فالإبادة ظاهرة تاريخية، يمكن تفسير كثير من جوانبها وفهمها واستيعابها:
1 ـ الإبادة النازية ليست فعلاً فريداً في الحضارة الغربية الحديثة التي قامت بإبادة سكان الأمريكتين وملايين السود من أفريقيا.
2 ـ رغم أن المتحف قد ذكر الضحايا غير اليهود، إلا أن التركيز ظل أساساً على اليهود. والسؤال الذي طرحه الكثيرون هو سؤال ذو مغزى عميق: لماذا لم يُقَم متحف عن الإبادة الأمريكية للسكان الأصليين ولتاريخ أمريكا المظلم في استغلال العبيد السود إلى درجة تكاد تكون مترادفة مع الإبادة؟ ولماذا لم يذكر المتحف عشرات القساوسة الكاثوليك والرعاة البروتستانت الذين ضحوا بحياتهم من أجل اليهود؟
3 ـ هناك الكثير من الحقائق التي قام المتحف بإخفائها، فالمتحف لم يذكر شيئاً عن تعاون كثير من قيادات الجماعات اليهودية (خصوصاً الصهاينة) مع النازيين، وتجاهل سؤالاً مهماً هو: هل كانت المقاومة اليهودية للإبادة النازية بالقوة المطلوبة؟ وهل كان بإمكان آلة الفتك الألمانية أن تستمر في الدوران لو رفض ملايين الضحايا أن يتعاونوا مع قاتليهم؟ بل ولنأخذ قضية مثل إنقاذ اليهود. فمن المعروف أن القيادات الصهيونية لم تكترث بذلك كثيراً، بل من المعروف أن القيادات الصهيونية كانت تعارض إنقاذ اليهود عن طريق فتح أبواب الهجرة أمامهم في بلاد أخرى غير فلسطين. وقد جلست مندوبة المُستوطَن الصهيوني في مؤتمر إيفيان، وكان اسمها جولدا مائير، دون أن تبدي أي اهتمام بعمليات الإنقاذ التي عُقد المؤتمر من أجلها. وبعد الحرب، حينما سُئلت عن سبب عدم اكتراثها هذا، عللته بأنها لم تكن تعرف حجم الكارثة.
4 ـ احتج الألمان على الصورة المُبتسَرة التي قُدِّمت عن ألمانيا. فتاريخ ألمانيا يمتد عدة مئات من السنين قبل الإبادة، وما يزيد على أربعين سنة بعدها، فلماذا التركيز على هذه الحقبة دون غيرها؟. ولذا، اقترحت الحكومة الألمانية أن يُلحَق جناح عن ازدهار الديموقراطية الألمانية بعد الحرب. وغني عن القول أن الطلب قد رُفض.
ثانياً: متحف الإبادة فى لوس أنجلوس:
يبدو أن بعض قطاعات الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة بدأت تدرك خطورة احتكار دور الضحية، ولذا نجد أن متحف الإبادة الذي شُيِّد في لوس أنجلوس (الذي افتُتح في فبراير 1979) يُدعَى «بيت شواح (أي بيت الإبادة) ومتحف التسامح». ولهذا الاسم المزدوج أعمق دلالة، فهو يضع الدائرة اليهودية داخل دوائر أخرى مشابهة. تتسم واجهة المتحف بأنها حديثة محايدة، فهي مصنوعة من الجرانيت والزجاج، ويمكن القول بأن معمار المتحف ككل يتسم بالحداثة (ولا يتحيَّز إلى ما بعد الحداثة). فهو بواجهته وأدواره الأربعة لا يختلف عن كثير من المباني المحيطة به.
وكما أسلفنا ينقسم المتحف إلى قسمين، ولنبدأ بالقسم المُخصَّص للتسامح، وهو يغطي تاريخ التعصب في الولايات المتحدة منذ إبادة السكان الأصليين (الهنود الحمر) حتى حادثة ضرب رودني كينج وتبرئة ضباط الشرطة الذين قاموا بضربه. وتتضح حداثة المتحف في استخدامه التكنولوجيا المتقدمة بشكل مكثف. فحينما تدخل المبنى يقابلك إنسان مكوَّن من 10 أجهزة فيديو، يخبرك أنك إنسان فوق المتوسط، لا تشعر بأي تعصُّب ضد الآخرين، ولكنه يستمر في الحديث ليُبيِّن بعض أشكال التعصب الكامنة في النفس البشرية. وحينما تتركه، ستجد أمامك بابين: واحد للمتعصبين وواحد لغير المتعصبين.وبطبيعة الحال،سيتجه الجميع وبشكل تلقائي للباب الثاني،ولكنهم سيكتشفون أنه مغلق (فهل هذا يعني أن كل البشر متعصبون؟).ثم يدلـف المتفـرجـون إلى صــالة يسمعون فيهــا همســات المتعصــبين،ويشــاهدون فيها أفلاماً عن إبادة الأرمن والكمبوديين وسكان أمريكا الأصليين في أمريكا اللاتينية.
أما القسم الثاني الخاص بالإبادة، فتوجد به صالة الشهادة التي يمكنك فيها أن تسمع التواريخ الشفهية التي يرويها الضحايا، وشهادات من لا يزال على قيد الحياة. وهناك إحياء لذكرى الأغيار الأتقياء «رايتيوس جنتايلز righteous gentiles» ممن ساعدوا أعضاء الجماعات اليهودية في محاولة الفرار من النازيين، كما توجد غرفة يمكنك أن تجد فيها تقارير متجددة عن جرائم الكره والتعصب. وفي الوقت الحالي، على سبيل المثال، يمكن أن يتابع الزوار أولاً بأول جرائم التطهير العنصري في البوسنة. وكما هو الحال في متحف إحياء ذكرى الإبادة في واشنطن، فإن كل زائر في المتحف يُعطَى بطاقة تحمل صورة أحد الضحايا يمكنه أن يتابع قصة حياته من خلال شاشات العرض المختلفة في المتحف. وتوجد في الولايات المتحدة بضعة مراكز تذكارية ومتاحف أخرى صغيرة مُخصَّصة للإبادة النازية (مركز دالاس التذكاري لدراسات الإبادة ـ مركز الإبادة النازية التذكاري في ميشحان). ويبدو أن من المقرر إقامة متحف في نيويورك باسم «ذكرى الإبادة النازية ـ متحف التراث اليهودي».
ويذهب بعض المعلقين إلى أن هذه المتاحف لن تؤدي إلى إحياء ذكرى الإبادة، وإنما سيتم من خلالها أمركة الهولوكوست، وأن الإبادة النازية ليهود أوربا ستصبح مثل ميكي ماوس وكوكاكولا وماكدونالد وألعاب الأتاري الإلكترونية المسلية. وبعد عدة سنين ستصبح الإبادة ماركة تجارية مسجلة (De Shoah Business على حد قول المجلة الألمانية دير شبيجل) لا علاقة لها بأوشفيتس، وإنما بمتحف في لوس أنجلوس أو واشنطن.
ويعتقد الكثيرون، بناء على المنطق والملاحظة المباشرة، أن إنشاء متاحف الإبادة في الولايات المتحدة هو مؤشر آخر على الهيمنة الصهيونية واليهودية. ولكن من المفارقات أننا لو تعمقنا بعض الشيء لاكتشفنا شيئاً مدهشاً ومغايراً تماماً لما نتصور، فمما لا شك فيه أن هذا المتحف تعبير عن قوة الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة. ولكن هل هذا يعني بالضرورة تعاظُم قوة إسرائيل؟ إن الربط الذي يقوم به العقل العربي بين النفوذ اليهودي والنفوذ الإسرائيلي هي عملية منطقية لا علاقة لها بالواقع المتعيِّن. فقد اعترضت الصحف الإسرائيلية على إقامة هذا المتحف وبقوة. وفي إسرائيل يوجد ضريح ياد فاشيم (النصب والاسم) الذي أُقيم لإحياء ذكرى ضحايا الإبادة. وقد أصبح هذا النصب المزار الأساسي الذي يتعيَّن على كبار الزوار زيارته حينما يذهبون إلى إسرائيل. ويرى المستوطنون الصهاينة أن إسرائيل هي المركز القومي والحضاري والمعنوي ليهود العالم الذين يُشكِّلون بالنسبة لها مجرد الهامش أو الأطراف، ومن ثم لابد أن يظل المزار الأساسي للشعب اليهودي في الوطن القومي. ولذا، فإن إقامة متحف لإحياء ذكرى الإبادة النازية على هذا المستوى في عاصمة الولايات المتحـدة، وآخر في لـوس أنجلوس، يُشكِّل تحـدياً لوجهة النظر الصهيونية، ويُشكِّل محاولة من جانب يهود الولايات المتحدة لخلق مسافة بينهم وبين المستوطَن الصهيوني ليزيدوا قوة استقلالهم. ومن ثم، فإن متاحف الإبادة قد تكون تعبيراً عن مدى قوة الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة، ولكنها لا تُشكِّل تعاظماً للنفوذ الصهيوني وإنما تحدياً له.
متاحـف أعضــاء الجماعــات اليهوديــة فـي أوربــا
Museums of the Jewish Communities in Europe
إذا حاولنا المقارنة بين المتاحف اليهودية الأمريكية والمتاحف اليهودية الأوربية، فسنجد أن مثل هذه المتاحف تعبِّر عن اتجاه داخل المجتمع الأمريكي وبين أبناء وأحفاد المهاجرين الذين جرى صهرهم وأمركتهم تماماً مع احتفاظهم بقشرة إثنية تعبِّر عن جذورهم وتراثهم الثقافي والإثني. أما في أوربا، فإن المتاحف اليهودية تهتم بالدرجة الأولى بعرض تراث الجماعات اليهودية التي عاشت في المجتمعات الأوربية، وهو تراث وتاريخ لا ينفصل عن تراث وتاريخ هذه المجتمعات، أو عن تطوراتها الاجتماعية والاقتصادية عبر الزمان.
إنجلترا:
تضم إنجلترا المتحف اليهودي في لندن، كما تم مؤخراً افتتاح متحفين جديدين:
ـ متحف لندن للحياة اليهودية الذي تأسَّس عام 1983، وهو مُخصَّص لعرض جوانب من الحياة الاجتماعية للجماعة اليهودية في لندن في بداية القرن العشرين.
ـ متحف مانشستر اليهودي، الذي افتُتح عام 1984، وهو مُخصَّص لعرض تاريخ الجماعة اليهودية المحلية.
فرنسا:
تضم فرنسا متحف الفن اليهودي في باريس، وأغلب مقتنياته تخص الشعائر الدينية، كما يضم قطعاً من الفن الحديث. كذلك تضم بعض المتاحف الفرنسية، في باريس وفي الأقاليم، أقساماً مُخصَّصة لتاريخ وتراث الجماعة اليهودية في فرنسا.
هولندا:
تضم هولندا المتحف التاريخي اليهودي الذي أُعيد افتتاحه في مقره الجديد عام 1987، ويعتبر أكبر متحف من نوعه في أوربا الغربية. والمقر الجديد للمتحف يتكون من أربعة معابد إشكنازية يرجع تاريخها إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر، وقد تم ترميمها ووصلها ببعضها البعض. وتعبِّر معروضات المتحف الفنية والتاريخية عن التراث الثقافي للجماعة اليهودية في هولندا. وتعكس المعروضات المتصلة بالديانة اليهودية الاختلاف بين المذاهب اليهودية المختلفة. كما تعكس القطع المتصلة بالشعائر الدينية الاختلافات بين السفارد والإشكناز. ويُقدِّم المتحف أيضاً معروضات تتناول موضوعات الاضطهاد وتفاعُل الجماعة مع مجتمع الأغلبية والعلاقة مع إسرائيل.
ألمانيا:
تضم مدينة كولونيا متحفاً يهودياً، كما تم تحويل كثير من المعابد اليهودية في المقاطعات الألمانية المختلفة إلى متاحف تعرض تاريخ الجماعة اليهودية وتراثها المحلي. كما تم تحويل أحد المباني اليهودية القديمة في بلدة ورمز إلى متحف يعرض تاريخ يهود ورمز منذ القرون الوسطى وحتى الوقت الحاضر. وفي عام 1988، تم افتتاح متحف يهودي جديد في فرانكفورت مقره بيت عائلة روتشيلد. ويعتبر هذا المتحف أكبر متحف من نوعه في ألمانيا. ويعرض تاريخ وثقافة الجماعة اليهودية في ألمانيا بصفة عامة وفرانكفورت بصفة خاصة ومساهمتهم في المجتمع الألماني. كما يضم متحف برلين قسماً يهودياً. وقد تم استخدام المقر السابق للجستابو لعرض مقتنيات تتصل بفترة الإبادة النازية.
النمسا:
تضم النمسا المتحف اليهودي النمساوي الذي تأسَّس عام 1982 في ايزنشتادت في منزل يهودي البلاط سامسون فرتايمر (1658 ـ 1724). وهو مُخصَّص لعرض دور ومساهمة الجماعة اليهودية في المجتمع النمساوي منذ القرون الوسطى وحتى الوقت الحاضر. ومن المقرر افتتاح متحف يهودي في فيينا.
إيطاليا:
تضم إيطاليا عدة متاحف يهودية، من أهمها:
ـ المتحف اليهودي في البندقية الذي افتُتح عام 1952. وتضم مقتنياته قطعاً من الفضة والمنسوجات المتصلة بالشعائر الدينية والتي يعود تاريخها إلى القرن السادس عشر، وكذلك عقود زواج من عدة مدن إيطالية.
ـ المتحف اليهودي في فلورنسا وتأسَّس عام 1982.
ـ كما يوجد متحف يهودي في روما افتُتح عام 1977.
اليونان:
تضم اليونان المتحف اليهودي اليوناني في أثينا الذي تأسَّس عام 1977. وتضم مقتنياته قطعاً تخص الشعائر الدينية والأزياء التقليدية للجماعة اليهودية في اليونان والتي يعود تاريخ وجودها في اليونان إلى 2400 سنة مضت.
بولندا:
تم إعادة ترميم المعبد اليهودي في كراكوف، وتحويله إلى متحف عام 1980، وهو مُخصَّص لعرض تاريخ وثقافة يهود كراكاوف. كما يضم المعهد اليهودي التاريخي متحفاً إلى جانب مكتبة وأرشيف.
المجر:
تضم المجر متحفاً يهودياً في بودابست تأسَّس عام 1895، وهو مُخصَّص لعرض تاريخ وتراث الجماعة اليهودية في المجر منذ القرن الثالـث وحتى الوقت الحـاضر. ويضم المتحف قسـماً يتناول الفترة النازية، وقسماً آخر يتناول الحياة المعاصرة لأعضاء الجماعة اليهودية في المجر. وقد تمت إعادة ترميم بعض المعابد القديمة في أنحاء المجر، وقُدِّمت بعض المعروضات من خلال هذه المعابد.
تشيكوسلوفاكيا:
تضم تشيكوسلوفاكيا المتحف اليهودي التابع للدولة الذي أسَّسه النازيون وجمعوا فيه 200 ألف قطعة فنية من تشيكوسلوفاكيا، بل ومن كل أنحاء أوربا، وتُعَدُّ أهم مجموعة تُحَف تخص الجماعات اليهودية في العالم من ناحية الكم والكيف. ولا يزال هذا المتحف من أهم المتاحف اليهودية في العالم، ولا تزال نشراته ذات مستوى علمي رفيع. وللمتحف فروع في بعض المدن التشيكية.
المتاحف في الدولـة الصهيونيـة
Museums in the Zionist State
تضم إسرائيل متاحف كثيرة لأقصى حد، فهي تضم 1500 متحف معظمها متاحف آثار. ولكن يوجد أيضاً متاحف للتاريخ والعلوم والتكنولوجيا والتاريخ الطبيعي. لكن بعض هذه المتاحف لا يعدو أن يكون غرفة صغيرة في كيبوتس عُثر فيه على بعض التماثيل أثناء زراعة الأرض. وقد كوَّن موشيه ديان مجموعة كبيرة من الآثار قام بسرقتها (وقد كان مشهوراً بذلك). وبعد موته، قامت أرملته ببيعها للدولة بثلاثة ملايين شيكل، وهو ما أثار حفيظة بعض الصحف التي وصفت هذا الفعل بأنه « موت ثان لديان »، إذ كان يتعيَّن على أرملته أن تكفِّر عن سيئاته بإهداء مجموعة الآثار للدولة. وقبل تناول موضوعنا قد يكون من المفيد أن نحاول تفسير ظاهرة كثرة عدد المتاحف في إسرائيل أكثر من أي بلد بالنسبة لعدد السكان. فكثرة المتاحف تعود إلى عدة عناصر من بينها أن التجمُّع الصهيوني تجمُّع فسيفسائي يضم جماعات بشرية غير متجانسة أتت كل واحدة منها تحمل حضارتها وتراثها (البولندي أو الروسي أو العربي أو الإثيوبي)، وقد عبَّر هذا عن نفسه في عديد من المتاحف الإثنوجرافية. كما أن كثيراً من هذه المتاحف يموِّلها أعضاء الجماعات اليهودية، إذ أنها بمثابة حلقة وصل بينهم وبين المُستوطَن الصهيوني، وهي حلقة عاطفية ليس لها أي مضمون سياسي أو ديني، ولذا، فهي لا تسبِّب حرجاً ولا إحساساً بازدواج الولاء. كما أن تمويل المتحف عمل ثقافي إنساني عام تماماً مثل زراعة الشجرة، على عكس تمويل المستوطنات في الضفة الغربية، فهذا عمل سياسي مائة في المائة. ولذا، يُحجم يهود العالم عن تمويل المستوطنات ولكنهم لا يجدون غضاضة في تمويل المتاحف. بل إن بعضاً ممن يدفعون التبرعات للمنظمة الصهيونية العالمية ينبهون على ضرورة عدم استخدامها في أوجه سياسية، كما أن المنظمة ذاتها ترفض تمويل المستوطنات في الضفة والقطاع، على الأقل في سياستها العلنية. والمفارقة أن زيادة عدد المتاحف بهذا الشكل الضخم أدَّى إلى الإسهام في أحد الجوانب السلبية في الاقتصاد الإسرائيلي، وهو تضخُّم قطاع الخدمات على حساب القطاع الإنتاجي، الأمر الذي يزيد الاقتصاد الإسرائيلي طفيلية وهامشية.
وتوجد في إسرائيل أنواع وأصناف من المتاحف. فهناك متاحف الفنون القديمة وهناك متاحف الفنون الحديثة، الإسرائيلية وغير الإسرائيلية، اليهودية وغير اليهودية، وهناك أيضاً متاحف العلوم التي توجد في أي مجتمع. كما توجد متاحف عن مدينة القدس في مراحل تطورها كافة، ومتحف عن مدينة تل أبيب، ويوجد متحف يُسمَّى «هآرتس» (متحف الأرض) يضم عرضاً للزجاج والسيراميك، وهو أيضاً متحف إثنوجرافي يهتم بتاريخ مدينة تل أبيـب وتاريخ حروف الهـجاء، وهـناك قبة سـماوية ملحقة به. وهذه المتاحف جميعاً تميزها الخصوصية الإسرائيلية التي تعبِّر عن استيطانية التجمع الصهيوني. وتظهر هذه الخصوصية، أول ما تظهر في وجود عدد من المتاحف تعبِّر عن تاريخ فلسطين الحقيقي (قبل وصول المستوطنين). فيوجد متحف روكفلر المتخصص في آثار فلسطين، ومتحف الفلكلور الفلسطيني، ومتاحف الفنون الإسلامية والمسيحية. كما أن الطبيعة العسكرية لنشأة التجمع الصهيوني تظهر في هذا العدد الهائل من المتاحف التي تغطي الجوانب العسكرية الاستيطانية. فهناك متحف للهاجاناه، وآخر للكيبوتسات، وثالث عن الجماعات السرية (العسكرية) الصهيونية قبل 1948. وهناك متحف المستوطنات الأولى، ومتحف تاريخ الاستيطان، ومتحف الفصائل اليهودية في الحرب العالمية الأولى، كما أن هناك متاحف لهرتزل وجابوتنسكي ووايزمان. وقد تم تأسيس متحف للقوات الجوية.
متحف ياد فاشيم:
من أهم المتاحف في إسرائيل، متحف ياد فاشيم الذي تحوَّل إلى ما يُشبه المزار المقدَّس ليهود العالم. وعبارة «ياد فاشيم» هي عبارة عبرية معناها «النصب والاسم» ( « إني أعطيهم في بيتي وفي أسواري نصباً واسماً، أفضل من البنين والبنات. أعطيهم اسماً أبدياً لا ينقطع » [أشعيا 56/5]). ويقع مُركَّب مباني هذا المتحف على حافة جبل تطل على قرية عين كريم. ويضم ياد فاشيم صالة الذكريات، وأرشيف الإبادة الذي يضم حوالي 50 مليون وثيقة. كما يضم المتحف ما يُسمَّى «شارع الأتقياء بين الأغيار» الذي غُرست فيه 500 شجرة تكريماً لأشخاص غير يهود ضحوا بأنفسهم أو عرَّضوا أنفسهم للخطر لحماية اليهود. أما صـالة الأسمـاء، فتضم ما يُسـمَّى «صفـحات الشـهادة» التي تضـم حوالـي ثلاثة ملايين اسم من أسماء أعضاء الجمـاعات اليهـودية التي قضـى عليها النازيون.
أما المناطق المكشوفة، فتضم تماثيل ونصباً عن الإبادة. وعلى سبيل المثال، يوجد نصب يُسمَّى «أوشفيتس» للمثّالة إلسا بولاك، وهو عبارة عن عمود يوحي بأنه مدخنة أفران الغاز كُتبت عليه أرقام ضحايا أوشفيتس (الضحايا اليهود فقط بطبيعة الحال). أما تمثال «عمود البطولة» للفنان الإسرائيلي بوكي شفارتز، فيحتفي بما يُسمَّى «المقاومة اليهودية». ومن أشهر التماثيل، تمثال نادور جيلد المسمَّى «نصـب ضحايا معسـكرات الإبادة»، وهو عبارة عن أجسـام بشـرية نحيفة، تُشبه أسلاك المعســكرات الشائكـة، ترفع يدها وعيونها نحو السمـاء. ويوجد ميدان صغـير على هيئــة شمـعدان المينوراه في نهايته تمثـال برتي فينك «نصب الجنود ومحاربي الجيتو والمقاومين» والذي يرمز إلى الستة مليون يهودي الذين أُبيدوا، وتأخذ المينوراه شكل نجمة داود. وهناك سيف صلب ضخم مغمد في النجمة. ويلي ذلك ما يُسمَّى «وادي الجماعات التي دُمِّرت» نُقشت فيه أسماء خمسة آلاف جماعة يهودية في 22 بلداً على بناية صخرية منحوتة في الجبل. وحوائط صالة الذكرى بُنيت من كتل ضخمة من البازلت المصقول وعلى أرضها الرمادية الفسـيفسـائية كُتبت أسـماء أهم 22 معسكراً للإبادة.
وهنـاك ما يُسمَّى «النـور الأزلي»، كما هـو الحال في المعبد اليهــودي، تحـت قنطـرة أو عقـد يحـوي رماد الضحــايا الذي جُمع من المعسـكرات. ويدخـل ضـوء النهـار بين الحائـط والـسقف.
متحف إسرائيل:
من أهم المتاحف على الإطلاق، وهو موجود في القدس، ويضم مجموعة من الأعمال الفنية وغير الفنية، العالمية وتلك التي صُنِّفت باعتبارها يهودية. وهذا المتحف ظاهرة إسرائيلية حقة، فالمبنى تكلف حوالي 5,730,000 دولار وصمَّمه مهندسون إسرائيليون مولودون في أوربا. وقامت الولايات المتحدة بدفع أول نصف مليون دولار أُنفقت في تأسيسه، كما قام يهود الولايات المتحدة بدفع مبالغ طائلة مساهمة فيه، وقامت الحكومة الإسرائيلية بتدبير الأرض (التي ُسلبت بطبيعة الحال من الفلسطينيين). ومن ثم، فهو في تركيبه يُشبه تركيب المستوطَن الصهيوني.
ويتكون المتحف من أربعة أقسام:
1 ـ متحف بزاليل القومي للفنون. ويضم أعمالاً فنية بعضها عالمي وبعضها صُنِّف باعتباره يهودياً.
2 ـ متحف صموئيل برونفمان الإنجيلي والأثري. ويضم آثار فلسطين عبر العصور.
3 ـ حديقة بيلي روز للفنون التي صممها الفنان الياباني ايسامو نوجوشي. وتضم بعض أعمال النحت من القرنين التاسع عشر والعشرين.
4 ـ مقام (أو مزار) الكتاب، صممه الفنانان فريدريك كسلر وأرمان بارتوسي، وتُحفَظ فيه مخطوطات البحر الميت.
ومن الواضح أن هذا المتحف يجابه مشكلة هوية حقيقية، فالمتحف الأول يضم أعمالاً فنية ليست بالضرورة يهودية، كما أن تلك الأعمال التي صُنِّفت باعتبارها يهودية هي أعمال صاغها فنانون يهود واتبعوا فيها تقاليد فنية من مختلف الحضارات. وإن كان هناك جزء يخص الفن الإسرائيلي، فإنه لابد أن يكون فناً إسرائيلياً وليس فناً يهودياً عاماً. وعلى كلٍّ، فإن مثل هذا الفن لم يظهر إلى حيز الوجود بعد. أما المتحف الثاني، الذي يضم آثار فلسطين عبر العصور، فإنه سيتعامل مع تاريخ غير يهودي، فالوجود اليهودي في فلسطين لا يتجاوز بضع مئات من السنين بينما يمتد تاريخ فلسطين آلاف السنين. فقبل وصول العبرانيين كان هناك الكنعـانيون، كما أن الفلسـتيين وصلوا مع العبرانيين، وقبل القرن الأول الميلادي كانت العناصر غير اليهودية في فلسطين تتزايد، وكان اليهود يهاجرون منها إلى كثير من مدن البحر الأبيض المتوسط.
وازداد انتشار اليهود بعد تحطيم تيتوس للهيكل، وبعد دخول فلسطين في التشكيل الحضاري البيزنطي ثم الإسلامي بدءاً من عهد عمر بن الخطاب وحتى العهد العثماني. فأي عرض لتاريخ فلسطين سيؤكد هوية فلسطين التاريخية المُركَّبة، وإذا كان لنا أن نؤكد مرحلة تاريخية على حساب أخرى، فأعتقد أن المرحلة الإسلامية هي أهمها على الإطلاق وليست المرحلة العبرانية. فالإسلام لا يزال هو الماضي الحي، أي الماضي المستمر في الحاضر، ومعظم سكان فلسطين من المسلمين، والمعجم الحضاري السائد هو المعجم الإسلامي. ولكننا لسنا في مجال الاختيار أو الدفاع عن القضية العربية، وإنما نود فقط أن نُبيِّن أحد جوانب الورطة التي يمكن أن تجابه من يحاول تشييد متحف يهودي. أما حديقة النحت، فإنها تثير قضية دينية، لأن اليهودية حرَّمت التماثيل. كما أن مشكلة الأسلوب الفني لابد أن تثار هنا وبحدة، إذ لا يوجد بالتأكيد نحت يهودي. ولعل الجناح اليهودي حقاً هو «مزار الكتاب» الذي يضم مخطوطات البحر الميت وخطابات بركوخبا.
ومع هذا، يمكن أن تثار هنا قضيتان:
1 ـ مخطوطات البحر الميت كُتبت في مرحلة لم يكن الفكر الديني اليهودي قد اكتمل فيها بعد. ولذا، فإن هناك أفكاراً عديدة رفضتها اليهودية الحاخامية فيما بعد. بل يُقال إن فرق الزهاد (الأسينيين)، الذين كتبوا مخطوطات البحر الميت، هم الذين انضموا لصفوف المسيحيين. وهناك نظرية تذهب إلى أن المسيح نفسه كان عضواً في إحدى هذه الفرق.
2ـ أما بركوخبا، فهو الذي قاد ثورة عبرانية (يهودية) ضد الرومان فشلت وأدَّت في نهاية الأمر إلى تدمير البقية الباقية من الوجود اليهودي في فلسطين. كما أن الحاخامات عارضوا ثورة بركوخبا . وهناك الآن اتجاه في إسرائيل لإعادة تفسير ثورة بركوخبا باعتبارها كانت ثورة هوجاء تدل على الصلف وعلى عدم فهم الملابسات الدولية. ويذهب يهوشوفاط هاركابي إلى أن الإسرائيليين مصابون بمرض يُسمِّيه هو «أعراض بركوخبا»، أي تبنِّي مواقف تؤدي بصاحبها إلى التهلكة.
متحف الدياسبورا (بيت هاتسوفوت):
تذهب العقيدة الصهيونية إلى أن ثمة هوية قومية يهودية واحدة عالمية تضم كلاًًّ من يهود العالم ويهود إسرائيل (فلسطين). ولذا، لابد من إقامة متحف يُجسِّد هذه الفكرة. ومن ثم قرر المؤتمر اليهودي العالمي عام 1959 إنشاء متحف عن يهود العالم يُقَام في إسرائيل، باعتبارها مركز يهود العالم، وذلك للتعبير عن فكرة الهوية العالمية هذه. وهنا تبدت المشكلة في أقصى درجات حدتها، إذ اكتشفوا أن الأعمـال الفنية الرفيعـة التي يُقال لها يهـودية موزَّعة على متاحـف العالم. ولذا، قرروا أن يكون متحفاً لا يضم أعمالاً فنية تقليدية،وإنما تكون معروضاته مُصنَّعة وتعتمد على التكنولوجيا المتقدمة،أي أنه سيكون متحفاً يتكون من تماثيل توضيحية وشرائح ملونة وبانورامات ومستنسخات، وهو حل ولا شك ذكي.وقد قُسِّم المتحف حسب الموضوع: الأسرة ـ الجماعة ـ العقيدة ـ الثقافة... وهكذا،لأنه لو قُسِّم حسب المناطق الجغرافية أو المراحل التاريخية لاختفت الهوية اليهودية الافتراضية. ولذا،فإن تقسيمها حسب الموضوع ينزع أعضاء الجماعات من سياقهم حتى يصبحوا يهوداً وحسب وبشكل عام: أعضاء في أسر يهودية أو جماعات يهودية يؤمنون بعقيدة يهودية واحدة ويعيشون من خلال ثقافة يهودية واحدة.
ورغم ذكاء الفكرة والمحاولة إلا أنهــا باءت - في تصـورنا - بالفشل، إذ أن عدم التجانس أطل برأسه. ويضم كتاب قصة الدياسبورا صوراً لمعظم معروضات المتحف مع التعليقات. وحينما يدخل الزائر المعرض، فإنه يجد عرضاً يُسمَّى «وجوه من خلال الفن»، وهو عبارة عن صور وجوه يهودية من حضارات مختلفة، كل واحد منهم تعبير عن نمط عرْقي مختلف عن الآخر (هذا على الرغم من استبعاد اليهود الصينيين والإثيوبيين والهنود)، فصورة الحاخام من أمستردام بعيونه الخضراء تُبيِّن مدى اختلافه عن صورة السيدة المغربية اليهودية.
ويظهر عدم التجانس في الجزء الخاص بصور المعابد اليهودية. فمعبد التنيوشول في براغ، أقدم معبد يهودي في أوربا، هو مَثَل طيب للمعمار القوطي في القرن الثالث عشر والرابع عشر (والفن القوطي فن مسيحي حتى النخاع)، ثم يليه معبد مدينة كايفنج الصينية الذي لا يختلف عن المعابد الكونفوشيوسية، وبجوارهما معبد ديورا إيوربوس الهيليني، ومعبد فاس الإسلامي الطراز، ومعبد كوشين الهندي المبني على الطراز الهندي، وهكذا. وعلى أية حـال، ورغـم التصنيف حسـب الموضوع، وهـو تصنيـف بنيوي يُلغي الزمان ويبعد المكان، فإن المكان والزمان يؤكدان نفسيهما.
والكتاب الذي نُشرت فيه صور المعرض يُسمَّى - كما أسلفنا - قصة الدياسبورا، والدياسبورا تفترض أن ثمة قسراً وارغاماً، ولكن مما له دلالة أن الاسم الرسمي للمتحف هو «بيت هاتسوفوت»، وكلمة «تسوفوت» كلمة عبرية تعني «الهجرة الإرادية والطواعية» أي «الدياسبورا الاختيارية»، بمعنى أن هؤلاء المشتتين لا ينوون العودة لأرض الميعاد، وأن حالة انتشارهم حالة نهائية، إذ اختاروها بمحض إرادتهم، وكل هذا يضمر رفضاً للرؤية الصهيونية التي ترى أن الدياسبورا حالة قسرية ومؤقتة، وأن اليهـودي إن تُرك وشـأنه فإنه لابد أن يعود إلى وطنه القومي. والاختلاف هنا يُبيِّن مدى عمق الصراع بين يهود العالم والصهيونية
. فالصهيونية ترى أن حياتهم خارج فلسطين ليست ذات قيمة وأنها مؤقتة، بينما هم يصرون على أن لحياتهم قيمة كبرى وأنها تستحق الحفاظ عليها، وقد تكون إسرائيل مركز حياتهم، الحقيقي أو المزعوم، لكن المركز لا يُلغي الأطراف. وعلى هذا، فهي دياسبورا مؤقتة من وجهة نظر الصهاينة، وهي تسوفوت دائم من وجهة نظر يهود العالم.