أخي القارئ الكريم..
لقد لخصت لك ونقلت من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما بسطه في أكثر من مئة صفحة من كتاب الصيام (16) لنفاسته وليكف اندفاع بعض الكتاب الذين ذكروا أنهم اعتمدوا على بعض كلام شيخ الإسلام رحمه الله ومع تكريري إحسان الزن بهم إلا أني أقول لهم «ما هكذا يا سعد تورد الإبل» احرصوا على الانكفاف عما يثير ويشوش على الناس في عباداتهم وحسبكم سنة نبيكم المعصوم وهبوا أن شيخ الإسلام أو تلميذه ابن القيم أو خلافهما قال: إذا أكد الحساب عدم الرؤية أو حصل كسوف ترد الشهادة لذلك فهل قال من لا يرد قوله المسدد بالوحي النازل عليه من السماء صباح مساء ومع ذلك فإن الشيخين رحمهما الله لم يقولا ترد الشهادة لذلك وقد برأهما الله من الإقدام على رد الشهادة الصحيحة لمجرد الحساب الذي حكى عنه الإمام شيخ الإسلام ما قربت لك بعضه ونقلت لك خلاصته وقد بين أن القول بالحساب قول الطائفة الإسماعيلية ومن نحا نحوها من الفرق التي هي على شاكلتها وإليك بعض كلام الأئمة الأعلام من سائر المذاهب وسوف ألحق ذلك ببعض كلام علماء الفلك المعاصرين إن شاء الله ليعلم أن قدماء الفلكيين ومتأخريهم لم يدعوا قطعية حسابهم فكانوا بذلك منصفين.
قال الحافظ العراقي (17) على حديث فإن غم عليكم فاقدروا له وذهبت فرقة ثالثة إلى أن معنى الحديث قدروه بحساب المنازل ونُسب ذلك لمطرف بن عبد الله بن الشخير وابن سريج ورد ذلك الحافظ بن عبد البر وأنه لا يصح عن مطرف وأن من حكاه عن الشافعي فقد غلط, ونفى نسبته إليه وقال البغوي (18) على قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن غم عليكم فاقدروا له» معناه التقدير بإكمال العدد ثلاثين يقال قدرت الشيء أقدره قدراً بمعنى قدرته تقديراً ومنه قوله تعالى {فقدرنا فنعم القادرون} (19).
وذكر قول أهل الحساب ورده ثم قال وذهب عامة أهل العلم إلى أنه لا يصوم ولا يفطر إلا برؤية الهلال أو بإكمال العدة ثلاثين.. أ. هـ.
ومثل (20) ذلك أي استنكار العمل بالحساب في عامة كتب فقه الشافعية والمالكية والأحناف والحنابلة قال ابن عابدين: لا عبرة بقول المؤقتين في وجوب الصوم ولا يعتبر قولهم بالإجماع ولا يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه ثم ذكر كلام الكبسي في الحساب وهجنه وأن متأخري أصحابه ردوه عليه كابن حجر والرملي وغيرهم ونقل عن ابن دقيق العيد أن الحساب لا يجوز الاعتماد عليه.
وفي شرح مسلم للأبي والسنوسي على قوله صلى الله عليه وسلم فاقدروا له قال لا يصح أن يكون حساب المنجمين لأنه حدس وتخمين.
وروى (21) ابن نافع عن مالك في الإمام الذي يعتمد الحساب أنه لا يقتدي به ولا يتابع ونقل في شرح المرشد عن القرافي أنه لو كان إمام يرى الحساب فأثبت به الهلال لم يتبع لإجماع السلف على خلافه ونقل ابن عرفة إنكاره وعن ابن العربي أيضاً.
وفي شرح رسالة ابن أبي زيد (22) على قوله فإن غم الهلال فيعد ثلاثون يوماً من غرة الشهر الذي قبله ثم يصام وكذلك في الفطر. ظاهر كلامه أنه لا يلتفت إلى كلام المنجمين وهو كذلك ثم قال: وقال ابن الحاجب ولا يلتفت إلى قول المنجمين اتفاقاً وسئل عليش عن رجل في زمانه اعتمد على حسابه في ثبوت رمضان وشوال ولم يعتبر رؤية الهلال بالبصر أهو ضلال فقال رحمه الله نعم هو ضلال تحرم موافقتهم فيه ويجب إنكاره والنهي عنه حسب الإمكان إذ هو هدم للدين ومصادم لحديث سيد المرسلين ثم نقل الإجماع على أنه لا يجوز لأحد أن يعّول على صومه وفطره على الحساب ونقل عن ابن رشد الجد الإجماع على ذلك.. أ. هـ (23).
وفي شرح الزرقاني والشرح الصغير أيضاً أنه لا يثبت دخول الشهر بقول الحاسب وأن نفيه من باب أولى لا بحق نفسه ولا بحق غير وقال قبله الأبي في شرح مسلم (24) على قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنا أمة أمية... إلخ.
لم يصنع ذلك لأجل أنهم لا يكتبون ولا يحسبون لأنهم لا يجهلون الثلاثين والتسع والعشرين وإنما وصفهم بذلك سداً لباب الاعتداد بحساب المنجمين الذي تعتمده العجم في صومها وفطرها وفصولها ومثل ذلك قال السنوسي في شرح مسلم أيضاً.. أ. هـ.
وقال العلامة سليمان الجمل (25) الشافعي عند قول زكريا: يجب صوم رمضان بإكمال شعبان ثلاثين يوماً, فهم من كلامه عدم وجوبه بقول المنجم بل لا يجوز. قال ولو دل الحساب القطعي على عدم الرؤية ففيه اضطراب للمتأخرين, والراجح العمل بشهادة البينة, وقال لو دل الحساب على عدم الرؤية وانضم إلى ذلك أن القمر غاب الليلة الثالثة على مقتضى تلك الرؤية قبل دخول وقت العشاء –يعني لم يعمل بالحساب-لأن الشارع لم يعتمد الحساب بل ألغاه بالكلية وهو كذلك.. أ. هـ. وقال أيضاً لأن الشارع إنما أوجب علينا الصيام بوجود الرؤية لا بوجود الشهر وقال(26) على قول زكريا أو ثبوتها في حق من لم يره..إلخ.
شمل كلامه ما لو دل الحساب على عدم إمكان الرؤية وانضم إلى ذلك أن القمر غاب الليلة الثالثة على مقتضى تلك الرؤية قبل دخول وقت العشاء لأن الشارع لم يعتمد الحساب بل ألغاه بالكلية وهو كذلك كما أفتى به الوالد رحمه الله.
وقال أيضاً: ولا يجوز اعتماد قول منجم وهو من يرى أن أول الشهر طلوع النجم الفلاني ولا قول حاسب وهو من يعتمد منازل القمر وتقدير سيره وفي فتاوى الرملي قريب من ذلك.
وقال ابن مفلح الحنبلي في الفروع في كتاب الصوم ومن صام بنجوم أو حساب لم يجزئه وإن أصاب ولا يحكم بطلوع الهلال بهما ولو كثرت إصابتهما ومثله في غير هذا الكتاب من كتب المذهب وما بسطه شيخ الإسلام ابن تيميه فيع كفاية عن بقية كتب المذهب الحنبلي.
ومن المتأخرين الإمام الصنعاني قال رحمه (27) الله: أما حديث الفطر يوم يفطر الناس فما هو إلا إخبار بأنه يتحزب الناس أحزاباً ويخالفون الهدي النبوي فطائفة تعمل بالحساب -يعني الباطنية- حتى دخل عالم من العلماء في ذلك.. إلخ.
وقال (28): إن النص اشترط في لزوم الصوم أحد أمرين: إما الرؤية أو إكمال العدة إلى أن قال على قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنا أمة أمية..إلخ.
إنما وصفهم بذلك طرحاً للاعتداد بالمنازل وطرق الحساب الذي تعول عليه الأعاجم في صومها وفطرها وفصلها. انتهى نقلاً عن القاضي عياض ثم قال وأغرب ابن السبكي ثم نقل كلامه في الاعتداد بالحساب وأنه قطعي ورد عليه بقوله:
قلت هذه القطيعة المدعاة إن أراد أنها قطعية عند الحاسب وسلمنا له ذلك فهو رجوع إلى قول بعض أكابر الشافعية أنه يختص بالحاسب وإن أراد أنه قطعي عند الحاسب وغيره فهذا باطل: ثم قال وما هذا وأشباهه إلا من شؤم علم الهيئة والنجوم الذي لم يأت عن الشارع حرف بصحته.
والشارع قد أو ضح أوقات العبادات وأناطها بأظهر الواضحات أفترد الشهادة التي أمر الشارع بقبولها بقول الحاسب.. إلخ. أ. هـ.
وقال أبو الطيب صديق خان(29) على قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» قال: ولم يقل فاسألوا أهل الحساب, والحكمة كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون وقد ذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التيسير وهم من الفرق الضالة.. إلخ. أ. هـ.
وقال صاحب مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (30) بعد أن ذكر أن المعول على الرؤية: وذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التسيير في ذلك.. إلخ.
فرد كلامهم قال: وقال الباجي وإجماع السلف الصالح حجة عليهم وقال ابن بزيزة: هو مذهب باطل فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنه حدس وتخمين ليس فيه قطع ولا ظن غالب.. أ. هـ.
أقول: لقد أو ضحت بما فيه الكفاية إن شاء الله.
ولو ذهبنا ننقل كلام الفقهاء مذاهب علماء الأمصار في القديم لوجدنا أن القول برد الشهادة لقول الحاسب قول مردود كفانا السلف الصالح مؤونة معاناة رده وحكوا لنا الإجماع على ذلك وما وجد من شذوذ بعد الإجماع فهو مردود لا يعول عليه ويكفي أنه طائفة باطنية عدوة للإسلام والمسلمين وتسعى لهدم الملة الحنيفية فلا يليق بطالب علم أن يغتر بها أو بقول من انخدع بالحساب لمصادمة ذلك للسنة الصحيحة وإجماع السلف رضي الله عنهم والواجب أن يسعنا ما وسعهم وأن لا نبتدع في ديننا ما لم يأذن به الله سبحانه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يؤثر عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
أخي القارئ الكريم..
هذه جمل من النقول أحببت تقريبها لك لتزداد اطمئناناً بهدي سلفك الصالح وأنهم ما كانوا غافلين ولكن منزلة سنة رسول الله عندهم كانت عالية لا يمكن أن تزاحم في نفوسهم أو تعارض بأقوال أهل الحساب والتسيير والتعديل وثقتهم بها وبقائلها الذي لا يرد قوله ولا يزاحم بآراء الآخرين جعلت لهم ذلك الفهم وتلك المنزلة عند الله وعند عباده المؤمنين وقد حرصت أن أنقل لك خلاصة الموضوع وإلا فإن بسط ذلك يستدعي مني ومنك وقتاً كثيراً ولكن حسبك من النور ما يضيء لك الطريق ويقيك العثار إن شاء الله.
وإليك باختصار قول بعض الفلكيين المعاصرين وقد ألقيت نظرة على أكثر من عشرة مباحث في أكثر من عشرة كتب منها المترجم ومنها من ألفه عرب مسلمون ونحن بحمد الله مكتفون بما اكتفى به سلفنا الصالح من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهدنا الحاضر وفي دولتنا السعودية الباقية ولله الحمد على منهج السلف ولكن ننقل لك من كلام المختصين بعلم الفلك المعاصرين ما يبين أن دعوى القطعية في الحساب كما لم تكن مسلماً بها عند حساب الأولين.. فكذلك الحال عند المتأخرين.
يقول الأمين محمد أحمد كعورة (31):
بعض العوامل المؤثرة في حركة القمر:
1. التغيير في المدار الإهليجي للقمر دورياً أي حوالي 31.8 يوماً.
2. التفاوت وهو تأثير يعجل بظهور الهلال والبدر قبل ميعادهما ويؤخر نصف القمر.
3. التغير في بُعد الأرض عن الشمس وبالتالي في بُعد القمر عن الشمس ولذا تتأثر قوة جاذبية الشمس المؤثرة على القمر.
4. التغير في تلاقي مدار القمر مع مدار الشمس.
5. التغير في زاوية ميل القمر.
ونتيجة لهذه العوامل والتأثيرات تصبح حركة القمر والأرض والشمس معقدة للغاية لدرجة أن مواقع هذه الأجرام بالنسبة لبعضها البعض لا تتكرر أبداً. ولذا كان من المستحيل وضع تقويم مضبوط للسنة القمرية لأن الشهور القمرية تختلف من سنة لأخرى.
إن متوسط مدة الشهر القمري هي تسعة وعشرون يوماً ونصف اليوم ولكن نتيجة لما ذكرنا عن عوامل التأثيرات فإن زمن الدورة قد يزيد أو ينقص 13 ساعة.
وبناء عليه يختلف مولد الأهلة من شهر لآخر فقد يظهر الهلال بعد 29 يوماً أو بعد 30 يوماً وكما ذكرت فلا أعتقد أن هناك قاعدة يرتكز أو يعتمد عليها في معرفة عدد أيام الشهور القمرية وإن الاعتماد الأساسي لهو على الرؤية.
إن الشهور القمرية تلعب دوراً كبيراً في حياة المسلمين.
فشهر رمضان المكرم والحج والأعياد تعتمد على مولد القمر وأعتقد أنه من واجب المسلمين أن يهتموا أكثر بدراسة حركة القمر ورصد الأهلة بالطرق الحديثة أي رؤيتها بالمنظار أو المجهر الحديث.
رؤية الهلال: كثيراً ما اختلفت الدول الإسلامية في بداية ونهاية شهر رمضان بل إن رؤية هلال شهر رمضان أصبحت من المشاكل المزمنة التي لم يجد لها العالم الإسلامي حلاً بعد, والسبب الأساسي في ذلك هو ما سبق أن ذكرت من أن حركة القمر معقدة للغاية ويكاد يكون في حكم المستحيل وضع تقويم مضبوط للشهور العربية لأن موقع الأرض والقمر والشمس لا يتكرر في فترات منتظمة.
ثم قال: إن الحل في رأيي لهذه المشكلة التي أساء الاختلاف فيها إلى سمعت العالم الإسلامي هو الآتي:
أن يعتمد المسلمون على الرؤية وذلك يتماشى مع الدين كما جاء في الحديث الشريف.. إلخ.
هذا بعض كلام الكاتبين عن القمر وحالة إبداره وإسراره وإهلاله في العصر الحديث بعد تطور هذا العلم واختراع المراصد الدقيقة والأجهزة الفائقة والكواكب الدوارة في محيط الأرض أو خارج محيطها وهو يتوافق مع كلام حذاق الحساب المتقدمين كما مر بك في ثنايا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره وبهذا وأمثاله من مواقف علماء الشريعة وعلماء الحساب تعلم أيها القارئ عظيم لطف الله بنا وسابغ فضله علينا إذ لم يجعل ركنين من أركان الإسلام مربوطاً بحساب فيه لدى أهله من الاضطراب ما مر بك مع الجزم باستحالة وضع تقويم دقيق ثابت لحصول التغيرات الفلكية في أماكن القمر مما سبقت الإشارة إليه وما لم أذكره أكثر من ذلك (32).
أخي القارئ الكريم:
إن الكتابات باستحالة الرؤية أو بحتميتها أو احتمالها للقطع بوجود القمر في الأفق بناء على نتائج الحساب أو عدم وجوده قد ظهر أنه أمر تخرصي تخميني. أما الوجود القطعي فهو ما أخبر به الشارع في كتابه أو على لسان رسوله أو شاهده الناس مشاهدة تنفي الشك.
ولقد مررت على كلام كثيرين من أهل العلم فوجدته لا يشير إلى القطعية بحال إلا من شذ وقد رد عليه علماء مذهبه وغيرهم قديماً وحديثاً والله يعفو عنا وعنه ولقد اطلعت أيضاً على نتائج مجالس فقهية في مؤتمرات وجامعات وكنت شاركت في بعضها ولم يكن لدى أحد من هذه المجالس أي اعتبار لقطعية الحساب وأن الشهادة ترد لأجله.
وقد مر بك أسماء علماء وتركت كثيرين جداً وحسبك أن أعداداً من فحول أهل العلم كابن منذر وابن عبد البر وابن رشد الجد والباجي وابن تيمية وسواهم حكوا الإجماع على عدم اعتبار الحساب في إثبات الأهلة وحكموا بشذوذ من خالف في ذلك.
إن محالة حمل السنة على الحساب محاولة تعسفية وجور في الشريعة وخروج عن هدي المسلمين كما أن العزم على عدم الأخذ بالشهادة إذا خالفها الحساب أمر له خطورته على دين الشخص فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاعتماد على الرؤية ونهى عن الاعتماد على غيرها بقوله: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته».
وقوله عليه السلام: «لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه» أيليق بنا أن نقول بلسان الحال أو المقال «لا» وقد قال ربنا محذراً من مخالفه أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} (33) أليس الله أعلم بمصالح عباده؟ أليس رسوله عليه السلام بيّن للناس ما نزل إليهم من ربهم أكمل بيان ولم يترك أمراً دون ذلك إلا وأعطى عنه علماً حتى جعل الناس في جلية من أمرهم فكيف يعقل أن يترك أمراً يتعلق بركنين من أركان الدين ويجعله في حال غير ثابتة: تارة بالهلال, وتارة بالحساب إذا علموا.
ثم إن قل علمهم عادوا لأمر الرؤية لأن هذا لا زم القول فيكون المسلمون في تخبط مستمر في دينهم.
وشرع الله يتنزه عن مثل ذلك ويجب على حملته تنزيهه وأخيراً أوجه القول لمن كتبوا معترضين على إثبات الرؤية وقد بلغني ولم أتحقق أن بعضهم كان في عام صائماً يوم أفطرنا ومفطراً يوم صمنا بناء على ظنه أن القمر لن يطلع في الأفق والله أعلم بذلك لكنها إن صحت زلته وأي زلة لما فيها من المشاقة التي قال الله عنها: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمين نوله ما تولى} (34).
إذ أن رفض الأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مشاقة ولو كان الشخص يرى أنه على حق إذ لو كان يشاق مع علمه بأنه على خطأ لكان ذلك كفراً والعياذ بالله وحاشاهم أن يكونوا فيما كتبوا كذلك.
لكنها الثقة بأهل الاحتساب والاغترار بهم والانخداع بعض ما يدركه أحدهم من علم الحساب وعدم الخبرة بمسالك البحث ومقاصد الشريعة أو لأمر آخر والله أعلم بالنيات ولكن سرعان ما تنكشف الأمور وتتجلى الحقائق ليبدو الشخص على حقيقته.
ثم إني أقول عاتباً على الكاتبين والصحافة والمسؤولين عنها هلا إذا كان الحديث يتعلق بعامة المسلمين في الداخل والخارج هلا تفاهمتم مع أهل الشأن؟ هل صددتم عن ذلك؟ أو رفض طلبكم أو امتنع طالب العلم المسؤول عن الإيضاح عما كان أشكل؟ أم تصورتم بعلمائكم أو بنا يا إخوانكم تبلداً وعدم غيرة على شعائر الدين؟ أظننتم أنكم بمثل هذه الكتابات أو بإفساح الصدور لها في صحفكم قد ساعدتم على التمسك بالشريعة والعقيدة وجمعتم قلوب الناس على أمر واحد وموالاة حميدة تدفع عن بلادكم كل دخيل وتجمع القلوب على التعاون على البر والتقوى وتجعل العمل في حدود منهج السلف.
لقد كان جدير بكم وبالمسؤولين عن الصحافة التروي قبل الولوج من باب فيه ضيق وحرج وبلبلة, وصراطه مزلة قدم, وكان من حق إخوانكم عليكم أن لا تنسبوهم إلى الجهل أو الاستهتار بشعائر الدين لأن هذا من لازم الكتابات سواء منها ما كان هذا العام وما كان منها في أعوام مضت.
إن طلبة العلم ما سكتوا عن الرد لعدم وجوده عندهم ولا لأن الموضوع ليس من الأهمية بمكان ولكن كان الظن أن يستدرك الكاتب على نفسه ويتراجع عن النزول إلى هوة سحيقة فيعدل عن الاكتفاء بمن لهم في هذا الأمر مجال الاختصاص وإن رأى أن عنده ما ليس عندهم أرشدهم إليه وتعاون معهم على البر والإصلاح أو أن تتراجع الصحيفة نفسها وتمتنع من فتح صفحاتها للتشكيك وزرع الريبة في نفوس العامة.
لأن لذلك آثاره الضارة على المجتمع كما كان الظن أن يتنبه لذلك من لهم النظر في أمر الصحافة..
أقول:
إني عتبي على أولئك وهؤلاء وقديماً قيل-ويبقى الود ما بقي العتاب-إن الدخول في أمر عام يتعلق بالعبادة التي يخاطب بها عموم الأمة في كل مكان وعلى مختلف مستوياتهم في العلم بمثل ذلك التشكيك والإقدام على الجزم بخطأ الناس في عملهم يثير استفهامات كثيرة ويبدي في الأذهان ويعيد ويحمل على البحث عن المقاصد وما وراء هذه الكتابات ورحم الله امرأً أعان على الخير أو كف نفسه عما لا يعنيها. إن الإثارة والتعلق ببعض العلوم والفرح بها يرتب أخطاراً كبيرة وبلاء عظيماً وربما أثر على نفس الإنسان وعلى موقفه من عبادته فلا بد من اتهام الرأي أو مراجعته والتشاور وسؤال من له علم أو عليه مسؤولية قبل تجشم الموضوع بما يثير توجساتٍ نحو من أثار تلك الزوبعات وهل وراءه من يدفعه؟ إذ إن تلك المواقف تدعو لذلك وتحمل على التساؤل عن الكاتب وأفكاره والصحيفة ومنهجها ودوافعها. ومع ذلك فإننا نحسن بهم الظن ونتمنى لهم التبصر والبصيرة ولنا كذلك, إذ الفقه في الدين والبصيرة فيه أعظم حصيلة يدركها المرء في هذه الحياة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المتفق عليه: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين», ومن أراد الله به الخير فما ذا يفوته بعد ذلك إذ الفقه في الدين كنز عظيم ونور يهتدي به المرء عند اختلاط الآراء واختلاف الأفهام نسأل الله أن يجعلنا وإخواننا من هؤلاء.
بقي أن أشير إلى أن العلماء لا يرون أي مانع من الأخذ بالرؤية عن طريق المرصد أو بالآلات الخاصة مع الأفراد أو الجماعات وبأي طريقة وإنما المهم أن تتحقق الرؤية البصرية ومع ذلك فلا يجب التكلف والتمحل ما دام أن رسولنا صلى الله عليه وسلم ندبنا إلى التيسير وحذرنا من التعسير والتنفير فقال في الحديث الصحيح: «إنما بعثتم ميسرين» وقال لمعاذ وأبي موسى رضي الله عنهما: «يسرا ولا تعسرا» وحذر من الاختلاف وبين أن الفطر يوم يفطر الناس والصوم يوم يصومون والأضحى يوم يضحون ومن هذا التوجيه العظيم أخذ أهل العلم رحمهم الله كثيراً من أحكام التيسر وفرعوا على ذلك صوراً عديدةً ليس المقام مقام ذكرها ولا شك أنه قد لا يرضي هذا الموقف من أهل العلم رضي الله عنهم بعض المتعالين ولكن عذرهم قائم كما قال الخليل:
جهلت مقالتي فعذلتي *** وعلمت أنك جاهل فعذرتك
أو ما في معناه.
وأخيراً.. أرجو أن أكون قدمت للقارئ الكريم نبذاً مفيدة ونصبت له مناراً وعلامات يهتدي بها وأرجو من الله أن نكون جميعاً من أهل الحق والإنصاف الذين يفرحون إذا أرشدوا لطريق الصواب:
{وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد}(35).
وفي الختام.. فإن اتخاذ نتائج الحاسبين وحصول الكسوف والخسوف مفيداً علماً قطعياً في إثبات الأهلة أو نفيها وبناء الأحكام الشرعية عليها تقول على الله وعلى رسوله والمؤمنين بغير علم وما هو إلا محاولة الظهور بمظهر التنور وعدم الجمود على ما قاله الأسلاف فهلا كان الظهور بما يقدم للأمة من حلول المشاكل الاقتصادية أو التقدم في ميادين طبية أو في مخترعات ترفع من شأن الأمة علمياً كالذي فعل الغرب والشرق المتقدمان في هذا المجال مما يعود على أمتنا بالعز والسؤدد ويغنيها في مجال التصنيع عن الأمم الغربية والشرقية فهذا أجدى..
والله المستعان وهو الهادي إلى سواء السبيل..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* سبق نشر هذا البحث في مجلة البحوث الإسلامية في عدد 27 عام 1409 هـ.
(1) وهي قليلة جدا أعني التعليقات وذلك لضيق الوقت عندي حيث لم يتسع للبسط والزيادة إلا فيما تدعوا إليه الحاجة.
(2) سورة البقرة الآية 185.
(3) صحيح البخاري (الفتح ج 4 ص 119).
(4) صحيح البخاري (الفتح ج 4 ص 122).
(5) صحيح البخاري (الفتح ج 4 ص 127).
(6) نقلت أحاديث صحيح مسلم وكلا م النووي عليها من طبعة قديمة في أواخر القرن الثالث عشر قبل تطور فن الطباعة وهي نادرة الوجود الآن لكنها التي عندي في مكتبتي في الطائف ولم يتسع لي الوقت لمراجعتها في الرياض.
(7) صحيح مسلم بشرح النووي ج 2 ص 73، 1283هـ.
(8) هذه رواية عن أحمد رحمه الله والرواية الأخرى كقول الجمهور وأنه لا صوم ولا فطر إلا برؤية أو إكمال العدد وحكى شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا هو الصحيح من مذهب أحمد وهو المنصوص عنه، أنظر الإنصاف ج3 ص269.
(9) سورة المرسلات الآية 23.
(10) صحيح البخاري (الفتح ج 4 ص 123).
(11) كمطرف بن عبد الله بن الشخير أحد التابعين وقد شكك الإمام الحافظ أبو عمر عبد البر بنسبة ذلك القول لمطرف رحمه الله كما حكى رحمه الله الإجماع على خلافه.
(12) سورة المائدة, الآية (3).
(13) إن من يقرأ كلامه رحمه الله في هذه المقدمة في الجزء 25/126 وبعدها يجد لذة وشعوراً بهيبة العلم وسموا أدب العلماء مع الشريعة فعليك أيها القارئ بالرجوع إليه والتأمل في معانيه.
(14) فتاوى ابن تيمية, ج25 ص (126) وما بعدها وفيها كلام نفيس وإيضاح نادر النظير ورد على من تعلق بالحساب بأبلغ كلام وأدق عبارة, ولم أحدد الصفحات ليقرأ من أراد الرجوع إلى كلام شيخ الإسلام كامل أطراف البحث لما فيه من فوائد عظيمة.
(15) قوس الرؤية هذا قوس وهمي والدرجات هذه درجات تقديرية يقطعها الكوكب في دورته. فالدورة الكاملة ستون وثلاثمائة درجة ونصفها ثمانون ومئة.
(16) فتاوى ابن تيمية ج 25, كتاب الصيام, ط حكومة المملكة العربية السعودية.
(17) الحافظ العراقي, طرح التثريب, جـ 4 ص 112.
(18) البغوي في شرح السنة, جـ 6 ص 231.
(19) سورة المرسلات, الآية 23.
(20) البغوي في شرح السنة, جـ 6 ص 233.
(21) حاشية الرهوني, جـ 2 ص 342.
(22) شرح رسالة ابن أبي زيد, جـ 1 ص 291.
(23) من فتح العلي المالك, كتاب الصيام.
(24) شرح مسلم, جـ 3 ص 222.
(25) سليمان الجمل في حاشيته على شرح منهج الطلاب لزكريا الأنصاري, جـ 2 ص 304.
(26) سليمان الجمل في حاشيته على شرح منهج الطلاب لزكريا الأنصاري, جـ 2 ص 306.
(27) الصنعاني, منحة الغفار على ضوء النهار, جـ 1 ص 423.
(28) حاشية العدة على شرح عمدة الأحكام, جـ 3 ص 328 وما بعدها.
(29) أبو الطيب صديق خان, عون الباري شرح صحيح البخاري, كتاب الصوم.
(30) مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح, جـ 2 ص 209.
(31) الأمين محمد أحمد كعورة, مبادئ الكونيات.
(32) وبعد إعداد هذا البث اطلعت على أكثر من عشرة كتب أخرى تختص بعلم الفلك أعارتني إياها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية كما صورت لي عدة صور لبحوث نشرت في مجلات خارجية وداخلية وليس في واحد من هذه الكتب أو واحدة من تلك النشرات ما يشير إلى قطعية الحساب أو رد الشهادة إذا خالفته وقد عرض عليّ أخيراً توصيات ومقترحات ندوة الأهلة والمواقيت والتقنيات الفلكية المعقودة في الكويت من 21 رجب إلى نهاية 23 رجب عام 1409 هـ وفيها ما يلي:
أولاً: التوصيات العلمية (المبادئ):
1. إذا ثبت رؤية الهلال في بلد:
وجب على المسلمين الالتزام بها ولا عبرة باختلاف المطالع لعموم الخطاب بالأمر بالصوم والإفطار.
2. يؤخذ في الحسابات المعتمدة في حالة النفي:
«أي القطع باستحالة رؤية الهلال» وتكون الحسابات الفلكية معتمدة إذا قامت على التحقيق الدقيق (لا التقريب) وكانت مبنية على قواعد فلكية مسلمة وصدرت عن جمع من الفلكيين الحاسبين الثقات بحيث يؤمن وقوع الخلل فيها؟! فإذا شهد الشهود برية الهلال في الحالات التي يتعذر فلكياً رؤيته فيها ترد الشهادة لمناقضتها للواقع ودخول الريبة فيها.
ومن هذه الحالات التي تستحيل فيها الرؤية:
(أ) إذا شهد الشهود برؤية الهلال قبل الوقت المقدر له بالحساب الفلكي وهو وجوده في الأفق بعد غروب الشمس فلا عبرة بالشهادة على رؤية الهلال قبل حصول الاقتران. أو إذا تزامنت الشهادة مع الاقتران سواء كان الاقتران مرئياً كالكسوف أو غير مرئي مما تحدده الحسابات الفلكية المعتمدة وهذه الحالة نص عليها عدد من فقهاء المسلمين كابن تيمية والقرافي وابن القيم وابن رشد.
(ب) إذا شهد الشهود برؤية الهلال بعد الغروب في اليوم رؤي فيه القمر صباحاً قبل الشروق فلا عبرة بالشهادة على هذه الرؤية.
3. رؤية الهلال هي الأصل في إثبات دخول الشهر:
ويستعان بالحساب الفلكي في إثبات الأهلة بالرؤية وذلك بتحديد ظروف الرؤية في اليوم والساعة والجهة وهيئة الهلال ولكن لا يكتفى بالحساب للإثبات بل لا بد من الشهادة المعتبرة على رؤيته فإن دل الحساب على إمكانية الرؤية وعدم الموانع الفلكية ولم ير الهلال وجب إكمال الشهر ثلاثين .. إلخ.
ثم ذكر في التوصيات أشياء أخرى والذي أحب أن أعلقه على هذه التوصيات هو أن دعوى الرؤية هي الأصل دعوى مهدرة أهدرتها هذه التوصيات وجعلت الحساب مهيمناً عليها وهو الميزان الذي ترد إليه ولم أجد توقيعات على هذه التوصيات لأعلم من كان فيها من أهل العلم العارفين لقدر النصوص الشرعية وأدع التعليق على ما يتعلق برد الشهادة واعتماد الحساب فقد كفانا ذلك علماء الإسلام الذي سبق لك في هذا المقال قراءة كلامهم منهم شيخ الإسلام ابن تيمية ومن قبله من الحفاظ ومن أتوا بعده وإنما أحب أن تعيد النظر فيما سبق من كلامهم أو ترجع إلى مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية.. الجزء الخامس والعشرين ففيه ما يشفي العليل ويروي الغليل.
**************************
(33) سورة النور, الآية 63.
(34) سورة النساء, الآية 115.
(35) سورة الحج, الآية 24.