المكفوفون ونور البصيرة
(خبرتي وذكرياتي)
ألقاها
الدكتور/ علي المرشد
بمبنى المكتبة المركزية الناطقة
بالرياض بتاريخ 27/10/1415هـ
قدم لها
الأستاذ/ عبدالرحمن الخلف
مدير المكتبة المركزية الناطقة
♦ الأستاذ عبدالرحمن الخلف:
يسر المكتبة المركزية الناطقة أن تستضيف رجلاً من رجالات التربية والتعليم، ووجهاً من الوجوه المعروفة للعاملين في ميدان المعوقين والمكفوفين بصفة خاصة، تدرج في ميدان التربية من مدرس إلى وكيل معهد إلى مدير معهد إلى مدير إدارة تعليم ثم مدير عام للتعليم ثم وكيل للرئيس العام لتعليم البنات لشؤون الكليات، هذا الرجل الذي سوف يتحدث إليكم هو الدكتور (علي المرشد).
ولد في مدينة (بريدة)، وفيها تلقى تعليمه الابتدائي والمتوسط والثانوي، حصل على الشهادة الابتدائية عام (1380هـ) وعلى الثانوية عام (1386هـ)، والتحق بكلية الشريعة بالرياض، وفيها تخرج عام (1389هـ)، وفي عام (1394هـ) حصل على درجة الماجستير، وكان موضوعها (الحرابة في الإسلام)، ثم الدكتوراه عام (1407هـ)، وموضوعها (الإمام أحمد وكتابه الأشربه).
أما المناصب التي شغلها، فقد عمل مدرساً في معهد النور في (بريدة)، ثم وكيلاً لهذا المعهد، ثم مديراً لمعهد النور في المدينة المنورة، ثم مديراً لإدارة التربية الفكرية في وزارة المعارف لمدة قصيرة، ثم انتقل من ميدان التربية والتعليم في وزارة المعارف إلى ميدان التربية والتعليم في الرئاسة العامة لتعليم البنات، مبتدئاً بإدارة تعليم البنات في المدينة المنورة ثم أصبح مديراً عاماً لتعليم البنات في منطقة الرياض، ثم وكيلاً للرئيس العام لتعليم البنات لشؤون الكليات[1]، والدكتور (علي المرشد) غني عن التعريف وحياته حافلة بالعطاء في خدمة دينه ووطنه في ظل حكومة خادم الحرمين الشريفين.
وسوف يتحدث إليكم عن بدايته في تعليم المكفوفين والتجارب التي ورثها من خلال شغله لهذه المناصب الغنية بالخبرة والتجربة، فباسمكم جميعاً نشكره على تلبية الدعوة، وحضوره هذا اللقاء الذي سيكون مفتوحاً بينكم وبينه بعد فراغه من حديثه.
وبقي أن أضيف شيئاً بسيطاً، وهي أنني حينما كتبت مع زملائي في التعليم الخاص للأشخاص الذين نريد منهم أن يتحدثوا إليكم، كنت متردداً في سرعة استجابة الدكتور (علي) لهذه الدعوة، لأني أعرف كثرة مشاغلة، غير أني لا أذيع سراً إذا قلت أنه أول من بادر بإجابة الدعوة، وقد قال لي من خلال الهاتف - جزاه الله خيراً - (إنها فرصه طيبة لألتقي بالزملاء في التعليم الخاص)، وهذا هو هدفنا الثاني بعد الحصول على ما لديه من معلومات قيمة في مجال تجربته وخبرته في ميدان المكفوفين.
♦ الدكتور علي المرشد:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
سعادة الدور (زيد بن عبدالله المسلط) الأمين العام للتعليم الخاص، سعادة الدكتور (صالح بن إبراهيم المهنا)، فضيلة الشيخ (عبدالرحمن بن سالم الخلف)، الأخوة الأعزاء الحضور، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ما أسعد أن يلتقي الإنسان بأخوة تجمعهم به روابط المعرفة والعمل من أجل الصالح العام، وما أشرف وظيفة العلم، فالعلماء هم ورثة الأنبياء، ونحن وإن لم نكن بهذه الصفة إلا أننا نرجو الله سبحنه وتعالى أن يجعلنا ممن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، كما نسأله سبحانه وتعالى أن يجعل طريقنا مؤدياً إلى رضاه عز وجل، وموصلاً لنا إلى الجنة، ونحن دائماً وأبداً طلاب للعلم وخداماً له، وشرف لنا جميعاً أن نكون في معية العلم والعلماء، خدمة ومحبة ومعايشة،
وكما قال الشافعي رضي الله عنه:
أُحبُّ الصالحين ولست منهم
ولكن ابتغي بهـــــــم شفاعة
فمحبة العلماء وطريق العلماء ونهج العلماء، إنما يحقق بسلوك طريقهم والعمل على منهجهم، لعل الله سبحانه وتعالى أن يكتب لنا ثواب طلبة العلم، وثواب من يريد بهذا العمل وجه الله تعالى.
بادئ ذي بدء، أشكر وزارة المعارف ممثلة في وزيرها صاحب المعالي الدكتور ( عبد العزيز بن عبد الله الخويطر)، وهو رجل العلم والمعرفة في هذه ا لبلاد التي أعزها الله بأن وصلت إلى ما وصلت إليه في ميدان العلوم والمعارف، فوزير المعارف هو وزيرنا جميعاً، كما أشكر كل المسؤولين في وزارة المعارف، وأخص بذلك سعادة الدكتور (عبد العزيز بن عبدالرحمن الثنيان) [2].
ولا شك أن الدعوة التي وجهت لي لعمل لقاء بيني وبينكم هي شرف كبير لي، وأشكر من وجه الدعوة وأدعو الله عز وجل أن نكون عند حسن الظن، فشخصي الذي تفضل الأخوة والزملاء فتكرموا مشكورين بثناء لا أعتقد أنني أصل إليه أو إلى قريب منه، حيث إن كل ما قمت به أو عملته هو أقل مما هو مطلوب مني، وواجبي في خدمة أخواني أكبر وأكثر.
أيها الأخوة الأعزاء:
لقد جاء في خاطري أن أتحدث بلقاء كما تفضل أخي الشيخ (عبدالرحمن الخلف) بلقاء مفتوح، واللقاء المفتوح هو منهج لاشك أنه يفيد ويجعل الإنسان يستفيد أيضاً، ويعلم الله عز وجل إنني أتيت إلى هذا المكان من أجل أن أستفيد أولاً، فالفائدة منكم وإليكم، وقد عنّ لي أن أسجل بعض الأشياء التي أرجو ألا تكون ثقيلة على مسامعكم، وإذا سمحتم لي فلعل قراءتها وهي مكتوبة أمامي يفيدني ويفيدكم.
كانت هذه الأفكار بعنوان : (المكفوفون ونور البصيرة) وأردفتها بكلمة أخرى (خبرتي وذكرياتي).
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فإن المكفوفين لهم دورهم البارز في خدمة المجتمع الإسلامي وإثراء المكتبة الإسلامية، والقيام بدور ريادي في مجالات العلم والقضاء والأدب والشعر والفقه والفتوى، وقدرة المكفوفين على المساهمة والمشاركة والإبداع في هذه العلوم من الأمور التي تحدثت عنها كتب السير والتاريخ والتراجم.
وقد قضيت مع إخواني المكفوفين فترة من الوقت أعتز بها، وأعتبرها من أجمل الأوقات، كانت مملوءة بالحب والتقدير المتبادل، اكتسبت خلالها من الخبرة والعمل المفيد في مجال الإدارة والتدريس والعمل الثقافي والاجتماعي والمدرسي والأنشطة الطلابية الشيء الذي لا أزال أذكر فائدته وأثره في نفسي، إنها ذكريات غرست في نفسي معنى الحياة العملية وأسلوب التعامل وقضاء أفضل الأوقات مع أخوة لهم فضلهم ، ولهم من التقدير والإعزاز في نفسي الشيء الكثير. وسأتحدث عن بعض الانطباعات التي مازالت عالقة في ذهني عن هؤلاء المكفوفين أثناء عملي معهم في آخر محاضرتي إن شاء الله.
أيها الأخوة الأعزاء:
جزء من آية كريمة نستشهد بها في هذا المجال وهي قوله تعالى: ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46]، وقد أشبعها المفسرون تحليلاً وتفسيراً، ووقفوا عندها وقفات تستحق منا التأمل فيها في هذه العجالة.
يقول الإمام (أبو عبد الله القرطبي) في (الجامع لأحكام القرآن) عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾، وفي معرض حديثه عن كفار مكة قال - رحمه الله -: ((إن الأبصار لا تعمى، أي أن أبصار العيون ثابتة لهم، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور عن إدراك الحق والاعتبار))... إلى أن قال - رحمه الله - وقال قتادة وابن جبير (نزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم - رضي الله عنه)، وقال ابن عباس ومقاتل ولما نزل {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى}[الإسراء: 72]، قال ابن أم مكتوم:
- يا رسول الله فأنا في الدنيا أعمى، أفأكون في الآخرة أعمى.
فنزلت: ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾، أي من كان في هذه أعمى بقلبه عن الإسلام فهو في الآخرة في النار.
وقال العلامة (ابن كثير) في تفسيره القيم (تفسير القرآن الكريم) عند تفسيره لهذه الآية ((ليس العمى عمى البصر وإنما العمى عمى البصيرة وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر ولا تدري ما الخبر)).
ولاشك أن البصر نعمة من النعم التي يمنحها الله تعالى لخلقه، كما أن فقدها وإن كان مصيبة لكن المسلم المؤمن بقضاء الله وقدره يعلم أن ما قدره الله عليه يجب أن يستقبل بكل إيمان ورحابة صدر، ولذا فقد أكرم الله المكفوفين بما يجبر خواطرهم ويعلي من مكانتهم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن الله عز وجل قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة، يريد عينيه)) رواه البخاري.
ولذلك كان المؤمنون قديماً وحديثاً أمام هذا القضاء الذي يقدره الله على بعضهم بالعمى أطيب قلوباً وأسلم صدوراً.
وكان للعميان مواقف جاءت بها السنة النبوية، ولا يغيب عن الذهن حديث الثلاثة، الأقرع والأبرص والأعمى وهو في صحيحي البخاري ومسلم، وهي قصة معروفة، يقول العلامة (ابن غبيرة) في كتابة (الإفصاح) بعد إيراد حديث الثلاثة: ((البلاء إلى السلامة أقرب من العافية إليها، ألا ترى كيف هلك مع السلامة اثنان الأبرص والأقرع ونجا واحد وهو الأعمى))، وقد دل الحديث على أن الصبر على البلاء قد يكون خيراً للمبتلى، فإنه اتضح بمعافاة الأقرع والأبرص أن المرض أصلح لهما، لأن العافية كانت سبباً لهلاكهما، وقد حذر هذا الحديث من كان في ضُر فسأل زواله فلم ير الإجابة، أن يتهم القدر فإن الله ينظر للعبد في الأصلح، والعبد لا يعلم العواقب)).
وكتب (الصفدي) بعد إيراد كلام (ابن غبيرة) آنف الذكر قائلاً: ((الصواب أن يسأل الله العافية من البلاء والتوفيق إلى رضاه، وأما كون الله نجّى الأعمى وأهلك الأبرص والأقرع فهذا لا يعلل، وهو من أسرار القدر، فسبحانه وتعالى الفاعل المختار، لا يعلم أسرار القضاء والقدر إلا هو:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عَظُمت
ويبتلي اللهُ بعضَ القــــوم بالنعمِ
والمكفوفون المسلمون بعد ما علموا، أن ما قدر عليهم هو الحق، خضعوا لقضاء الله وقدره، ولم ييأسوا في طلب العلم، ولذا صار منهم أعلام كبار على مر التاريخ ذكروا في كتب التراجم والسير.
وممن تطرق إليهم (ابن قتيبه) في كتابه (المعارف)، حيث ختمه بفصل عن المكفوفين، وعدّ منهم (أبا قحافة) والد (أبي بكر الصديق) - رضي الله عنه - و(أبا سفيان بن حرب) و(البراء بن عازب) و(جابر بن عبد الله) و(كعب بن مالك الأنصاري) و(حسان بن ثابت) و(عقيل ابن أبي طالب).
وعقد (ابن الجوزي) في كتابه (تلقيح مفهوم أهل الأثر) فصلاً عن المكفوفين من الأشراف والصحابة والتابعين.
ومن خيرة من كتب عن المكفوفين في عصرنا الحاضر وأشاد بفضلهم وعدد مناقبهم الشيخ (أحمد الشرباصي) في كتابه القيم (في عالم المكفوفين)، وهو دائرة معارف في هذا الموضوع.
وفي هذه المملكة نجد علماء أفاضل هم من خيرة علمائها أصيبوا بالعمى، وسأتحدث عنهم في آخر محاضرتي إن شاء الله.
والمكفوفون عموماً هم كغيرهم من فئات المجتمع، لا يختلفون من حيث الجد والاجتهاد والذكاء والعلم والمعرفة، بل إن بعضهم يتفوق في ذلك على غيره.
وقد عقد (الصفدي) في كتابه (نكت الهميان في نكت العميان) فصلاً نفسياً عن ذكائهم وطرفاً من أخبارهم، ومما أورده (الصفدي) في كتابه: ((قل أن يوجد أعمى بليداً ، ولا يُرى أعمى إلا وهو ذكي ومنهم (الترمذي) الكبير الحافظ و(الشاطبي) و(المقريّ) و(السُهيلي) شارح السيرة و(ابن سيده) اللغوي المعروف وغيرهم)) وذكر أن السبب في ذكاء العميان هو أن (ذهن الأعمى وفكره يجتمع عليه ويؤود[3] متشبعاً بما يراه)، ونحن نرى أن الإنسان إذا أراد أن يتذكر شيئاً نسيه أغمض عينيه وفكر، فيقع على ما شرد من حافظته وفي المثل (أحفظ من العميان) )).
وهناك سؤال يطرح نفسه في هذا المقام عن العمى، والإجابة عليه كما ذكر كثير من المختصين، أن العمى في اصطلاح الدارسين تلك الحالات التي تتراوح بين العمى الكامل وحالات أخرى قريبة منه لذلك أشار كثير من المختصين إلى جوانب مهمة في هذا المجال، منها علاقة المكفوف مع المجتمع.
وتحكم هذه العلاقة ثلاثة طرق متباينة وهي:
• إما أنهم عبء ومسؤولية عليه.
• أو يعتبرهم قصراً تحت الوصاية.
• أو النظر إليهم كأعضاء عاملين به.
والحقيقة أنهم اعتبروا في كثير من المجتمعات وبخاصة المتخلفة عبئاً ومسؤولية على المجتمع، لعدم وجود إمكانات الأخذ بأيديهم وتعليمهم وتأهيلهم لحياة كريمة.
وفي بعض المجتمعات يرون أن المكفوفين بمثابة قُصّر تحت الوصاية، وهذا اتجاه قاصر لعدم مقدرتهم على إكمال تعليم المكفوفين، مما يجعلهم عالة على غيرهم.
ونحن في المملكة العربية السعودية ولله الحمد قد عرفنا حق المكفوفين، فهم أعضاء عاملون في مجتمعنا، ولهم احترامهم وتقديرهم، فقد كانوا منذ صغرهم محل العناية بالدراسة وتلقي العلم، فكان منهم قبل التعليم النظامي القضاة والخطباء، ومازالوا يؤدون دورهم في الكليات والمعاهد في المجتمع بكل كفاءة وتقدير، ويوجد من القضاة والمدرسين والعلماء في الكليات والمعاهد بعض المكفوفين، ممن هم على مستوى كبير في أداء العمل المناط بهم، كما لا ننسى دور رعاية المكفوفين في المملكة عن طريق الدولة ممثلة في وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة المعارف ورئاسة تعليم البنات، وما تهيئه للمكفوف من رعاية واهتمام، سواء عن طريق الدراسة المنهجية أو التدريب الميداني، وتهيئة الكفيف ليكون عضواً عاملاً نافعاً في هذا المجتمع السعودي الكريم، وهذا بفضل الله عز وجل ثم بفضل ودعم ومساندة حكومتنا الرشيدة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك (فهد بن عبد العزيز) - حفظه الله - وسمو ولي عهده الأمين لهذه الفئة العزيزة من أبناء مجتمعنا الغالي.
هناك وقفات للتأمل فيما يتعلق بسيكولوجية الأعمى وهي تتحدث كما هو معروف عن نفسية الأعمى، ويجدر بي في هذا المقام أن أتحدث عن هذه السيكولوجية التي تحدث عنها كثير من المختصين وذكروا أنها تخضع لعدة أمور معينة، وأرى أنه من الأفضل والأولى أن نتوقف بعض الوقفات عند ما ذُكر حول هذه السيكولوجية الخاصة بالكفيف.
يقول الدكتور (مختار حمزة) في كتابه (سيكولوجية ذوي العاهات والمرضى): ((عند الاتصال بشخص أعمى يجب أن يؤخذ في الاعتبار أن هناك ظروفاً وعوامل خاصة تتأثر بعماه وتعتبر محددات رئيسية يمكن عن طريقها تفسير اتجاهاته))، وأفاض في هذا الجانب وذكر عدة أمور معينة، منها درجة النظر وأسباب العمى والسن عند حدوث العمى وكيفية حدوث العمى وحالة العين ومنظرها، وأهمية ذلك وما يحدث في نفسية الكفيف فيما يتعلق بتغير شكل العين إلى آخره.
وأقول أن ما ذكره هؤلاء هو في حد ذاته سبر ورصد لحالات متعددة مما شاهدوه من هؤلاء المكفوفين، ولكن الكفيف في المجتمع الإسلامي يختلف عن هؤلاء جميعاً، إذ أنه مؤمن يرضى بقضاء الله وقدره، ولذلك فإن هذه الحالات التي أشار إليها هؤلاء المتخصصون في سيكولوجية المعوقين إنما تقع بالجملة في مجتمعات تفتقر إلى الرضى بقضاء الله وقدره، أما في المجتمع الإسلامي فإن الأعمى لا يختلف عن المبصر في حياته العامة واستقراره في حياته ورضاه بما قدر الله عليه، ولذلك لهم أدوارهم الكبيرة التي لا تغيب عن بال أي متخصص أو باحث في مجال العلوم والمعارف.
وقد رأيت أن أتحدث عن جملة أمور أشار إليها علماء التربية والتعليم وهي في نظري مهمة وأوصي بالأخذ بها:
أولاً:
الكفيف إنسان سوي يحمل من القدرات والاستعدادات اللازمة ما يؤهله للعمل في أي مجال من مجالات العلوم الإنسانية، وهو قادر بإذن الله على المساهمة في العطاء والإنتاج والمشاركة في البناء الحضاري والتنموي في المجتمع الذي يعيش فيه إذا تم تأهيله التأهيل المناسب.
ثانياً:
وجود المكفوفين في أي مجتمع أمر طبيعي وعادي لأسباب كثيرة ومتعددة، والاهتمام بتأهيلهم يجب ألا يقل عن الاهتمام الذي يبذل لغيرهم من المبصرين، والآمال المعقودة بعد الله عز وجل على المكفوفين لا تقل أهمية على الآمال المعقودة على إخوانهم المبصرين، وقد شاهدنا مدى ما يقوم به المكفوفون من أعمال جليلة يعجز المبصرون عن القيام بها في كثير من المجالات.
ثالثاً:
يجب أن يؤخذ في الاعتبار أن كف البصر ليس عائقاً للكفيف، فالكفيف يملك كما ذكرت من القدرات وعوامل التأهيل ما يجعله مساوياً لإخوانه المبصرين، حيث إن أداة التفكير وهي العقل وبقية الحواس موجودة فيه، ومهيأة لأن ينافس الكفيف في هذه العوامل غيره من المبصرين.
رابعاً:
لهذه الأسباب فإني أرى أنه يجب أن تكون أبواب المدارس والمعاهد والجامعات مفتوحة للمكفوفين، وأن تُيسر لهم شروط القبول في كل مجال من مجالات العلم، التي لديهم الرغبة والاستعداد للدراسة فيها، ويجب عدم حصر مجالات التأهيل لهم في معاهد النور أو في المعاهد المتخصصة وأن تكون لهم الحرية في الدراسة في هذه المعاهد أو غيرها.
خامساً:
يجب إتاحة الفرصة للمكفوفين للمساهمة في أي مجال من مجالات العمل التي تتفق مع ميولهم ورغباتهم واستعداداتهم وتأهيلهم وعدم قصر نشاطهم في مجالات معينة.
سادساً:
يجب إعطاء مزيد من التشجيع والتقدير لإخواننا المكفوفين بالعمل على دعم المجالات التي تساعد على تأهيلهم وتوفير الأجهزة الخاصة بهم وأن تكون فرص العمل مهيأة ومضمونة لهم بعد التخرج والتأهيل.
سابعاً:
يجب النظر إلى الكفيف نظرة تساو وتنافس بينه وبين أخيه المبصر في المجالات التي تعود عليه بالخير، وعدم انتهاج تفضيل المبصر على الكفيف سواء كان ذلك في المعاملة العادية أو غيرها من جوانب التعامل السلوكي أو الوظيفي أو الاجتماعي.
ثامناً:
على المجتمع جماعات وأفراداً أن يعملوا على دمج الكفيف في مجالات الحياة، حسب قدراته واستعداداته، وتشجيعه على المشاركة في التنمية والحياة الفاعلة في المجتمع، والنظر إليه نظرة إنتاج وعمل وفكر وإبداع، وتهيئة الفرص اللازمة له في التأهيل العلمي والإنتاج الفكري وبلوغ مراكز الريادة والصدارة في هذا المضمار، كما كان لأسلافنا الأوائل ممن تبوءوا مكانة عالية في القيادة الفكرية والحضارية وهم من المكفوفين.
تاسعاً:
من الضروري وضع الأنظمة اللازمة التي تكفل للمكفوفين حقوقهم في التعليم، بدءاً بالحضانة ثم الروضة والإبتدائي إلى آخر مراحل التعليم العام والجامعي، ومن ثم الحصول على أعلى الدرجات العلمية في جميع الجامعات، وأن تتاح لهم فرصة القبول بالدراسة بدون عوائق.
عاشراً:
من الضروري وضع الأنظمة واللوائح التي تكفل إتاحة الفرص الوظيفية لجميع المكفوفين بدون استثناء للعمل في الأجهزة الحكومية والشركات والمؤسسات ، وأن تلزم هذه الأجهزة والشركات والمؤسسات بتوظيف المكفوفين، وفقاً لنسب معينة وتشغيلهم في هذه المؤسسات.
الحادي عشر:
الاهتمام بتوفير الرعاية الطبية الخاصة بهؤلاء المكفوفين في المستشفيات الحكومية وفي المستشفيات الخاصة برسوم مخفضة، والاهتمام بتوفير العلاج اللازم لهم وإيجاد مراكز بحوث متخصصة عن العمى وأسبابه.
الثاني عشر:
تشجيع المكفوفين للدراسة والكفاح من أجل العلم، وذلك بتوفير وسائل النقل اللازمة لهم، وتخصيص المكافآت المجزية التي تعينهم على ظروف الحياة والدراسة، سواء أكانت دراستهم في معاهد النور أو في غيرها من المدارس والمؤسسات ودور العلم الأخرى.
الثالث عشر:
وبعد هذا كله فإن المكفوفين منهم الأب والأخ والابن، وهم جزء من جسد هذه الأمة، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأمة بالتراحم والتعاطف، يقول عليه الصلاة والسلام: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمى))، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن للمؤمن بالبنيان في قوله عليه السلام :((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه))، ولذا فهم من جسم هذه الأمة ولا يختلفون عنهم في شيء، وكف البصر كما أسلفت ليس عائقاً بأي حال من الأحوال عن إدراك ما هو مطلوب للإنسان في هذه الحياة، كما أنه ليس حائلاً أو مانعاً عن إيجاد التنافس الشريف بين المكفوفين وإخوانهم المبصرين في مجالات الحياة العلمية والعملية.
الرابع عشر:
يجب أن نحمد الله عز وجل وأن نثني عليه، حيث جعلنا مسلمين ندرك ونعي دورنا في هذه الحياة، ومالنا من حقوق وواجبات تجاه بعضنا البعض، ونشعر كذلك بمسؤولياتنا الجسام تجاه مجتمعنا، وما ينبغي علينا أن نقوم به، ويجب أن نحمد الله أيضاً أن الحياة في مجتمعنا في هذه البلاد المباركة التي تحكم بشريعة الله، وتحظى بفضل الله بقيادة مخلصة مؤمنة، نجدها مستقرة وآمنة وتحترم الحقوق وتحافظ عليها، وترعى لإخواننا المكفوفين والمعوقين جميعاً حرماتهم وحقوقهم، وقد أوجدت لهم الدولة أيدها الله المزايا والفرص التعليمية والعملية التي تفوق ما هو موجود في كثير من البلاد الأخرى.
وما ذكرناه هو تقرير للواقع وتذكير بما هو موجود من معاهد ومراكز متخصصة لخدمة المكفوفين وغيرهم ممن يحتاجون لرعاية خاصة، وقد أوجدت الدولة المزايا المشار إليها، وأردفتها بأجهزة حكومية متخصصة تعمل على رعاية هؤلاء والاهتمام بشؤونهم في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ووزارة المعارف ورئاسة تعليم البنات وغيرها من المؤسسات الحكومية والجمعيات الخيرية.
فأجزل الله الخير والمثوبة لكل فاعل خير، وبارك في جهود وأعمال دولتنا الرشيدة، التي رفعت راية العلم خفاقة واهتمت بتشجيع العلم والعلماء، ولذا نالت بلادنا بفضل الله عز وجل، ثم بفضل هذه الجهود المخلصة، المكانة العالية والمنزلة الرفيعة في العلم مما لا يمكن أن يضاهيه أو يقرب منه ما هو موجود في بلاد أخرى.
أيها الأخوة الأعزاء إن الكفيف إذا كان مؤمناً بالله راضياً بما قسم له، وبما قدره الله له، فإنه بذلك يحوز على خيري الدنيا والآخرة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول في الحديث القدسي فيما رواه عن ربه: ((إذا أخذت حببتي عبدي عوضته عنهما الجنة)).
إن حياة الإيمان حياة مستقرة مهما كانت الأكدار والأحزان، وصدق الله العظيم إذ يقول سبحانه وتعالى:﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [يونس: 62]، فهنيئاً لكل مسلم ابتلي في جسده أو غيره، فيصبر محتسباً راضياً بقضاء الله وقدره، هنيئاً له الثواب والأجر عند ربه، وجعلنا الله ممن إذا أعطى شكر، وإذا أذنب استغفر وإذا ابتلي صبر، فهذه الأمور هي عنوان السعادة في الدنيا والآخرة.
إن كف البصر في هذه الحياة لا يقلل أو ينقص من صاحبه شيئاً إذا كان متسلحاً بسلاح العلم والإيمان، أذكر موهبة طالب كفيف كان من طلبة معهد النور بالمدينة المنورة، وواصل دراسته الابتدائية ثم المتوسطة والثانوية وحاز على أعلى الدرجات، ونال تقدير الدولة أعزها الله على تفوقه وابتكاراته العلمية، والتي منها دراسته واختراعه العلمي الذي تقدم به بعنوان: (توليد الكهرباء من البحار على غرار توليدها من الأنهار)، وهذا الابتكار دُرس من قبل جامعة الملك سعود واستحق عليه الطالب في ذلك الوقت تكريمه وتم منحه بعثة دراسية خارج المملكة ومكافأة مالية مجزية، وكان هذا الطالب ذكياً نبيهاً، وله مشاركاته المتعددة، ولذا فإنه لا يمكن لي أن أنسى هذا الطالب الكفيف، ولا أنسى بحثه.
وقد شاهدنا مجموعة من المكفوفين البارزين يتسلمون أعمالاً قيادية هامة في دنيا العالم، لأنهم لا ينقصهم في قدراتهم وعقولهم شيء يمنعهم من إدارة ورئاسة هذه الأعمال، وفي حياتنا المعاصرة رأينا من العلماء المبرزين من فاق أقرانه في الإدارة والإشراف والتوجيه، وتولى من الأعمال ما هو في مستوى أعمال الوزارة وأكثر، وأمثلة ذلك كثيرة جداً.
ومن أبرزهم سماحة والدنا العلامة الجليل والفقيه البارع الشيخ (محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ ) - رحمه الله - واسكنه فسيح جناته، فقد جمع سماحته - رحمه الله - من المسؤوليات الكبيرة في وقته وهو كفيف، ما يتجاوز مسؤوليات أكثر من وزارة ومصلحة حكومية في ذلك الوقت، ومن العلماء الذين فاقوا أقرانهم سماحة والدنا العلامة الفقيه الشيخ (عبد الله بن محمد بن حميد) - رحمه الله - وأسكنه فسيح جناته فقد كان عالماً نحريراً، تولى رئاسة مجلس القضاء الأعلى، إضافة إلى عمله رئيساً للحرمين الشريفين، إلى أن توفاه الله عز وجل، ومن العلماء الكبار سماحة والدنا العلامة الفقيه الشيخ (عبد العزيز بن عبد الله بن باز) أمد الله في عمره، وسماحته عمل في القضاء، وتولى بعد ذلك رئاسة الجامعة الإسلامية، وعين بأمر ملكي رئيساً لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، وبعد إنشاء وزارة الشؤون الإسلامية صدر الأمر الملكي الكريم بتعيين سماحته مفتياً عاماً، ورئيساً لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، نفع الله بعلم سماحته ومتعه بالصحة والعافية، وهناك سعادة الشيخ (عبدالله بن محمد الغانم) رئيس المكتب الإقليمي لشؤون المكفوفين بالشرق الأوسط، والذي له إسهاماته وكفاحه المعروف في هذا المجال.
وما يتميز به المكفوفون سعة الصدر، ولهم نوادر سجلتها كتب الأدب والأسمار، ومما ذكره الصفدي في كتابه (نكت الهميان في نكت العميان) مما أود أن أختم به هذا اللقاء المبارك الطرف التالية:
• قال بعضهم (لبشار بن برد) الأعمى: ما أذهب الله كريمتي مؤمن إلا عوضه الله خيراً منهما فبم عوضك الله؟
فقال (بشار): بعدم رؤية الثقلاء مثلك.
• ويقال أن رجلاً أعمى تزوج امرأة قبيحة فقالت له: رزقت أحسن النساء وأنت لا تدري.
فقال: يا حمقاء إذا كنت كذلك فأين المبصرون عنك قبلي.
• ودخل (يزيد بن منصور الحميري) على (بشار بن برد) وهو واقف بين يدي (المهدي) ينشد شعراً، فلما فرغ من إنشاده، أقبل (يزيد بن منصور) على (بشار) وقال له: ما صناعتك يا شيخ؟
فقال (بشار): أثقب اللؤلؤ.
فضحك (المهدي) وقال (لبشار): أغرب ويلك اتتندر على خالي.
فقال: ما أصنع به، يرى شيخاً أعمى قائماً ينشد الخليفة مديحاً ثم يقول ما صناعتك.
هذه هي الجوانب الإيجابية والممتعة لحياة الصالحين من المكفوفين، ويقابلها جوانب سلبية لحياة مجموعة قلة من المكفوفين الذين سخطوا على ما قدره الله عليهم، فكانت لهم شطحاتهم وزلاتهم التي أبعدتهم عن طريق الصواب وسجل لهم التاريخ، وهم بحمد الله قلة، وليس لهم وزن أو قيمة، مقارنة مع جهود وأعمال المكفوفين المبرزين من ذوي العلم والفقه والنجابة، الذين أثروا المكتبة الإسلامية بعلمهم وثقافتهم وأبحاثهم.
هذا ما تسنى بيانه من حديث عن عالم المكفوفين وتجربتي المتواضعة العملية معهم، راجياً أن أكون قد وفقت إلى إيضاح انطباعاتي ومتابعاتي لهذا الموضوع، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، والله أسأل أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،
يتبع إن شاء الله...