الباب السادس: ألمانيا
ألمانيــا من العصــور الوســطى حتى عصــر النهضــة
Germany from the Middle Ages to the Renaissance
يعود استقرار بعض أعضاء الجماعات اليهودية في ألمانيا إلى الحملات الرومانية، وكوَّنت الجماعات اليهودية الأولى جزءاً من المـدن الرومانية العسـكرية على نهري الراين والدانوب (وورمز وسبير). وكان أول وأهم هذه المعسكرات معسكر كولونيا (وهي من كلمة لاتينية تعني مستعمرة، وكلمة «كولونيالية» أي «استعمار» مشتقة من الكلمة نفسها). ثم استوطن يهود آخرون في ألمانيا أثناء حكم شارلمان والإمبراطورية الكارولنجية. ويَرد في القرن العاشر الميلادي ذكر تجمعات يهودية في مدن مثل كولون. كما كانت تُوجَد تجمعات في أوجسبرج وورمز ومينز. وقد كان أعضاء الجماعات اليهودية إبّان حكم الإمبراطورية الكارولنجية تحت حماية الإمبراطور، يتبعونه ويقدم هو لهم المواثيق والحماية والمزايا. وكانت علاقة الكنيسة بهم، وخصوصاً الأساقفة، طيبة على وجه العموم. وكان لليهود رئيسهم الديني الدنيوي الذي كان يُسمَّى «الآرش سينا جوجوس» أو رئيس المعبد، كما كان يُطلَق عليه «ابيسكوبوس جيود وروم» أو «أسقف اليهود».
وأثناء حملة الفرنجة الأولى قام الأساقفة والملوك بحماية أعضاء الجماعات اليهودية من السخط الشعبي عليهم، فأصدر هنري الرابع عدة مواثيق عام 1090 تؤكد الحقوق التي حصلوا عليها في العصر الكارولينجي بشأن حماية ممتلكاتهم وأرواحهم والتي تؤكد أيضاً حرية السفر والعبادة بالنسبة لهم. وكان أعضاء الجماعات اليهودية مُعْفَيْنَ من المكوس والضرائب التي تُفرَض على المسافرين، وكان لهم حق التقاضي فيما بينهم وحق الفصل في الأمور اليهودية المختلفة مثل الزواج والطلاق والتعليم، أي كانت لهم إدارتهم الذاتية. وسُمح لهم بالاستمرار في تجارة الرقيق وأن يقيموا في أماكن خاصة بهم كما هو الحال مع الغرباء كافة. وعادةً ما كانت هذه الأماكن في أحسن موقع بالمدن على الشارع الرئيسي أو بجوار الكوبري الذي يؤدي إلى المدينة والذي يمثل عصبها التجاري. وكان أعضاء الجماعات اليهودية يُعَدُّون عنصراً بالغ الفائدة والنفع للحكام والأمراء والأساقفة والأباطرة. ويظهر ذلك عام 1084 في واحدة من أولى الوثائق التي ضمنت لليهود حقوقهم وامتيازاتهم، وهي خطاب الأسقف الأمير حاكم سبير، الذي دعا اليهود إلى الاستيطان في مدينته كجماعة وظيفية استيطانية، حتى يمكنه أن يحوِّلها من قرية إلى مدينة وأن يخرجها من الاقتصاد الزراعي ويدخلها الاقتصاد التجاري. وأُعطي اليهود الحق في أن يتحصنوا داخل المدينة منعاً لأية هجمات قد تقع عليهم. وحينما اندلعت الاضطرابات ضد أعضاء الجماعة، إبّان حملة الفرنجة، أرسلوا إلى هنري الرابع الذي كان في زيارة إلى إيطاليا، فأصدر أمره إلى الأدواق والأساقفة في ألمانيا بحمايتهم. ومع هذا، استمرت الاضطرابات، وذبح المتظاهرون أحد عشر يهودياً في سبتمبر 1096، فتدخَّل الأسقف واتخذ إجراءات مضادة.
ويُقال إن عدد اليهود الذين ذُبحوا في ألمانيا أساساً، وكذلك في غيرها من بلاد أوربا إبّان هذه الحملة، بلغ اثنى عشر ألف يهودي. وهو عدد مُبالَغ فيه. وحينما عاد هنري الرابع من إيطاليا، سُمح لليهود الذين تنصروا عنوة بالعودة إلى دينهم، وأمر بمعاقبة أحد الأساقفة ممن صادروا ممتلكاتهم. كما أصدر قراراً عام 1103 بأن عقوبة الهجوم على أعضاء الجماعات اليهودية أو ممتلكاتهم هي الإعدام، وأن هدنة الرب التي أُعلنت في ذلك الوقت تنطبق على اليهود انطباقها على المسيحيين، وأن اليهود يتمتعون بالحماية نفسها التي يتمتع بها القساوسة. ولا يُعرَف عدد يهود ألمانيا في هذه الفترة على وجه الدقة، ولكن من المعروف أن بعض الجماعات كان يصل عددها إلى ألفين وأنهم تركزوا أساساً على الشاطئ الغربي لنهر الراين في منطقة اللورين، وفي المراكز التجارية مثل كولونيا ومينز وسبير وورمز، وفي المراكز الدينية والسياسية المسيحية مثل براغ. وكانوا يعملون أساساً بالتجارة الدولية، ولكنهم بدأوا في هذه الفترة بالعمل في الربا أيضاً. وتمكنت السلطات الحاكمة من حماية اليهود إبّان حملة الفرنجة الثانية.
وأصبحت حماية أعضاء الجماعة اليهودية جزءاً من القانون العام، فنعموا بشيء من السلام تحت حماية الإمبراطور، ومنح فريدريك الأول اليهود ميثاقاً لحماية إحدى الجماعات اليهودية عام 1157 استُخدم فيه مصطلح «أقنان بلاط» لأول مرة (وإن كان المفهوم قد ظهر قبل ذلك التاريخ). وأدَّى هذا الوضع إلى ازدياد التصاق أعضاء الجماعة اليهودية بالسلطة الحاكمة. ولكن حمايتهم بشكل كامل لم تكن أمراً ممكناً لأن العداوة ضدهم كانت مسألة متأصلة ذات طابع جماهيري عام، فاليهودي هو الممثل المباشر الواضح للسلطة، كما أن إبهام وضعه جعل منه فريسة سهلة. وهو إلى جانب ذلك يقطن بين الجماهير ويتحرك بينها (على عكس أعضاء الأرستقراطية). ومن ثم، كان اليهودي أضعف الحلقات في سلسلة القمع. وقد اشتغل أعضاء الجماعة اليهودية بالربا، وحدد مرسوم الدوق فريدريك الثاني في النمسا عام 1244 الفائدة على القروض بنحو 173.5%. وكانت القروض تُمنَح بضمان رهونات يستولى عليها المرابي عند فشل المدين في الدفع، الأمر الذي جعل الجـماهير تتهمـهم بامتصاص دم الشـعب، ومن هنا جـاءت تهمة الدم. ولم يكن حق المرابي يسقط في السلعة المرهونة لديه إن ثبت أنها مسروقة، شريطة أن يثبت أنه لم يكن يعرف أنها مسروقة، مع أن هذا مناف للقانون الألماني. ومن ثم، ارتبط أعضاء الجماعة اليهودية باللصوص والتجارة غير الشرعية.
وظهرت في هذه الفترة بيوتات المال الإيطالية والقوى التجارية المحلية التي زاحمت اليهود. فبدأ وضعهم في التدهور، وخصوصاً أن الكنيسة بدأت هي الأخرى في محاربة "المرض اليهودي"، أي الربا. وعُقد المجمع اللاتراني الرابع عام 1215، وهو المجلس الذي حرَّم الربا وفرض على اليهود ارتداء زي خاص بهم وتعليق الشارة اليهودية. ومع بداية الحملة الثالثة من حملات الفرنجة، بدأ التهييج ضد أعضاء الجماعة اليهودية. فبذل فريدريك الأول قصارى جهده لوقف الثورة الشعبية، وأعلن أن جريمة قتل اليهودي عقوبتها الإعدام، أما إلحاق الأذي به فعقوبته قطع الذراع.
وأخذ الاحتجاج الشعبي شكل تهمة الدم واتهام اليهود بتسميم الآبار. أما تهمة الدم، فهي ولا شك تعبير عن إحساس الجماهير بأن اليهود يمتصون دم ضحاياهم، أي ثروتهم. أما تسميم الآبار، فعلَّق عليها أحد المؤرخين المعاصرين بقوله: « إن السم اليهودي الحقيقي هو ثروتهم »، وهو ما يبيِّن الطابع الشعبوي لهذه الاتهامات. ولعبت الكنيسة دوراً مهماً في حماية اليهود، كما قام الإمبراطور فريدريك الثاني بالتحقيق في إحدى تهم الدم المنسوبة لأعضاء الجماعة اليهودية، وأصدر عام 1236 حكماً ببراءة المتهمين، وأُلحق بحكم البراءة قراراً يجدد الحقوق الممنوحة لليهود بمقتضى قرارات هنري الرابع. ولم يكن القرار يشير إلى يهود إمارة أو اثنتين وإنما كان يشير إلى يهود ألمانيا كافة باعتبارهم أقنان بلاط. وهذا يعني أن اليهود، وكل ما يملكون، أصبحوا من الناحية القانونية ملكاً للإمبراطور وغير خاضعين لأية سلطة أخرى داخل المجتمع. ولخَّص أحد اليهود وضع اليهود كعنصر مالي تجاري حر تابع للإمبراطور بقوله: "إن اليهود غير مرتبطين بأي مكان خاص مثل غير اليهود، وهم فقراء ولكنهم مع هذا لا يباعون كعبيد". ويظهر مدى نفع اليهود في أنهم ساهموا بما يزيد على 12% من دخل الخزانة الإمبراطورية كله عام 1238، و20% من الضرائب التي حصلت في المدن الألمانية، وذلك رغم قلة أعدادهم، إذ كانوا لا يزيدون على 1% أو أقل من مجموع السكان.
وتغيَّر الوضع بعد القرن الرابع عشر، فبعد أن كان أعضاء الجماعات اليهودية يعملون أساساً في التجارة، بدأوا يتوجهون إلى الربا بشكل أكثر وضوحاً. فبعد إصلاح كلوني الذي حرَّم على الأديرة ورجال الدين أن يشتركوا في أعمال الصيرفة والربا، اتسع نطاق اشتغال أعضاء الجماعات اليهودية بهذه الوظيفة وأصبحوا عنصراً مهماً كمرابين يتقاضون فائدة تصل أحياناً إلى 43.5 %. ويُلاحَظ أن الإمبراطور تشارلز الرابع قد نقل عام 1356 حقه في حماية اليهود إلى الأمراء المنتخبين (أي الذين لهم حق انتخاب الإمبراطـور) وأصدر مرسوماً آخر عام 1548 يمنح جميع الأمراء ومدن الراين حق حماية اليهود (أي حق امتلاكهم في واقع الأمر). وبدأ الأمراء والأساقفة يُعيِّنون اليهود للقيام بالأعمال المصرفية. وصاحب ذلك تَصاعُد الهجمات الشعبية على أعضاء الجماعات اليهودية. وقامت ثورات الفـلاحين ضـدهم (1335 ـ 1337) في عـدة مقاطــعات ألمانية. وكانت هذه إرهاصات الثورة الكبرى التي اندلعت ضدهم مع انتشـار الطـاعون أو المـوت الأسود في الفترة من 1341 إلى 1349، وهي فترة انتشر فيها أيضاً توجيه تهمتي الدم وتسميم الآبار إليهم. وقامت بعض الجماعات الألمانية بدفع تعويض للإمبراطـور نظـير السـماح لهم بالتخلص من اليهود. وبدأت في تلك المرحلة هجرة يهود ألمانيا إلى بولندا. وشهد القرن الخامس عشر استمراراً للعلاقة الوثيقة (علاقة الملكية) بين الإمبراطور والأمراء من جهة وأعضاء الجماعة اليهودية من جهة أخرى، بما يتضمنه ذلك من حق الملك في حمايتهم أو استغلالهم. ودافع الملك عن حقه هذا فأصدر مراسيم مختلفة، كما فعل الإمبراطور تشارلز الخامس (1519 - 1556) الذي زاد الضرائب المفروضة عليهم، ولكنه في الوقت نفسه سمح لهم بزيادة الفائدة التي يتقاضونها.
ألمانيـــا منــذ عصـــر النهضــة
Germany since the Renaissance
بحلول القرن السادس عشر، كانت السلطة المركزية في ألمانيا قد اختفت تقريباً، فتم عزل أعضاء الجماعات اليهودية داخل الجيتوات، وفرضـت عليهـم قوانين مهينـة وطُردوا من كثير من المدن والإمارات الألمانية. ولكن، مع هذا، لم يتم طردهم تماماً من كل ألمانيا. فكان بوسعهم الانتقال إلى إحدى الإمارات التي تحتاج إلى خدمتهم. وشهدت هذه الفترة بدايات ظهور الرأسمالية التجارية التي سبَّبت شقاء للجماهير لم يدركوا مصدره. وكان اليهودي هو الرمز الواضح مرة أخرى لهذا الشقاء. كما أن الطبقات التجارية الصاعدة من سكان المدن دخلت في صراع مع الأمراء ورجال الكنيسة. وكان اليهودي هو حلبة الصراع، فحاول كل طرف الاستفادة من اليهود باعتبارهم عنصراً تجارياً. وكانت العناصر التجارية المحلية ترى في اليهودي غريماً لها، وخصوصـاً أنـه كان أداة في يـد النبلاء. وظهر مارتن لوثر في تلك المرحلة، فطرح رؤيته الخاصة بضرورة تنصير اليهود. ومع نهاية القرن السادس عشر، لم يبق سوى بضع جماعات يهودية في فرانكفورت وورمز وفيينا وبراغ. وتركت حرب الثلاثين عاماً (1618 ـ 1648) أثرها العميق في يهود ألمانيا، فبعد انتهائها، أصبحت ألمانيا مجموعة غير متماسكة من الدويلات المستقلة تحت حكم حكام مطلقين في حاجة إلى السكان والمال، وهي دويلات (إمارات ودوقيات) ذات تَوجُّه مركنتالي ترى أن مصلحة الدولة هي المصلحة العليا التي تَجب القيم والمثل الأخرى كافة. وكان أعضاء الجماعة اليهودية عنصراً أساسياً في عملية إعادة البناء والبعث التجاري ومصدراً أساسياً للضرائب، كما أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من النظام الاقتصادي الجديد.
وشهد القرن السابع عشر كذلك استقرار يهود المارانو في هامبورج حيث أسسوا بنك هامبورج، وبدأت هجرة يهود شرق أوربا من بولندا، بعد هجمات شميلنكي، حيث استوطنت أعداد منهم في هامبورج وغيرها من المدن.
وظهرت تجمعات يهودية في داساو ومانهايم وليبزيج ودرسدن. وفي داخل هذا الإطار، ظهر يهود البلاط الذين ساعدوا الدويلات والإمارات التي كانوا يتبعونها على تنظيم أمورها المالية واستثماراتها، ورتبوا لها الاعتمادات اللازمة لمشاريعها وحروبها ولتمويل مظاهر الترف التي كانت تُشكِّل عنصراً أساسياً بالنسبة للحكام المطلقين. وكان يهود البلاط في منزلة وزير الخارجية والمالية ورئيس المخابرات. فكانوا يقومون بجمع المعلومات، كما كانوا أداة مهمة في يد الحكام المطلقين الألمان لابتزاز جماهيرهم وزيادة ريع الدولة. وكان يهودي البلاط (وهو عادةً قائد الجماعة اليهودية) يُعَدُّ عنصراً موالياً للدولة مكروهاً من جماهيرها، وهو ما جعل وضع الجماعة ككل محفوفاً بالمخاطر.
ومع بدايات القرن الثامن عشر، وظهور جهاز الدولة القوي، لم تَعُد هناك حاجة إلى يهود البلاط ولا إلى الجماعات اليهودية كجماعة وظيفية وسيطة. وبدأت محاولات ضبط اليهود وتحديثهم، فأصدرت الدويلات الألمانية المطلقة، وبروسيا، نظماً مختلفة للإشراف على اليهود لتنظيم سائر تفاصيل حياتهم ولاستغلالهم. وكانت هذه القوانين تنظم حقوقهم وامتيازاتهم كما تحدد دخولهم، ومدى أحقيتهم في الاستيطان، ومدة بقائهم، وعدد الزيجات التي يمكن أن تتم، وعدد الأطفال المصرح لهم بإنجابهم، ومسائل الوراثة وطرق إدارة الأعمال، وسلوكهم، وضرائبهم، وحتى السلع التي يحق لهم شراؤها. ولعل القوانين التي صدرت في بروسيا هي خير مثل على ذلك، إذ تم تقسيم أعضاء الجماعة حسـب مرسـوم فريدريك الثاني (الأكبر)، الصـادر عـام 1750، إلى أقسام حسب وضعهم في المجتمع. وكانت أعلى الطبقات طبقة اليهود المتميِّزين بشكل عام الذين يتمتعون بكل الحقوق التي يتمتع بها المواطنون، تليها طبقة المتمتعين بحماية عامة، وهؤلاء كانوا يتمتعون بكثير من الحقوق ولكنهم لم يكن من حقهم توريثها إلا للابن الأكبر دون بقية الأولاد، ثم طبقة اليهود المتمتعين بحماية خاصة ولا يمكنهم توريث حقوقهم لأحد. أما اليهود الذين كانوا يتمتعون بتسامح الدولة، فكان لا يُسمح لهم بالزواج وكان عليهم ترك بروسيا عند رغبتهم في الزواج.
وبدأت الدويـلات الألمانية في تلك المرحلـة محـاولة دمـج وتحديث أعضاء الجماعة اليهودية، فأصدر فريدريك الأكبر ميثاقاً يضمن لهم حق العبادة. وشجع كثير من الإمارات أعضاء الجماعات اليهودية، وخصوصاً المارانو، على الاستيطان فيها لتنشيط التجار. وصاحب ذلك استصدار قوانين تحمي حقوقهم الاقتصادية والسياسية والدينية. وتأثر وضع يهود ألمانيا بالثورة الفرنسية التي عَجَّلت بعملية إعتاقهم. وبعد سقوط نابليون، تقهقر وضعهم قليلاً. ولكنهم مُنحوا حقوقهم إبّان القرن التاسع عشر، وزاد اندماجهم بدرجة كبيرة. وظهرت بعد ذلك حركة التنوير، واليهودية الإصلاحية، والاتجاهات اليهودية الأخرى. ومع منتصف القرن، كان اليهود قد حصلوا على معظم حقوقهم. وفي الفترة من 1871 إلى 1914، كانوا قد حصلوا على حقوقهم كاملة واندمجوا في المحيط الثقافي تماماً، فتنصرت نسبة عالية من مثقفيهم، مثل هايني ووالد كارل ماركس وأولاد مندلسون وغيرهم، واختفت أعداد كبيرة منهم عن طريق الزواج المختلط.
وكان إتمام دمج يهود ألمانيا وتحديثهم على نمط يهود الغرب ممكناً. فيهود ألمانيا كانوا يعتبرون أنفسهم من يهود الغرب باعتبار أن يهود شرق أوربا هم يهود الشرق، كما أن ارتباط يهود أوربا بالثقافة الألمانية كان أمراً واضحاً. ولكن ثمة ظروفاً خاصة بهم وببنية المجتمع الألماني أدَّت في نهاية الأمر إلى تصفيتهم وتصفية يهود أوربا خارج الاتحاد السوفيتي، وهي الظروف التي أدَّت إلى الإبادة. وفي عام 1948، كان عدد أعضاء الجماعة اليهودية في ألمانيا عشرين ألفاً فقط، بلغ عام 1992 نحو 50.000 من مجموع عدد السكان البالغ 80.606.000. ويبدو أن الزيادة ناجمة عن هجرة أعداد كبيرة من اليهود مرة أخرى إلى ألمانيا، من بينهم أعداد كبيرة من الإسـرائيليين الذين تركَّزوا في مهن مشـينة مثـل الاتجار بالمخدرات والبغـاء.
ونشير هنا إلى بعض التنظيمات والمؤسسات الخاصة بأعضاء الجماعة اليهودية في ألمانيا:
أ) المجلس المركزي لليهود في ألمانيا. وهي المنظمة المركزية للجماعة اليهودية في ألمانيا والجهة التي تمثلهم لدى المؤتمر اليهودي العالمي ومقرها دوسلدورف. وتقوم برعاية المصالح السياسية للجماعة ورعاية المسائل الخاصة بالتعويضات، كما تهتم بمراقبة أي علامات قد تشير إلى احتمال بعث النازية.
ب) النداء اليهودي الموحَّد. وهي المنظمة الأساسية المسئولة عن جمع التبرعات وتدبير الموارد المالية ومقرها فرانكفورت.
جـ) المجلس المركزي لخدمات الرفاه الاجتماعي ليهود ألمانيا، ومقرها فرانكفورت. وهي المنظمة الأساسية العاملة في المجالات الخيرية ومجال الخدمة الاجتماعية.
د) مؤتمر حاخامات ألمانيا الغربية. وهو الإطار الذي يضم الحاخامات الذين يقومون بمهامهم الدينية بين أعضاء الجماعة اليهودية في تجمعاتهم المختلفة.
أوتـو فــون بســمارك (1815-1898)
Otto (Von) Bismark
رجل دولة بروسي، موحِّد ومؤسس الإمبراطورية الألمانية وأول رئيس وزراء لها. اتسم بسمارك بدهائه السياسي وبقدراته الفائقة على المناورة السياسية، سواء في الداخل أو الخارج. وكانت الدولة في نظر بسمارك هي القوة، كما أن الحرب (على حدّ قول القائد والكاتب الحربي البروسي كلاوزفتز) ما هي إلا استمرار للسياسة بأشكال أخرى. فكلما ازدادت أطماع السياسة ازداد نطاق التسلُّح، وكلما ازداد نطاق التسلح اتسعت مجالات السياسة. وكان بسمارك يسعى إلى توحيد الولايات الألمانية المختلفة في إطار دولة ألمانية حديثــة موحَّدة تضـم الشـعب الألماني. وكانت جذوره الإقطاعية، وميراثه من المبادئ المحافظة القوية، تضعه على نقيض التيارات الليبرالية، وإن تحالف معها لفترة لاستيعاب خطرها من جهة ولتحقيق أغراضه السياسية من جهة أخرى. وظل بسمارك مؤمناً بأن مستقبل الدولة الألمانية سيتشكل في ظل نظام عسكري صارم، ورفض أن يكون للبرلمان أية سلطة حقيقية على الجيش أو أن يشارك البرلمان في وضع سياسة الدولة. وخاضت بروسيا تحت قيادته عدة حروب أثبتت من خلالها إمكان تحقيق نتائج إيجابية من خلال تطبيق العلوم والأساليب البروسية في فن الحرب، كما أنذرت هذه الحرب بظهور عصر تتقرر فيه أحداث التاريخ العظمى بالقدرة النسبية للدول على استخدام مواردها الفنية والعلمية، فيكون تسيير دفة الحرب شبيهاً أكثر فأكثر بإدارة عمل صناعي واسع النطاق متشعب الفروع.
أسَّس بسمارك عام 1866، بمقتضى الدستور الجديد لذلك العام، مجلس نواب سُمي «الرايخستاج». وحقق الليبراليون الوطنيون الأغلبية في البرلمان. لكنه، ورغم معاداته لليبرالية، تَعاوَن معهم مقابل مساندتهم له ولسياسته الخارجية والداخلية، وخصوصاً سياسته ضد الكنيسة الكاثوليكية. وتزايدت مخاوف بسمارك من الكاثوليك بعد أن حصل حزب ديني كاثوليكي معاد لبسمارك على 58 مقعداً في البرلمان. وانتهج بسمارك سياسة معادية لهم فيما عرف بالكولتوركامبف Kulturkampf، أي الصراع الحضاري، حيث اشتد الصراع بين الدولة من جهة ورجال الدين الكاثوليك من جهة أخرى حول السيطرة على التعليم. وكان لهذا الصراع غرض آخر أيضاً بالنسبة لبسمارك وهو تعزيز وحدة الإمبراطورية الجديدة من خلال خلق عدو مشترك، وخصوصاً في غياب العدو الخارجي. وكان من بين الليبراليين الذين أيَّدوا بسمارك في سنواته الأولى نواب يهود أمثال إدوارد لاسكر ولودفيج بامبرجر وغيرهما. وقد كان لهذا الأخير دور مهم في السياسات المالية للحكومة الألمانية ودور مهم في تطوير البنك المركزي.
ورغم أن بسمارك كان يُتَّهم أحياناً بمعاداة اليهود، إلا أن جميع مواقفه تجاه اليهود وعلاقاته بالشخصيات اليهودية ارتبطت باعتبارات المصالح السياسية أو الاقتصادية المتبادلة. وربطته صداقة بأحد أفراد أسرة روتشيلد، كما كانت له علاقة خاصة مع المفكر الاشتراكي الألماني فرديناند لاسال نظراً لموقفهما المشترك المعارض لليبرالية. ولكن أهم علاقات بسمارك المالية كانت مع المموِّل الألماني اليهودي جيرسون بليخرودر الذي استفاد بخبراته المالية إلى درجة أنه اتُهم عام 1875، بسبب صداقته هذه، بأنه "جعل اليهود وشركاءهم الطبقة الحاكمة في ألمانيا". وقد حصل أعضاء الجماعة اليهودية في ألمانيا على كامل حقوقهم المدنية في ظل رئاسة بسمارك للحكومة. كما أيَّد بسمارك في مؤتمر برلين (1878) القرارات الرامية لحماية حقوق أعضاء الجماعات اليهودية في دول البلقان، وتم ذلك في إطار اعتبارات العلاقات والمصالح الدولية. كان بسمارك يستاء من يهود بولندا (وهو شعور شاركه فيه يهود ألمانيا تجاه يهود شرق أوربا ذوي الثقافة اليديشية المغايرة). إلا أن موقفه هذا نبع من استيائه من كل ما هو بولندي. وكان بسمارك مؤمناً بأن الطموحات القومية البولندية تشكل التهديد الأكبر لوجود بروسيا ووحدة ألمانيا، ولكن ابتداءً من عام 1878 فَقَد بسمارك تأييد الليبراليين له ومن بينهم أعضاء الجماعة اليهودية بعد أن بدأ في انتهاج سياسة محافظة، وخصوصاً في مجال التجارة الخارجية، حيث أقر عام 1879 مبدأ الحماية الجمركية على السلع الزراعية والصناعية.
وكان تدهور أسعار السلع الزراعية يهدد مكانة الطبقة الأرستقراطية الريفية التي ينتمي إليها بسمارك والتي كان يريد الحفاظ على سيادتها، كما كان يريد الحفاظ على العمال الزراعيين الذين كانوا يشكِّلون المصدر الأساسي لخيرة جنود الجيش الألماني، وذلك بالإضافة إلى أن الصناعة في ألمانيا كانت قد تطوَّرت إلى حدٍّ كبير، وبالتالي، ارتفعت الأصوات المطالبة بالحماية. واستغل بسمارك محاولة اغتيال وليام الأول عام 1878 لشن سياسة قمعية ضد الاشتراكيين، وللقيام بمحاولة لتدمير الليبراليين الوطنيين كقوة سياسية. فوضع قانوناً صارماً معادياً للاشتراكيين يضعهم تحت رحمة الشرطة، كما بدأ في التعاون مع الحزب الديني الكاثوليكي وفي رفع الإجراءات السابقة التي اتُخذت ضد الكاثوليك، وخصوصاً أن قاعدة هذا الحزب من الفلاحين الألمان كانت معادية لليبرالية ومعادية للتجارة الحرة. وتحول الاشتراكيون في ظل التوجه الجديد إلى العدو المشترك الذي وُجِّه إليه السخط الشعبي. ولم يعتمد بسمارك على القمع فقط لضرب الحزب الديموقراطي الاشتراكي، بل كان أول رجل دولة أوربي يطور نظاماً شاملاً للتأمين الاجتماعي، وبالتالي حرم الحزب الذي كان ينمو نمواً مطرداً من مقدرته على إثارة الفقراء وإذكاء سخط المحرومين. وبالإضافة إلى ذلك، كان بسمارك يعي أنه إذا أراد الإبقـاء على بنَى نظمه ومؤسـساته سلمياً، فإن عليه تخفيف معاناة الطبقات العـاملة، وقد كان ذلك يتفـق مع رؤيته الأبـوية لـدور الدولة.
صاحب توسع ألمانيا الصناعي والتجاري تَزايُد المطامع الاستعمارية، وتكوَّنت عام 1883 الشعبة الاستعمارية في الرايخستاج، ونجح بسمارك خلال عام واحد فقط في الحصول لألمانيا على مستعمرات في مناطق عديدة من أفريقيا. ولكن، مع دخول ألمانيا حلبة الاستعمار، تضاعفت فرص الاحتكاك بينها وبين إنجلترا التي كانت تمتلك العديد من المستعمرات في أنحاء العالم. وقد استغل بسمارك هذه الخلافات مع إنجلترا كقضية محورية لانتخابات عام 1884. وفي هذه الفترة، بدأت تُطرَح حلول للمســألة اليهودية داخل التشكيل الاستعماري، ومن ثم بدأ الحديث عن فلسـطين باعتبارهـا مجالاً حيوياً لأوربا يمكن إلقـاء اليهود فيه.
أقام بسمارك عام 1872 التحالف الإمبراطوري الثلاثي مع روسيا والإمبراطورية النمساوية المجرية. وفي عام 1879، أبرم معاهدة سرية مع النمسا، وانضمت إليها إيطاليا عام 1882، ثم أبرم معاهدة سرية أخرى مع روسيا عام 1887. وكانت هذه التحالفات تهدف إلى منع اندلاع حرب بين روسيا والإمبراطورية النمساوية المجرية حول دول البلقان قد تتورط فيها ألمانيا، كما كانت موجهة أيضاً إلى فرنسا التي اعتبرها بسمارك عدو ألمانيا الأخطر، نظراً لرغبتها في الانتقام لهزيمتها أمام ألمانيا. وانتهج بسمارك سياسة تهدف إلى عزل فرنسا في أوربا، واستغل المطامع الاستعمارية الأوربية كأداة لدبلوماسيته المعادية لفرنسا، فشجع فرنسا على استعمار تونس لتحتك بإيطاليا، وشجع إنجلترا على استعمار مصر كي تدخل في صراع مع فرنسا. ورغم أنه كان ملكياً في ألمانيا، إلا أنه شجع النظام الجمهوري في فرنسا حيث كان يراه أضعف جميع أشكال الحكم وأسوأها، وأنه سيخلق فجوة عقائدية بين فرنسا من جهة وبين الإمبراطوريتين الروسية والنمساوية المجرية من جهة، الأمر الذي يُضعف احتمالات تحالفهما معها ضد ألمانيا.
وقد أقيل بسمارك من منصبه عام 1890 بعد أن جاء الإمبراطور الشاب وليام الثاني الذي قال:"ليس هناك غير سيد واحد في هذه المملكة هو أنا". ولا شك في أن بسمارك كان شخصية فذة، رسَّخ،خلال ثمان وعشرين سنة من إدارته الدولة بنجاح، قواعد مهمة في السياسة والعلاقات الدولية شكلت ميراث الدول الأوربية والغربية بصفة عامة. فقد أشعل الحروب ودبر المؤامرات وأقام التحالفات وأبرم المعاهدات وآمن بالقوة باعتبارها أساساً في العلاقات الدولية وآمن بسياسة الخداع والمناورة بعيداً عن اعتبارات الحق والأخلاق، إلا أنه آمن في الوقت نفسه بفن الممكن فلم يسع إلى السيطرة على أوربا ولكن إلى تحقيق التوازن بين القوى الكبرى واللعب على التناقضات فيما بينها بمهارة فائقة بما يحقق في نهاية الأمر مصالح الإمبراطورية الألمانية.