آداب تلاوة القرآن الكريم
القرآن الكريم كتاب الله الخالد، وكلامه القديم، ومعجزة نبيه الكبرى، وجامعة الإسلام العظمى، وصفه الذي أنزله بالعلم: لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً (166) النساء. وبالحكمة: يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) يس. وبالكرم: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) الواقعة، وبالمجد: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) ق، وبالعزة: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) فصلت، وبالعظمة: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) الحجر، وبالبركة: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ص 29، وبالتذكير: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) ص. وبالوضوح والتبيين: حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)الدخان.
وبين آثاره في الهداية والبشرى: "إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9)" الإسراء.
وفي الشفاء والرحمة: "وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ" الإسراء: 82، وفي التذكير والتقوى: "وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)" الزمر، وفي الثبات على الحق: "قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)" النحل، وفي زيادة الإيمان: "وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)" التوبة.
ووصفه الذي أنزل عليه -صلى الله عليه وسلم- وبيّن آثاره في كثير من أحاديثه الشريفة، منها ما روي عن علي قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: أما أنها ستكون فتنة. قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ فقال: كتاب الله تعالى، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، مَن تركه من جبار قصمه الله تعالى، ومَن ابتغى الهدى في غيره أضله الله تعالى، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته اليه الجن إذ سمعته حتى قالوا: "إنا سمعنا قرآنًا عجبًا يهدي الى الرشد فآمنا به"، مَن قال به صدق، ومَن عمل به أجر، ومَن حكم به عدل، ومَن دعا اليه هدي الى صراط مستقيم. رواه الترمذي.
وعن محمد بن علي -رضي الله عنهما- قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "القرآن أفضل من كل شيء دون الله، وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه، فمَن وقّر القرآن فقد وقّر الله، ومَن لم يوقّر القرآن لم يوقّر الله، وحرمة القرآن عند الله كحرمة الوالد على ولده، القرآن شافع مشفع، و ماحل ـ أي خصم مجادل ـ مصدّق، فمن شفع له القرآن شفع، ومَن محل بالقرآن صدق، ومَن جعله أمامه قاده الى الجنة، ومَن جعله خلفه ساقه الى النار، وحملة القرآن هم المحفوفون برحمة الله، الملبسون نور الله، المعلمون كلام الله، مَن والاهم فقد والى الله، ومَن عاداهم فقد عادى الله. رواه القرطبي في تفسيره.
وقد أمر الله تعالى بتلاوته "إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآن" النمل: 91 »»92.
ووعد عليها الخير الجزيل: "إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)" فاطر.
كما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بتلاوته وبيّن ما أعد الله سبحانه وتعالى لمَن قرأه من أجر عظيم منها شفاعته به فقال -صلى الله عليه وسلم- اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه" رواه مسلم.
ومنها حصوله على ثروة عريضة من الحسنات التي تضاف الى رصيده عند تلاوة كل حرف من الكتاب الكريم، قال عليه الصلاة والسلام: "مَن قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: الم حرف، ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف" رواه الترمذي.
ومنها ارتقاؤه الى منزلة لا تنتهي رفعتها إلا عندما ينتهي من تلاوته قال -صلى الله عليه وسلم-: " يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها" رواه أبو داود والترمذي.
ومنها نيله شهادة نبوية بتقليده أعلى وسام إلهي: "إن لله أهلين من الناس، قالوا: مَن هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته. رواه النسائي وابن ماجه.
إنه كتاب الله تعالى الدستور الجامع لأحكام الإسلام، والمنبع الصافي للعلم والخير والحكمة والنور والوسيلة المختصرة لمعرفة الله تعالى وقربه ورضاه والوصول الى حقائق التقوى ومعادن الإيمان. وفي الحديث الشريف: "إن هذا القرآن مأدبة الله فاقبلوا مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله والنور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يزيغ فيستعتب، ولا يعوج فيقوم ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد" رواه الحاكم.
وفي وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر -رضي الله عنه- عليك بتلاوة القرآن فإنه نور لك في الأرض، وذخر لك في السماء.
إنه رسالة الله العلي القدير، لهذا الإنسان الضعيف الجهول الفقير، لتأخذ بيده وتدله على سبيل النجاة، وتهديه الى صراط الله، وتمنحه السعادة في الدنيا والفوز في الآخرة.
عن جبير -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أبشروا فإن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تهلكوا ولن تضلوا بعده أبدًا" رواه الطبراني.
ولقد بوأ الله به المسلمين عندما تمسكوا به، وأخلصوا في تطبيق أوامره، وتنفيذ أحكامه ووصاياه، وانتهوا عن كل ما نهى عنه، بوأهم مكانة الصدارة بين الأمم، وجعلهم مخلّصي الشعوب ومعلمي الأمم، وناشري الحضارة التي ما عرف التاريخ لها مثيلا، فكانوا بحق خير أمة أخرجت للناس.
وهذا كتاب الله تعالى تكفل بحفظه، وسخر عباده لتوثيقه، ليكون الدستور الخالد الى يوم القيامة: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)" الحجر.
وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "خيركم مَنْ تعلّم القرآن وعلّمه" رواه البخاري.
قال أحدهم:
قد حوى القرآن نورًا وهدىً ***** فعصى القرآن مَن لا يعقل
قـــــــــل لقوم نبذوا أحكامه ***** مــــــــا لكم مما نبذتم بدل
فاسألوا التاريخ عـن قرآنكم ***** يــــوم ضاءت بسناه السبل
فكــــــــــأن الكون أفق أنتم ***** فيـــــــــه بدر كامل لا يأفل
أو كــأن الكون منكم روضة ***** وعلـــى الأغصان أنتم بلبل
إنه كتاب الله، منزلته كمنزلة منزله، وتعظيمه من تعظيم قائله، والأدب معه أدب مع الله سبحانه وحري بالمسلم أن يتعلم هذه الآداب ليلتزمها مع كتاب الله الكريم.
1 »» أن يقصد بقراءته وجه الله تعالى، وتعلم أحكام كتابه، وتنفيذ أمر ربه بتلاوة القرآن الكريم.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما- (إنما يُعطى الرجل على قدر نيته).
قال الله تعالى: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ" البينة 5.
وعن ابن عمران -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن قرأ القرآن فليسأل الله به، فإنه سيجيء أقوام يقرؤون القرآن يسألون به الناس" رواه الترمذي .
وعن بريدة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن قرأ القرآن يتأكّل به الناس جاء يوم القيامة ووجهه عظم ليس عليه لحم". رواه البيهقي .
2 »» أن يكون على طهارة من الحدثين، فالطهارة من الجنابة والحيض والنفاس فرض لقراءة القرآن أو مس المصحف وحمله.
قال تعالى: "إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (80)" الواقعة.
وعن علي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان لا يحجبه عن القرآن شيء ليس الجنابة. رواه أصحاب السنن.
وعنه -رضي الله عنه- قال: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توضأ ثم قرأ شيئا من القرآن، ثم قال: هكذا لمن ليس بجنب، فأما الجنب فلا، ولا آية" رواه أحمد وأبو يعلى.
3 »» تنظيف الفم بالسواك وغيره، لأنه مجرى كلام الله تبارك وتعالى.
قال قتادة (ما أكلت الثوم منذ قرأت القرآن).
عن علي -رضي الله عنه- مرفوعا: "إن أفواهكم طرق للقرآن فطيّبوها بالسواك" رواه البزار.
4 »» يستحب للقارئ أن يجلس مستقبلاً القبلة إذا تمكن من ذلك، لأنه ورد (خير المجالس ما استقبل به القبلة) رواه الطبراني.
ويجوز أن يقرأ قائمًا أو ماشيًا أو مضجعًا أو في فراشه أو في الطريق أو على غير ذلك من الأحوال وله الأجر، وإن كان دون الأول.
5 »» طهارة المكان والثياب ونظافتهما، والتجمل والتطيب استعدادا لمناجاة الله تعالى بتلاوة كلامه.
6 »» التعوذ والبسملة قبل البدء بالتلاوة.
قال تعالى: "فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)" النحل.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل أمر ذي بال لا يبدأ ببسم الله فهو أجذم" رواه أبو داود وابن ماجه والنسائي.
7 »» المداومة على قراءة القرآن، بالتزام ورد يومي وإن قلّ، وتجنب هجران القرآن ونسيان تلاوته. قال سيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه-: "لو أن قلوبنا طهرت ما شبعت من كلام ربنا عز وجل، وإني لأكره أن يأتي عليّ يوم لا أنظر في المصحف".
قال تعالى: "وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30)" الفرقان.
وعن أبي موسى -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشدّ تفلتا من الإبل في عقلها" متفق عليه.
8 »» الإقبال بشغف وشوق ومحبة على كلام الله تعالى حتى يتملك عليه مشاعره وأحاسيسه، وقلبه وفكره وروحه، ويعين على ذلك طرح كل ما يشغله من أفكار أو كلام أو هموم الحياة الدنيا، وخصوصا في صلاة الليل.
قال تعالى: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" الزمر: 23.
عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أحبّ أن يحبّه الله ورسوله فلينظر فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله ورسوله" رواه الطبراني.
9 »» تحسين الصوت وتزيينه عند التلاوة، والتغني بالقرآن ليكون أشد وقعا، وأكبر تأثيرا في القلوب.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن" متفق عليه.
وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "زيّنوا القرآن بأصواتكم" رواه أبو داود والنسائي.
وعن أبي لبابة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" رواه أبو داود.
10 »» قراءة القرآن حسب قواعد التجويد، وترتيله على النحو الذي وضعه علماء القرآن بتأديته حرفا حرفا، من غير استعجال، وكما ورد عن السلسلة المتصلة بالنبي في تلقي القرآن الكريم، قال ابن الجزري:
والأخذ بالتجويد حتم لازم ***** من لم يجوّد القرآن آثم
لأنه بـــــــــــه الإله أنزله ***** وهكـذا منه إلينا وصله
وقد سئل سيدنا علي -رضي الله عنه- عن ترتيل القرآن الكريم فقال: هو تجويد الحروف، ومعرفة الوقوف.
قال تعالى: "وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)" المزمل.
وعن أم سلمة -رضي الله عنها- أنها نعتت قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- قراءة مفسرة حرفا حرفا. رواه أبو داود.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة. والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق، له أجران" متفق عليه .
11 »» التدبّر:
قال السيوطي: صفة التدبر أن يشغل القارئ قلبه بالتفكر في معنى ما يتلفظ به فيعرف معنى كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهي، ويعتقد قبول ذلك، فإن كان قصر عنه فيما مضى من عمره اعتذر واستغفر، وإذا مر بآية عذاب أشفق وتعوّذ، أو تنزيه نزّه وعظّم، أو دعاء تضرع وطلب.
وقال الحسن البصري: إن من كان قبلكم ـ يعني الصحابة ـ رأوا أن هذا القرآن رسائل إليهم من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها في النهار.
وقال علي -رضي الله عنه-: لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا في قراءة لا تدبر فيها.
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: لأن أقرأ إذا زلزلت والقارعة أتدبرهما، أحب إليّ من أقرأ البقرة وآل عمران تهذيرا.
وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: من أراد علم الأولين والآخرين، فليتدبر القرآن.
وقد بات الكثير من السلف يتلو أحدهم آية واحدة ليلة كاملة، يرددها ليتدبر ما فيها، وكلما أعادها انكشف له من معانيها، وظهر له من أنوارها، وفاض عليه من علومها وبركاتها.
قال الأحنف بن قيس: عرضت نفسي على القرآن، فلم أجد نفسي بشيء أشبه مني بهذه الآية: "وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ" التوبة 102.
قال تعالى: "كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (29)" ص.
وقال عز وجل: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)" محمد.
وقال سبحانه: "وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً (106)" الإسراء.
وقال عز من قائل: "وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (17).
وعن عوف بن مالك -رضي الله عنه- قال: قمت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة فقام -صلى الله عليه وسلم- فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوّذ" رواه النسائي وأبو داود .
وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنا ليلة فقام بآية يرددها وهي: "إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) المائدة .
12 »» خشوع القلب، وإطراق الرأس، وسكون الجوارح، واستحضار عظمة منزلة القرآن، والبكاء من خشية الله تعالى، فإن لم يبك فليستجلب البكاء وليحاول ذلك عندما يكون خاليا فإنه أبعد من الرياء.. قال الحسن: كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يمر بالآية من ورده بالليل فيبكي حتى يسقط، ويبقى في البيت حتى يُعاد للمرض.
قال تعالى: "لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ" الحشر 21.
وقال عز وجل: "وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ" المائدة 83.
وقال سبحانه: "وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)" الإسراء.
وقال سبحانه: "إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً (58)" مريم.
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- لما قرأ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ابن مسعود: فالتفتّ فإذا عينا رسول الله تذرفان. رواه الشيخان.
وعن سعد -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن هذا القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا وتغنّوا به فمن لم يتغنّ بالقرآن فليس منا" رواه ابن ماجه.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لما نزلت: "أفمن هذا الحديث تعجبون، وتضحكون ولا تبكون" بكى أصحاب الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم. رواه البيهقي.
13 »» العمل بالقرآن، إئتمارا بأمره، وانتهاء عن نواهيه، وتنفيذا لوصاياه، ووقوفا عند حدوده.
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يتجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن.
وقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: لقد عشنا برهة من الدهر وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة فيتعلم حلالها وحرامها، وأوامرها وزواجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، ولقد رأينا رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب الى خاتمته لا يدري ما آمره وما زاجره، وما ينبغي أن يقف عنده، ينثره نثر الدّقل ـ أي رديء التمر ويابسه ـ.
قال تعالى: "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ" البقرة 121.
وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا ذر، لأن تغدو فتتعلم آية من كتاب الله خير من أن تصلي مائة ركعة". رواه ابن ماجه.
وعن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اقرأ القرآن ما نهاك، فإن لن ينهك فلست تقرؤه". رواه الطبراني.
وعن صهيب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما آمن بالقرآن مَن استحلّ محارمه" رواه الترمذي.
14 »» قراءة القرآن مع النظر في المصحف، لتجتمع له عبادتا القراءة والنظر، وقد قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: أديموا النظر في المصحف.
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعطوا أعينكم حظها من العبادة". قالوا: وما حظها من العبادة؟ قال: "النظر في المصحف، والتفكر فيه، والاعتبار عند عجائبه" رواه البيهقي.
15 »» الإصغاء والإستماع والإنصات عند تلاوة القرآن، لأن ذلك أدنى للفهم والتأمل بما في آيات الله من وعد ووعيد، وتبشير وتهديد، وحكمة وموعظة، وأمر ونهي، وأقرب لإحراز رحمة الله تعالى:
قال تعالى: "وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)" الأعراف.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن استمع الى آية من كتاب الله كُتبت له حسنة مضاعفة، ومَن تلا آية من كتاب الله كانت له نورًا يوم القيامة" رواه أحمد.
16 »» تجنب كل ما يخل بالخشوع مع جلال القرآن أثناء التلاوة أو السماع، كالضحك والتثاؤب والعبث بالثياب أو الأعضاء، وفرقعة الأصابع، والتحدث الى الآخرين دون حاجة.. إلخ ويمسك عن القراءة إذا غلبه التثاؤب لأنه في حضرة الخطاب الإلهي، والتثاؤب من الشيطان.
قال مجاهد: إذا تثاءبت وأنت تقرأ القرآن فأمسك عن القراءة إجلالا للقرآن حتى يذهب تثاؤبك.
17 »» العمل على حفظ القرآن الكريم واستظهاره، وإن من أعظم النعم الإلهية أن جعل الله تعالى قلوب عباده المؤمنين أوعية لكلامه، وصدورهم خزائن لآياته، يتلونها آناء الليل وأطراف النهار.
وقال العلماء إن حفظ ما تجوز به الصلاة فرض عين على كل مكلف، وحفظ فاتحة الكتاب وسورة واجب، وحفظ سائر القرآن فرض كفاية، وسنة عين أفضل من سنة النفل.
قال تعالى: "بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ" العنكبوت 49.
وعن عليّ -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن قرأ القرآن فاستظهره، فأحلّ حلاله، وحرّم حرامه أدخله الله الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت لهم النار" رواه الترمذي.
وعنه -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الذي ليس في جوفه شيٌء من القرآن كالبيت الخرب" رواه الترمذي.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أشراف أمتي حملة القرآن وأصحاب الليل" رواه البيهقي والطبراني.
18 »» التأدب بآداب الحفظة إذا منّ الله عليه بحفظ كتابه، وإلا سلبت منه هذه الفضيلة العظمى، قال الفضيل بن عياض: حامل القرآن حامل راية الإسلام فلا ينبغي أن يلهومع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلغو مع من يلغو، تعظيما لحق القرآن.
وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله إذ الناس نائمون، وبنهاره إذ الناس مفطرون، وبحزنه إذ الناس يفرحون، وببكائه إذ الناس يضحكون، وبصمته إذ الناس يخوضون، وبخشوعه إذ الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون هينًا لينًا، ولا ينبغي له أن يكون جافيًا ولا مماريًا ولا صياحًا ولا صخابًا.
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن قرأ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه، غير أنه لا يوحى إليه، ولا ينبغي لصاحب القرآن أن يجد مع من وجد، ولا يجهل مع من جهل وفي جوفه كلام الله تعالى". رواه الحاكم.
19 »» إن مما يعين على حفظ القرآن الكريم الابتداء بحفظه منذ الصغر، وتفريغ الذهن له باغتنام الأوقات المباركة في الأسحار، وترتيله والتغني به في صلاة الليل، وسماعه من أفواه المقرئين المجيدين ومحاولة تقليد أحدهم، وتدبر المعنى ومعرفة أسباب النزول، وتجزيء القرآن الى أرباع أحزاب ووضع برنامج محدد للحفظ، والمحافظة على الورد اليومي مهما كانت الأعذار، والتزام معلم للقرآن يسمع منه ما حفظه كل يوم، والتكرار الكثير وعدم الملل أو اليأس إذا صعبت عليه بعض الآيات، والحفظ في مصحف معين والالتزام به ويفضل مصحف الحفاظ، وسؤال الله تعالى بالصدق والعزم أن يكرمه بحفظ كتابه، والتقوى وتطهير النفس والقلب مما سوى الله.
عن عبيدة المليكي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا أهل القرآن لا تتوسدوا القرآن، واتلوه حق تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، وأفشوه وتغنوا به، وتدبروا ما فيه لعلكم تفلحون، ولا تعجلوا ثوابه فإن له ثوابًا" رواه البيهقي والطبراني وأبو نعيم.
20 »» الحرص على الحفظ من النسيان، بالتلاوة المستمرة، والتكرار اليومي للمحفوظات من القرآن الكريم، واجتناب الذنوب والمحرمات، لأن القرآن لا يستقر في القلوب الغافلة.
عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عُرضت عليّ أجُور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعُرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أوتيها رجلٌ ثم نسيها" رواه الترمذي وأبو داود.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعلقة إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت" متفق عليه.
21 »» إجابة بعض الآيات عند سماعها أو تلاوتها ببعض الأذكار أو الكلمات الواردة ومنها بعد: "يا أيها الذين آمنوا..." يقول: لبيك ربي وسعديك.
بعد الفاتحة يقول: آمين.
بعد البقرة يقول: آمين.
بعد كل آية: "فبأي آلاء ربكما تكذبان" من سورة الرحمن يقول:
ولا بشيء من نعمك نكذب فلك الحمد.
بعد القيامة يقول: بلى هو قادر.
بعد الملك يقول: الله رب العالمين.
بعد المرسلات يقول: آمنت بالله.
بعد سبّح اسم ربك الأعلى يسبّح ثلاثا.
بعد: "فألهمهما فجورها وتقواها" يقول: اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها.
بعد التين يقول: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين.
بعد إن الله وملائكته يصلون على النبي.. الآية.. يصلي على النبي.
بعد آية سجدة يسجد إن كان متوضأ، وإلا قال (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) ثلاثا.
وبعد آية تنزيه: يسبح، وبعد آية دعاء يدعو وينيب، وبعد آية استغفار يستغفر ويتوب..
22 »» الدعاء بعد كل تلاوة بما يتناسب والآيات التي تلاها، ويتأكد الدعاء بعد ختم القرآن الكريم فهو مظنة الاستجابة، قال مجاهد: كانوا يجتمعون عند ختم القرآن ويقولون: تنزل الرحمة.
عن أنس -رضي الله عنه- "أنه كان إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا". رواه أبو داود .
وعنه -رضي الله عنه- مرفوعا: "مَن قرأ القرآن وحمد الرب وصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- واستغفر ربه فقد طلب الخير مكانه". رواه البيهقي.
23 »» يسن إذا فرغ من الختمة أن يشرع في ختمة جديدة مباشرة ليكون متواصل القراءة دون فترة أو مهلة أو تقاعس بعد الختمة..
قال -صلى الله عليه وسلم-:" أحب الأعمال الى الله قال الحال المرتحل الذي يضرب من أول القرآن الى آخره كلما ارتحل" رواه الترمذي.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وأبيّ بن كعب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا قرأ: "قل أعوذ برب الناس" فتح من الحمد، ثم قرأ من البقرة: "وأولئك هم المفلحون" ثم دعا بدعاء الختمة ثم قام" رواه الدارمي.