كتـــــاب لا تحـــــــــــزن 15
حاسِبْ نَفْسَكَ
احتفظِ بمذكّرةٍ لديك ، لتُحاسب بها نفْشك ، وتذكر فيها السلبيَّاتِ الملازمة لك ، وتبدأ بذكْر التَّقدُّمِ في معالجتِها .
قال عمرُ: حاسِبوا أنفُسكُمْ قبل أنْ تُحاسبوا ، وزِنُوها قبل أن تُوزنوا ، وتزيَّنوا للعرضِ الأكبرِ .
ثلاثةُ أخطاءٍ تتكرَّرُ في حياتِنا اليومية:
الأولُ: ضياعُ الوقتِ .
الثاني: التَّكلُّمُ فيما لا يعني: (( مِنْ حُسْنِ إسلامِ المرءِ تركهُ ما لا يعنيهِ )) .
الثالثُ: الاهتمامُ بتوافِهِ الأمورِ ، كسماعِ تخويفاتِ المُرجِفين ، وتوقُّعاتِ المثبِّطين ، وتوهُّماتِ المُوسوسِين ، كَدَرٌ عاجلٌ ، وهمٌّ معجَّلٌ ، وهو منْ عوائقِ السعادةِ وراحةِ البالِ .
يقولُ امرؤُ القيسِ:
ألا عِمْ صباحاً أيها الطَّللُ البالي
وهلْ يعِمنْ منْ كان في العُصُر الخالي
وهلْ يعِمنْ إلا سعيدٌ منعَّمٌ
قليلُ الهموم لا يبِيتُ بأوجال
علَّم الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- عمَّ العباس دعاءً يجمعُ سعادة الدنيا والآخرةِ ، وهو قولُه -صلى الله عليه وسلم-: (( اللّهم إني أسألُك العَفْوَ والعافية )) .
وهذا جامعٌ مانعٌ شافٍ كافٍ فيه خيرُ العاجلِ والآجلِ .
﴿ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ ﴾ ، ﴿ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ .
*********************
خُذوا حِذْرَكَمْ
منْ سعادةِ العبدِ اخْذُ الحَيْطةِ واستعمالُ الأسبابِ ، مع التَّوكُّلِ على اللهِ عزَّ وجلَّ ، فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بارز في بعضِ الغزواتِ وعليه دِرعٌ ، وهو سيِّدُ المتوكَّلين ، وقال لأحدِهم لما قال له: أعقِلُها يا رسول اللهِ ، أوْ أتوكَّلُ ؟ قال: (( اعقِلها وتوكَّل )) .
فالأخْذُ بالسببِ والتَّوكُّلُ على اللهِ قُوامُ التوحيدِ ، وترْكُ السبب مع التوكُّلِ على اللهِ قدْحٌ في الشرعِ ، وأخذُ السببِ مع ترْكِ التوكُّلِ على اللهِ قَدْحٌ في التوحيدِ .
وذَكَرَ ابنُ الجوزيِّ في هذا: أنَّ رجلاً قصَّ ظفره ، فاستفحل عليه فمات ، ولم يأخُذْ بالحيْطةِ .
ورجُلٌ دَخَلَ على حمارٍ منْ سردان ، فهصر بطنهُ فمات .
وذكروا عنْ طه حسين –الكاتبِ المصريِّ– أنه قال لسائقِهِ: لا تُسرعْ حتى نصِل مبكِّرين .
وهذا معنى مثلٍ: رُبَّ عجلةٍ تهبُ ريْثاً .
قال الشاعرُ:
قد يُدرِكُ المُتأنِّي بعض حاجتِه
وقدْ يكونُ مع المتعجِّلِ الزَّللُ
فالتَّوقِّي لا يُعارضُ القدر ، بلْ هو منهُ ، ومنْ لُبِّهِ ﴿ وَلْيَتَلَطَّفْ ﴾ ، ﴿ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ﴾ .
********************
اكْسبِ الناس
ومنْ سعادةِ العبدِ قُدرتُه على كسْبِ الناس ، واستجلاب محبَّتِهم وعطفِهم ، قال إبراهيمُ عليه السلامُ: ﴿ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ﴾ ، قال المفسرون: الثّناءُ الحسنُ .
وقال سبحانه وتعالى عنْ موسى: ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي ﴾ .
قال بعضُهم: ما رآك أحدٌ إلا أحبَّك .
وفي الحديثِ الصحيحِ: (( أنتم شهداءُ اللهِ في الأرض )) .
وألسنةُ الخلْقِ أقلامُ الحقِّ .
وصحَّ: (( أن جبريل يُنادي في أهلِ السماءِ: إنَّ يحبُّ فلاناً فأحبُّوه ، فيُحبُّهُ أهلُ السماءِ ، ويُوضعُ له القبُول في الأرضِ )) .
ومنْ أسبابِ الودِّ: بسْطةُ الوجهِ ولِينُ الكلامِ وسَعَةُ الخُلقُ .
إنَّ منْ العواملِ القويةِ في جلْبِ أرواحِ الناسِ إليك: الرِّفقُ ؛ ولذلك يقولُ -صلى الله عليه وسلم-: (( ما كان الرِّفقُ في شيءٍ إلا زانه ، وما نُزع منْ شيءٍ إلا شانهُ )) .
ويقول: (( من يُحرم الرفق ، يُحرم الخير كلّه )) .
قال أحد الحكماء: الرفق يُخرج الحيَّة من جُحْرها .
قال الغربيُّون: اجْنِ العسل ، ولا تَكْسِرِ الخلِيَّة .
وفي الحديثِ الصحيحِ: (( المؤمُن كالنَّحْلةِ تأكلُ طيِّباً ، وتضعُ طيّباً ، وإذا وقعتْ على عودٍ ، لم تكسِرْهُ )) .
********************
تنقَّلْ في الدِّيارِ واقرأْ آياتِ القُدرة
وممَّا يجلُب الفرح والسُّرور: الأسْفارُ والتَّنقُّلُ في الدِّيارِ ورؤيةُ الأمصارِ ، وقد سبقتْ كلمةٌ في أوّل هذا الكتابِ عنْ هذا .
.قال سبحانه: ﴿ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ، ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا ﴾ ، ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ ﴾ .
قال الشاعرُ:
ولا تلبثْ بِربْعٍ فيه ضيْمٌ
يُذيبُ القلب إلا إنْ كُبِلْتا
وغرِّبْ فالتَّغرُّبُ فيه نفْعٌ
وشرِّقْ إنْ بِرِيِقك قدْ شرِقْتا
ومنْ يقرأْ رحلة ابنِ بطُّوطة ، على ما فيها من المبالغاتِ ، يجِدِ العَجَبَ العجاب مِن خلْقِ اللهِ سبحانه وتعالى ، وتصريفِه في الكونِ ، ويرى أنها من العِبر العظيمةِ للمؤمنِ ، ومن الراحةِ له أنْ يسافر ، وأنْ يغِّيرَ أجواءه ومكانه ومحلَّه ، لقرأ في هذا الكتابِ الكونيِّ المفتوحِ .
يقولُ أبو تمام –وهو يتحدَّث عن التنقلِ في الدِّيارِ-:
بالشَّامِ أهلي وبغدادُ الهوى وأنا
بالرَّقْمتينِ وبالفسطاطِ جِيراني
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ﴾، ﴿ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ ﴾، ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ﴾ ، ﴿ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ﴾ .
************************************
تهجَّدْ مع المتهجِّديِن
ومما يُسعدُ النَّفْس ويشرحُ الصدر: قيامُ الليلِ .
وقدْ ذكر -صلى الله عليه وسلم- في الصحيح: أنَّ العبد إذا قام من الليلِ ، وذكر الله ، ثم توضَّأ وصلَّى ، أصبح نشيطاً طيِّب النفْسِ .
﴿ كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴾ ، ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ ﴾ .
وقيامُ الليلِ يُذهبُ الدّاء عن الجسدِ ، وهو حديثٌ صحيحٌ عند أبي داود: (( يا عبدالله ، لا تُكنْ مثْل فلانٍ ، كان يقومُ الليل ، فتَركَ قيامَ الليلِ )) ، (( نِعْمَ الرجلُ عبدُاللهِ لو كان يقومُ من الليلِ )) .
لا تأسفْ على الأشياءِ الفانيةِ ، كلُّ شيءٍ في هذه الحياةِ فانٍ إلا وجْههُ سبحانه وتعالى ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾ ، ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ {26} وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ .
إنَّ الإنسان الذي يأسفُ على دنياه ، كالطِّفلِ الذي يبكي على فقْدِ لعبتِهِ .
*****************
وَقْفَـــةٌ
« كلُّ اثنينِ منهما قرينانِ ، وهما منْ آلامِ الرُّوح ومعذّباتِها ، والفرْق بينهما أنَّ الهمَّ توقُّع الشَّرِّ في المستقبلِ ، والحزُن التَّألُّمُ على حُصُولِ المكروهِ في الماضي أو فواتُ المحبوبِ ، وكلاهما تألُّمٌ وعذابٌ يرِدُ على الرُّوحِ ، فإنْ تعلَّق بالماضي سُمِّي حزناً ، وإنْ تعلّق بالمستقبلِ سُمِّي همّاً » .
(( اللَّهمَّ إني أسألك العافية في الدُّنيا والآخرةِ ، اللَّهمَّ إني أسألُك العفْو والعافية في ديِني ودُنياي وأهلي ومالي ، اللهمَّ استُرْ عوراتي وآمِنْ روْعاتي ، اللهم احفظني منْ بينِ يديَّ ومِنْ خلْفي ، وعنْ يميني وعنْ شمالي ومِنْ فوقي ، وأعوذُ بعظمتك أنْ أُغْتال مِنْ تحتي )) .
قال الشاعرُ:
ألم تر أنَّ ربَّك ليس تٌحصى
أيادِيهِ الحديثةُ والقديمهْ
تَسَلَّ عنِ الهمومِ فليس شيءٌ
يُقيِمُ ولا همومُك بالمُقيمهْ
لعلَّ الله ينظُرُ بعد هذا
إليك بنظرةٍ مِنْهُ رحيِمهْ
**************************************
ثَمَنُك الجنَّةُ
يقولُ للشاعرُ:
نفسْي التي تملِكُ الأشياء ذاهبةٌ
فكيف أبكي على شيءٍ إذا ذهبا
إنَّ الدنْيا بذهبِها وفضَّتِها ومناصبِها ودُورِها وقصورِها لا تستأهلُ قطرة دمعٍ ، فعند الترمذيِّ أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: (( الدنيا ملعونةٌ ، ملعونٌ ما فيها إلا ذكْر اللهِ ، وما والاه ، وعالماً ومتعلَّماً )) .
إنها ودائعُ فحسْبُ ، كما يقولُ لبِيدُ:
وما المالُ والأهلون إلا ودِيعةٌ
ولابدَّ يوماً أنْ تُردَّ الودائعُ
إن الملياراتِ والعقاراتِ والسياراتِ لا تؤخِّرُ لحظةً واحدةً منْ أجلِ العبدِ ، قال حاتمُ الطّائيُّ:
لعَمْرُكَ ما يُغني الثَّراءُ عن الفتى
إذا حشرجتْ يوماً وضاق بها الصَّدْرُ
ولذلك قال الحكماءُ: اجعلْ للشيء ثمناً معقولاً، فإنَّ الدنيا وما فيها لا تُساوي المؤمنِ: ﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ﴾ .
ويقولُ الحسنُ البصريُّ: لا تجعلْ لنفسِك ثمناً غير الجنةِ ، فإنَّ نفْس المؤمنِ غاليةٌ ، وبعضُهم يبيعها برُخْصٍ .
إنَّ الذين ينوحون على ذهابِ أموالِهمْ وتهدُّمِ بيوتِهم واحتراقِ سياراتِهم ، ولا يأسفون ويحزنون على نقْصِ إيمانِهم وعلى أخطائِهم وذنوبِهم ، وتقصيرِهم في طاعةِ ربِّهمْ سوف يعلمون أنهمْ كانوا تافهين بقدْرِ ما ناحُوا على تلك ، ولم يأسفوا على هذهِ ؛ لأنَّ المسألة مسألةُ قيمٍ ومُثُلٍ ومواقف ورسالةٍ: ﴿إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾.
****************************
الحبُّ الحقيقيُّ
كُنْ منْ أولياءِ اللهِ وأحبائهِ لِتسْعدَ ، إنَّ منْ أسعْدِ السعداءِ ذاك الذي جعل هدفه الأسمى وغايتُه المنشودة حُبَّ اللهِ عزَّ وجلَّ ، وما ألْطف قولهُ: ﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ .
قال بعضُهم: ليس العَجَبُ منْ قولهِ: يحبُّونه ، ولكنَّ العجب منْ قولِهِ يحبُّهم ؛ فهو الذي خلقهم ورزقهم وتولاَّهُم وأعطاهُمْ ، ثم يحبُّهم: ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ﴾ .
وانظرْ إلى مكرُمةِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ ، وهي تاجٌ على رأسهِ: رجلٌ يُحبُّ الله ورسوله ، ويحبُّه اللهُ ورسولهُ .
إنَّ رجلاً من الصحابة أحبَّ ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ ، فكان يردِّدُها في كلِّ ركعةٍ ، ويتَولَّهُ بذكْرِها ، ويعيدها على لسانه ، ويُشجي بها فؤاده ، ويحرِّكُ بها وجدانه ، قال له -صلى الله عليه وسلم-: (( حبُّك إيَّاها أدْخَلَك الجنة )) .
ما أعجب بيتين كنتُ أقرؤهما قديماً ، في ترجمةٍ لأحدِ العلماءِ ، يقول:
إذا كان حُبُّ الهائِمين من الورى
بليلى وسلمى يسلُبُ اللُّبَّ والعقْلا
فماذا عسى أن يفعل الهائِمُ الذي
سَرَى قلبُه شوقاً على العالمِ الأعلى
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ﴾ .
إنَّ مجنون ليلى قتلهُ حبُّ امرأةٍ ، وقارون حبُّ مالٍ ، وفرعون حبُّ منصبٍ ، وقُتل حمزةُ وجعفرُ وحنظلةُ حبّاً لله ولرسوله ، فيا لبُعْدِ ما بين الفريقين .
****************************************
وقفــــة
« ينتحرُ 300 ضابطِ شرطةٍ سنويّاً في أمريكا ، منهمْ عشرةٌ في نيويورك وحدها .. ومنذُ عام 1987 م يتزايدُ عدد ضُبّاط الشرطةِ المُنتحِرِين هناك .. وهي ظاهرةٌ أقلقتِ السُّلطاتِ ، وقام الاتحادُ الوطنيُّ لضبّاطِ الشرطةِ ببحْثِها .
لقدْ وجد الاتحادُ أنَّ أبرز أسبابِ انتحارِ الضباطِ هو: توتُّرُ الأعصابِ الدّائمِ الذي يعيشون فيه ، فهمْ مُطالبون دائماً بالثَّباتِ في الأزماتِ ، وتحمُّلِ الضُّغوطِ المتزايدةِ مع ارتفاعِ نسبةِ الجريمةِ ، وتحمُّل الآلامِ النّاتجة عن التَّعامُلِ مع المجرمين، ورؤيةِ جثثِ الضحايا منْ أطفالٍ ونساءٍ وعجائز.
والسببُ الثاني هو: وجودُ الأسلحةِ معهمْ بشكلٍ دائمٍ ، فهي تُساعدُهم أو تسهِّلُ عليهمُ عمليَّة الانتحارِ .
وقد وُجد أنَّ ثمانين بالمائةِ منْ حوادثِ انتحارِ الضباطِ تتمُّ بسلاحِهم الخاصّ ، في ثلاثةِ أيامٍ متتاليةٍ انتحر ثلاثُة ضُبّاطٍ ، كلٌّ منهم بواسطِة مسدسِهِ الميري » .
********************************
شريعةٌ سهْلةٌ مُيسَّرةٌ
إنَّ مما يُثلجُ صدر المسلم ظاهرةُ اليُسْرِ والسَّماحةِ في الشريعةِ الإسلاميةِ ﴿ طه {1} مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾ ، ﴿ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ﴾ ، ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ ، ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا ﴾ ، ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ ، ﴿ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ ، ﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً {5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ﴾ ، ﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ .
(( رُفع عنْ أُمَّتي الخطأُ والنسيانُ وما استُكْرِهُوا عليهِ )) ، (( إنَّ الدِّين يُسْرٌ ، ولنْ يُشادَّ الدين أحدٌ إلاَّ غلبه )) ، سدِّدُوا وقارِبُوا وأبشِرُوا )) ، (( بُعثتُ بالحنيفيِّة السِّمْحةِ )) ، (( خَيْرُ دينكم أيْسَرُه )) .
عُرِضتْ على شاعرٍ معاصرٍ في دولةٍ وزارةٌ يتولاَّها ، على أنْ يترُك طموحاتِه ورسالاتِه وأطرُوحاتِه الحقَّةِ ، فقال:
خُذوا كلَّ دنياكُمُ واتركُوا
فؤادي حُراً طليِقاً غريبا
فإنِّي أعْظمُكم ثروةً
وإنْ خِلْتُمُوني وحيداً سليِنا
********************
أُسُسٌ للرّاحةِ
في مجلّةِ ( أهلاً وسهلاً ) بتاريخ 3 / 4 / 1415هـ مقالةٌ بعنوان « عشرون وصفةٍ لتجنُّبِ القلق » بقلم د. حسان شمسي باشا .
من معاني هذه المقالةِ:
إنَّ الأجلَ قد فُرِغ منهُ ، وإنَّ كلَّ شيءٍ بقضاءٍ وقدرٍ ، فلا يأْسفِ العبدُ ، ولا يحزنْ على ما يجري .
إنَّ رزق المخلوقِ عند الخالقِ في السماءِ ، فلا يملكُه أحدٌ ، ولا يتصرَّفُ فيه قومٌ ، ولا يمنعُه إنسانٌ .
وإنَّ الماضي قدْ ذَهَبَ بهمومِه وغمومِه ، وانتهى فلنْ يعود، ولو اجتمع العالمُ بأسْرِه على إعادتِه .
وإنَّ المستقبل في عالمِ الغيْبِ ، ولم يحضرْ إلى الآن ، ولم يستأذِن عليك ، فلا تسْتدْعِهِ حتى يأتي .
وإنَّ الإحسان إلى الناسِ يُضفي على القلبِ سروراً ، وعلى الصدرِ انشراحاً ، وهو يعودُ على مُسديِه أعْظَمَ بركةٍ وثوابٍ وأجرٍ وراحةٍ ممنْ أُسدي إليهِ .
ومنْ شِيم المؤمنِ عدمُ الاكتراثِ بالنقْدِ الجائر الظالمِ ، فلمْ يَسْلَمْ من السَّبِّ والشَّتْمِ حتى ربُّ العالمين ، الذي هو الكاملُ الجليلُ الجميلُ ، تقدَّستْ أسماؤُه .
قلتُ في أبياتٍ لي:
فعلام تَحْرِقُ أدمُعاً قد وُضِّئتْ
ويظلُّ يُقْلِقُ قلْبَك الإرهابُ
وكِّلْ بها ربّاً جليلاً كلَّما
نام الخلِيُّ تَفَتَّحتْ أبوابُ
*************************************
احْذرِ العِشق
إياك وعِشْق الصُّورِ ، فإنَّها همٌّ حاضِر ، وكَدَرٌ مستمرٌّ .
منْ سعادةِ المسلمِ يُعدُه عنْ تأوُّهاتِ الشعراءِ وولهِهِم وعشقِهم ، وشكواهُم الهجْر والوصْل والفراق ، فإنَّ هذا منْ فراغ القلبِ ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً ﴾ .
وأنا الذي جَلَبَ المنيَّة طَرْفُهُ
فمنِ المُطالبُ والقتيلُ القاتِلُ
والمعنى: إنني أستحقُّ وأستأهلُ ما ذُقتُ من الألمِ والحسرةِ ؛ لأنني المتسبِّبُ الأعظمُ فيما جرى لي .
وآخرُ أندلسٌّ يتباهى بكثرةِ هيامِه وعشقِه وولهِهِ ، فيقولُ:
شكا ألم الفِراقِ النَّاسُ قبْلي
ورُوِّع بالجوى حيٌّ وميْتُ
وأمّا مِثْلما ضمَّتْ ضلوعي
فإنِّي ما سمعتُ ولا رأيْتُ
ولو ضمَّ بين ضلوعهِ التقوى والذْكر وروحانيّةً وربّانيّةً ، لَوَصَلَ إلى الحقِّ ، ولَعَرَ الدليل ، ولأبصر الرُّشد ، ولَسَلَك الجادَّة: ﴿ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ ﴾ ، ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ﴾ .
إنَّ ابن القيِّمِ عالج هذهِ المسألة علاجاً شافياً كافياً في كتابِهِ (الداءُ والدواءُ) فليُرْجَعْ إليهِ.
إن للعشق أسباباً منها:
1. فراغُ منْ حُبِّه سبحانه وتعالى وذكْرِهِ وشُكرِه وعبادتِهِ .
2. إطلاقُ البصرِ ، فإنهُ رائدٌ يجلبُ على القلبِ أحزاناً وهموماً: ﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ﴾ ، ((النظرةُ سهمٌ منْ سهامِ إبليس)).
وأنت متى أرسلت طرْفك رائداً
إلى كلِّ عينٍ أتعبتْكَ المناظِرُ
رأيت الذي لا كُلُّه أنت قادرٌ
عليه ولا عنْ بعضِهِ أنت صابِرُ
3. التقصيرُ في العبوديَّةِ ، والتقصيرُ في الذِّكْرِ والدُّعاءِ والنوافلِ ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ﴾ .
أمَّ دواءُ العِشْقِ ، فمنْهُ:
﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ .
1. الانطراحُ على عتباتِ العبوديِّةِ ، وسؤالُ المولى الشِّفاء والعافية .
2. وغضُّ البصرِ وحفْظُ الفرْجِ ﴿ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ﴾ ، ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴾ .
3. وهجْرُ ديارِ منْ تعلَّق بهِ القلبُ ، وتركُ بيتهِ وموطنِهِ وذكْرِهِ .
4. والاشتغالُ بالأعمالِ الصالحةِ: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً ﴾ .
5. والزَّواجُ الشَّرْعيُّ ﴿ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء ﴾ ، ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ﴾ ، (( يا معشر الشبابِ ، منِ استطاع منكمُ الباءة فليتزوَّجْ )) .
********************
حقوقُ الأخوَّةِ
مما يُسعدُ أخاك المسلم أنْ تُناديهِ بأحبِّ الأسماءِ إليهِ .
أُكْنِيهِ حين أُناديِه لأُكرِمهُ
ولا أُلقِّبُهُ والسَّوْءَةُ اللَّقبُ
وأنْ تهشَّ وتَبَشَّ في وجهِه (( ولو أنْ تلْقى أخاك بوجه طلْقٍ )) ، (( تبسُّمُك في وجهِ أخيك صدقةٌ )) .
وأنْ تشجِّعهُ على الحديثِ معك – أي تتركَ له فرصةً ليتكلَّم عنْ نفسِه وعن أخبارِهِ – وتأل عنْ أمورِه العامّةِ والخاصّةِ ، التي لا حَرَجَ في السؤالِ عنها ، وأنْ تهتمّ بأموره (( منْ لم يهتمَّ بأمرِ المسلمين فليس منهمْ )) ، ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ﴾ .
ومنها: أنْ لا تلومه ولا تعْذله على شيءٍ مضى وانتهى ، ولا تحرجه بالمزاحِ: (( لا تُمارِ أخاك ولا تُمازِحْه ، ولا تعِدهُ موعداً فتُخْلِفه )) .
*************************************
« أسرارٌ في الذنوبِ .. ولكنْ لا تذنبْ ! »
ذكر بعضُ أهلِ العلمِ: أنَّ الذنب كالختْمَ على العبد ، ومنْ أسرارها بعد التوبةِ: قصْمُ ظهر العُجْبِ ، وكثرةُ الاستغفارِ والتوبةُ والإنابةُ والتَّوجُّهُ والانكسارُ والندامة ، ووقوع القضاءِ والقدرِ ، والتَّسليمُ بعبوديَّةِ مُقابلةِ القضاءِ والقدرِ .
ومنها: تحقُّقُ أسماءِ اللهِ الحسنى وصفاتِه العُلى مثلِ: الرحيمِ والغفورِ والتَّوّابِ .
*******************
اطْلُبِ الرزق ولا تحرِصْ
سبحان الخالقِ الرازقِ ، أعطى الدودةَ رزقها في الطَّينِ ، والسمكة في الماءِ ، والطائرَ في الهواءِ ، والنملةَ في الظَّلماءِ ، والحيَّة بين الصخورِ الصَّمّاءِ .
ذَكَرَ ابنُ الجوزيِّ لطيفةً من اللَّطائفِ: أنَّ حيَّةُ عمياء كانتْ في رأسِ نخلةٍ ، فكان يأتيها عصفورٌ بلحمٍ في فمِه ، فإذا اقترب منها وَرْوَرَ وصفَّرَ ، فتفتحُ فاها ، فيضعُ اللحم فيهِ سبحان منْ سخرَّ هذا لهذِه ﴿ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ﴾ .
وإذا ترى الثعبان ينفُثُ سُمَّهُ
فاسألهُ منْ ذا بالسُّمومِ حشاكا
واسألهُ كيف تعيشُ يا ثعبانُ أو
تحيا وهذا السُّمُّ يَمْلأُ فاكا
كانتْ مريمُ عليها السلامُ يأتيها رزقُها في المحرابِ صباح مساء ، فقيل لها: ﴿ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ .
لا تحزنْ فرزقُك مضمونٌ ﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ﴾ . لتعلم البشريَّةُ أنَّ رازق الوالدِ ، هو الذي لم يلدْ ولمْ يولدْ .
﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم ﴾ إنَّ صاحب الخزائنِ الكبرى جلَّ في علاهُ قد تكفَّل بالرزقِ ، فِبم القلقُ والزعيمُ بذلك اللهُ ؟!
﴿ فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ﴾ .
﴿ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴾ .
************************
وقفـــة
« أمّا الصلاةُ فشأُنها في تفريغِ القلبِ وتقويتِه ، وشرْحِه ، وابتهاجهِ ولذَّتِه ، أكبَرْ شأنٍ ، وفيها اتِّصالُ القلبٍ والرُّوحِ باللهِ ، وقُربِه والتَّنعُّمِ بذكرِهِ ، والابتهاجِ بمُناجاتِه ، والوقوفِ بين يديْهِ ، واستعمالِ جميعِ البدنِ وقُواهُ وآلاتِهِ في عبوديَّتِهِ ، وإعطاءِ كلِّ عضو حظَّه منها ، واشتغالِه عن التَّعلُّقِ بالخلقِ ومُلابستِهم ومُحاوَرَتِهم ، وانجذاب قوى قلبِهِ وجوارحِهِ إلى ربِّه وفاطرِهِ ، وراحتهِ منْ عدوِّه حالة الصلاةِ ما صارتْ بهِ منْ أكبرِ الأدويةِ والمفرحاتِ والأغذيِةِ التي لا تُلائمُ إلا القلوب الصحيحة . وأمّا القلوبُ العليلةُ فهي كالأبدانِ ، لا تُناسبها إلاَّ الأغذيةُ الفاضلةُ » .
« فالصلاةُ منْ أكبرِ العوْنِ على تحصيلِ مصالحِ الدنيا والآخرةِ ، ودفْع مفاسِد الدنيا والآخرةِ ، وهي منْهاةٌ عن الإثْمِ ، ودافعةٌ لأدواءِ القلوبِ ، ومطْردةٌ للداءِ عن الجسدِ ، ومُنَوِّرةٌ للقلبِ ، ومُبيِّضةٌ للوجهِ ، ومنشِّطةٌ للجوارحِ والنفْسِ ، وجالِبةٌ للرزقِ ، ودافعةٌ للظُّلْمِ ، وناصِرةٌ للمظلوم ، وقامعةٌ لأخلاطِ الشّهواتِ ، وحافظةٌ للنعمةِ ، ودافعةٌ للنقمةِ ، ومُنزلةٌ للرحمةِ ، وكاشفةٌ للغُّمةِ » .
*************************************
شريعةٌ سَمْحةٌ
ممَّا يُفرِّحُ العبد المسلم ، ما في الشريعةِ من الثَّوابِ الجزيلِ والعطاءِ الضخْمِ ، يتجلَّى ذلك في المكفِّراتِ العشْرِ ، كالتوحيدِ وما يكفِّرُه من الذنوبِ .
والحسناتِ الماحيةِ ، كالصلاةِ، والجمعةِ إلى الجمعةِ، والعمرةِ إلى العمرةِ، والحجِّ ، والصومِ ، ونحو ذلك من الأعمالِ الصالحةِ .
وما هناك منْ مُضاعَفَةِ الأعمالِ الصالحةِ ، كالحسنةِ بعشرِ أمثالِها إلى سبعمائةِ ضِعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ .
ومنها التوبةُ تجُبُّ ما قبلها من الذنوبِ والخطايا .
ومنها المصائبُ المكفِّرةُ فلا يصيبُ المؤمن منْ أذىً إلا كفَّرَ اللهُ بهِ منْ خطاياهُ .
ومنها دعواتُ المسلمين لهُ بظهْرِ الغيبِ .
ومنها ما يُصيبُه من الكرْبِ وقت الموتِ .
ومنها شفاعةُ المسلمين له وقت الصلاةِ عليهِ .
ومنها شفاعةُ سيِّد الخلقِ -صلى الله عليه وسلم-، ورحمةُ أرحم الراحمين تبارك وتعالى ﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ﴾ ، ﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾ .
*****************************************
﴿ لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى ﴾
أوجس موسى في نفسِهِ خِيفةً ثلاث مرَّاتٍ:
الأولى: عندما دخل ديوان الطاغيةِ فرعون ، فقال: ﴿ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى ﴾ ، قال اللهُ: ﴿ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ .
وحقِيقٌ بالمؤمنِ أن تكون في ذاكرتهِ وفي خلدِه: لا تخفْ ، إنني أسمعُ وأرى .
والثانية: عندما ألقى السحرةُ عِصِيَّهم ، فأوْجس في نفسِه خيِفةً موسى .
فقال الله تعالى: ﴿ لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى ﴾ .
الثالثةُ: لما أتْبعهُ فرعونٌ بجنودِه ، فقال له اللهُ: ﴿اضْرِب بِّعَصَاكَ ﴾ وقال موسى: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ .
*********************
إياك وأربعاً
أربعٌ تُورثُ ضنْكَ المعيشةِ وكَدَرَ الخاطرِ وضيِقَ الصَّدْرِ:
الأولى: التَّسخُّطُ من قضاءِ اللهِ وقدرِه ، وعَدَمُ الرِّضا بهِ .
الثانيةُ: الوقوعُ في المعاصي بلا توبةٍ: ﴿ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ ،﴿ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ .
الثالثةُ: الحقدُ على الناسِ ، وحُبُّ الانتقامِ منهمْ ، وحَسَدُهم على ما آتاهُمُ اللهُ منْ فضلِه ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ ، (( لا راحة لحسودِ )) .
الرابعةُ: الإعراضُ عنْ ذكرِ اللهِ: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ﴾ .
***********
اسكُنْ إلى ربِّك
راحةُ العبدِ في سكونِه إلى ربِّه سبحانه وتعالى .
وقد ذَكَرَ اللهُ السكينةَ في مواطن منْ كتابِه عزَّ من قائلٍ ، فقال: ﴿ َأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ، ﴿ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ﴾ ، ﴿ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ ﴾ ، ﴿ فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ﴾ .
والسَّكينةُ هي ثباتُ القلبِ إلى الرَّبّ ، أو رسوخُ الجنان ثقةً بالرحمنِ ، أو سُكُونُ الخاطرِ توكُّلاً على القادرِ .
والسكينةُ هدوءُ لواعِجِ النفْسِ وسكونُها ، واستئناسُها ورُكُودُها وعدمُ تفلُّتِها ، وهي حالةٌ من الأمنِ ، يَحْظَىَ بها أهلُ الإيمانِ ، تُنقذُهُمْ منْ مزالقِ الحيْرةِ والاضطرابِ ، ومهاوي الشَّكِّ والتَّسخُّطِ ، وهي بحسب ولايةِ العبدِ لربِّه ، وذكْرِه وشُكرِه لمولاهُ ، واستقامتِه على أمرهِ ، واتِّباعِ رسولِهِ -صلى الله عليه وسلم-، وتمسُّكِه بهدْيِه ، وحبِّه لخالقِهِ ، وثقتِه في مالكِ أمرهِ ، والإعراضِ عمَّ سواهُ ، وهجْر ما عداهُ، لا يدعو إلا الله، ولا يعبدُ إلا أياهُ ﴿ يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ﴾ .
****************************
كلمتان عظيمتان
قال الإمامُ أحمد: كلمتان نفعني اللهُ بهما في المحنةِ
الأولى: لرجُلٍ حُبس في شربِ الخمْرِ ، فقال: يا أحمدُ ، اثبتْ ، فإنك تُجلدُ في السُّنَّةِ ، وأنا جُلِدُتُ في الخمرِ مراراً ، وقدْ صبرْتُ .
﴿ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ﴾ ،
﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ﴾ .
الثانيةُ: لأعرابيٍّ قال للإمامِ أحمد – والإمامُ أحمدُ قدْ أُخِذَ إلى الحبْسِ ، وهو مقيَّدٌ بالسلاسلِ: يا أحمدُ ، اصبرْ ، فإنَّما تُقتل منْ هنا ، وتدخُلُ الجنة منْ هنا .
﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ﴾ .
*******************************************
منْ فوائدِ المصائبِ
استخرجُ مكنونِ عبوديةِ الدعاءِ، قال أحدُهم: سبحان منِ استخرج الدعاء بالبلاءِ . وذكَرُوا في الأثرِ: أنَّ الله ابتلى عبداً صالحاً منْ عبادِهِ ، وقال لملائكتِه: لأسمع صوتهُ . يعني: بالدعاءِ والإلحْاحِ .
ومنها: كَسْرُ جماحِ النفسِ وغيِّها ؛ لأنَّ الله يقول: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى {6} أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ﴾ .
ومنها: عطفُ الناسِ وحبُّهم ودعاؤُهم للمصابِ ، فإنَّ الناس يتضامنون ويتعاطفون مع منْ أُصيب ومنِ ابتُلي .
ومنها: صرْفُ ما هو أعظمُ منْ تلك المصيبةِ ، فغنها صغيرةٌ بالنسبةِ لأكبر منها ، ثمَّ هي كفَّارةٌ للذنوبِ والخطايا ، وأجرٌ عند اللهِ ومثوبةٌ .
فإذا عَلِمَ العبدُ أنَّ هذه ثمارُ المصيبةِ أنس بها وارتاح ، ولم ينزعجْ ويَقْنطْ ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ .
***************
العلم هُدى وشِفاءٌ:
ذَكَرَ ابنُ حزمٍ في ( مُداواة النفوس ) أنَّ منْ فوائدِ العلمِ: نَفْيَ الوسواسِ عن النَّفْسِ ، وطرْدَ الهمومِ والغمومِ والأحزانِ .
وهذا كلامٌ صحيحٌ خاصَّةً لمنْ أحبَّ العِلْم وشغف به وزاولهُ ، وعمل به وظهر عليه نفْعُه وأثرُه .
فعلى طالبِ العلمِ أن يوزِّع وقته ، فوقتٌ للحفْظِ والتكرارِ والإعادةِ ، ووقتٌ للمطالعةِ العامَّةِ ، ووقتٌ للاستنباطِ ، ووقتٌ للجَمْعِ والتَّرتيبِ ، ووقتٌ للتأمُّلِ والتدبُّرِ .
فكُنْ رجُلاً رِجْلُه في الثَّرى
وهامةُ هِمَّتِهِ في الثُّريَّا
*****************
عسى أن يكون خيراً
للسيوطي كتابٌ بعنوان ( الأرجُ في الفرج ): ذَكَرَ منْ كلامِ أهلِ العلمِ ما مجموعُه يُفيدُنا أنَّ المحَابَّ كثيرةٌ في المكارهِ ، وأنَّ المصائب تُسفرُ عن عجائب وعن رغائب لا يُدركُها العبدُ ، إلا بعد تكشُّفِها وانجلائِها .
لعَمْرُك ما يدري الفتى كيف يتَّقي
نوائب هذا الدَّهرِ أمْ كيف يحْذرُ
يرى الشيء ممَّا يُتَّقى فيخافُه
وما لا يرى مما يقِي اللهُ أَكْبَرُ
*****************
السعادةُ موهبةٌ ربَّانيَّة
ليس عجباً أنْ يكون هناك نفرٌ من الناسِ يجلسون على الأرصفةِ ، وهم عُمَّالٌ لا يجدُ احدُهم إلا ما يكفي يومه وليلته ، ومع ذلك يبتسمون للحياةِ ، صدورُهم منشرِحةٌ وأجسامُهم قويةٌ ، وقلوبُهم مطمئنَّةٌ ، وما ذلك إلا لأنَّهم عَرَفوا أنَّ الحياة إنما هي اليومُ ، ولم يشتغلوا بتذكُّرِ الماضي ولا بالمستقبلِ وإنما أفنوْا أعمارهم في أعمالِهم .
وما أُبالي إذا نفسي تطاوعُني
على النَّجاةِ بمنْ قدْ عاش أو هلكا
وقارِنْ بين هؤلاء وبين أناسٍ يسكنون القصور والدُّور الفاخرة ، ولكنَّهمْ بَقُوا في فراغٍ وهواجس ووساوس ، فشتتهُمُ الهمُّ ، وذهب بهم كلَّ مذهبِ .
لحا اللهُ ذي الدِّنيا مُناخاً لراكِبٍ
فكُلُّ بعيدٍ الهمِّ فيها مُعذَّبُ
*******************
الذِّكْرُ الجميلُ عمرٌ طويلٌ
منْ سعادِة العبدِ المسلمِ أنْ يكون لهُ عمرٌ ثانٍ ، وهو الذِّكْرُ الحسنُ ، وعجباً لمنْ وجد الذكْر الحسنَ رخيصاً ، ولمْ يشترِهِ بمالِه وجاهِه وسعيِه وعملِه .
وقدْ سبق معنا أنَّ إبراهيم عليهِ السلامُ طلب منْ ربِّه لسان صدْقٍ في الآخرِين ، وهو: الثَّناءُ الحسنُ ، والدعاءُ له .
وعجبْتُ لأُناسٍ خلَّدوا ثناءً حسناً في العالمِ بحُسْنِ صنيعهِم وبكرمهِم وبذْلِهم ، حتى إنَّ عُمَرَ سأل أبناء هرِم بنِ سنانٍ: ماذا أعطاكمْ زهيرٌ ، وماذا أعطيتُموهُ ؟ قالوا: مَدَحَنا ، وأعطيناهُ مالاً . قال عمرُ: ذهب واللهِ ما أعطيتموهُ ، وبقي ما أعطاكمْ .
يعني: الثناءُ والمديحُ بقي لهمْ أبد الدّهرِ .
أولى البرِيَّةِ طُرَّا أنْ تُواسِيهُ
عند السُّرورِ الذي واساك في الحزنِ
إن الكرام إذا ما أُرسِلُوا ذكرُوا
منْ كان يألفُهم في المنزلِ الخشنِ