أغــــــــنى فقـــــــــر
إعداد: ثريا بنت إبراهيم السيف
غفر الله لها ولوالديها ولجميع المسلمين..
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله تعالى فهو أهل الحمد والثناء الذي أغنى وأقنى ومنع وأعطى وصلى الله وسلم على نبيه المصطفى وأله وصحبه ومن أجتبى.
وبعد فقد قرأت هذه الرسالة التي ألفتها الأخت ثُريا بنت إبراهيم السيف وتتضمن الحث على الزهد في الدنيا والاستعداد للدار الآخرة وإظهار الفقر والفاقة إلى الله تعالى والحث على الأعمال الصالحة التي هي التجارة الرابحة وقد أحسنت فيما كتبت واختارت النقول المفيدة والجُمل الجميلة ودعت إلى الاستكثار من العمل الصالح الذي هو وسيلة إلى النجاة في الآخرة أثاب الله الأخت على انتقائها ونفع بهذه الرسالة والله اعلم وصلى الله على محمد وأله وصحبه وسلم.
20/9/1426هـ
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
عضو إفتاء متقاعد
بسم الله الرحمن الرحيم
توطئة
الحمد لله الغني الحميد .. والصلاة والسلام على من أنزل عليه الكتاب المجيد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإن العبد محتاج في كل أحواله إلى غيره ولا يستطع العيش بلا معين.. وتتفاوت مكانة من يحتاج إليه، فقد يلجأ إلى نظيره من المخلوقات، وإن كان موفقاً لجأ إلى رب هذه المخلوقات وخالقها ومصرفها ومالكها سبحانه، وإذا افتقر إلى الله اغتنى! بل أصاب أغنى الغنى!
وشتان بين من يلوذ ويفتقر إلى القائل في كتابه: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاء} [آل عمران: 26].
وبين من يريق ماء وجهه باللجوء، إلى الخلق المحاويج المساكين الذين لا يملكون قطميراً، ولا يملكون لأنفسهم صرفا ولا عدلا فكيف لغيرهم؟! !
*قال ابن القيم:
«والمراد بالفقر شيء أخص من ذلك كله، وهو تحقيق العبودية والافتقار إلى الله في كل حالة»
ومن هنا تكمن أهمية هذا الموضوع حيث الفقر لله والتعلق به وتفويض الأمور إليه هو لب العبودية، لا سيما أننا في زمن الإعجاب بالجمادات والتعلق بحطام الدنيا أو الاتكال على النفس ثم العجب فيها والإدلاء على المتفضل المنعم!! فيسقط العبد من عين الله ويملك - عياذاً بالله - ويصبح فقير النفس وان كان غنياً بالمال !! مشتت الهم، مفرق الشمل!! وقد صدق -صلى الله عليه وسلم- حين قال: «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس».
والغنى نوعان:
غنى بالله، وغنى عن غير الله. والسعيد حقّاً من زهد في الدنيا وما فيها، ورغب في الله والدار الآخرة، والآخرة خير وأبقى.
والله أعلم وأحكم ...
الهدى النبوي في تعليق النفوس بالله:
لقد كان نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- حريصاً كل الحرص على أن يربي نفوس أصحابه من خلال مواقفه ومواعظه وانتهازه الفرص لتوجيههم؛ وقد استطاع -صلى الله عليه وسلم- أن يطهرهم من حظوظ النفس وأهوائها؛ ويلين قلوبهم؛ ويجعلها تتعلق بالآخرة؛ ومن أبلغ الأمثلة على ذلك ما رواه أنس بن مالك t : أن ناساً قالوا لرسول -صلى الله عليه وسلم- حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء فطفق يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل؛ فقالوا: يغفر الله لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ يعطي قريشاً ويدعنا؛ وسيوفنا تقطر من دمائهم !!.
سبحان الله! موقف عجيب استثار بعض الأنصار- رضي الله عنهم - وكاد يذهب ببعضهم مذهباً بعيداً؛ لكن لننظر إلى موعظة النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم؛ وكيف أنه هذب نفوسهم؛ وطهرها من علائق الدنيا؛ مواعظ يسيرات؛ لكنها تجاوزت الآذان لتستقر في القلوب!
قال أنس -رضي الله عنه-: فحُدّث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمقالتهم؛ فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم؛ ولم يدع معهم أحداً غيرهم؛ فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما كان حديثٌ بلغني عنكم»؛ فقال فقهاؤهم: أما ذووا آرائنا يا رسول الله! فلم يقولوا شيئاً، وأما أناس منا حدية أسنانهم؛ فقالوا: يغفر الله لرسول الله؛ يعطي قريشاً ويترك الأنصار، وسيوفنا تقطر من دمائهم! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إني لأعطي رجالاً حديث عهدهم بكفر، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعوا إلى رحالكم برسول الله -صلى الله عليه وسلم-! فوالله إن ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به» قالوا: بلى يا رسول الله! قد رضينا فقال لهم: «إنكم سترون أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- على الحوض»[خرجه البخاري].
إن هذه الموعظة البليغة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه، تهذب النفوس وتروض كبرياءها، وهي تدفع المرء إلى الافتقار إلى الله وحده وتعلي همته في الترفع عن لعاعة الدنيا، وتعلق القلوب بما عند الله.. فما عند الله خير وأبقى في الدنيا والآخرة.
إن القرآن الكريم والسنة المطهرة مليئة بالأدلة والآيات التي تدفع القلوب إلى الانكسار والافتقار لخالقها الذي يده ملكوت السماوات والأرض.. وهذا الأمر من الموضوعات المهمة.
والذي غفل عنه الكثيرون مع مسيس الحاجة إليه بل إن الافتقار إلى الله وسؤاله وحده هو أصل العبودية والتوحيد.
قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ واللَّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ} [ فاطر: 15]
تعريف الفقر إلى الله:
والافتقار إلى الله عرفه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى بقوله: حقيقة الفقر: أن لا تكون لنفسك ولا يكون لها منك شيء؛ بحيث تكون كلك لله، وإذا كنت لنفسك فثم ملك واستغناء مناف للفقر). ثم قال: (الفقر الحقيقي: دوام الافتقار إلى الله في كل حال، وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة إلى الله تعال من كل وجه).أ.هـ.
فالافتقار إلى الله تعالى أن يجرد العبد قلبه من كل حظوظها وأهوائها، ويقبل بكليته إلى ربه - عزَّ وجلَّ - متذللاً بين يديه، مستسلماً لأمره ونهيه، متعلقاً قلبه بمحبته وطاعته.
قال تعالى:
{قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} [ الأنعام: 162-163].
قال يحيى بن معاذ:
(النسك هو العناية بالسرائر، وإخراج ما سوى الله عزَّ وجلَّ من القلب).
والمتأمل في جميع أنوع العبادة القلبية (توكل، خوف، رجاء، صبر، محبة، تعظيم، رضا، شكر).
والعملية (صلاة، صيام، حج) يرى أن الافتقار فيها إلى الله هي الصفة الجامعة لها.
فبقدر افتقار العبد فيها إلى الله يكون أثرها في قلبه، ونفعها له في الدنيا والآخرة، وحسبنا أن نتأمل في (الصلاة) أعظم الأركان العملية، فالعبد المؤمن يقف بين يدي ربه في مكينة، خاشعاً متذللاً، خافضاً رأسه، ينظر إلى موضع سجوده، يفتتحها بالتكبير (الله أكبر) وفي ذلك دلالة جلية على تعظيم الله وحده والافتقار إليه وترك ما سواه، من الأحوال والديار والمناصب؟
وأرفع مقامات الذلة والافتقار أن يطأطئ العبد رأسه بالركوع، ويعفر جبهته بالتراب مستجيرًا بالله منيبا إليه، ولهذا كان الركوع مكان تعظيم الله تعالى، وكان السجود مكان السؤال.
قال -صلى الله عليه وسلم-: «فأما الركوع فعظموا فيه الرب عزَّ وجلَّ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء؛ فقمن أن يستجاب لكم» [أخرجه مسلم في كتابه الصلاة] .
ولهذا كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- في ركوعه: «اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي، وعصبي» [أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها].
* قال الحافظ ابن رجب:
(إشارة إلى أن خشوعه في ركوعه قد حصل لجميع جوارحه، ومن أعظمها القلب الذي هو ملك الجوارح كلها والأعضاء فإذا خشع خشعت الجوارح والأعضاء كلها؛ تبعاً له ولخشوعه) ثم قال: (ومن تمام خشوع العبد لله - عزَّ وجلَّ - وتواضعه في ركوعه وسجده، أنه إذا ذل لربه بالركوع والسجود، وصف ربه حينئذ بصفات العز والكبرياء والعظمة والعلو، فكأنه يقول ( الذل والتواضع وصفي، والعلو والكبرياء وصفك) الخشوع في الصلاة لابن رجب.
إذ هذه المنزلة الجليلة التي يصل إليها القلب هي سر حياته وهي أصل لذة العبادة وهي أساس إقباله على ربه سبحانه؛ فالافتقار واستشعار حاجة العبد إلى الافتقار إلى الله وحده يدفع العبد إلى ملازمة التقوى ومداومة الطاعة.
ويتحقق الافتقار إلى الله تعالى وتعلق القلوب به سبحانه بأمرين:
الأول: إدراك عظمة الخالق وجبروته:
فكلما كان العبد أعلم بالله تعالى وصفاته وأسمائه كان أعظم افتقاراً إليه وتذللاً بين يديه، قال تعالى: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} وقال: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * ويَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إن كَانَ وعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * ويَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ ويَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 – 109].
* قال الفضيل بن عياض:
(أعلم الناس بالله أخوفهم منه)، وقال (رهبة العبد من الله على قدر علمه بالله ) إن من تدبر الآيات البينات والأحاديث الشريفة التي جاء فيها ذكر صفاته العلى وأسمائه الحسنى انخلع قلبه إجلالاً لربه، وتعظيماً لمقامه، وهيبة لسطوته وجبروته سبحانه وتعالى.
قال تعالى:
{اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إلاَّ بِإذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ومَا خَلْفَهُمْ ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إلاَّ بِمَا شَاءَ وسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ ولا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ} [ البقرة: 255].
وقال تعالى:
{وعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ ويَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ والْبَحْرِ ومَا تَسْقُطُ مِن ورَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا ولا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ ولا رَطْبٍ ولا يَابِسٍ إلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ * وهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ ويَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ويُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [ الأنعام: 59-61].
قال تعالى:
{ومَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [ الزمر: 67].
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك؛ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرض بشماله، ثم يقول: أنا الملك؛ أين الجبارون؟ أين المتكبرون». [ أخرجه مسلم].
* قال الإمام ابن القيم: (القرآن كلام الله، وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته، فتارةً يتجلى في جلباب الهيبة والعظمة والجلال؛ فتخضع الأعناق، وتنكسر النفوس، وتخشع الأصوات، ويذوب الكبر كما يذوب الملح في الماء، وتارةً يتجلى في صفات الجمال والكمال، وهو كمال الأسماء وجمال الصفات والأفعال الدال على كمال الذات سبحانه، فيستنفذ حبه من قلب العبد قوة الحب كلها؛ بحسب ما عرفه من صفات جماله ونعوت كماله، فيصبح عبده فارغاً إلا من محبته فإذا أراد منه الغير أن يعلق تلك المحبة به أبي قلبه وأحشاؤه ذلك كل الإباء).
ثم قال: (وجماع ذلك: أنه سبحانه يتعرف إلى العبد بصفات إلهية تارة، وبصفات ربوبيته تارة، فيوجب له شهود صفات الإلهية المحبة الخاصة والشوق إلى لقائه، والأنس والفرح به، والسرور بخدمته، والمنافسة في قربه، والتودد بطاعته، واللهج بذكره، والفرار من الخلق إليه، ويصير هو وحده همه دون ما سواه. ويوجب له شهود صفات الربوبية. التوكل والافتقار إليه، والاستعانة به، والذل والخضوع والانكسار له). [الفوائد: 81-82].
الثاني: إدراك ضعف المخلوق وعجزه:
أيَّا كان هذا المخلوق وزيراً أو أميراً، أو صاحب مال أو جاه أو سلطان، فمن عرف قدر هذا المخلوق وأنه مهما بلغ فهو عاجز ضعيف لا يملك لنفسه صرفاً ولا عدلاً، أو نفعاً أو خيراً تصاغرت نفسه وذلت لربه، وذهب كبرياؤه، وخضعت جوارحه، وعظم تعلقه بمولاه والتجاؤه إليه، وتضرعه بين يديه.
قال تعالى:
{فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ والتَّرَائِبِ * إنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ ولا نَاصِرٍ}. [ الطارق: 5-10].
وقد جمح الإمام ابن القيم بين هذين الأمرين بقوله: (من كملت عظمة الحق تعالى في قلبه؟ عظمت عنده مخالفته -معصيته- لأن مخالفة العظيم ليست كمخالفة من هو دونه، ومن عرف قدر نفسه وحقيقتها؛ وفقرها الذاتي إلى مولاها الحق في كل لحظة ونفس، وشدة حاجتها إليه، عظمت عنده جناية المخالفة لمن هو شديد الضرورة إليه سبحانه في كل لحظة ونفس. وأيضاً فإذا عرف حقارة نفسه مع عظم قدر من خالفه؛ عظمت الجناية، فشمر في التخلص منها (الجناية والمعصية)، ويحسب تصديقه بالوعيد ويقينه به (إيمانه باليوم الآخر) يكون تشميره في التخلص منها (المعصية والجناية) [مدارج السالكين].
إذن كلما قرب العبد من خالقه وكانت صلته به عامرة سعى إلى التخلص من معصيته بالتوبة مما اقترف منها، واجتناب ما لم يقترف منها والحذر منه والبعد عن وسائله، فهو إذا أدرك عظمة خالقه، وضعف نفسه وعجزه، زاد إلحاحه في التعلق به وإدراك مسيس العوز إليه والفقر والفاقة وتعلق قلبه بربه وحده ونبذ ما سواه.
إذن: النتيجة الافتقار إلى الله تعالى والتعلق به، وشعور العبد بفقره وحاجته إلى ربه عزَّ وجلَّ يدفعه إلى الإنابة إليه، ويتعلق قلبه بذكره وحده والثناء عليه، والتزام مرضاته، والامتثال لمحبوباته.
* قال بعض الصالحين:
(مفاوز الدنيا تقطع بالإقدام، ومفاوز الآخرة تقطع بالقلوب).
ولهذا نرى العبد الذي افتقر إلى ربه وإن اشتغل في دنياه وبيعه وشرائه، أو مع أهله وولده مقيماً على طاعته، مقدماً محبوباته على محبوبات نفسه وأهوائه أو محبوبات أهله، لا تلهيه زخارف الدنيا عن مرضاة ربه، فهو واقف عند حدود الله.
* ثبت في الصحيحين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:«سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله»، وذكر منهم «رجل قلبه معلق في الساجد».
* قال الحافظ ابن حجر:
(إشارة إلى طول الملازمة بقلبه وان كان جسده خارجا عنه) ولنلاحظ هذا التعبير البليغ «قلبه معلّق» وهذا يعني أنه دائم الصلة بالله تعالى ودائم الاستحضار لأوامره، لا يشغله عن ذلك شاغل، ولا يصرفه عنه صارف، ولهذا قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ والآصَالِ (36) رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ ولا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وإقَامِ الصَلاةِ وإيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ والأَبْصَارُ} [ النور 36-37].
وثبت في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يكون في مهنة أهله –يعني خدمة أهله– فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.
إن المؤمن إذا قدم مرضاة الله ومحابه على عاب النفس والناس اجتمع قلبه والتم شمله عليه سبحانه، وأصبح صافي العبودية، عامر السر بينه وبين الله خالص الود والمحبة، فيصبح ويمسي لا هم له غير ربه ولا محبة في قلبه إلا محبته سبحانه، وتصير كل محبة أخرى تبعاً لمحبته سبحانه.. فيكفيه الله عزَّ وجلَّ هم الدنيا والآخرة ويجمع عليه شمله، وتأتيه الدنيا وهي راغمة.. والجزاء من جنس العمل.
كما أن من افتقر إلى ربه وجد لذة في طاعته لا تدانيها لذة: (فأوامر المحبوب قرة العيون، وسرور القلوب، ونعيم الأرواح، ولذات النفوس، وبها كمال النعيم، فقرة عين المحب في الصلاة والحج، وفرح قلبه وسروره ونعيمه في ذلك، وفي الصيام والذكر والتلاوة، وأما الصدقة فعجب من العجب.
وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والصبر على أعداء الله سبحانه وتعالى؛ فاللذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف، ولا يدركه من ليس له نصيب منه وكل من كان به أقوم كان نصيبه من الالتذاذ به أعظم) [طريق الهجرتين].
وأعظم الناس ضلالاً وخسراناً من افتقر إلى غير الله تعالى، وكلما زاد افتقاره إلى غير الله سبحانه ازداد ضلالة وخسارًا ولهذا ركون العبد إلى الدنيا أو شيء من زخرفها آية وعلامة من آيات العبودية لها، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [ الجاثية: 23] (سمى الهوى إلهاً لشدة تعلقه به).
قال -صلى الله عليه وسلم-: «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعُطي منها رضي، وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش» [ أخرجه البخاري في كتاب الجهاد] ولهذا قيل إن الزهد الحقيقي ألا تملك الدنيا قلب العبد، وعندما سئل الإمام أحمد: (أيكون الرجل زاهدًا وعنده ألف ألف درهم؟ قال: نعم إذا زادت لم يفرح، وإذا نقصت لم يحزن).
ولهذا فإن من الخذلان أن يفتقر القلب إلى غير الله، فإنه يفوته من مصالحه وسعادته وفلاحه أعظم مما حصل له ممن تعلق به.. فإن ما تعلق به معرض للزوال والفوات.. ومثل المفتقر إلى غير الله كمثل المستظل من الحر والبرد بيت العنكبوت أوهن البيوت.
من علامات الافتقار إلى الله:
1- مداومة الذكر والاستغفار:
إن مداومة الذكر والاستغفار آية من آيات الافتقار إلى الله تعالى، فالعبد يجتهد في إظهار فاقته وحاجته وعجزه ويمتلئ قلبه مسكنة وإخباتا، ويرفع يديه تذللاً وإنابة، فهو ذاكر لله في كل شأنه، في حضره وسفره، ودخوله وخروجه، وأكله وشربه، ويقظته ونومه، بل حتى إتيانه أهله، فهو دائم الافتقار إلى عون الله تعالى وفضله لا يغفل ساعة ولا أدنى من ذلك عن الاستعانة والالتجاء إليه.
فقلب العبد المؤمن عاكف على ذكر مولاه، والثناء عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى في كل حال من أحواله، دائم التوبة والاستغفار عن الزلل والتقصير، يجد لذته وأنسه بتلاوة القرآن، ويرى راحته وسكينته بمناجاة الرحمن {الَّذِينَ آمَنُوا وتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} [ الرعد: 28].
وقد وصف الله أهل الإيمان بقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ ويَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ الزمر: 9].
ومقتضى ذلك أنه لا يركن إلى نفسه، ولا يطمئن إلى حوله وقوته ولا يثق بماله وجاهه وصحته، ولهذا كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لبعض أصحابه: «اللهم لا تكلهم إلي فأضعف، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، ولا تكلهم إلى الناس فيستأثروا عليه». [ أخرجه أحمد وصححه الألباني].
وفي حديث أبي بكرة رضي الله عنه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: « دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، أصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت» [ أخرجه أحمد وحسنه الألباني].
والمتأمل أذكار النبي -صلى الله عليه وسلم- وأدعيته يرى عجباً في هذا الأمر، ففي سيد الاستغفار تتجلى أعظم معاني العبودية، وتبرز أسمى معاني الانكسار والتذلل: «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي، اغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» [أخرجه البخاري في كتاب الدعوات].
إن حمد الله تعالى وشكره، والثناء عليه بما هو أهله، مع الاعتراف بالذنب والعجز؛ يعمر القلب بالنور، ويوجب لها الطمأنينة والسعادة.
٢ - الوجل من عدم قبول العمل:
العبد المفتقر إلى ربه يقبل على الطاعات، ويتقرب إلى مولاه بأنواع القربات إلا أنه مشفق على نفسه أشد الإشفاق، يخشى أن يحرم من القبول، سئل أصحاب أبي عثمان الحيري: بماذا كان يأمركم شيخكم؟ فقالوا: كان يأمر بالتزام الطاعات، ورؤية التقصير فيها.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية {والَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وقُلُوبُهُمْ وجِلَةٌ} أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: «لا يا ابنة الصديق! ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات» [ أخرجه أحمد وصححه الألباني].
فعلى الرغم من حرمهم على أداء هذه العبادات الجليلات فإنهم لا يركنون إلى جهدهم، ولا يدلون بها على ربهم؛ بل يزدرون أعمالهم؟ ويظهرون الافتقار التام لعفو الله ورحمته، وتمتلئ قلوبهم مهابة ووجلاً، يخشون أن ترد أعمالهم، ويرفعون أكف الضراعة ملتجئين إلى الله يسألونه أن يتقبل منه.
ولتتأمل قصة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عندما دخل على عائشة رضي الله عنها وهي تموت، فلما جلس قال:
أبشري، فقالت: أيضًا! فقال ما بينك وبين أن تلقي محمدًا -صلى الله عليه وسلم- والأحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد، كنت أحب نساء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى رسول الله، ولم يكن رسول الله يحب إلا طيباً، وسقطت قلادتك ليلة الأبواء، فأصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يصبح في المنزل، وأصبح الناس ليس معهم ماء، فأنزل الله عزَّ وجلَّ أن تيمَّمُّوا صعيداً طيباً، فكان ذلك في سببك، وما أنزل الله عزَّ وجلَّ لهذه الأمة من الرخصة، وأنزل الله براءتك من فوق سبع سماوات، جاء به الروح الأمين، فأصبح ليس لله مسجد من مساجد الله يذكر الله فيه؛ يتلى فيه آناء الليل وآناء النهار.
ما الظن بعائشة رضي الله عنها بعد هذا الثناء..؟!
هل ركنت إلى عملها واطمأنت على حالها..؟!
حاشاها رضي الله عنها بل قالت: (دعني منك يا ابن عباس، والذي نفسي بيده! لوددت أني كنت نسياً منسياً) [أخرجه أحمد ورواه مختصراً في البخاري في كتاب النعي].
قال ابن حجر في تعليقه على قول عائشة رضي الله عنها: (وهو على عادة أهل الورع من شدة الخوف على أنفسهم). وتتأكد حقيقة الوجل من عدم قبول العمل من أهل الإيمان بأن الله عزَّ وجلَّ غني عن طاعات العباد.
قال تعالى:
{ومَن يَشْكُرْ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ومَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [ لقمان: 12].
يتبع إن شاء الله...