أحاديث الآحاد في العقيدة
للشيخ: محمد ناصر الدين الألباني
نزل القرآن باللغة العربية، واشتمل على نصوص واضحة الدلالة، ثم تأثرت عقول بعض المسلمين بعلم الكلام والفلسفة؛ فصعب على تلك العقول فهم الشرع على ظاهره، فجعلوا قواعد ومصطلحات تهدم الدين. وفي هذه المادة يتحدث الشيخ رحمه الله عن بعض هذه الانحرافات، ذاكراً منها در أحاديث الآحاد في العقيدة واشتراط التواتر في أخبارها، وتصدى لمناقشة هذه الفكرة والرد عليها وتزييفها وبيان بطلانها.
توجيه حديث الجارية (... أين الله؟)
السؤال:
حديث الجارية: (...أين الله؟ قالت: في السماء).
هل هو جواب عن فرضية مكان أو فرضية مكانة؟
الجواب:
ليس هذا ولا هذا، أي: إن الجواب ليس عن سؤال مكانة ولا عن مكان.
أما أنه ليس سؤالاً عن المكانة؛ فلأن مكانة الله المعنوية معروفة لدى كل المسلمين بل حتى الكافرين.
وأما أنه ليس سؤالاً عن المكان فذلك؛ لأن الله عز وجل ليس له مكان.
وفي الواقع أنا أشعر أن هذا السؤال من أخ مسلم يعتبر محاضرة، والسبب أنكم لا تسمعون هذه المحاضرات، وإنما تسمعون محاضرات في السياسة والاقتصاد، لدرجة أن كثيراً منكم ملَّ من تكرارها، أما محاضرات في صميم التوحيد، كالمحاضرة التي ستسمعونها الآن، مع أني مضطر إلى أن أختصر في الكلام؛ لأنه حان وقت الانصراف، لكن لابد مما لابد منه، فهذا السؤال يحتاج إلى محاضرة.
لكن نقول: إن الله منزه عن المكان باتفاق جميع علماء الإسلام، لماذا؟ لأن الله كان ولا شيء معه، وهذا معروف في الحديث الذي في صحيح البخاري عن عمران بن حصين: (كان الله ولا شيء معه)، ولا شك أن المكان هو شيء، أي: هو شيء وجد بعد أن لم يكن، وإذا قال الرسول: (كان الله ولا شيء معه) معناه: كان ولا مكان له؛ لأنه هو الغني عن العالمين، هذه الحقيقة متفق عليها.
إثبات علو الباري سبحانه وتعالى:
لكن مع الأسف الشديد، من جملة الانحرافات التي أصابت المسلمين، بسبب بُعدهم عن هدي الكتاب والسنة في العقيدة في ذات الله عز وجل، لو سألت اليوم جماهير المسلمين في كل بلاد الإسلام، علماء وطلاب علم وعامة، إذا سألتهم هذا السؤال النبوي: أين الله؟ ستجد أن المسلمين مختلفون أشد الاختلاف في الجواب عن هذا السؤال، منهم مَن يكاد يتفتق غيظاً وغضباً بمجرد أن طرق سمعه هذا السؤال، ويقول: أعوذ بالله ما هذا السؤال؟!
نقول له: رويداً يا أخي! هذا السؤال هل تعلم أول مَن قاله؟ يقول: لا ما سمعنا به إلا الآن، فنفتح له صحيح مسلم ونقول له: هذا صحيح مسلم، الكتاب الثاني بعد صحيح البخاري، والثالث بعد القرآن؛ لأن أصح كتاب هو القرآن، ثم صحيح البخاري، ثم صحيح مسلم، وهو الذي روى هذا الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال للجارية يمتحنها: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال لها: مَن أنا؟ قالت: أنت رسول الله، فقال لسيدها: أعتقها فإنها مؤمنة)، يسمع الحديث وكأنه ليس عايشاً في بلاد الإسلام، بل ليس عايشاً في بلاد العلم، أو يمكن لم يمسك صحيح مسلم في زمانه مطلقاً، هذا قسم من الناس.
بل من أهل العلم مَن لم يسمع هذا السؤال قط! أي: ما طرق سمعه هذا الحديث، ولسان حاله يقول: أيعقل أن هناك أناساً يقولون: أين الله؟! ما هذا السؤال؟! هل يجوز لأحد أن يسأل أين الله؟! لا أعرف!! ما رأيك؟! ويأخذ البحث مجراه فتقول له: أنت تؤمن بوجود الله؟ سوف يقول: نعم، نقول له: أكيد أن الله موجود؟! فيجيب: نعم, إذاً أين هو؟ فيفكر ولا يستطيع الجواب!!!
إن أقدس المقدسات هو الله، فإذا سألته: أين هو؟ فلا يعرف، وهو مسلم، ما معنى مسلم إذاً؟ نعم هو مسلم، وهذا أمر جميل، لكن هل هو حقيقة أم لا؟ "وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" [الأعراف: 187] صدق الله العظيم، لا يعلم هذا أن الله يقول: "أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ" [الملك: 16-17].
كأنه ما قرأ هذه الآية أبداً، ويمكن أنه قرأها أكثر مني، لماذا؟ لأن هناك أناساً متعبدين، ربما يختم أحدهم القرآن في كل ليلة، أو في كل ليلتين على خلاف السنة، أما نحن فالواحد منا قد يختم ختمة واحدة في السنة؛ لأن الله فتح له باباً في العلم، أمَّا ذاك المخالف للسنة فهو يقرأ كثيراً، لكن هل فهم ما قرأ؟ لا، إذاً: ربنا عندما يقول له في القرآن: "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" [محمد: 24]، معنى ذلك أنه من القسم الثاني (أم على قلوبٍ أقفالها).
ثم إنَّا نذكره بحديث فنقول له: يا أخي! هذا الحديث تعرفونه جميعاً لا ننفرد وحدنا بمعرفته، هذا الحديث يقول: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء) هذا حديث بالتعبير العصري: حديث شعبي، أي: كل الناس يعرفون هذا الحديث.
إذاً (ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء) مَن هو الذي في السماء؟ هل المقصود به غير الله؟ لا، إذاً لماذا تستنكر السؤال: أين الله؟ وأنت تُقر بهذا الحديث، أنا سألتك: هل الله موجود؟ فقلت: نعم، إذاً أين هو؟ أجبت أنك لا تعرف، لماذا لا تعرف؟ لا تقرأ القرآن ولا تسمع الحديث؟ ..إلخ.
سبب الانحراف في العقيدة:
إن المشكلة هي دخول علم الكلام في الموضوع فأفسد العقول، كل مَن قرأ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك: 16] ليس عنده شك أن الله عز وجل في السماء، كلنا سمع ذاك الحديث: (ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء)، ليس هناك شك أن الله عز وجل في السماء، لكن دخل علم الكلام فصرفهم عن هذا الإيمان، ماذا قال لهم؟ قال لهم: لا يجوز أن نقول: الله في السماء، لماذا؟ لأن الله ليس له مكان، صحيح نحن نقول: ليس له مكان، ولعلكم ما نسيتم بأننا بدأنا الكلام عن هذا السؤال ببيان أن الله عز وجل غني عن المكان، وأن الله كان ولا مكان، فادعى الجهلة من الناس أن معنى الآية والحديث هو إثبات المكان لله عز وجل، وأن معنى حديث الجارية: (الله في السماء) أن الله له مكان في السماء، هذا الجهل أدى بهم إلى جهل مطبق.
ولا يعني أن المسلم حينما يعتقد أن الله في السماء أن الله مثل إنسان في الغرفة، لماذا؟ لأن هذا تشبيه، وقد سمعتم من جملة خصال ومزايا الدعوة السلفية أنها وسط في كل شيء بين الإفراط والتفريط، بين المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه، وبين المعطلة الذين ينكرون أشياء من صفات ربهم، فـالسلف وسط يؤمنون بما جاء في الكتاب والسنة، وينزهون الله: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" [الشورى: 11].
فحينما يعتقد المسلم أن الله في السماء كما هو في النص القرآني والأحاديث كثيرة، لا يعني أنه في السماء أنه كالإنسان في الغرفة، وكدودة القز في (الشرنقة) محصورة بهذا البيت الطويل، حاشاه عز وجل أن يكون كذلك!.
معنى (في السماء):
إذاً: ما المعنى الصحيح للفظة (في السماء)؟ السماء لها معانٍ في اللغة لا نتفلسف كثيراً بذكرها، لكن من هذه المعاني: السماء الدنيا الأولى، والثانية، و...إلخ، ومن هذه المعاني: العلو المطلق، كل ما علاك فهو سماء، فالسماء الأولى والثانية هذه أجرام مخلوقة، فإذا قلنا: الله في السماء، معناه حصرناه في مكان، وقد قلنا: إنه منزه عن المكان، إذاً: كيف نفهم؟
الجواب من الناحية العلمية: (في) في اللغة ظرفية، فإذا أبقيناها على بابها وقلنا: الله في السماء، وجب تفسير السماء بالعلو المطلق، أي: الله فوق المخلوقات كلها حيث لا مكان، بهذه الطريقة آمنا بما وصف الله عز وجل به نفسه بدون تشبيه وبدون تعطيل.
فإن التشبيه أن أقول: كما أنا في هذا المكان، وحاشاه! والتعطيل أن نقول كما تقول المعطلة: الله ليس في السماء، وإذا كان ربك يقول: "أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ" [الملك: 16]، وأنت تقول: ليس في السماء، هذا هو الكفر.
هذا معنى الآية فيما إذا تركنا (في) على بابها.
أحياناً في اللغة العربية تقوم أحرف الجر بعضها مكان بعض، فـ (في) هنا ممكن أن تكون بمعنى (على)، فحينئذً: "أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ" [الملك: 16]، أي: مَنْ على السماء، فتكون السماء في الآية بمعنى الأجرام التي خلقها ربنا تعالى، فهو عليها وفوقها، وليس في شيء منها؛ لأنه منزه عن المكان، هذه هي عقيدة السلف، ومن أجل ذلك نحن ندعو المسلمين إلى أن يرجعوا إلى عقيدة السلف وإلى منهج السلف حتى يستقيموا على الجادة، وحتى يصدق فيهم أنهم رجعوا إلى الوصفة الطبية النبوية، التي جعلها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وصفة لخلاص المسلمين من الذل الذي ران ونزل عليهم (...حتى ترجعوا إلى دينكم)، فالرجوع الرجوع معشر المسلمين جميعاً إلى الله وإلى كتابه وإلى حديث نبيه وعلى منهج السلف الصالح! والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفهوم العقيدة ودلالة أحاديث الآحاد:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" [آل عمران: 102].
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً" [النساء:1].
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً" [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
المقصود من العقيدة في اصطلاح العلماء هو:
(كل خبر جاء عن الله أو رسوله، يتضمن خبراً غيبياً لا يتعلق به حكمٌ عمليٌ شرعاً).
هو كل خبر جاء عن الله أو رسوله، يتضمن خبراً غائباً عنا وعن عقولنا باعتبارنا بشراً لا نعلم الغيب، وليس معه حكمٌ شرعي عملي، أما إذا كان الخبر المشار إليه كتاباً أو سنة فيه حكم عملي، فهذا لا يَصُفّونَه في صَفّ العقائد، وإنما يحشرونه في صف الأحكام الشرعية، هذا هو الاصطلاح.
حكم الاصطلاح في العلوم الشرعية:
والذي أريد أن أدير إليه الكلام الآن، هو أن نذكر بأن الاصطلاح في العلوم الشرعية لا بأس منه؛ لأن الغرض تيسير الفهم على الناس، ولكن ينبغي أن يُراعى فيه ألا يؤدي إلى مخالفة شرعية..
أُورِدُ مثالاً من الأمثلة العصرية:
لا بأس أن نسمي معاني بأسماء جديدة، لكن بشرط ألا تغير حقائق شرعية، فإذا لم يتوفر هذا الشرط فلا يصح ذاك الاصطلاح أو تلك التسمية.
مثلاً: لا يصح أن نسمي ما حرَّم الله عز وجل من الملاهي وآلات الطرب بفنون جميلة؛ وذلك لما في هذه التسمية من تلطيف لمثل هذه المعاصي، وإيهام الناس بأنه لا شيء فيها لأنها من الفنون الجميلة، لكن لو أطلقنا هذا الاسم على رسوم ونقوش زاهية براقة جميلة، ليس فيها صور حيوانات محرمة في الإسلام، فلا بأس من هذه التسمية، هذا مثال من واقعنا في العصر الحاضر، والأمثلة في ذلك كثيرة؛ كتسمية الربا المحرم بالفائدة.
أي فائدة يجنيها الإنسان من وراء التعامل بالربا؟
فنحن لا يجوز أن نتجاوب مع هذه التسمية ومع هذا الاصطلاح، لا لكونه حادثاً، فلكل قوم أن يصطلحوا على ما يشاءون، وإنما لأن الاصطلاح يؤدي إلى مخالفة الشرع، فإن الشرع يطلق على مَن يتعاطى الربا بأنه يُحارب اللهَ ورسولهُ، ونحن نسمي هذا فائدة! هذا كله من وساوس الشيطان على بني الإنسان، لصرفه عن أوامر الله وإيقاعه فيما حرَّم الله.
مفهوم العقيدة اصطلاحاً وحكم هذا الاصطلاح:
أعود فأقول: لا بأس من ذلك التفريق الاصطلاحي، أن نسمي الخبر إذا كان فيه خبر غيبي وليس فيه حكم شرعي بأنه عقيدة، وأن نسمي خبراً آخر الذي يتضمن حكماً شرعياً عملياً بأنه حكم شرعي وليس بعقيدة، هذا الاصطلاح لا بأس به، ولكن بشرط ألا يؤدي إلى مخالفة الشرع، وقد تحققت المخالفة.
وإليكم البيان:
كل حكم شرعي لا يقترن معه عقيدة فلا قيمة له؛ لأن أي حكم سواء كان يتضمن -مثلاً- الفرض أو الوجوب والمعنى واحد، إذا لم تقم بهذا الواجب بنية واعتقاد أنه فرض لم يفدك هذا الحكم شيئاً، وهكذا قُرِّر في كل الأحكام أو بقية الأحكام الخمسة، فأنت إذا أتيت بعبادة غير الفريضة كسُنَّة مؤكدة أو مُستحبة، إذا جئت بها باعتقاد أنها فرض أثمت ولم تؤجر؛ ذلك لأنك خالفت العقيدة الإسلامية في هذا الحكم الشرعي، يكفي الآن على سبيل التمثيل والتوضيح هذان المثالان اللذان يبينان لك بوضوح أن كل حكم شرعي مقرون معه عقيدة، لكن نعكس؛ فليس كل عقيدة مقرون معها حكم وعمل شرعي، مثلاً: نعتقد بخروج الدجال الأكبر في آخر الزمان.. نعتقد بنزول النبي عيسى عليه الصلاة والسلام وقتله للدجال الأكبر.. نعتقد بخروج المهدي محمد بن عبد الله في آخر الزمان.. نعتقد بعذاب القبر... إلى آخر ما هنالك من عقائد ثابتة في الكتاب والسنة، هذه كلها مجرد عقيدة لا يقترن معها عمل، فاقترح العلماء للتفريق بين هذا النوع من العقيدة وذاك النوع من العقيدة، بأن هذه عقيدة وهذه أحكام.
ولكن إذا ألزمني هذا التفريق فلسفة عارضة طارئة دخيلة على الإسلام؛ حينذاك لا يجوز أن نصطلح هذا الاصطلاح، وإنما نقول: كل ذلك أحكام شرعية، وإنما الواقع أن هذا حكم ليس معه عمل، وذاك حكم معه عمل، مهما كانت نيته أنه عمل.. هذا حكم من الله تعتقد بكذا وكذا، وهذا حكم من الله تعتقد بكذا وكذا، لكن هذا النوع الثاني اقترن به القيام بعمل من نوع معين.
التفريق هذا هو كما قلت:
اصطلاح، ولا بأس باستعمال هذا الاصطلاح باشتراط الشرط السابق، أقول: اصطلاح؛ لأن السلف الصالح لا يعرفون هذا إطلاقاً، لا يعرفون التفريق بين خبر غيبي مجرد وخبر فيه حكم عملي ولابد من اعتقاد حكمه، فإذا ما وقفنا عند هذا الاصطلاح ولم نتعدَ إلى مخالفة أحكام شرعية أخرى، فلا بأس به.
حكم اشتراط التواتر في أحاديث العقيدة:
لكن الواقع أننا قد تورطنا من هذا الاصطلاح فجئنا بعقيدة باطلة مخالفة للشريعة الإسلامية، وهذه العقيدة بالتالي لا يعرفها السلف الصالح، ولا يعرفها الأئمة الأربعة الذين نحن ننتمي إليهم في اتباعهم في مذاهبهم، سواء ما كان منها مذهباً اعتقادياً بهذا الاصطلاح، أو كان مذهباً حكمياً شرعياً.
أريد من هذا التذكير بما ابتلي به المسلمون اليوم من رأي اعتزاليّ قديم، قام بعض الناس بتبنيه وإشاعته بين الناس، فكان مثار فتنة ومثار بلاء أصيب به كثير من الناس؛ بسبب جهلهم بالسنة أولاً، وبالأولى بسبب جهلهم بما كان عليه سلفنا الصالح من تقبلهم الأخبار الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم على إطلاقها دون فلسفة.
عقيدة، وحكم، هكذا كان موقف السلف الصالح بالنسبة لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتقبلوها على إطلاقها، سواءً كانت بالاصطلاح السابق الذكر (عقيدة)، أو كان (حكماً شرعياً)، لا يُفرقون بين هذا وبين هذا، وإنما يكون موقفهم تجاه كل حديث يبلغهم عمن يثقون بخبره أن يُسَلموا تسليماً؛ لأن الله تبارك وتعالى حينما قال في مطلع هذه الآية: "فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً" [النساء: 65] هذه الآية نص عام، اختلفنا -مثلاً- في قبول خبر الآحاد في الأحكام الشرعية، ماذا نفعل؟ نُحكم الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك.
هل أُمِرْنَا باتباع الرسول عليه الصلاة والسلام فيما يأتينا به من أخبار فيها أحكام شرعية؟
الجواب: نعم، وهذا موضع اتفاق، ولكن اختلفنا اختلافاً من نوعية أخرى، ألا وهو: هل نأخذ بحديث الآحاد في الأخبار التي ليس فيها أحكام شرعية وإنما فيها محض عقيدة؟ قيل وقيل، إذاً لمن نرجع؟ إلى الحَكَم الذي ذكره الله تعالى في قوله: "فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ..." [النساء: 65] إلى آخر الآية، فنحن حينذاك مادام أننا اختلفنا يجب أن نتحاكم إلى الله وإلى الرسول، وأن نسلم بعد ذلك إلى ما جاءنا عن الله والرسول ونسلم تسليماً، فهل تجدون في كتاب الله أو في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا التفريق الذي ابتلي به قديماً بعض الفرق الإسلامية وحديثاً بعض الشباب المسلم؟
هل تجدون هذا التفريق في كتاب الله أو في حديث رسول الله، أم تجدون هناك النصوص عامة مطلقة مثل: "وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا" [الحشر: 7] فهذا من حيث أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مصدر الخبر المصدر الأول؟
ثم هل تجدون هناك في الكتاب أو في السنة تفريقاً من حيث وصول الخبر من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يجب أن يؤخذ بالأحكام ولو كان الناقل للخبر عن الرسول عليه الصلاة والسلام فرداً، أما في العقائد -بالاصطلاح السابق- فلا يؤخذ إلا أن يكونوا جماعةً هم جماعة التواتر؟
هل تجدون شيئاً من هذا في الكتاب والسنة؟
أما نحن فلم نجد ولن نجد، ويستحيل أن نجد مثل هذا التفريق بين حديث الآحاد في العقيدة والأحكام، بحيث أنه في العقيدة لا يؤخذ به والراوي نفسه ثقة، هذا الراوي الذي إذا روى خبراً في الأحكام احتج به، وإذا روى خبراً في العقيدة ليس فيه حكم لا يحتج به، هذا التفريق قلت: لا نجده ولن نجده، ولكننا نجد العكس، وهذا أقوى لنا، نجد النصوص من الكتاب والسنة -أيضاً- أنها تأتي نصوصاً عامةً، كما جاءت فيما يتعلق بالرسول عليه الصلاة والسلام، وأنه كالمصدر الأول لا فرق؛ سواءً جاءنا عن الله بخبر فيه غيب فيجب أن نسلم له تسليماً، أو جاء بخبر فيه حكم فيجب أن نسلم تسليماً، النصوص العامة تدل على هذا وأنه لا فرق، كذلك جاءت النصوص عامة فيما يتعلق بالواسطة الذي ينقل لنا الخبر عن الرسول عليه الصلاة والسلام، لا فرق أيضاً بين أن تكون هذه الواسطة هي الصحابي أو من بعد الصحابي.
أمثلة على حجية خبر الآحاد:
مثلاً: شيء من هذه الأخبار العامة، الآية المشهورة: "فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ" [التوبة: 122] لماذا هذا النفر؟ ليتفقهوا في الدين.
فما هو التفقه في الدين؟ أيضاً يأتي هنا اصطلاح آخر نقول: لا بأس به إذا لم يتعارض أيضاً مع نصوص الشريعة، ما هو الاصطلاح؟ الاصطلاح: أن الفقه هو فهم الأحكام الشرعية.. حرام، حلال، فرض، واجب، مستحب، مندوب، مباح.. إلخ، لكن هذا بالمعنى الشرعي أوسع: "لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ" [التوبة: 122] أي: ليتعلموا الدين ويفهموه جيداً، الدين بمفهومه العام عقيدةً وأحكاماً، فهو يقول بهذه الآية: "فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ" [التوبة: 122] فرقة: جماعة أو قبيلة، طائفة: واحد فأكثر لغةً.
والله عز وجل يحض المسلمين في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرةً، ثم الأمة الإسلامية جميعاً تبعاً لهم؛ يحض طائفة منهم على أن ينفروا، وأن يخرجوا، وأن ينطلقوا، ويسافروا إلى المركز أو إلى الشط الذي فيه مَن يُعلم الناس دينهم ويفقههم فيه.
الشاهد هنا من الاستدلال بالآية بلفظة (طائفة) فهذه الطائفة تشمل الفرد وما هو أكثر من ذلك، قال في تمام الآية: "لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ" [التوبة: 122] أي: ليبلغوهم ما تلقوه من الفقه في الدين.
إذا عرفنا أن الفقه بمعناه الشرعي أوسع منه في معناه الاصطلاحي أولاً، وعرفنا أن الطائفة تعني الواحد فأكثر؛ حينئذٍ يظهر لكم أن الآية دليل على عدم ذلك التفريق الحادث المحدث؛ ذلك لأن هذه الطائفة؛ الواحد، أو الاثنان، أو الثلاثة، أو أكثر؛ واجبهم بنص هذه الآية أن يتلقى الفقه من صاحب الفقه، وهو مباشرة في هذا الحديث الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذا واجبه الأول، ثم واجبه الآخر أن يرجع إلى قومه فينذرهم ويبشرهم ويعلمهم ويفقههم.
إذاً: هل تقوم الحجة بخبر الواحد في الفقه في الدين كله بدون ذلك التفريق الحادث؟
الجواب: الآية صريحة في ذلك؛ لأنها لا تفرق، بل تطلق حكم التفقه في الدين، وذلك يشمل العقيدة والأحكام، بل نقول: يشمل العقيدة قبل الأحكام؛ لأن العقيدة أصل الأحكام كما شرحنا لكم آنفاً، سواءً على فهمنا أو على فهم غيرنا في اصطلاحهم، فإن العقيدة عندهم أهم الأحكام؛ لأن الأحكام إذا تجردت من العقيدة لم يبق لها قيمة مطلقاً.
إذاً: على اصطلاحهم تبليغ العقيدة على هذه الطائفة أوجب عليهم من أن يبلغوا الأحكام الشرعية فقط، أما نحن فلا تفريق عندنا، فعليهم أن يبلغوا كل ما تفقهوا به من الدين؛ سواء كان عقيدةً أو كان حكماً شرعياً، وهو في الوقت نفسه كما شرحنا يتضمن عقيدة.
أما في السنة فكذلك نجد الأحاديث تأتي مطلقة، مثلاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (بَلِّغُوا عني ولو آية) وهنا لا بد من لفت النظر؛ ففيها حضٌّ على نقل جملة عن الرسول عليه الصلاة والسلام سواءً قال لهم: هذه آية من القرآن أو لم يقل لهم ذلك، فتكون هذه الجملة من كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي من الناحية العملية في الشريعة الإسلامية كالقرآن لا نفرق بين الله ورسوله؛ فإذاً: هنا نص عام لا نفرق بين جملة تتعلق بالعقيدة، أو جملة تتعلق بالأحكام الشرعية.
ومن ذلك أيضاً حديث مشهور: (نضَّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها كما سمعها، فَرُبَّ حامل فقهٍ إلى غير فقيه، ورب حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه).
أيضاً هنا دعا الرسول عليه الصلاة والسلام بالمباركة والسلامة لمن يسمع من الرسول عليه الصلاة السلام مقالةً له ثم ينقلها إلى غيره، سواء كان في مرتبته في الطبقة والمعاصرة والعلم، أو كان دون ذلك في الطبقة والعلم.
فالشاهد: نصوص الكتاب والسنة كلها على هذا النمط، لا تأتي بالتفريق في الحَضَّ والفرض في طلب العلم بين أحاديث تتعلق بالعقيدة أو أحاديث تتعلق بالأحكام الشرعية.
منشأ القول برد الآحاد في العقيدة:
فمن أين جاء هذا التفريق؟ جاء من الفلسفة.. جاء من علم الكلام الذي نتج منه ذلك الاصطلاح، أنه أحاديث تؤخذ منها الأحكام ولو كانت آحاداً، لكن لا تؤخذ منها العقيدة، جاءت من فلسفة أن العقيدة يجب أن تكون يقيناً، ويقابل هذا فلسفة أخرى: أن أحاديث الآحاد لا تفيد يقيناً، هذا ليس كلام علماء المسلمين الأولين، هذا كلام بعض فلاسفة المسلمين، حتى قال بعضهم شراً من ذلك، فقالوا: إن نصوص الشريعة كتاباً وسنة ظنية لا تعطي يقيناً مطلقاً، هذا قول الفخر الرازي وغيره، وإنما الذي يعطي اليقين إنما هو علم الكلام، أي: العلم الذي جاء به الناس من اجتهاداتهم وآرائهم منه نخرج بيقين، أما القرآن الذي هو "شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ" [يونس: 57] بنص القرآن الكريم، وفيه "بَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ" [البقرة: 185] ففي دعواهم ليس هناك في القرآن حجة، وليس هناك في القرآن بينة يقينية، وإنما هي أمور ظنية.
هذا يقوله بعض الفلاسفة الإسلاميين أو علماء الكلام، يمزجون بهذا الكلام القرآن والسنة معاً، لا يفرقون بين القرآن والسنة، ولا بين السنة المتواترة أو غير المتواترة، كل ذلك لا يُعطي يقيناً عندهم، وأهون من هؤلاء شراً هم الذين خصوا هذا الكلام في حديث الآحاد، فقالوا: حديث الآحاد لا يعطي يقيناً، والعقيدة يجب أن تبنى على اليقين.
ونحن نناقش هذه الدعوى من ناحيتين أو أكثر:
الرد على من رد حديث الآحاد في العقيدة:
نقول لهم: أولاً: قولكم: إن حديث الآحاد لا يعطي يقيناً؛ هذا لا دليل عليه إلا ظنهم، ليس عندهم دليل من الكتاب والسنة إطلاقاً بأن حديث الآحاد لا يعطي اليقين، وإنما يفيد الظن، فإن من أحاديث الآحاد في اصطلاح علماء الحديث الذي يرويه الرجلان والثلاثة، تتسلسل الرواية هكذا، بمعنى: إذا فرضنا حديثاً رواه ثلاثة من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام.. أبو بكر، وعمر، وعثمان، أو غيرهم من الصحابة، ثم روى هذا الحديث عن هؤلاء الثلاثة ثلاثة من ثقات التابعين، كـسعيد بن المسيب، وعلقمة، والأسود بن يزيد، وغيرهم، ثم عن هؤلاء الثلاثة، ثلاثة من ثقات أتباع التابعين، مَن الذي يقول: إن هذا الحديث لا يفيد اليقين، وما الدليل على ذلك؟
وهو حديث آحاد، ثلاثة من الصحابة حفَّاظ لاشك عندنا في صدقهم أولاً، ولاشك عندنا في ضبطهم وحفظهم ثانياً، ثم ننتقل إلى الطبقة التي تلي هؤلاء من التابعين، ثم إلى الذين يلونهم، كلهم موصوفون بأنهم ثقات وحفاظ، من الذي يقول: إن هؤلاء إذا اتفقوا على رواية حديث بدون تمالؤٍ بينهم -أي: بدون تواطؤ- إنما مجرد تلاق، أي: أن فلاناً من الصحابة يقول: سمعت الرسول، وصحابي آخر يقول: وأنا سمعت الرسول، وصحابي آخر يقول: سمعت الرسول، ثم تابعي عن هذا وتابعي عن هذا..
وهكذا، فهذا الحديث عند علماء الاختصاص في الحديث يقولون: هذا الحديث يفيد اليقين؛ لأنه يستحيل عادةً مثل هؤلاء الثلاثة -وليس عددهم عدد التواتر- تواطؤهم عن الكذب، بل هناك حديث آحاد بالمعنى اللغوي، أي: ما رواه إلا فرد واحد، أما المثال السابق فهو حديث آحاد في الاصطلاح، وأما لغةً فقد رواه ثلاثة.
الآن نأتي إلى حديث رواه فرد واحد من الصحابة وإسناده صحيح، لكنه اقترن به قرينة، وهي أن الأمة كلها تلقت هذا الحديث بالقبول، فلم يوجد فيهم -أولاً- مَن طعن فيه، ولم يوجد فيهم -ثانياً- مَن أعرض عنه ولو برد العمل به بعلة قادحة فيه، وإنما كلهم سلموا به، والذين لم يأخذوا به قالوا: عندنا ما هو أقوى منه، ولم يقولوا: حديث ضعيف، وإنما قالوا: عندنا ما هو أقوى منه دلالة من الناحية الأصولية، فمع أن هذا الحديث لم تجمع الأمة على الأخذ به، لكن الأمة مع ذلك تلقته بالقبول، حتى الذين لم يأخذوا به قدموا عذرهم في عدم الأخذ به.
مثلاً: الأحناف لا يأخذون بحديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، لكن لا يرفضونه بل يقولون: هذا حديث آحاد، وحديث الآحاد إذا عارض ظاهر القرآن لا يؤخذ به عندهم، ما قالوا: هذا حديث غير صحيح، فإذاً: هذا حديث يقال: تلقته الأمة بالقبول، وأنكر السلف بالعمل به، هذا النوع من الحديث وهو فرد غريب يقول علماء الحديث بأنه يفيد اليقين.
إذاً: ليس هناك أدلة في الكتاب والسنة على أن الإنسان في حِل من ألا يأخذ بالحديث الصحيح؛ لا لشيء إلا لأنه آحاد، وهذا بالإضافة إلى ما سبق من الأدلة العامة، فإنه يخالف أيضاً هدي الرسول عليه الصلاة والسلام وسلف الأمة، أما هديه عليه الصلاة والسلام فنعرف يقيناً أنه كان يُرسل أفراداً إلى أشخاص من الملوك والرؤساء، أو إلى قبائل، كما فعل بالنسبة إلى علي بن أبي طالب وأبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل حينما أرسلهم إلى اليمن، وأرسل أفراداً آخرين كـدحية -مثلاً- بكتابه إلى ملك الروم، ونحو ذلك، فكل هذه أدلة عملية من الرسول عليه الصلاة والسلام يصدق هذا المفهوم الصحيح، أنه لا فرق أبداً بين حديث عقيدة أو حديث أحكام؛ لأن الراوي فرد، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أرسل أولئك الرسل، نعلم بالضرورة أنه أرسلهم إلى أقوام ليفقهوهم في الدين، ويبلغوهم أيضاً ما تعلموه من الرسول عليه الصلاة والسلام، فنحن نعلم يقيناً أن معاذ بن جبل بلغهم العقائد، بلغهم بمعنى: أوضح الأحاديث التي سمعها من الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي على القسمين السابقين: قسم منها فيها عقائد محضة، وقسم منها فيها أحكام مع عقائد.
فهل قامت الحجة بإرسال الرسول عليه الصلاة والسلام لهؤلاء الأفراد ليعلموا أولئك الأقوام دينهم؟ نحن نقول جازمين: إن الحجة قد قامت عليهم، وأنه لا يمكن أن يرسل الرسول صلى الله عليه وسلم فرداً لا يصلح لإقامة الحجة على أولئك الأقوام، الذين هم بحاجة إلى أن يقتنعوا بكلام الوسيط بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فـمعاذ وأبو موسى وغيرهم من الصحابة قد بلغوا أولئك الناس الإسلام الذي فهموه من الرسول عليه الصلاة والسلام وتلقوه عنه، وقامت الحجة بذلك؛ لأنه يستحيل أن يرسل الرسول عليه الصلاة والسلام من لا تقوم الحجة به، كما لو قيل: إن دحية لما ذهب إلى هرقل لا تقوم الحجة به؛ لأنه فرد، وخبر الفرد لا تقوم به الحجة إلا في الأحكام الشرعية، مع العلم بأن معاذاً وأمثاله إنما بلّغوا الشريعة بكاملها؛ عقيدة وأحكاماً شرعية.
لذلك بالإضافة لتلك النصوص العامة لا يجوز للمسلم أن يفرق يبن حديث وحديث، وأن يجيز لنفسه رد حديث بمجرد أن فيه أمراً غريباً غيبياً.
مثلاً: حديث عذاب القبر الوارد عن ابن عباس رضي الله عنه، أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين، فقال: (أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستنـزه من البول...) إلى آخر الحديث، الشاهد فيه: قال: (أما إنهما ليعذبان) وهم من هذه الأمة المكلفين وليسوا من الكفار، لكن ذنبهم أن أحدهما كان يسعى بالنميمة، والآخر كان لا يتحفظ من مساس البول، فكان يصيب بدنه وثوبه هذه النجاسة، فعذب على ذلك كل منهما في القبر..
هذا أمر غيبي هل يصدق بعذاب القبر أم لا؟ فلسفة سابقة تقول: لا؛ لأن هذا حديث آحاد، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لما حدث بهذا الحديث سمعه ابن عباس، ماذا كان موقفه؟ آمن به بلا شك ولا ريب، فـابن عباس حينما حدث التابعي به ماذا كان موقف التابعي تجاهه؟ هو نفس موقف ابن عباس تجاه نبيه، وهكذا تسلسل العمل بالحديث بين الرواة بدون فلسفة التفريق بين العقيدة وبين الأحكام، ولذلك نحن ندعو دائماً وأبداً إلى أن نتفهم شريعتنا على طريقة السلف الصالح، فـالسلف الصالح من جملة طريقتهم وهديهم أن يتلقوا أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن يؤمنوا بها وأن يصدقوا بها؛ سواءً كانت في الأحكام أو في العقائد.
ومَن شاء أن يوجه سؤالاً حول هذا البحث، سواء كان سؤالاً توضيحياً أو سؤالاً استشكالياً؛ لأنه عندي لا فرق بين عقيدة وأخرى، سواءً كانت مفهومة عند البعض أو مجهولة عند الآخرين، فالآخرون يجب أن يتعلموا، والذين قد علموا يجب عليهم أن يبلغوا، ونحن نعتقد أن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين كانوا يحضرون مجالسه العلمية، لم يكونوا كلهم في نسبة واحدة في الثقافة الشرعية، ونعلم أن أبا بكر وأمثاله من كبار الصحابة كانوا يسمعون أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام مراراً وتكراراً؛ لأنهم كانوا يحدثون أقواماً بما لم يسمعوا من قبل، فيكون حديث الرسول عليه الصلاة والسلام بالنسبة لبعض الناس تكراراً، وبالنسبة للآخرين ابتداءً، فيجب على الأولين أن يتحملوا هذا التكرار ثم لا يذهب ذلك عليهم سدى؛ لأن التكرار يركز بالمفاهيم في الأذهان، وأنا على يقين بأن الذين سمعوا هذا البحث مرة أو مرتين، لا يستطيعون أن يعلنوه إذا ابتلوا بأناس من علماء الكلام، من الذين تأثروا بهذه الفلسفة التي ليست من الإسلام في شيء.
فإذاً: عليهم أن يصبروا إذا ما سمعوا التكرار في مثل هذا الموضوع، وأن هذا له علاقة بالعقيدة، والعقيدة يجب التثبت فيها ومعرفة أدلتها وطريقة مجادلة المخالفين فيها أكثر من الأحكام عند أولئك الناس الذين يفرقون بينها، أما نحن فالشريعة عندنا كلها عقيدة، وإذا لم تحمل ولم تقبل على العقيدة فلا فائدة من هذه الأحكام التي خلت من العقيدة، وهذا ما لا يقوله مسلم.