وغيرها من كتبِ التاريخِ ، وهذا مذكورٌ عن «سفينة» مولى رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في كتبِ تراجمِ الصحابةِ ، أنه أتى هو ورفْقةٌ معهُ من ساحلِ البحرِ ، فلما نزلُوا البرَّ فإذا بأسدٍ كاسر مُقبلٍ يريدُهم ، فقال سفينةُ: يا أيها الأسدُ أنا من أصحابِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا خادمُه ، وهؤلاء رفقتي ولا سبيل لك علينا .
فولَّى الأسدُ هارباً ، وزأر زأْرةً كاد يملأ بها ربوع المكانِ .
وهذه الوقائعُ والأحداثُ لا ينكرُها إلا مكابرٌ ، وإلا ففي سُننِ اللهِ في خلقِهِ ما يشهدُ بمثل هذا ، ولولا طولُ المقامِ لأوردْتُ عشراتِ القصصِ الصحيحةِ الثابتةِ في هذا الباب ، لكنْ يكفيك دلالةً من هذا الحديث ، لتعلم أن هناك ربّا لطيفاً حكيماً لا تغيبُ عنه غائبةٌ .
إن علم الله يلاحقُ الناس ، ولطفه سبحانه وتعالى وشهوده واطلاعه: ﴿ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ﴾ .