ثامناً: دعوة الوالدين مستجابة:
1- روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه حديثًا طويلاً عن الذين تكلموا في المهد وأنهم ثلاثة، وذكر منهم جريح، وسوف نذكر من الحديث شاهدنا في الموضوع، قال عليه الصلاة والسلام: (كان جريج رجلاً عابداً، فاتخذ صومعة فكان فيها فأتته أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته فانصرفت.
فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: أي رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته. فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: أي رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات.
فتذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته، وكانت امرأة بغي يُتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم فتنته، فتعرضت له، فلم يلتفت إليها فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها، فحملت، فلما ولدت قالت هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك، قال: أين الصبي؟ فجاءوا به فقال دعوني حتى أصلي، فصلى فلما انصرف أتى الصبي وطعنه في بطنه وقال: يا غلام مَنْ أبوك؟ قال: فلان الراعي، فأقبلوا على جريج يُقبلونه ويتمسحون به وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا... وذكر تتمة الحديث...).
2- وعند البخاري في الأدب المفرد وأحمد وأبو داود والترمذي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ثلاث دعوات مستجابات لاشك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالدين على ولدهما».
لهذا ينبغي على الوالدين أن يحذرا من الدعوة على أولادهما عند الغضب أو عندما يريا ما لا يرضيهما فلعلهما يوافقان باب إجابة مفتوح فتكون الدعوة سببًا في هلاك الولد أو شقائه في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معًا، وربما شقائهم به أو معه, نعوذ بالله من الشقاء في الدنيا والآخرة - فإذا دعيا فلا يدعيان إلا بخير وصلاح.
الفصل الثاني
ثواب وحسن عاقبة بر الوالدين وصلة الرحم:
1- دخول الجنة:
يقول الله تعالى في الكتاب العزيز ذاكرًا الثواب العظيم لمن يصلون الرحم ويخشون ربهم ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وغير ذلك من أعمال البر العظيمة: "وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ" [الرعد: 21-22].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف رجلٌ أدرك والديه أو أحدهما عند الكبر ولم يدخل الجنة»، يعني بسببهما وبسبب برهما والإحسان إليهما.
وأخرج أحمد والحاكم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الجنة تحت أقدام الأمهات».
وروي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «نِمْتُ فرأيتني في الجنة، فسمعت قارئاً يقرأ، فقلت: مَنْ هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كذلك البر، فكان من أبر الناس بأمه». فما أسهل المطلوب وهو بر الوالدين، فهو يسير على مَنْ يَسره الله عليه، وما أعظم العطاء وهو الجنة مع التوفيق في الدنيا والآخرة بفضل الله ورحمته.
2- قبول الأعمال الصالحة والتجاوز عن السيئات مع دخول الجنة:
ذكر الله تعالى في سورة الأحقاف بعد ذكر البار بوالديه الداعي لهما بالخير أنه يتقبل منه عمله ويغفر له ويدخله الجنة، قال تعالى: "وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ" [الأحقاف 15-16].
3- الوالدان من أبواب الجنة:
عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «الوالدة أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه»، وأورده المنذري وعزاه لابن حبان في صحيحه بلفظ: «الوالد أوسط أبواب الجنة، فحافظ على ذلك الباب إن شئت أو دع».
وعن جاهمة السلمي أنه أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستأذنه في الجهاد، فقال: «ألك والدة؟» قال: نعم، قال: «فالزمها فإن عند رجليها الجنة».
وأخرج الطبراني عن جاهمة أيضًا قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أستشيره في الجهاد، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ألك والدان»؟ قلت: نعم، قال: «الزمهما فإن الجنة تحت أقدامهما».
وبهذا يتبين أن رضا الوالدين مقدم على الجهاد.
4- من أسباب طول العمر وبركته مع سعة الرزق:
عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ أحب أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فليصل رحمه»، وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ سره أن يُمد له في عمره ويُوسع له في رزقه، ويُدفع عنه ميتة السوء، فليتق الله وليصل رحمه».
ولا ريب أن بر الوالدين أعظم صلة للرحم كما تم بيانه في المقدمة وفي الفصل الأول، وأن بر الوالدين وصلة الرحم من أسباب انشراح الصدور ودفع المكروه وبركة الأعمال والأرزاق وصلاح الحال بإذن الله.
5- السعي على الوالدين في سبيل الله:
عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال عمر رضي الله عنه: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جبل، فأشرفنا على وادٍ، فرأيت شاباً أعجبني شبابه، فقلت يا رسول الله: أي شابٍ لو كان شبابه في سبيل الله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يا عمر لعله في سبيل الله وأنت لم تشعر» ثم جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا شاب، هل لك مَنْ تعول؟ قال: نعم، قال: مَنْ؟ قال: أمي، فقال: الزمها فإن عند رجليها الجنة».
6- دعاء الله ورجاء رحمته ببر الوالدين، وأنه مما يُفرج الكُرَبْ:
عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «انطلق ثلاثة نفر مِمَّنْ كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوا، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم.
قال رجل منهم: اللهم إنه كل لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالاً، فنأى بي طلب الشجر يوما فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي انتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي، فاستيقظا فشربا غبوقهما.
اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا مما نحن فيه من هذه الصخرة.. ثم ذكر الحديث.. إلى أن قال: فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون».
7- بر الأبناء بوالديهم البارين (كما تدين تدان):
من بركات بر الوالدين في الدنيا أن الله يُوفق أبناء البَّار فيكونون بارين به بإذن الله، والجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان.. وفي الحديث عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «بروا آباءكم تبركم أبناؤكم».
يقول البيحاني -رحمه الله-:
بر الوالدين والسعي في مرضاتهما شيء يُحبه كل إنسان، ومَنْ كان في يومه ولداً باراً أو عاقاً فسوف يكون غداً والداً محتاجاً إلى بر أبنائه وبناته وسيفعلون معه كما فعل، وكما تدين تُدان والجزاء من جنس العمل.
الفصل الثالث
شؤم العقوق والقطيعة وعظيم إثمهما:
ليس من المُستغرب بعد كل هذا التأكيد والتعظيم لحق الوالدين وسائر الأرحام أن تكون عقوبة العقوق والقطيعة والزجر عنهما بنفس المستوى، ولقد وردت آيات بينات وأحاديث جامعات تبين شناعة الجرم وعظم الذنب لمن عق والديه أو قطع رحمه، ولا غرو فقيمة بر الوالدين عظيمة في دين الإسلام وفي شريعة محمد خير الأنام -صلى الله عليه وسلم-.
وفيما يلي نستعرض أخطر آثار وعواقب العقوق والقطيعة:
1- عقوق الوالدين من أكبر الكبائر وأعظم الذنوب:
عقوق الوالدين من أكبر الكبائر ومن أعظم الذنوب وأشنعها لما فيها من عظيم النكران للجميل والإحسان ومقابلته بضده.
فعن أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر» ثلاثاً، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئًاً فجلس. فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور» فما يزال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس».
وعن أبي عيسى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله تعالى حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنعًا وهات، ووأد البنات، وكره لكم قيل وقال: وكثرة السؤال، وإضاعة المال».
كما ثبت أن الله لا ينظر للعاق لوالديه يوم القيامة ولا يدخله الجنة لعظم وقبح ما اقترفه من ذنب، فقد أخرج أحمد والحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال، والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى».
2- خسران مَنْ أدرك والديه أو أحدهما فلم يُدخلاه الجنة أو أدركهما فأدخلاه النار:
مغبونٌ وخاسرٌ أيُما خسران مَنْ أدرك والديه أو أحدهما ولم يكونا له سببًا في دخول الجنة وذلك ببره بهما وإحسانه إليهما، وخاسرٌ أعظم مَنْ يكونا سببًا له في دخول النار بسبب عقوقه وإساءته إليهما.
وفي هذا المعنى روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف مَنْ أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة».
«ورغم أنف»: كناية عن الذل كأنه لصق بالرغام وهو التراب هواناً، وكناية عن عظم الخسارة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صعد المنبر فقال: «آمين ثلاث مرات» فلما نزل قيل يا رسول الله: إنك حين صعدت المنبر قلت: آمين ثلاث مرات، فقال: «إن جبريل أتاني، فقال: مَنْ أدرك شهر رمضان فلم يُغفر له فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين، ومَنْ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يبرهما فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين، ومَنْ ذُكِرْتُ عنده فلم يُصَلِّ عليك فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين».
3- قاطع الرحم ملعون ومتوعد بالنار:
قال الله تعالى: "فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ" [محمد: 22-23].
قال ابن كثير: قوله: "فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ" أي تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية الجهلاء تسفكون الدماء وتقطعون الأرحام، وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموماً وعن قطع الأرحام خصوصاً، بل، قد أمر الله تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال وبذل الأموال.
وقال تعالى في عقوبة القاطعين للأرحام، وأعظم الأرحام الوالدين: "وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ" [الرعد: 25].
وفي السنة أخرج البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- «لا يدخل الجنة قاطع» قال سفيان في روايته: أي قاطع رحم.
فما أعظم هذه الآيات، إذ يكفي زجراً لعن الله وتوعده للقاطع بسوء الدار والمنقلب والنار وبئس القرار، وإخبار الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأن القاطع لا يدخل الجنة، وليس معناه الخلود في النار إذا كان من أهل الإيمان والصلاة، ولكن هذا يدل على عظم الذنب وشناعته.
4- تعجيل العقوبة في الدنيا للعاقين:
من العواقب الوخيمة لعقوق الوالدين وقطع الأرحام هو تعجيل العقوبة في الدنيا، إما بالمثل بأن يعامله أبناؤه بمثل ما عامل والديه وكذلك أقاربه، أو بعقوبة في ماله أو في نفسه أو في عياله أو بقلة التوفيق وكثرة الضيق -نعوذ بالله من كل ذلك- سواء أدرك ذلك أم لم يُدركه.
فعن أبي بكرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «كل الذنوب يُؤخرُ اللهُ منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عُقوق الوالدين، فإنه يُعجله لصاحبه في الدنيا».
وذكر أن عاقاً كان يجر أباه برجله إلى الباب، فكان له ولد أعق منه، وكان يجره برجله إلى الشارع، فإذا بلغ الباب قال: حسبُك ما كنت أجر أبي إلا إلى هذا المكان، فيقول له ولده: هذا جزاؤك والزائد صدقة مني عليك.. نعوذ بالله من الشقاء.
5- لا يُقبل عمل القاطع:
إن من عقوبة قاطع الأرحام عدم قبول العمل، خصوصاً إذا كانت القطيعة على أمور الدنيا الفانية أو بسبب أمور تافهة يتنزه عنها العقلاء والكرماء والنبلاء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن أعمال بني آدم تُعرض على الله كل خميس ليلة جمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم».
6- لعن من لعن والديه:
لعنُ الوالدين حرام، ومَنْ تسبب في لعن والديه فقد عَظُمَ إثمه، فكيف بِمَنْ يسب والديه مباشرة. روى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من الكبائر شتم الرجل والديه» قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ ! قال: «نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه».
وفي رواية أخرى: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه» قيل يا رسول الله: كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: «يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه».
وغالباً لا يسب أحد أبويه ويلعنهما مباشرة كما بيَّن الحديث ولكنه يسب أم هذا أو أباه فيسبون أمه وأباه ويصبون عليهما من اللعنات والشتائم أضعاف ما صدر منه، والبادئ أظلم.
7- العقوق وخطر سوء الخاتمة:
روي عن عبد الله بن أبي أوفى قال: (كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فأتاه آت فقال: شاب يجود بنفسه فقيل له قل لا إله إلا الله فلم يستطع، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: كان يصلي؟ فقال: نعم، فنهض الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونهضنا معه، فدخل على الشاب فقال: قل لا إله إلا الله، فقال: لا أستطيع، قال: لِمَ؟ قال: كان يعُق والدته، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أحَيَّةٌ والدته؟ قالوا نعم، قال: ادعوها فدعوها فجاءت، فقال: أهذا ابنكِ، قالت: نعم، فقال لها: أرأيتِ لو أججتُ نارً ضخمة فقيل لكِ إن شفعتِ له خلينا عنه وإلا حرقناه بهذه النار، أكنتِ تشفعينَ؟ قالت: يا رسول الله إذن أشفعُ، قال: فأشهدي الله وأشهديني أنكِ قد رضيتِ عنه، قالت: اللهم إني أشهدكَ وأشهد رسولكَ أن قد رضيتُ عن ابني هذا، فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: يا غلام، قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فقالها، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: الحمد لله الذي أنقذه من النار).
الفصل الرابع
آثار وأقوال جميلة ومؤثرة حول البر والعقوق:
1- روي عن كعب بن علقمة، أن موسى عليه السلام قال: يا رب أوصني، قال: أوصيتك بأمك، فإنها حملتك وهنًا على وهن. قال: ثم بمن؟ قال: بأمك ثم أبيك.
2- عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يبايعه، فقال: جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان، قال: «ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما».
فما أرحم هذا الرسول الكريم بأمته عليه الصلاة والسلام كما قال الله تعالى فيه: "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ" [التوبة: 128].
3- عن عمر رضي الله عنه، قال: «إبكاء الوالدين من العقوق» وكذا روي عن ابنه عبد الله.
4- عن الحسن أنه سئل عن بر الوالدين فقال: «أن تبذل لهما ما ملكت، وتطيعهما ما لم يكن معصية».
5- روي عن هشام بن حسان قال: قلت للحسن: إني أتعلم القرآن، وإن أمي تنتظرني بالعشاء، قال الحسن: تعش العشاء مع أمك تقر به عينها، أحب إلي من حجة تحجها تطوعاً.
6- روي عن رفاعة بن إياس قال: رأيت الحارس العكلي في جنازة أمه يبكي، فقيل له: تبكي؟ قال: ولِمَ لا أبكي وقد أغلق عني بابٌ من أبواب الجنة.
7- وروي أيضا أنه لما ماتت أم إياس بن معاوية بكى، فقيل: ما يبكيك؟ قال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة وأغلق أحدهما.
8- يقول الشيخ البيحاني: روي أن رجلاً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إن أبي أخذ مالي، فقال له المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: «اذهب فأتني بأبيك» فلما جاء الشيخ قال له النبي -صلى الله عليه وسلم- «ما بالُ ابنك يشكوك، أتريد أن تأخذ ماله» فقال له: سلهُ يا رسول الله هل أنفقه إلا على إحدى عماته أو خالاته أو على نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: دعنا من هذا، أخبرني عن أي شيء قلته في نفسك ما سمعته أذنك، فقال الشيخ: والله يا رسول الله ما يزال الله يزيدنا بك يقينًا، لقد قلت في نفسي ما سمعته أذناي، فقال: قل فأنا أسمع، قال:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً
تعلُّ بما أحنوا عليك وتنهــل
إذا ليلة ضاقت بك السقم لم أبت
لسقمك إلا ســـاهراً أتملــمل
كأني أنا المطروق دونك بالذي
طرقت به دوني فعيناي تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنني
لأعلم أن المــوت وقت مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي
إليها مــدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة
كأنك أنت المُنــــعم المُتــفضل
فليتك إذا لم ترع حق أبوتي
فعلت كما الجار المجاور يفعل
فحينئذ أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- بتلابيب الولد وسلمه لوالده قائلاً: «أنت ومالك لأبيك».
9- يقول العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: «إن حق الوالدين عليك أن تبرهما وذلك بالإحسان إليهما قولاً وفعلا بالمال والبدن، تمتثل أمرهما في غير معصية الله وفي غير ما فيه ضرر عليك، تُلين لهما القول وتبسط لهما الوجه وتقوم بخدمتهما على الوجه اللائق بهما ولا تتضجر منهما عند الكبر والمرض والضعف ولا تستثقل ذلك منهما فإنك سوف تكون بمنزلتهما، سوف تكون أبا كما كانا أبوين، وسوف تبلغ الكبر عند أولادك إن قدر لك البقاء كما بلغاه عندك، وسوف تحتاج إلى بر أولادك كما احتاجا إلى برك، فإن كنت قد قمت ببرهما فأبشر بالأجر الجزيل والمجازاة بالمثل فمن بر والديه بره أولاده، ومن عق والديه عقه أولاده، والجزاء من جنس العمل فكما تدين تدان».
10- عن عمر بن الزبير رحمه الله قال: «ما بر أبويه مَنْ أحَدَّ النظر إليهما».
11- وعن محمد بن سرين رحمه الله تعالى، قال: «مَنْ مشى بين يدي أبيه فقد عقَّهُ، إلا أن يمشي يميط الأذى عن طريقه، ومَنْ دعا أبيه باسمه فقد عقَّهُ، إلا أن يقول: يا أبتِ».
12- عن مجاهد رحمه الله، قال: «لا ينبغي للولد أن يدفع يد والده إذا ضربه، ومَنْ شدَّ النظر إلى والديه لم يبرهما، ومَنْ أدخل عليهما ما يُحزنهما فقد عقَّهما».
13- وقال الحسن البصري رحمه الله: «مُنتهى القطيعة أن يُجالس الرجل أباه عند السلطان» أي يُقاضيه.
14- ورد في أشراط الساعة: أن يطيع الرجل زوجته ويعق أمه، وأن يبر صديقه ويجفو أباه.
15- روي عن بعض الحكماء: لا تُصادق عاقاً، فإنه لن يَبرك وقد عَقَّ مَنْ هو أوجب منك حقاً.
16- قال يزيد بن أبي حبيب: «إيجاب الحجة على الوالدين عقوق» يعني الانتصار عليهما في الكلام.
17- وسُئِلَ كعب الأحبار عن العقوق، فقال: «إذا أمرك والداك بشيء فلم تطعهما فقد عققتهما العقوق كله».
18- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: ثلاثة لا تُرد دعوتهم: الوالد، والمظلوم، والمسافر.
19- روي عن مجاهد رحمه الله: ثلاثة لا تحجب دعوتهم عن الله عز وجل: دعوة المظلوم، ودعوة الوالد لولده، وشهادة أن لا إله إلا الله.
20- يقول الشيخ البيحاني رحمه الله: الطفل يظهر حبه لأمه قبل كل أحد، فإذا غابت عنه دعاها، وإذا أعرضت عنه ناجاها، وإذا أصابه مكروه استغاث بها وناداها، يحسب أن الخير كله عندها ويظن أن الشر لا يخلص إليه ما دامت تضمه بيديها وترعاه بعينيها، ثم الولد لا يحب بعد أمه إلا أباه الذي إذا دخل هش وبش له، وإذا خرج تعلق به، وإذا حضر قعد على حجره، وإذا غاب سأل عنه وانتظر مجيئه، يرى أنه إذا رضي عنه أعطاه كل شيء، وأنه إذا غضب قدر على كل شيء، يُخوف الناس كلهم بأبيه، وأي حب للوالدين أعظم من هذا، ولكنه إذا كبر نسي الجميل وأنكر المعروف ولم يتذكر بعطفه على بنيه وتحكمهم عليه أنه كان كذلك في صغره بين أمه وأبيه.
إن للوالدين حقاً علينا
بعد حق الإله في الاحترام
أولدانا وربيانا صغاراً
فاستحقا نهاية الإكرام
21- بعض الأولاد لا يكفيهم من العقوق أنهم لا يقومون بما أوجب الله عليهم تجاه الوالدين بالبر والإحسان إليهم والذي تدعو إليه الفِطَرُ السليمة والعقول الراجحة والقلوب الرحيمة، بل إنهم يسيئون إليهم ويؤذونهم بالقول أو بالفعل ويصح فيهم قول الشاعر على لسان الأبوين.
أريد حياته ويريد موتي
عذيرك من خليلك من مراد
22- كما أن بعض الأولاد يسيئون إلى والديهم ويتنصلون من برهم والإحسان إليهم في وقت يكونون هم في أمس الحاجة إليهم، وذلك عند كبر سنهم وضعف قواهم واشتداد حاجتهم إلى الخدمة والعطف والمؤانسة والرعاية بكل معانيها، إذا يصبحان في حاجتهما قريبا من حاجة الطفل، فهما يريدان مَنْ يُضحكهما ويرعاهما، ويريدان مَنْ يُكثر مجالستهما بحسن الحديث ولطيف العبارة، لأنهما يحسان بأنهما منعزلان عن الناس وأن لا أحد يهتم بهما، ولهذا نصت الآية العظيمة على تأكد حقهم وتعاظمه عند الكبر في قول الله تعالى: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا" الآية [الإسراء: 23].
وبدلاً من أن يزداد عطف الأولاد وشفقتهم على والديهم عند كبرهم ويزداد برهم بهم والإحسان إليهم بجميع صنوف البر والإحسان القولية والعملية، والمالية والبدنية، الحسية والمعنوية، فإن بعض الأولاد يضيق ذرعاً بوالديه عند كبرهما، عياذا بالله من العقوق، وربما سبُّوهُما أو آذوهما فعلاً، وقالوا بلسان حالهم لأبيهم أو لأمهم -نعوذ بالله من ذلك-:
وماذا تريد اليوم منا وأنت في
بقية أيام ورجلك في القبر
لقد ملَّك الدهر الطويل وأنت لم
تمل حياة السوء في آخر العمر
23- من حق الوالدين الرجوع في العطية، فقد أخرج البخاري رحمه الله تعالى عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يحل لرجلٍ أن يُعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يُعطي ولده».
الفصل الخامس
صور حية ونماذج صادقة من البر بالوالدين:
1- بر إبراهيم عليه الصلاة والسلام: وفي مخاطبته لأبيه عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، مع أن أباه كان مشركًا ولم يسلم، عبرة وقدوة وأعظم أسوة، كما قال الله تعالى: "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ" [الممتحنة: 4]، وكما قال تعالى: "وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ" [البقرة: 130]، وقال تعالى: "ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" [النحل: 123].
فقد خاطب إبراهيم عليه الصلاة والسلام أبيه بألطف عبارة وأحسن نداء وألين كلام، في تواضع جم ورأفة عظيمة، وبلغ الغاية في الإشفاق واللين مما لو قيل للحجر لتهدهد، وبلغ الغاية في صدق المشاعر والنصح الخالص، فعليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ولذلك فإني سأكتفي بذكر الآيات البينات دون تعليق وشرح فهي معبرة غاية التعبير، وليس أبلغ ولا أدل ولا أجمل ولا أعظم من كلام الله تعالى، يقول الله تبارك وتعالى: "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا" [مريم: 41-47].
2- بِرُّ عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام: يقول الله تعالى عن عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم: "وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا" [مريم: 31-32].
3- برُّ يحيى بن زكريا عليه الصلاة والسلام: بين الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز أن الأنبياء بارين بوالديهم، كيف لا وهم قدوة الخلق.
يقول تعالى مُثنيًا على يحيي بن زكريا عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام: "يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا" [مريم: 12-14].
فكان عليه السلام محسنًا بوالديه بارًا بهما، مطيعًا لأوامرهما ونهيهما، ولم يكن مسيئًا ولا مغلظًا لهما بالقول ولا بالعمل.
4- لأنها تفعله وتتمنى بقاءك وأنت تتمنى فراقها: عن زرعة بن إبراهيم، أن رجلاً أتى عمر رضي الله عنه، فقال: إن لي أمًا بلغ منها الكبر أنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري مطية لها، وأوضئها، وأصرف وجهي عنها، فهل أديت حقها؟ قال: لا، قال: أليس قد حملتها على ظهري وحبست نفسي عليها؟ قال: إنها كانت تصنع ذلك بك وهي تتمنى بقاءك، وأنت تصنعه وأنت تتمنى فراقها.
5- صورة أخرى من البر: رأى عمر رضي الله عنه رجلاً يحمل أمه، وقد جعل لها مثل الحوية (كساء) على ظهره، ويطوف بها حول البيت وهو يقول:
أحمل أمي وهي الحمالة
ترضعني الدر والعلالة
فقال عمر: الآن أكون قد أدركت أمي، فوليت منها مثل ما وليت أحب إليَّ من حمر النعم.
6- حمله لأمه على رقبته للحج لا يساوي طلقة من طلقاتها: قال رجل لعبد الله بن عمر. رضي الله عنهما. حملت أمي على رقبتي من خراسان حتى قضيت بها المناسك، أتراني جزيتها؟ قال: لا، ولا طلقة من طلقاتها.
7- إن أباه كان ودًّا لعمر: في صحيح مسلم عن عبد الله بن دينار: أن رجلا من الأعراب لقي عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما في طريق مكة، فسلم عليه وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال ابن دينار فقلنا: أصلحك الله إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير، فقال عبد الله بن عمر: إن أبا هذا كان ودًا لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن أبرَّ البر صلة الولد أهل ود أبيه».
8- أبو هريرة وأمه: روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان إذا أراد أن يخرج من البيت وقف على باب أمه، فقال: «السلام عليكم يا أماه ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك السلام يا ولدي ورحمة الله وبركاته، فيقول: رحمكِ الله كما ربيتني صغيراً، فتقول: رحمكَ الله كما بررتني كبيراً، وإذا أراد أن يدخل صنع مثل ذلك».
9- ابن سيرين والنخلة: عن محمد بن سيرين رحمه الله أنه قال: بلغت النخلة ألف درهم، فنقرت نخلة من جمارها، فقيل لي: عقرت نخلة تبلغ كذا، وجمارة بدرهمين؟ قلت: وقد سألتني أمي، ولو سألتني أكثر من ذلك لفعلت.
10- يغسل رأس أمه: روي عن سفيان الثوري، قال: كان محمد ابن الحنفية يغسل رأس أمه بالخطمى ويمشطها ويخضبها.
11- لا يأكل مع أمه: روي عن الزهري، قال: كان الحسن بن علي لا يأكل مع أمه، وكان أبر الناس بها، فقيل له في ذلك، فقال أخاف إن أكلت معها، أن تسبق عينها إلى شيء من الطعام وأنا لا أدري، فآكله، فأكون قد عققتها، وفي رواية: أخاف أن تسبق يدي يدها. وقيل: إنه نقل مثل ذلك عن عبد الله بن عمر أو عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، والله أعلم.
12- ابن مسعود مع أمه: وعن أنس بن النضر الأشجعي أنه استقت أم ابن مسعود ماءً في بعض الليالي، فذهب فجاءها بشربة فوجدها قد ذهب بها النوم، فثبت بالشربة عند رأسها حتى أصبح.
13- ظبيان من أبر الناس بأمه: وعن ظبيان بن علي الثوري، وكان من أبر الناس بأمه، قال: لقد نامت أمه ليلة وفي صدرها عليه شيء، فقام على رجليه يكره أن يوقظها ويكره أن يقعد، حتى إذا ضعف جاء غلامان من غلمانه، فما زال معتمداً عليهما حتى استيقظت، وكان رحمه الله يسافر بها إلى مكة فإذا كان يوم حار حفر بئراً، ثم جاء بنطع فصب فيه الماء، ثم يقول لها: أدخلي تبردي في هذا الماء.
14- علا صوته: وعن عون بن عبد الله أنه نادته أمه فأجابها، فعلا صوته، فأعتق رقبتين.
15- منصور لا يرفع طرفه إلى أمه: وعن بكر بن عباس، قال: ربما كنت مع منصور في مجلسه جالساً فتصيح به أمه، وكانت فظة غليظة، فتقول: يا منصور، يريدك ابن هبيرة على القضاء فتأبى؟ وهو واضع لحيته على صدره، ما يرفع طرفه إليها.
16- بر ولد ابن ذر: قال ابن الجوزي: بلغنا عن عمر بن ذر، أنه لما مات ابنه قيل له: كيف كان بره بك؟ قال: ما مشى معي نهاراً إلا كان خلفي، ولا ليلاً إلا كان أمامي، ولا رقد على سطح أنا تحته.
الفصل السادس
حقوق الوالدين وطرق البر بهما ملخصة في نقاط:
يمكن لنا أن نلخص مما سبق من الآيات البينات والأحاديث النيرات والآثار الواعظات، أن بر الوالدين والقيام بحقوقهما يتمثل إجمالاً فيما يلي:
1- الحب والتوقير:
من حق الوالدين على أولادهما حبهما واحترامهما وتوقيرهما، والحب والاحترام والتوقير واجب لكل مسلم على أخيه المسلم، وهو من الصغير للكبير، ومن المأمور للأمير، وللوالدين من أولادهما. وإذا كانت القلوب مجبولة على حب مَنْ أحسن إليها فلا أحد أكثر إحساناً بعد الله على الإنسان من والديه.
2- ومن حقهما أن لا يوالي عدوهما وأن لا يجانب صديقهما، وذلك بالمعروف.
3- التأدب والطاعة:
ومن حقهما التأدب لهما، ولين القول لهما وطيب الحديث معهما، وطاعتهما بامتثال أوامرهما واجتناب نهيهما وذلك في غير معصية الله. كما تحصل طاعتهما بالوقوف عند رغبتهما، والعمل بما يرضيهما ويوافق رأيهما، والإنصات لهما إذا تحدثا، وتصديقهما فيما يقولا، وقضاء حوائجهما، وأن يغدو عليهما ويروح وقتما يريدا، حسب القدرة والطاقة مع الاجتهاد في ذلك "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا" [البقرة: 286].
قال ابن الجوزي: يكون بر الوالدين بطاعتهما فيما يأمران به ما لم يكن بمحظور، وتقديم أمرهما على فعل النافلة، والاجتناب لما نهيا عنه، والإنفاق عليهما، فلا يرفع الولد صوته، ولا يحدق إليهما، ولا يدعوهما باسمهما، ويمشي وراءهما، ويصبر على ما يكره مما يصدر عنهما.
يتبع إن شاء الله...