وكلما كثرت المنكرات .. وقلت الطاعات .. غضب رب الأرض والسماء .. وقرب نزول البلاء ..
بل إن المنكر إذا كثر .. خربت البلاد .. وهلك العباد .. وصار الناس كالبهائم .. ما بين حائر وهائم ..
والمنكر إذا وقع .. لم يضر الفاعلين فقط .. بل عم الصالح والطالح ..
قال الله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } ..
وذكر ابن عبد البر في التمهيد أن الله تعالى أوحى إلى جبريل أن أهلك قرية كذا وكذا ..
فقال جبريل : يا رب فيهم عبدك فلان .. رجل صالح .. أي بكاء في الأسحار .. صوام في النهار .. له صدقات وأعمال صالحات .. كيف أهلكه معهم ..
فقال الله : به فابدأ .. فإنه لم يتمعر وجهه فيَّ قط .. أي لم يكن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ..
وصح عند أحمد والترمذي .. أنه صلى الله عليه وسلم قال : والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف .. ولتنهون عن المنكر .. أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده .. ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم ) ..
وصح في المسند وغيرها .. أنه صلى الله عليه وسلم قال : ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي .. هم أعز وأكثر ممن يعمله .. ثم لا يغيروه .. إلا عمهم الله تعالى منه بعقاب ) ..
وصح في المسند أنه صلى الله عليه وسلم قال : إن من أمتي قوماً يُعطّون مثل أجور أولهم .. ينكرون المنكر ) ..
وصح عند أبي يعلى .. أنه صلى الله عليه وسلم قال : أحب الأعمال إلى الله إيمان بالله .. ثم صلة الرحم ..ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) ..
نعم .. فلا يعذر أحد في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. كل بحسب استطاعته ..
فقد روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ..
وعلى العاقل أن يسلك جميع السبل في سبيل إنكار المنكرات .. ولا يكتفي بسبيل واحد ثم يرضى بالقعود ..
* * * * * * * * * *
ذكر ابن كثير في تاريخه أن رجلاً من ضعفاء الناس كان له على بعض الكبراء مال كثير ..
فماطله ومنعه حقه .. وكلما طالبه الفقير به آذاه .. وأمر غلمانه بضربه ..
فاشتكاه إلى قائد الجند .. فما زاده ذلك إلا منعاً وجحوداً ..
قال هذا الضعيف المسكين :
فلما رأيت ذلك يئست من المال الذي عليه ودخلني غمّ من جهته .. فبينما أنا حائر إلى من أشتكي ..
إذ قال لي رجل : ألا تأتي فلاناً الخياط إمام المسجد ..
فقلت : ما عسى أن يصنع خياط من هذا الظالم ؟ وأعيان الدولة لم يقطعوا فيه !
فقال : الخياط هو أقطع وأخوف عنده من جميع من اشتكيتَ إليه .. فاذهب لعلك أن تجد عنده فرجاً ..
قال : فقصدته غير محتفل في أمره .. فذكرت له حاجتي ومالي وما لقيت من هذا الظالم ..
فقام وأقفل دكانه .. ومضى يمشي بجانبي حتى وصل إلى بيت الرجل .. وطرقنا الباب .. ففتح الرجل الباب مغضباً .. فلما رأى الخياط .. فزع .. وأكرمه واحترمه ..
فقال له الخياط : أعط هذا الضعيف حقه ..
فأنكر الرجل وقال : ليس له عندي شيء ..
فصاح به الخياط وقال : ادفع إلى هذا الرجل حقه وإلا أذنتُ ..
فتغير لون الرجل ودفع إليّ حقي كاملاً ..
ثم انصرفنا ..
وأنا في أشد العجب من هذا الخياط .. مع رثاثة حاله .. وضعف بنيته .. كيف انطاع وانقاد ذلك الكبير له ..
ثم إني عرضت عليه شيئاً من المال فلم يقبل ..
وقال : لو أردتُ هذا لكان لي من المال مالا يحصى ..
فسألته عن خبره وذكرت له تعجبي منه .. فلم يلتفت إليَّ .. فألححت عليه ..
وقلت : لماذا هددته بأن تؤذن ؟! ..
قال : قد أخذت مالك فاذهب .. قلت : لا بدَّ والله أن تخبرني ..
فقال : إن سبب ذلك أنه كان عندنا قبل سنين في جوارنا أميرٌ تركي من أعالي الدولة وهو شاب حسن جميل .. فمرت به ذات ليلة امرأة حسناء قد خرجت من الحمام وعليها ثياب مرتفعة ذات قيمة ..
فقام إليها وهو سكران .. فتعلق بها .. يريدها على نفسها .. ليدخلها منزله ..
وهي تأبى عليه وتصيح بأعلى صوتها .. وتستغيث بالناس .. وتدافعه بيديها ..
فلما رأيت ذلك ..قمت إليه .. فأنكرت عليه .. وأردت تخليص المرأة من بين يديه ..
فضربني بسكين في يده فشج رأسي وأسال دمي .. وغلب المرأة على نفسها فأدخلها منزله قهراً ..
فرجعت وغسلتُ الدم عني وعصبت رأسي .. وصحت بالناس وقلت :
إن هذا قد فعل ما قد علمتم فقوموا معي إليه لننكر عليه ونخلص المرأة منه ..
فقام الناس معي فهجمنا عليه في داره فثار إلينا في جماعة من غلمانه بأيديهم العصي والسكاكين يضربون الناس .. وقصدني هو من بينهم فضربني ضرباً شديداً مبرحاً حتى أدماني .. وأخرجنا من منزله ونحن في غاية الإهانة والذل ..
فرجعت إلى منزلي وأنا لا أهتدي إلى الطريق من شدة الوجع وكثرة الدماء ..
فنمت على فراشي فلم يأخذني النوم .. وتحيرتُ ماذا أصنع .. والمرأة مع هذا الفاجر ..
فأُلهمتُ أن أصعد المنارة .. فأؤذنَ للفجر في أثناء الليل .. لكي يظن الخبيث أن الصبح قد طلع فيخرجها من منزله ..
فتذهب إلى منزل زوجها ..
فصعدت المنارة وبدأت أؤذن وأرفع صوتي ..
وجعلت أنظر إلى باب داره فلم يخرج منه أحد .. ثم أكملت الأذان فلم تخرج المرأة ولم يفتح الباب ..
فعزمت على أنه إن لم تخرج المرأة .. أقمتُ الصلاة بصوت مسموع .. حتى يتحقق الخبيث أن الصبح قد بان ..
فبينما أنا أنظر إلى الباب .. إذ امتلأت الطريق فرساناً وحرساً من السلطان ..
وهم يتصايحون : أين الذي أذن هذه الساعة ؟ ويرفعون رؤوسهم إلى منارة المسجد ..
فصحت بهم : أنا الذي أذنت .. وأنا أريد أن يعينوني عليه ..
فقالوا : انزل ! فنزلتُ ..
فقالوا : أجِب الخليفة .. ففزعت .. وسألتهم بالله أن يسمعوا القصة فأبوا .. وساقوني أمامهم .. وأنا لا أملك من نفسي شيئاً حتى أدخلوني على الخليفة ..
فلما رأيته جالساً في مقام الخلاقة ارتعدتُ من الخوف وفزعتُ فزعاً شديداً ..
فقال : ادنُ فدنوتُ ..
فقال لي : ليسكُن روعك وليهدأ قلبك .. وما زال يلاطفني حتى اطمأننت وذهب خوفي ..
فقال لي : أنت الذي أذنت هذه الساعة ؟
قلت : نعم يا أمير المؤمنين ..
فقال : ما حملك على أن أذنت هذه الساعة .. وقد بقى من الليل أكثر مما مضى منه ؟
فتغرَّ بذلك الصائم والمسافر والمصلي وتفسد على النساء صلاتهن ..
فقلت : يؤمّنني أميرُ المؤمنين حتى أقصَّ عليه خبري ؟
فقال : أنت آمن .. فذكرتُ له القصة .. فغضب غضباً شديداً ..
وأمر بإحضار ذلك الرجل والمرأة فوراً .. فأُحضرا سريعاً فبعث بالمرأة إلى زوجها مع نسوة من جهته ثقات .. ثم أقبل على ذلك الرجل فقال له :
كم لك من الرزق ؟ وكم عندك من المال ؟ وكم عندك من الجواري والزوجات ؟ فذكر له شيئاً كثيراً ..
فقال له : ويحك أما كفاك ما أنعم الله به عليك حتى انتهكت حرمة الله .. وتعديت على حدوده .. وتجرأت على السلطان ؟!
وما كفاك ذلك ..
حتى عمدت إلى رجل أمرك بالمعروف ونهاك عن المنكر .. فضربته وأهنته وأدميته ؟!
فلم يكن له جواب .. فغضب السلطان ..
فأمر به فجُعل في رجله قيد وفي عنقه غلّ ثم أمر به فأدخل في كيس ..
وهذا الرجل يصيح ويستغيث .. ويعلن التوبة والإنابة .. والخليفة لا يلتفت إليه ..
ثم أمر الخليفة به فضرب بالسكاكين ضرباً شديداً حتى خمد ..
ثم أمر به فأُلقيَ في نهر دجلة فكان ذلك آخر العهد ..
ثم قال لي الخليفة :
كلما رأيتَ منكراً .. صغيراً كان أو كبيراً ولو على هذا – وأشار إلى صاحب الشرطة – فأعلِمْني ..
فإن اتفق اجتماعُك بي وإلا فعلامة ما بيني وبينك الأذان .. فأذّن في أي وقت كان .. أو في مثل وقتك هذا .. يأتك جندي فتأمرهم بما تشاء ..
فقلت : جزاك الله خيراً .. ثم خرجت ..
فلهذا : لا آمر أحداً من هؤلاء بشيء إلا امتثلوه .. ولا أنهاهم عن شيء إلا تركوه خوفاً من الخليفة ..
وما احتجت أن أؤذن في مثل تلك الساعة إلى الآن .. والحمد لله .
فأين أولئك .. الذين يرون المنكرات .. ولا تنشط نفوسهم لإنكارها .. بل ربما أنكروا مرة أو مرتين فلما لم يقبل منهم ..
يئسوا من الإصلاح .. وألقوا السلاح ..
* * * * * * * * * *
أيها الأحبة الفضلاء ..
إن الصراع بين الحق والباطل .. قائم إلى يوم القيامة ..
ولئن انتصر الباطل ساعة .. فالحق منصور إلى قيام الساعة ..
فأين الذين يعيشون للإسلام .. يسكبون من أجله دماءهم .. ويسحقون جمامهم .. لأجل عزة دينهم ..
أين الذين يخافون أن تظهر المنكرات .. وتتفشى الشهوات .. فيغضب رب الأرض والسماوات ..
فإنه سبحانه .. إذا غضب لعن .. ثم عذب وفتن .. وما يعلم جنود ربك إلا هو ..
فعود نفسك وعوديها .. على عدم السكوت عن المنكرات ..
المسألة تحتاج إلى جرأة في البداية .. ولكن لها فرحة في النهاية ..
ولئن كان الفجار يتجرؤون على نشر منكراتهم .. والدعوة إليها .. والحث عليها ..
من خلال كتابة في جريدة .. أو برنامج في قناة داعرة بليدة .. أو في كتاب مقروء .. أو فكر موبوء ..
تروح بنا مصائبنا وتغدو ** فما يرعى لنا في الناس عهد
ويخطب باقلٌ في كل ناد ** فيا سحبان قولك لا يعد
تعيرهم الصحافة مقلتيها ** فهم في عرفها الركن الأشد
لهم عبر الإذاعة ألفُ صوت ** وفي التلفاز أذرعة تمد
لهم شهوات إفساد ومكر ** وتحت غطائها قبضوا ومدوا
فلا تعجب إذا اضطربت خطانا ** وساومنا على الأمجاد وغد
عروس جلِّلت بثياب حزن ** وطاف بها على الشارين عبد
نعم ..
لئن كان أصحاب المفسدون .. وعبادُ الشهوات .. قد طغوا وتجرؤوا ..
ولئن كان المغنون والمغنيات .. يجرؤون على إقامة الحفلات .. وتهييج الشهوات ..
بل .. ولئن كان أصحاب المخدِّرات .. يفلحون في جر الشباب والفتيات ..
فإن أهل الحق رجالاً ونساءً .. أولى وأحرى .. بالعمل لنشر الفضيلة .. وحرب الرذيلة ..
وحماية المجتمع من الفساد .. وتعبيد الناس لرب العباد ..
من خلال مناصحة لأصحاب المنكرات .. بكتابة الرسائل إليهم .. وإظهار الشفقة عليهم ..
وإهداء الهدايا لهم .. مع إحسان الظن بهم .. والدعاء لهم .. والتلطف معهم ..
( فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) ..
* * * * * * * * * *
وقد كان صلى الله عليه وسلم يكتب إلى كل الدنيا .. يدعوهم إلأى فعل الطاعات .. وترك المنكرات ..
وكان يتلطف في عبارته .. ويلين في إشارته ..
فكتب إلى هرقل النصراني ..
من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم .. أسلم تسلم .. يؤتك الله أجرك مرتين ..
وكتب إلى ملك فارس .. وملك اليمن ..
وهكذا كان الصالحون من بعده .. بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن صاحباً له .. أغواه الشيطان فشرب خمراً ..
فدعا عمر بصحيفة ثم كتب فيها ..
بسم الله الرحمن الرحيم .. من عمر بن الخطاب إلى فلان .. السلام عليك .. أما بعد ..
( حم* تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) .. والسلام .. ثم طوى الصحيفة وبعث بها إليه ..
فلما قرأها الرجل بكى .. وتاب مما فعل ..
* * * * * * * * * *
وبلغ عبد الله ابن المبارك أن بعض أصحابه قد ترك تعليم العلم وانصرف للدنيا ..
فقال ابن المبارك : يأبى هذا الرجل إلا أن نقشر له العصا ..
ثم كتب إليه .. نصيحة ضمنها أبياتا يقول فيها :
يا جاعل العلم له بازيا ** يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا ولذاتها ** بحيلة تذهب بالدين
فصرت مجنونا بها بعدما ** كنت دواء للمجانين
أين رواياتك فيما مضى ** عن ابن عون وابن سيرين
لا تبع الدين بالدنيا كما ** يفعل ضلال الرهابين
* * * * * * * * * *
ولا تسئ الظن بأحد .. فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء .. وبعض الناس ليس بينه وبين ترك منكره .. إلا أن يسمع موعظة صادقة ..
كان زاذان الكندي مغنياً .. صاحبَ لهو وطرب .. فجلس مرة في طريق يغني .. ويضرب بالعود ..
وله أصحاب يطربون له ويصفقون ..
فمر بهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .. فأنكر عليهم فتفرقوا ..
فأمسك بيد زاذان وهزه وقال :
ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله تعالى ..
ثم مضى .. فصاح زاذان بأصحابه .. فرجعوا إليه .. فقال لهم : من هذا ؟
قالوا : عبد الله بن مسعود ..
قال : صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!!
قالوا : نعم .. فبكى زاذان ..
ثم قام .. وضرب بالعود على الأرض فكسره ..
ثم أسرع فأدرك ابن مسعود .. وجعل يبكي بين يديه ..
فاعتنقه عبد الله بن مسعود .. وبكى وقال :
كيف لا أحب من قد أحبه الله ..
ثم لازم زاذان ابن مسعود حتى تعلم القرآن .. وصار إماماً في العلم ..
* * * * * * * * * *
فما الذي يمنعك إذا رأيت منكراً .. أن تناصح صاحبه بلسانك ..
أو تكتب له رسالة بمشاعر صادقة .. وعزيمة واثقة ..
ثم ترفع كفيك في ظلمة الليل .. فتبتهلُ إلى من بيده مفاتيح القلوب ..
أن يحرك في قلبه الإيمان .. ويعيذَه من وسوسة الشيطان ..كفاك قعوداً وخنوعاً .. دع الراحة وراء ظهرك ..
فليس السعادة في السكون ولا الخمول ولا القعود
في العيش بين الأهل تأكل كالبهائم والعبيد
وأن تعيش مع القطيع وأن تقاد ولا تقود
إن السعادة أن تبلغ دين ذي العرش المجيد
إن السعادة في التلذذ بالمتاعب لا التلذذ بالرقود
نعم ..
ولا تيأس إذا لم لم تقبل نصيحتك من أول مرة .. بل :
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته .. ومدمن الطرق للأبواب أن يلجا ..
وانظر إلى ذلك الجبل .. انظر إلى الشيخ ابن باز رحمه لله ..
دخل عليه بعض المصلحين .. يستعينونه لإزالة منكر وقع من أحد الأشخاص ..
فقال الشيخ : اكتبوا له رسالة .. انصحوه .. فقال : أحدهم : كتبت له يا شيخ .. ولم ينتهِ ..
قال : اكتبوا له أخرى ..
فقال الثاني : أنا كتبت له يا شيخ أيضاً ..
فقال : اكتبوا له ثالثة ..
فقال أحدهم : إلى متى يا شيخ .. هذا معرض لا يتعظ ..
فقال الشيخ : والله إني .. في إحدى المرات .. كتبت إلى صاحب منكر مائة مرة .. حتى أزاله ..
نعم .. همة عاليه .. وعزيمة ماضية ..
فماذا ننتظر إذا كثرت المنكرات .. إلا أن تحل البليات .. ويسخط رب الأرض والسماوات ..
قال الله : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } ..
وفي الصحيحين عن بعض أزواج النبي عليه السلام .. قالت :
دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً .. يقول :
لا إله إلا الله .. ويل للعرب .. من شر قد اقترب .. فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج ..
مثل هذا وحلق بإصبعه وبالتي تليها ..
فقلت : يا رسول الله !! أنهلك وفينا الصالحون ؟!!
قال : نعم .. إذا كثر الخبث ..
نعم ..
إن الدين لا يتمكن بأيدي الضعفاء .. ولا يرتفع بهمة الجبناء ..
وإنما ترفعه همة الرجال الأشداء .. الذي تعلقوا بالسماء ..
ربوا أنفسهم على الطاعات .. وإنكار المنكرات ..
* * * * * * * * * *
قال سفيان الثوري : والله إني لأرى المنكر .. فلا أستطيع إنكاره .. فأبول الدم .. من شدة الهم والغم ..
وقال العُمري : من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. نزع الله هيبته من فقلوب العباد .. حتى لو أمر ابنه أو نهاه لاستخفَّ به ..
* * * * * * * * * *
وكلما كان المنكر ظاهراً .. كان خطره أشد .. لأنه يجرئ الناس على فعله ..
ومن أظهر المنكرات .. التي يحاسب كل من رآها ولم ينكرها ..
ما يقع في بعض بلاد المسلمين من الشرك بالله ..
كمن يستغيث بغير الله في كشف الكربات .. أو يقف عند القبور سائلاً أهلها الحاجات ..
وكذلك تعليق التمائم الشركية .. على الأولاد .. أو السيارات والبيوت .. لدفع العين أو غيرها ..
وقد قال عليه السلام فيما رواه أحمد : ( من علَّق تميمة فقد أشرك ) ..
وكذلك الحلف بغير الله .. كالحلف بالكعبة ..أو الشرف .. أو النبي ..
وقد روى أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال : "من حلف بغير الله فقد أشرك" ..
ومن أكبر المنكرات .. استعمال السحر والكهانة والعرافة ..
وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في المسند : "من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد" صلى الله عليه وسلم ..
وقال فيما رواه مسلم : ( من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ) ..
ومن أكبر المنكرات بل من الكفر .. ترك الصلاة ..
قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم : "بين الرجل وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة " ..
ومن أكبرها وأطمها .. الزنا .. وهو أعظم الذنوب بعد الشرك والقتل .. قال تعالى : { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً } ..
وفي عصرنا فتحت كثير من أبواب الفاحشة .. ففشا التبرج والاختلاط ومجلات الخنا .. وأفلام الفحش ..
ومن سبل الزنا .. ما يقع في بعض الأماكن من اختلاط الرجال بالنساء ..
سواء في مستشفيات أو مدارس .. أو غير ذلك ..
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال : ( إياكم والدخول على النساء ).. يعني الخلوة بهن ..
بل أمر الله المرأة بالتستر حتى لا يراها الرجال .. فقال { يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين }..
بل قد نهى الله الصحابة جميعاً عن الاختلاط بالنساء.. فقال :
{ وإذا سألتموهن متاعاً } يعني إذا سألتم أزواج النبي وهن أطهر النساء..
{ فاسألوهن من وراء حجاب }.. لماذا..؟؟
{ ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن }..
وحسبك بالصحابة طاعة وخوفاً وتعبداً..
فكيف الحال اليوم مع شبابنا.. وفتياتنا.. وقد فسد الزمان ؟..
فكيف يخلو اليوم شاب بفتاة .. ويقولان صداقةٌ بريئةٌ ..!!
عجباً..
قال سفيان الثوري لرجل صالح من أصحابه : ( لا تخلون بامرأة ولو لتعلمها القرآن )..نعم أيها الأخوة والأخوات ..
هذا ديننا.. ليس فيه تساهل مع الأعراض ..
ويجب على كل من رأى من يتساهل بذلك أن يحذره من عذاب الله ..
ومن المنكرات .. أكل الربا .. والربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ..
ودِرْهَمُ ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية ..
ومن المنكرات .. شرب المسكرات ..
قال صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم : ( إن على الله عز وجل عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال " قالوا : يا رسول الله وما طينة الخبال ؟ قال : " عرق أهل النار أو عصارة أهل النار "..
ومن المنكرات .. سماع الغناء .. وقد قال صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري :" ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ... "..
ومما زاد البلاء في عصرنا دخولُ الموسيقى .. في أشياء كثيرة كالساعات .. والأجراس .. وألعاب الأطفال .. والكمبيوتر .. وأجهزة الهاتف .. والله المستعان .
وغير ذلك من المعاصي .. ويجب نصيحة أهلها .. { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } ..
إلى غيرِ ذلك من المنكرات .. كعقوق الوالدين .. والغيبة .. ومجالس اللهو وغير ذلك ..
* * * * * * * * * *
وختاماً .. فهذه قمم .. من قمم الجبال ..
وليبشر كلُّ من وصل إلى شرفاتها .. وسكن في روضاتها ..
بجنات ونهر .. في مقعد صدق عند عزيز مقتدر ..
فأكرم بجنات النعيم وأهلها ** إخوان صدق أيما إخوان
جيران رب العالمين وحزبه ** أكرم بهم في صفوة الجيران
هم يسمعون كلامه ويرونه ** والمقلتان إليه ناظرتان
وعليهم فيها ملابس سندس ** وعلى المفارق أحسن التيجان
تيجانهم من لؤلؤ وزبرجد ** أو فضة من خالص العقيان
وخواتم من عسجد وأساور ** من فضة كسيت بها الزندان
وطعامهم من لحم طير ناعم ** كالبخت يطعم سائر الألوان
وصحافهم ذهب ودر فائق ** سبعون الفا فوق ألف خوان
إن كنت مشتاقا لها كلفا بها ** شوق الغريب لرؤية الأوطان
كن محسنا فيما استطعت فربما ** تجزى عن الإحسان بالإحسان
واعمل لجنات النعيم وطيبها ** فنعيمها يبقى وليس بفان
أدم الصيام مع القيام تعبدا ** فكلاهما عملان مقبولان
قم في الدجى واتل الكتاب ولا تنم ** إلا كنومة حائر ولهان
فلربما تأتي المنية بغتة ** فتساق من فرش إلى الأكفان
يا حبذا عينان في غسق الدجى ** من خشية الرحمن باكيتان
واغضض جفونك عن ملاحظة النسا ** ومحاسن الأحداث والصبيان
اعرض عن النسوان جهدك وانتدب ** لعناق خيرات هناك حسان
في جنة طابت وطاب نعيمها ** من كل فاكهة بها زوجان
لا تحقرن من الذنوب صغارها ** والقطر منه تدفق الخلجان
وإذا عصيت فتب لربك مسرعا ** حذر الممات ولا تقل لم يان
لا تتبع شهوات نفسك مسرفا ** فالله يبغض عابدا شهواني
ومن استذل لفرجه ولبطنه ** فهما له مع ذا الهوى بطنان
أظمئ نهارك ترو في دار العلا ** يوما يطول تلهف العطشان
لا خير في صور المعازف كلها ** والرقص والإيقاع في القضبان
إن التقي لربه متنزه ** عن صوت أوتار وسمع أغان
وتلاوة القرآن من أهل التقى ** سيما بحسن شجا وحسن بيان
أشهى وأوفى للنفوس حلاوة ** من صوت مزمار ونقر مثان
وحنينه في الليل أطيب مسمعاً ** من نغمة النايات والعيدان
يومُ القيامة لو علمت بهوله ** لفررت من أهل ومن أوطان
يومٌ تشققت السماء لهوله ** وتشيب فيه مفارق الولدان
يومٌ عبوس قمطرير شره ** في الخلق منتشر عظيم الشان
يوم يجيء المتقون لربهم ** وفدا على نجب من العقيان
ويجيء فيه المجرمون إلى لظى ** يتلمظون تلمظ العطشان
والجنة العليا ونار جهنم ** داران للخصمين دائمتان
* * * * * * * * * *
أسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعاً لفعل الخيرات وترك المنكرات ..
وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين ..
هذا والله تعالى أعلم ..
كتبه / د. محمد بن عبد الرحمن العريفي
دكتوراه في العقيدة والمذاهب المعاصرة
arefe@arefe.com