منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 الباب الخامس: بعض إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

الباب الخامس: بعض إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا Empty
مُساهمةموضوع: الباب الخامس: بعض إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا   الباب الخامس: بعض إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا Emptyالخميس 28 نوفمبر 2013, 12:16 am

الباب الخامس: بعض إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا

إشكالية انفصال القيمة الأخلاقية والغائية الإنسانية عن العلم والتكنولوجيا 
The Problematic of Value-free Science and Technology Divorced From Human Teleology 

رغم هيمنة الرؤية العلمانية الإمبريالية الشاملة على الإنسان الغربي (بجانبيها النفعي المادي الحيادي الأداتي والدارويني الصراعي الإمبريالي)، ورغم حوسلتها للعالم وتحويلها المنفعة المادية والقوة إلى قيمة مطلقة متجاوزة للخير والشر، إلا أن هناك من لا يتقبل هذه الرؤية ولا يذعن لها ويثير قضايا مهمة ذات طابع أخلاقي وإنساني من أهمها قضية تطبيق المعايير العلمية المنفصلة عن القيمة وعن الغائية الإنسانية وتطبيق المنظومة الأخلاقية الداروينية النفعية المادية على الإنسان والمجتمع الإنساني. فقد أسس النازيون منظومتهم ـ كما أسلفنا ـ استناداً إلى مفاهيم علمية أو شبه علمية مثل النظرية الداروينية (وما يترتب عليها من مفاهيم مثل التفاوت بين الأعراق والمجال الحيوي والشعب العضوي)، كما تبنوا الرؤية العلمية المتجردة تماماً من القيمة ومن الغائيات الإنسانية باعتبار أن العلم وما يتولَّد عنه من قوانين وقيم مادية هو القيمة الحاكمة الكبرى والمرجعية النهائية للإنسان. وقد حقق النازيون نجاحاً منقطع النظير في هذا المضمار فركزوا على محاولة التحكم الكامل في كل العناصر البشرية الخاضعة لهم وتطبيق الحسابات الرشيدة المحايدة التي تهدف إلى تعظيم الإنتاج والأرباح وتقليل الاستهلاك والخسائر. ومن ثم يمكن القول بأن الإبادة النازية لليهود وغيرهم هي التحقق الكامل للرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية الشاملة التي تم من خلالها حوسلة كل شيء بطريقة علمية محايدة رشيدة حديثة. 

ويتبدَّى هذا في عدة أوجه سنوجزها فيما يلي: 

1 ـ كان النظام النازي بمنزلة يوتوبيا تكنولوجية تكنوقراطية حقة تم تنظيمها تنظيماً هرمياً، ففي قاعدته تقف جماهير الشعب العضوي المتماسك تعلوه نخبة من العلماء والساسة، يدورون جميعاً في إطار واحد هو الدولة القومية التي تَجُّب مصالحها كل المصالح. وعلى قمة الهرم يقف الفوهرر: التجسد المادي والمحسوس للمطلق العلماني (الشعب العضـوي والدولة) الذي تركزت فيه جمـيع القوى الحيوية الكامنة في النسق، وهو القادر على تحريكها، وهو القادر على حسم كل الاختيارات السياسية والاجتماعية والأخلاقية، تساعده النخبة العلمية والسياسية الحاكمة. هذا الهرم الدارويني المنظم تنظيماً دقيقاً تحرك بشكل محايد ليدافع عن مصلحته، كما يراها هو، وعن منفعته، كما حددها هو، أو كما حددتها النخبة الحاكمة من علماء وساسة! وكانت حركة الهرم النازي تتسم بالحياد الصارم، والتجرد المذهل من القيم والعواطف والغائيات الإنسانية. وكانت واحدة من أهم مؤسسات الإبادة تُدعَى «مؤسسة تدعيم القومية الألمانية»، وقد أُسِّست عام 1939 لتوظيف العناصر الألمانية غير المرغوب فيها. وكان هملر (الذي أُسندت له مهمة إدارة هـذه المؤسـسة القومية) يرى أنها تجسد قيمة قومية عضوية مطلقة، فهي تخدم المصالح العليا المطلقة لألمانيا، وكان رجاله يؤدون واجبهم بأمانة وإخلاص شديدين لوطنهم. 

2 ـ أدار هملر مؤسسته بطريقة حديثة للغاية تبدت في كيفية استخدامه لليهود من خلال واحد من أهم أسس الإدارة الحديثة فيما يُسمَّى «الإدارة الذاتية»، إذ كوَّن، انطلاقاً من الرؤية الداروينية النفعية، نخبة من اليهود نواتها الأساسية أعضاء المجالس اليهودية والموظفون الملحقون بها، تدور حولها قطاعات أخرى مثل العمال اليهود في مصانع الذخيرة، وبعض الشخصيات اليهودية العامة، وتم وصفهم جميعاً بأنهم «يهود يتمتعون بالحماية من الترحيل» نظراً لنفعهم. (وهو امتداد للتقسيم الغربي القديم لليهود والذي ظل سائداً منذ العصور الوسطى حتى أوائل القرن التاسع عشر وإن كان قد اكتسب عمقاً خاصاً في القرن الثامن عشر وعصر الاستنارة وظهور مبدأ المنفعة). وقد أصبح هؤلاء أداة ذات كفاءة عالية في يد الإدارة النازية وتعاونوا معها تماماً. 

3 ـ وكانت عمليات السخرة والإبادة حديثة رشيدة بمعنى الكلمة يتم إنجازها من خلال إجراءات محايدة. فعلى سبيل المثال، استُخدم خط التجميع (بالإنجليزية: أسمبلي لاين assembley line) في عملية فرز المساجين (والمعروف أن خط التجميع استُخدم في الأصل في المذبح [السلخانة] في شيكاغو، حيث رأى أحد مؤسسي علم الإدارة الحديثة أنه يمكن توفير الوقت والجهد بأن تُعلَّق جثث الحيوانات الواحدة تلو الأخرى على سير متحرك أمام الجزارين، لكي يقومون بتنظيفها وإعدادها). وقد طُبِّق نفس الأسلوب على المساجين، فكانوا يقفون صفاً واحداً ويُعطَى كل واحد منهم رقم، ثم يتم فرزهم، وهي طريقة أكثر كفاءة من التصنيف على أساس الأسماء. والملاحَظ أن عملية التوحيد والتنميط، مثلها مثل المركزية، تُعدُّ خطوة أساسية في عملية الترشيد ويتطلبها النموذج الآلي المادي، إذ لا تمكن التعامل مع كل المعطيات بكفـاءة عاليـة إن كانت غير متجانسـة. فإن اختلفت العنـاصر أو الوحدات، الواحدة عن الأخرى، أدَّى هذا إلى بطء دولاب العمل. والنموذج الآلي المادي الهندسي يفترض تَشابُه جميع العناصر حتى يمكن معالجتها مادياً وآلياً وهندسياً. وقد طبَّق أيخمان هذه الآلية على نطاق واسع، خصوصاً في حالة ترحيل يهود المجر. ويُقال إنه لم يكن من الممكن إنجاز مهمة الترحيل هذه إلا من خلال خط التجميع. 

4 ـ كانت آليات السخرة والإبادة كلها تتسم بتعظيم الإنتاج والمنفعة. ومن أطرف الآليات وأجداها اقتصادياً وأقلها إيلاماً وأكثرها شيوعاً إرسال اليهود إلى معسكرات العمل بالسخرة لتزويد الشركات الألمانية بالعمالة الرخيصة، وهو ما أفاد الاقتصاد الوطني الألماني فحقق تقدماً هائلاً لا يمكن للمراقب الموضوعي المحايد المتجرد من كل التحيزات الغائية والأخلاقية إلا أن يقر به. فكان يتم فرز المساجين بعناية شديدة، حيث يُوجَّه القادرون على العـمل إلى أعمال السخرة، ومن ثم لا يُبدَّد شيء. وكان المعتقلون يعملون لساعات طويلة، ويعيشون دون حد الكفـاف الأمر الذي جعل من الممكن تحقـيق أرباح هـائلة وإنتاجية منقطعـة النظير. 

5 ـ يبدو أن النازيين استفادوا بواحدة من أهم التجارب الحضارية الغربية، وهي التجربة الإمبريالية، إذ أُرسل اليهود أحياناً إلى جيتوات، أسسها النازيون خصيصاً، وكـانت تأخـذ شكـل مناطـق "قومية" مستقلة لها مجالسها التي تحكمها ونظامها المصرفي المستقل وعملتها الخاصة ونظامها التعليمي الخاص، أي أن كلاً منها كانت جيتو/دولة أو دولة/جيتو تدخل في علاقة تبادل كولونيالية مع الدولة النازية. فكانت الجيتوات تزود الدولة النازية بالعمالة والخـدمات وبعض السلع نظير أن تزودها الدولة النازية بالغذاء والملابس. ولكن علاقة التبادل كانت غير متكافئة لصالح الدولة النازية بحيث تكون الخدمات والعمالة الخارجة من الجيتو أكبر من قيمة ما يحصل عليه سكان الجيتو من المواد الغذائية التي كانت دائماً أقل من أن تفي باحتياجات العاملين اليهود، أي أن العلاقة كانت تؤدي إلى انتقال فائض القيمة إلى النازيين وإلى إبادة العاملين واستهلاكهم كأداة إنتاج سريعة. ولذا يمكن القول بأن العلاقة بين الجيتو والدولة النازية كانت علاقة كولونيالية لا تختلف كثيراً عن علاقة إنجلترا بمستعمراتها أو علاقة الولايات المتحدة ببعض الدول العربية وغير العربية التي تسيطر عليها.

6 ـ لم يتخل النازيون قط عن حداثتهم وحيادهم، فكان يتم تقرير من يجب إبادته، ومن يجب الإبقاء عليه وتسخيره بعد دراسة عملية موضوعية، متمعنة ودقيقة، تتفق مع القواعد الصارمة للترشيد المادي. فقد قُسِّم أعضاء الجماعات اليهودية إلى يهود نافعين ومن ثم لا يمكن نقلهم، ويهود غير نافعين ومن ثم يمكن نقلهم والتخلص منهم. ولم تكن ظروف الحرب تعوق الألمان عن التحلي بالموضوعية الكاملة. فعلى سبيل المثال، حينما وصلت القوات الألمانية إلى شبه جزيرة القرم ووجدت فيها بعض اليهود القرّائين، بيَّن لهم هؤلاء أنهم ليسوا يهوداً بالمعنى العام والسائد، وأنهم لا علاقة لهم باليهود من أتباع اليهودية الحاخامية ولا يتسمون بما يتسم به اليهود عموماً من طفيلية (كما تزعم أدبيات العداء لليهود في العالم الغربي). وأرجأ النازيون تنفيذ عملية الإبادة والتهجير، وأرسلوا بأحد الضباط إلى برلين ليدرس القضية بشكل موضوعي رغم ظروف الحرب. وبالفعل توصَّل هذا الضابط/الباحث إلى أن القرّائين لا يتسمون بالسيكولوجية أو الطبيعة اليهودية، وأخذ النازيون بتقريره، ولذا لم يُطبَّق على اليهود القرّائين قرار الإبادة. بل قرر النازيون، انطلاقاً من الرؤية النفعية البرجماتية المرنة، تجنيـد بعض العناصر القادرة من بين اليهـود القرّائين في القوات النازية. 

وانطلاقاً من الرؤية النفعية المرنة نفسها طوَّر النازيون مقياساً محدداً لتعريف من هو الآري، ولكنه كان مقياساً مرناً منفتحاً، ولذا كان الشخص السلافي، الذي يتسم بقدر كاف من الصفات العرْقية البيولوجية الألمانية (من بينها الطول ولون العيون)، يُعاد تصنيفه "آرياً" ثم يُلحق ببرنامج خاص للأرينة (أي التحويل للآرية) ليتعلم الألمانية والسلوك الألماني الأصيل. وكانت هناك مؤسسة خاصة تُسمَّى Ru SHA المكتب الرئيسي للعرْق والتوطين، كانت مهمتها هي تحديد الصفات الآرية وإمكانية الألمنة. (وانطلاقـاً من الرؤية البرجماتية نفسـها صُنِّف اليابانيون، حلفاء الألمان، «آريون شرفيون» رغم انتمائهم للجنس الأصفر!). وفي مؤتمر فانسي (الذي عُقد في 20 يناير 1942) أبدى المجتمعون اهتماماً شديداً بتصنيف الضحايا تصنيفاً دقيقاً إذ قُسِّموا إلى أربعة أقسام: فكان القسم الأول يضم من ستتم إبادته على الفور، أما القسم الثاني فكان يضم من ستتم إبادته (إنهاكه) من خلال الجوع والعمل بالسخرة. ويضم القسمان الثالث والرابع من يُعقم ومن يمكن أن يؤلمن (على التوالي). وقد قام النازيون بالتمييز بين الإبادة من خلال الجوع والإبادة من خلال العمل، ففي عام 1942 وجد الجيش الألماني أن المنهج الثاني من الإبادة أكثر رشداً من الأول فقام بتبنيه. 

7 ـ كان النازيون حريصين كل الحرص على استخدام مصطلح علمي محايد لا يحمل أية دلالات عاطفية غير علمية، فإحدى مؤسسات الإبادة كانت تحمل اسم تي فور T4، وهو اسم يصلح لأية شركة تجارية أو سياحية أو حتى أي دواء مقوٍ، وهو منسوب إلى الشارع الذي تقع فيه المؤسسة وإلى رقم المبنى (تيرجارتن شتراسه رقم 4 Tiergarten Strasse، أي 4 شارع حديقة الحيوان). ومن أسماء المؤسسات الأخرى «جمعية نقل المرضى» أو «المؤسسة الخيرية للعناية المؤسسية». 

وكان يُشار إلى عملية الإبادة بنفس المصطلح، فيتم أولاً «الإخلاء»، يليه «النقل» (الترانسفير) ثم «إعادة التوطين»، وأخيراً «الحل النهائي». (ويستخدم الصهاينة نفس الخطاب، فهم يستخدمون كلمة مثل «ترانسفير» للإبعاد. وحينما فر الفلسطينيون من قراهم عام 1948 خوفاً من الإرهاب الصهيوني، وصف وايزمان هذا الفرار بأنه عملية «تنظيف»). وتحييد المصطلح مسألة أساسية في التفكير النازي، فعملية تسييس العمال وترشيد حياتهم، أي السيطرة عليهم وعلى حياتهم الخاصة أُطلق عليها اسم «القوة من خلال المرح»، وكان مكتوباً على معسكر أوشفيتس «العمل سيحقق لك الحرية». وكما أسلفنا، فقد جرى الحديث عن إبادة المعوقين وغيرهم باعتبارها نوعاً من «الصحة العرْقية» ومن «علاج الأمراض الوراثية الخطيرة»، وكانت إبادة المجرمين والمتخلفين تُوصَف بأنها «تجنب العدوى والقضاء على الجراثيم»، وأفران الغاز هي "أدشاش"، والعملية كلها هي عملية "تطهير" لا أكثر ولا أقل. ويُلاحَظ أن كل المصطلحات لا تذكر أية إبادة (بالمعنى العام أو الخاص الذي نطرحه)، ولـذا فهـي تجعل عملية إبادة البشر تبدو وكأنها مسألة مجردة وبعيدة، ومن ثم مقبولة تماماً. 

8 - كانت عملية تحييد المصطلح بداية عملية تحييد كامل للإدراك، فالمصطلح المحايد للغاية يقترب من المصطلح العلمي الدقيق المنفصل عن القيمة، إذ لا توجد فيه عواطف حُب أو كُره، وهو يحاول أن يصف الظاهرة من الخارج باعتبارها مجرد موضوع، دون أن يعطيها أي معنى إنساني داخلي أو أية قيمة خاصة، بحيث ينظر الموظف النازي أو الألماني إلى الضحية وكأنه ينظر إلى موضوع وحسب؛ حركة مادية خارجية ومادة استعمالية خام خاضعة للإجراءات. وقد كان المشرفين على عمليات الإبادة المختلفة يتم تدريبهم على التحلي بالبرود والتجرد للحفاظ على الحياد وكفاءة الأداء. وقد حذَّرت القيادة النازية من استخدام العنف بلا مبرر، فقد كانت تدافع عما سماه أحد المؤرخين «الإرهاب الرشيد» (أدان بن جوريون "تعذيب العرب بلا مبرر"أ ثناء حرب 1948، وهو ما يعني أن التعذيب الرشيد مسموح به). وفي إحدى خطبه بيَّن هتلر أن " الإبادة الشاملة لابد أن تُنفَّذ ببرود وبطريقة نظيفة… وأن تصفية العناصر المطلوب تصفيتها لابد أن يتم بطريقة محايدة دون أي نزعات سادية (فمثل هذه النزعات تدل في واقع الأمر على العنف الإنساني الذي يتنافى مع المثل الأعلى النازي). ولذا كان على رؤساء معسكرات الاعتقال أن يوقِّعوا إقراراً كل ثلاثة شهور بأنهم لم يسيئوا معاملة المساجين". وفي خريف عام 1942 أعلن هملر أن إطلاق النار على اليهود لأسباب شخصية (أو صادية أو جنسية) يعاقب عليها القانون بالإعدام. وكان الجنود الألمان ممنوعين من إساءة معاملة الضحايا حتى وهم في طريقهم إلى أفران الغاز، لأن هذا يعني شكلاً من أشـكال الانفعـال والانغـماس العـاطفي الذي يتنافى مع الحــياد العلمي، والتجرد من العواطف والتحيزات والقيم أمر أساسي ومطلوب. 

وعند اكتشاف أي انحراف عن الخط المحايد، كانت القيادة النازية تعاقب المنحرفين. وقد أصدر هملر توجيهاً لمن يعملون معه بالتدخل الفوري إذا ما تجاوز أحد قادة معسكرات الاعتقال حدوده. وقد وُجِّه اللوم إلى أحد الضباط لأنه كان يحيط أسر الضحايا علماً بإعدام أقاربهم على كارت بوستال مفتوح بدلاً من ظرف مغلق! ويبدو أن الدكتور راشر، العالم النازي، تجاوز هو الآخر الخطوط المحايدة (!) حتى أنه أغضـب همـلر الذي أمر بإعدامـه هو وزوجته قبل نهاية الحرب بقليل. كما أُعدم قائد معسكر بوخنوالد وزوجته (عاهرة بوخنوالد) التي كانت مغرمة بصنع الشمعدانات ومنافض السجائر من أشلاء البشر، الأمر الذي يتجاوز حدود المعقولية والحياد والحوسلة. وقد أوضح المواطن النازي جوزيف كرامر أنه سمَّم ثمانين امرأة بالغاز أثناء خدمته في أوشفيتس. وحينما سُئل عن مشاعره، صـرح ببرود أنه لم تكن لديه أيـة مشـاعر على الإطلاق، وقال للقضـاة: " لقد تلقيت أمراً بقتل ثمانين من النزلاء بالطريقة التي قلتها لكم. وبالمناسبة هذا هو الأسلوب الذي تدربت عليه "، فهو يرى نفسه باعتباره «موظفاً فنياً» وحسب، ملتزماً بالترشيد الإجرائي ولا يصدع مخه بالقيم الأخلاقية أو بالمطلقات (فهذه مجرد ميتافيزيقا!). 

وحينما صدر قانون التعقيم والذي شمل الحالات المتطرفة لإدمان الكحول، حاول البعض استصدار استثناء للمحاربين القدامى ممن أدمنوا الكحول نتيجة إصابات في المخ لحقت بهم أثناء الخدمة العسكرية في الحرب العالمية الأولى. ولكن الحياد العلمي لا يعرف أي استثناءات ولذا رُفض الطلب، « لأنه لو أُعفي هؤلاء لتم إعفاء المحاربين القدامي الذين أصيبوا في شجار في الشارع، ثم المصابين نتيجة العمل في المصانع »، الأمر الذي يتناقض مع النموذج العقلاني المادي والنمطية التي يتطلبها الموقف العلمي الصارم.

9 ـ تبدَّى الموقف الحيادي الدارويني في موقف النازيين من العلم، وزعمهم انفصاله عن القيمة وعن الغائية الإنسانية، في واحد من أهم المفاهيم الطبية (العلمية المحايدة) في القرن التاسع عشر، وهو مفهوم «الصحة العرْقية»، الذي ينطلق من ضرورة الحفاظ على وحدة الشعب العضوي وعلى بقائه (فهما سر تفوقه ورقيه) عن طريق التخلص من العناصر الضارة أو غير النافعة (التي تُعدُّ تعبيراً عن انهيار العرْق وانحطاطه)؛ وثمة كتابات عديدة بجميع اللغات الأوربية في هذا الموضوع. ومن أهم المفاهيم المرتبطة بالصحة العرْقية مفهوم اليوثينيجيا euthenesia أو ما يُسمَّى «القتل الرحيم» (وإن كان من الأفضل تسميته «القتل العلمي» أو «القتل المحايد» أو «القتل الأداتي» أو «القتل الموضوعي»)، أي التخلص من المعوقين وغيرهم (مثل المرضى بأمراض مزمنة) عن طريق التصفية الجسدية. وقد يبدو هذا المفهوم لنا مخيفاً، ولكن في إطار الرؤية المادية الشاملة المحضة، وفي داخل إطار دارويني نيتشوي، يصبح الأمر منطقياً ومتسـقاً مع نفسـه (ولذا، نجد كاتباً مثل برنارد شو أو هـ. جـ. ويلز يدافع عن مثل هذا المفهوم). 

وقد أصدرت النخبة النازية عدة قوانين لضمان الصحة العرْقية، فوضعوا البشر تحت تصنيفات مختلفة: 

أ ) المستهلكون الذين لا نفع اقتصادي لهم: مثل المعتوهين والمتخلفين عقلياً والمصابين بالشيزوفرنيا (انفصام الشخصية) والأطفال المعوقين والأفراد المتقدمين في السن والمصابين بالسل، والمرضى الميئوس من شفائهم. بل كان يُضَم لهؤلاء الجنود الألمان الذين أصيبوا أثناء العمليات العسكرية، فعلاجهم كان يُشكِّل عبئاً على ميزانية الدولة. 
ب) المنحلون: وهم الشيوعيون والشواذ جنسياً وعدد كبير من أعداء المجتمع الذين يتسمون بالسلوك غير الاجتماعي (مدمنو الكحول والعاهرات والمجرمون ومدمنو المخدرات ومن لا مأوى لهم). 
جـ) أعضاء الأجناس الدنيا:مثل السلاف والغجر واليهود والأقزام،فهم غرباء داخل الفولك الألماني ولا يوجد مبرر قوي لوجودهم إلا باعتبارهـم مادة خاماً تُوظَّف لصالح الجنس الآري الأرقى،خاصةً أن بعضهم،مثل البولنديين،يشغلون المجال الحيوي لألمانيا. 

وفي 14 يوليه 1933 (في اليوم التالي لتوقيع المعاهدة مع الفاتيكان)، أصدر النازيون قانوناً يُسمَّى «قانون التعقيم» لمنع بعض القطاعات البشرية (المعوقين ـ المرضى النفسيين ـ المرضى بالصرع ـ العمى الوراثي ـ الصمم الوراثي ـ التشوه الخلقي ـ الإدمان المتطرف للكحول) من التكاثر. وبالفعل، تم تعقيم أربعمائة ألف مواطن ألماني. وفي عام 1935، صدر قانون بمنع العلاقات الجنسية بين اليهود وأعضاء الأعراق غير الراقية من جهة والألمان من جهة أخرى، وذلك للحفاظ على النقاء العرْقي. وأُعلن عام 1939 عاماً يراعي فيه المواطن واجب التمتع بصحة جيدة وطُلب من كل طبيب أو داية أن تُبلغ عن أي مولود جديد معوق. وبدأت عملية القتل الموضوعي (أو العلمي أو المحايد) لهؤلاء الذين لا يمكن شـفاؤهم مثل المعـوقين وغيرهـم (مشروع تي فور T4). وظهرت وثائق تبين أنه قُتل سبعون ألف معوق وعاجز يأكلون ولا ينتجون (حرفياً: «آكلون غير نافعين» أي «أفراد يأكلون ولا ينتجون» [بالإنجليزية: يوسلس إيترز useless eaters]) يُشكِّلون عبئاً على الاقتصاد الوطني ويعوقون التقدم. وقد تمت إبادتهم بمقتضى برنامج « تجنب العدوى والقضاء على الجراثيم » (أي برنامج إبادة المجرمين والمتخلفين وربما المسنين). وأدَّى ذلك إلى توفير 239.067.020 كيلو جراماً من المربى في العام (كما جاء في إحدى الدراسات العلمية الألمانية الرصينة). وأُنشئت لجنة للعلاج العلمي للأمراض الوراثية الخطيرة أوصت بقتل الأطفال المشوهين. وكان هؤلاء وغيرهم يُرسلون إلى مستشفيات. فكانوا يوضعون في عنابر خاصة ثم يتم الإجهاز عليهم عن طريق أفران غاز مخبأة على هيئة أدشاش، ومحارق لحرق الجثث. وقد طُبِّق المعيار نفسه، بعض الوقت، على الجنود الألمان الجرحى في الحرب، إذ أن عملية علاجهم كانت ستُكلف الدولة الكثير. ثم طُبِّقت عمليات الإبادة هذه بصورة أوسع على أسرى الحرب. 

وقد صُنِّف اليهود باعتبارهم مرضى، وذلك نظراً لعدم نقائهم العرْقي. ومن ثم أصبح من الضروري إبادتهم، شأنهم شأن العناصر الألمانية غير النافعة. ومن جهة أخرى، تم توسيع نطاق برنامج القتل المحايد أو العلمي ليضم المجرمين كافة، يهوداً وغير يهود. وكان اليهود يُعتبرون أيضـاً ذوي اسـتعداد إجرامي طبيعي بسـبب اختـلاط خصائصهم الوراثية. ولذا، طُبق البرنامج على اليهود الموجودين في المستشفيات جميعاً. 

10 ـ ومن أهم تجليات الحياد العلمي ذات العائد المرتفع التي اتسمت بها الإبادة، تلك التجارب العلمية التي كان النازيون يجرونها على خنازير التجارب البشرية وهي تجارب منفصلة تماماً عن أية منظومات قيمية. فكان النازيون يختارون بعض العناصر التي لها أهمية تجريبية خاصة لإجراء التجارب عليها. وكان هذا يتم بسهولة ويسر وسلاسة؛ لأن البشر تحولوا إلى موضوع أو مادة محايدة في عقول القائمين على هذه التجارب. فعلى سبيل المثال، كان طبيب بوخنوالد (الدكتور هانس إيسيل) يقوم بعمليات استئصال دون تخدير ليدرس أثرها. وأُجريت تجارب أخرى على نزلاء معسكرات الاعتقال لا تقل رهبة عن تجارب إيسيل. وكان بعضهم يُطلَق عليه الرصاص لاختبار فعاليته في الحرب، وعُرّض آخرون لغازات سامة في عمليات اختبارية. وكان البعض يوضعون في غرفة مفرغة من الهواء لمعرفة المدة التي يستطيع الإنسان خلالها أن يظل حياً وهو على ارتفاعات عالية أو بدون أوكسجين. وكان الأوكسجين يُقلل تدريجياً ويخفض الضغط، فتزداد آلام خنازير التجارب البشرية شيئاً فشيئاً حتى تصبح آلاماً لا يمكن احتمالها حتى تنفجر رئاتهم. كما كان الضغط الداخلي على أغشية طبلات الآذان يسبب لهم عذاباً يوصلهم إلى حد الجنون.

وكان الدكتور راشر، وهو عالم نازي آخر، شمولياً في أبحاثه إلى درجة عالية، فقام بتزويد غرف الضغط في النهاية بمبردات تجبر عيناته على مواجهة شروط أقرب ما تكون إلى الارتفاعات العالية. وكان راشر مسئولاً أيضاً عن الكثير من تجارب التجميد التي يتعرض فيها الأشخاص إلى البرد الشديد المستمر حتى الموت. وكان الهدف معرفة مدة مقاومتهم، وبقائهم أحياء، وما الذي يمكن صنعه لإطالة حياة الطيارين الذين يسقطون في مياه متجمدة. وكان بعض نزلاء داخاو ضمن ضحايا راشر أو ضمن خنازير تجارية (إن أردنا التزام الدقة والحياد العلميين). فكان يتم غمر الضحايا/الخنازير في وعاء ضخم أو كانوا يُتركون عُراة في الخارج طوال الليالي الثلجية. وفي أواخر شتاء عام 1943، حدثت موجة برد شديدة، فتُرك بعض السجناء عراة في الخلاء أربع عشرة ساعة، تجمدت خلالها أطرافهم وسطوح أجسامهم الخارجية وانخفضت درجة حرارتهم الداخلية. وكان أسلوب العمل هو تجميد السجناء تدريجياً مع متابعة النبض والتنفس ودرجة الحرارة وضغط الدم وغير ذلك. وكانت هناك تجارب أخرى من بينها تدفئة أشخاص مثلجين. وبناءً على تقرير راشر، أُجريت أكثر من أربعمائة تجربة على ثلاثمائة ضحية. وقد مات من هـؤلاء زهاء تسعين شخصاً نتيجةً لمعالجتهم، وجُنَّ عددٌ ممن بقى. أما الآخرون، فقد قُتلوا لكيلا يتحولوا إلى شهود مزعجين فيما بعد. وقد توصل راشر إلى حقائق علمية جديدة تتحدى كثيراً من المقولات العلمية السائدة في عصره. وأُجريت بالطبع تجارب لا حصر لها على نزلاء أحياء في معسكرات الاعتقال، من بينها الحقن بالسم أو بالهواء أو البكتريا، معظمها مؤلم وكلها قاتلة، كما أُجريت تجارب زرع الغرغرينا في الجروح وترقيع العظام وتجارب التعقيم. 

وفي الإطار التجريبي نفسه كان يتم اختيار التوائم وإرسالهم إلى الطبـيب النازي الشـهير الدكتـور منجـل لإجراء تجارب علمية فريدة عليهم، لا يمكن للعلماء الآخرين القيام بها نظراً لعدم توفر العينات اللازمة. فكان يفصل التوأمين ويضعهما في غرفتين منفصلتين، ثم يعذب أحدهما أحياناً ليدرس أثر عملية التعذيب على الآخر، بل كان يقتل أحدهما لدراسة أثر هذه العملية على الآخر. وكما قال بريمو ليفي: إن ألمانيا النازية هي المكان الوحيد الذي كان بوسع العلماء أن يدرسوا فيه جثتى توأمين قُتلا في نفس اللحظة. ويُقال إن دراسات منجل على التوائم لا تزال أهم الدراسات في هذا المجال، ولا تزال الجامعات الألمانية والأمريكية تستفيد من النتائج التي توصل إليها الباحثون العلميـون الألمـان في ظروف فريدة لم تُتح لعلماء غيرهم من قبل من بعد. وقد أُثيرت مؤخراً قضية مدى أخلاقية الاستفادة من معلومات تم الحصول عليها في مثل هذه الظروف التجريبية الجهنمية، وبهذه الطريقة الموضوعية الشيطانية. وقد أجرى بعض العلماء تجارب على أمخـاخ الضحـايا وقد اختار د. برجر، التابع لإدارة الإس. إس. عدداً من العينات البشرية (79 يهودياً ـ بولنديان ـ 4 آسيويين ـ 30 يهودية) تم إرسالهم لمعسكر أوشفيتس ثم قتلهم بناء على طلب عالم التشريح الأستاذ الدكتور هيرت الذي أبدى رغبة علمية حقيقية في تكوين مجموعة كاملة وممثلة من الهياكل العظمية اليهودية (كما كان مهتماً بدراسة أثر الغازات الخانقة على الإنسان). أما الدكتور برجر نفسه فكان مهتماً بالآسـيويين وجماجمهـم، وكان يحـاول أن يكوِّن مجموعــته الخاصة. 

ويبدو أن عملية جمع الجماجم هذه وتصنيفها لم تكن نتيجة تخطيط محكم، وإنما نتيجة عفوية للرؤية النفعية المادية المتجردة من القيمة. إذ ورد إلى علم البروفسور هاليروفوردن أنباء عن إبادة بعض العناصر البشرية « التي لا تستحق الحياة »، فقال للموظف المسئول بشكل تلقائي: « إن كنتم ستقتلون كل هؤلاء، فلماذا لا تعطوننا أمخاخهم حتى يمكن استخدامها؟، فسأله: كم تريد؟ فأجاب: عدد لا يحصى، كلما زاد العدد كان أفضل. ويقول البروفسور المذكور إنه أعطاهم بعد ذلك الأحماض اللازمة والقوارير الخاصة بحفظ الأمخاخ. وكم كانت فرحة البروفسور حينما وجد أمخاخ معوقين عقليين (في غاية الجمال، على حد قوله) و« أمخاخ أطفال مصابة بأمراض الطفولة أو تشوهات خلقية ». وقد لاحظ أحد العاملين في مركز من مراكز البحوث أن عدد أمخاخ الأطفال المتوفرة لإجراء التجارب أخذت تتزايد بشكل ملحوظ، ونتيجةً لهذا تم الحصول على مواد مهمة تلقي الضوء على أمراض المخ. ومن أطرف الأمثلة الموضوعية قضية البروفسير النازي كلاوس الذي اكتشف البعض أنه يعيش مع سكرتيرته اليهودية، وفي «دفاعه» عن نفسه قال إنه يواجه مشكلة في دراسته لليهود وهي أنه لا يمكنه أن يعيش بينهم ولذا كان عليه أن يحصل على « مُخْبر » أو «دليل » (بالإنجليزية: إنفورمانت informant) أو عينة مُمثِّلة يمكنه دراستها عن قرب، فهي بالنسـبة له لم تكن سـوى موضـوع للدراسـة فكـان يراقبهـا « كيف تأكل وكيف تستجيب للناس وكيف تقوم بتركيب الجُمل بطريقة شرقية عربية » [كذا]. 

ويتضح حياد النازيين وحسهم العملي الفائق، بشكل آخر تماماً. فقد كانوا على استعداد لأن يطوِّعوا النظرية العرْقية ذاتها لمتطلبات الواقع. فاليابانيون (أعضاء الجنس الأصفر، حسب الرؤية النازية) أُعيد تصنيفهم «آريين شرقيين»، بسبب عمق التحالف بين ألمانيا النازية واليابان ذات النزعة الإمبريالية، ولم يكن اليابانيون هم وحدهم الذين حظوا بهذا الشرف، فهناك « برامج الأرينة » للسلاف ممن كانوا يتسمون بنسبة 80% من السمات الآرية. بل قد بدأت تظهر قرائن على أن آلاف الجنود الألمان كانوا يهوداً أو نصف يهود، رغم أن القانون الألماني في ظل الحكم النازي كان يمنع، اعتباراً من عام 1935، أي شخص ينحدر عن أجداد يهود أن يشغل وظيفة ضابط في الجيش الألماني (الديلي تلجراف ديسمبر 1996). وكان مكتب الأفراد في الجيش الألماني (عام 1944، أي قرب نهاية الحرب) على علم بوجود سبع وسبعين ضابطاً من ذوي الرُتب العالية من أصول مُختلَطة يهودية أو متزوجين من يهوديات. ومع هذا وقَّع هتلر شهادات تبيِّن أنهم من « ذوي الدم الألماني »، أي ينتمون للعرْق الألماني. ومن بين هؤلاء الفيلد مارشال أبرهارد ميلخ، الذي كان نصف يهودي (حسب التعريف النازي) ومع هذا كان يشغل منصب نائب هرمان جورنج، قائد السلاح الجوي الألماني، والخلف المختار لهتلر. وقد غض جورنج الطرف عن هذه الحقيقة، بل زوَّر المعلومات المتعلقة بوالد نائبه. وتبيِّن الوثائق التي تم كشف النقاب عنها مؤخراً أن القيادة النازية منحت وسام الصليب الفارس، أعلى وسام عسكري ألماني، إلى عسكريين سبق أن طُردوا من الخدمة بسبب انحدارهم من أصل يهودي ثم أُعيدوا إليها. 

وتتضح المفارقة في تلك الزيارة التي قام بها أحد كبار الضباط الألمان لوالده الذي كان قد نُقل إلى أحد معسكرات الاعتقال والسخرة. وقد حرص الضابط على أن يرتدي النياشين والأوسمة التي مُنحت له بسبب مشاركته في الحملات العسكرية التي شنها النظام النازي، هذا النظام الذي كان يقوم بإبادة أعضاء كثير من الأقليات الإثنية والدينية، ومن بينهم أعضاء الجماعات اليهودية. إن المفارقة هنا تدل على حس عملي عميق مستعد لتجاوز كل الأفكار المسبقة للتعامل بكفاءة مادية بالغة مع الواقع العملي وتجاوز الميتافيزيقا والمطلقات والكليات. وحينما وجد النازيون فرصة للاستفادة من أعضاء الجماعات اليهودية، هذه المادة البشرية الاستعمالية النافعة، لم يترددوا في تعديل عقائدهم الدينية العرْقية نفسها.

11 ـ ولكن إلى جوار المادة البشرية الاستعمالية النافعة التي تُجرى عليها التجارب وتُدرس بعناية وموضوعية وحياد، كانت هناك المادة التي لا يُرجى منها نفع أو الضارة من منظور النازيين، وكان أمثال هؤلاء يُبادون ببساطة شديدة من خـلال عمليات التصفية الجسدية السريعة، التي تقوم بها جماعات خاصة أو فرق متنقلة تقف وراء خطوط الجيوش الألمانية (بالألمانية: آينساتس جروبين Einsatzgruppen). وكانت طريقة الإبادة هذه سريعة وغير مكلفة إذ كانت تُقام مقابر جماعية يُلقى فيها بالضحايا بعد أن يحفروها بأنفسهم. كما كانت الإبادة تتم أحياناً بواسطة سيارات مجهزة بحجرة غاز يتم التخلص فيها من الضحايا دون حاجة إلى نقلهم إلى معسـكرات الإبادة. وقـد تم التخلـص بهذه الطريقة من جرحى الحرب الألمان ممن لا يُرجى لهم شفاء أو ستتكلف عملية تمريضهم الكثير، كما تمت إبادة أعـداد كـبيرة من أعضاء النخبة الثقافية البولندية، والفائض السكاني الروسي. 

12 ـ وحتى بعد قرار الإبادة )بمعنى التصفية الجسدية)، كان ديدن النازيين دائماً هو الحوسلة الكاملة وتعظيم الفائدة والحرص الكامل على ممتلكات الدولة وخدمة مصالحها، ولذا كان يتم تجريد الضحايا من أية مواد نافعة (حتى من الحشوات الذهبية التي في أسنانهم)، ولا شك في أن هذا ساهم في تحسين ميزان المدفوعات الألماني. وقد أشرنا من قبل إلى استخدام الأمخاخ البشرية ولكن يبدو أن عملية التوظيف كانت أعمق من ذلك بكثير فقد كانت البقايا البشرية (مثل الشعر) تُستخدَم في حشو المراتب، ويُقال إنها كانت مريحة للغاية وزهيدة الأسعار. ولم يكن الرماد البشري يُستخدَم كشكل من أشكال السـماد وحسـب، وإنما كمــادة عازلـة أيضاً. وكانت العظام البشرية تُطحن وتُستخدَم في أغراض صناعية مفيدة مختلفة. بل يُقال إن بعض الأنواع الفاخرة من الصابون صُنعت من الشحومات البشرية. (ومع هذا، صدرت مؤخراً دراسات تشكك في هذا). 

كانت الجدوى الاقتصادية لمعسكرات الإبادة إذن عالية للغاية، كما كان التحكم كاملاً، أي أنها عملية رشيدة بالمعنى الفيبري، إذ يرى ماكس فيبر أن رشد الحضارة الغربية الحديثة ينصرف إلى الإجراءات وحسب، ولا ينطبق على الأهداف فهو ترشيد مادي إجرائي أداتي، منفصل عن القيم والعاطفة، وأنه لهذا السبب سينتهي بالإنسان إلى « القفص الحديدي » حيث يوجد فنيون بلا قلب؛ حسّيون غير قادرين على الرؤية، وهذا لا يختلف كثيراً عن معسكرات الاعتقال والإبادة. وقد أشار أحد العلماء الذين درسوا الظاهرة النازية إلى أن العلماء النازيين تبنوا ما سموه موقفاً موضوعياً متجرداً من الأحكام القيمية، ولكن هذا الموقف العلمي ذاته جعل كل شيء ممكناً. فقتل المصابين بالأمراض العقلية، إن كان لازماً للبحث العلمي الموضوعي، يصبح أمراً مقبولاً وربما مرغوباً فيه. 
يتبع إن شاء الله...


الباب الخامس: بعض إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

الباب الخامس: بعض إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الخامس: بعض إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا   الباب الخامس: بعض إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا Emptyالخميس 28 نوفمبر 2013, 12:23 am

وتتبلور هـذه النقطـة في قضـية المسـئولية الخُلقية للتنفيذيين النازيين، فهناك من ينطلق من المنظور الترشيدي المادي الإجرائي المنفصل عن القيمة ويذهب إلى أن المواطن النازي الذي اشترك في عمليات الإبادة لم يكن سوى بيروقراطي، موظف تنفيذي ("عبد المأمور"، كما نقول بالعامية المصرية)، يؤدي عمله بكفاءة عالية، ويُنفذ ما يصدر إليه من أوامر تأتيه من علٍ، ولا يتساءل عن مضمونها الأخلاقي ويُنفذها حتى لو تنافت مع القيم الأخلاقية والإنسانية المطلقة. فهذا الموظف لا يدين بالولاء الكامل إلا للدولة والوطن ولا يعيش في ازدواجية الدين والدولة أو الأخلاق والدولة، فالمطلق الوحيد الذي يؤمن به، شأنه في هذا شأن أي إنسان علماني شامل، هو الدولة والوطن، ولذا فعليه أن يذعن لما يصدر له من أوامر تأتيه من هذه الدولة التي تخـدم صـالح الوطـن. وهذا ينطبق على الأوامر النازية الخاصة بالإبادة! ولكن هناك آخرون، ممن يؤمنون بالمطلقات الأخلاقية والإنسانية، يذهبون إلى أن الإنسان الفرد كائن حر مسئول، ولذا فعليه أن يتحمل المسئولية الأخلاقية الكاملة لما يأتيه من أفعال، ومن ثم عليه أن يقف ضد عمليات إبادة الضعفاء (من المسنين والمعوقين وأعضاء الأقليات)، حتى لو كانت عملية الإبادة تخدم « الصالح العام » أي صالح الدولة والوطن! أي أن الإنسان الفرد يدين بالولاء لمجموعة من القيم الأخلاقية والإنسانية المطلقة تتجاوز ولاءه للدولة والوطن وكفاءة الأداء في الوظيفة. 

وهذه إشكالية فلسفية وأخلاقية وإنسانية عميقة تواجهها المنظومة العلمانية الشاملة، فهي منظومة فلسفية تنكر الميتافيزيقا والثنائيات والمطلقات وتؤكد نسبية المعرفة وكل القيم الأخلاقية، وهو ما يعني، بطبيعة الحال، غياب المرجعية المتجاوزة (التي تتجاوز الأفراد) وظهور المرجعية المادية الكامنة، حين يحدد كل إنسان قيمه بنفسه دون العودة إلى أية مطلـقات أو ثوابت إنسـانية (كما يدعـو فكر ما بعد الحداثة). وإذا كان الألمان، انطلاقاً من المرجعية المادية الكامنة فيهم، قد حدَّدوا قيمهم الأخلاقية على أسس نفعية مادية داروينية، وسلكوا على هذا الأساس، فكيف يمكن لنا أن نتجاوز ذاتيتهم الكامنة فيهم؟ وكيف يمكن لنا أن نهيب بقيم أخلاقية وإنسانية، عامة مطلقة، تقع خارج نطاق مُثُلهم الذاتية؟ كيف يمكن أن نفعل ذلك إن كنا نحن أنفسنا نؤمن بالنسبية المطلقة؟ كيف يمكن اختراق المطلق الذاتي؟ كيف يمكن أن نبيِّن للشعب المختار، صاحب الحقوق المطلقة، المسلح بالمدافع الرشاشة والقنابل النووية، أن ثمة إنسانية عامة وثمة قيم أخلاقية عامة، إن كنا نحن أنفسنا نسبيين، علمانيين شاملين حركيين نرفض الثبات ولا نرى إلا حركة المادة وقوانينها الصماء؟ يقول البعـض ممن يحاول اتخاذ موقـف أخلاقي دون الإهـابة بأيـة مرجعية متجاوزة، إن الإنسان بوسعه أن يأخذ موقفاً ذاتياً وجودياً، ويرفض إبادة الآخر بإصرار وعناد، أي أن الإنسان بوسعه أن يتبنى موقفاً أخلاقياً دون السـقوط في الميتافيزيـقا ودون الإهـابة بأية مرجعيـة متجاوزة أو كليات مجردة. ولكن هل يمكن محاكمة الآخر من هذا المنظور إن كان لا يؤمن به؟ ألا يعني هـذا أنني أفرض ذاتيتي الأخـلاقيـة الوجـودية على ذاتيته الداروينية النفعية المادية؟ 

هذه هي الإشكالية التي نبهنا لها ماكس فيبر وغيره من علماء الاجتماع والمفكرين الغربيين حينما بدأوا في إطلاق التحذيرات، منذ أواخر القرن التاسع عشر، من العلم المنفصل عن القيمة، وهي إشكالية تثيرها، وبحدة، الإبادة النازية لليهود والأطفال والمعوقين والعجزة والغجر، وكل من لا فائدة له، من المنظور النازي. والحوار الدائر في الغرب بشأن الإبادة يُركِّز على تفاصيل مثل عدد الضحايا وهل هم يهود فقط أو غيرهم (مما أسميه «لعبة الأرقام») ويهمل قضية إنسانية جوهرية مثل هذه تتجاوز حدود الإبادة النازية لتصل إلى مستوى المجتمع الحديث بأسره، ومستقبل الإنسان على هذه الأرض.

وقد أثيرت مؤخراً قضية وثيقة الصلة تماماً بقضية انفصال العلم عن القيمة ألا وهي قضية انفصال الإجراءات الديموقراطية عن القيمة. فالديموقراطية هي في واقع الأمر اتفاق على مجموعة من الإجراءات تمكن من خلالها معرفة رأي الأغلبية، وجوهر هذه الإجراءات كمي، أي حساب عدد الأصوات المؤيدة والمعارضة، فإن زادت الأصوات المؤيدة عن الأصوات المعارضة ولو صوتاً واحداً تم تمرير مشروع القانون، وإن نقصت ولو صوتاً واحداً رُفض المشروع. فالاتفاق هنا اتفاق بشأن الإجراءات وحسب (وقوانين اللعبة، كما تُسمَّى)، وليس متصلاً بمضمونها أو اتجاهـها، فهـذه أمور تحددها العملية الديموقراطية نفسها، دون الالتزام بأية قيم أو مرجعيات مسبقة، أي أن الديموقراطية تدور في إطار النسبية الكاملة ولا تتقيد بأية قيم أخلاقية مطلقة. ومن ثم سُمِّيت الأخلاق الحاكمة للديموقراطية بأنها «أخلاقيات الإجراءات والصيرورة» (بالإنجليزية: إثيكس أوف بروسيس ethics of process). فالديموقراطية، شأنها شأن الترشيد الإجرائي، معقمة من الميتافيزيقا والكليات والمطلقات والثوابت. فكما أن العلم انفصل عن الغائيات والقيم الإنسانية وأصبح مرجعية نفسه، انفصلت الإجراءات الديموقراطية عن الغائيات والقيم الإنسانية وأصبحت مرجعية ذاتها، ولا يمكن محاكمتها من خلال مرجعية متجاوزة لها. 

والقضية التي تثيرها النازية هي أن هتلر وصل إلى الحكم من خلال إجراءات ديموقراطية سليمة، تماماً كما أن المشروع الإمبريالي الغربي قامت به حكومات تم انتخابها بطرق ديموقراطية سليمة. ومن المعروف أن عمليات السخرة والإبادة التي قام بها النظام النازي كانت تحظى بموافقة الأغلبية الساحقة للشعب الألماني. وهذا لا يختلف كثيراً عما حدث في الولايات المتحدة حينما قامت الحكومة الأمريكية بوضع ألوف المواطنين الأمريكيين من أصل ياباني في معسـكرات اعـتقال إبَّان الحرب العالميـة الثانيـة كإجراء أمني، وقد حظى القرار العنصري الإرهابي بموافقة الأغلبية. وتصبح القضية أكثر خطورة حينما تظهر بين جماهير الشعب نزعات عسكرية وإمبريالية تتجاوز طموحات النخبة الحاكمة، الأمر الذي يضطرها إلى القيام بعمليات عسكرية عدوانية لتحظى برضى الجماهير. ويُلاحَظ أثناء حملات الرئاسة الأمريكية أن حكومة الولايات المتحدة تأخذ مواقف عسكرية متشددة قد لا تضطر لاتخاذها بعد الانتخاب. وتظهر المشكلة بشكل أكثر حدة حينما يرى أحد الشعوب أن قطاع الاتجار في المخدرات هو عصب اقتصادها الوطني، وتُنتخب حكومة تدافع عن مثل هذه السياسة. ومؤخراً رشحت إحدى نجمات أفلام الإباحية نفسها في انتخابات البرلمان الإيطالي، وكانت حملتها الانتخابية تتلخـص في خلعـها لملابسـها لإقناع وإغواء الناخبين (وقد نجحت في حملتها وتم انتخابها بالفعل بتفوق). وفي الجيوب الاستيطانية، مثل إسرائيل وجنوب أفريقيا، عادةً ما تحكمها حكومات تم انتخابها بطريقة ديموقراطية لا شبهة فيها، وهذه الجيوب تستند إلى فعل سرقة تاريخي تقبل به أغلبية المستوطنين الساحقة، وتصوت (بل تقاتل) من أجل استمراره. ففعل الاغتصاب الإرهابي يحظى بدعم سياسي وقبول ديموقراطي. 

والسؤال الآن هو:

هل علينا أن نقبل بمثل هذه القرارات (ابتداءً من الإبادة النازية وانتهاءً بقبول المخدرات والإباحية واغتصاب الأوطان) باعتبار أنها تعبير عن إرادة الشعب وصوت الجماهير طالما أنها اتبعت الإجراءات الديموقراطية السليمة، أم ينبغي علينا أن نرفض مثل هذه القرارات الديموقراطية، استناداً إلى مرجعية أخلاقية متجاوزة للإجراءات الديموقراطية؟ ولكن هل يحق لنا أن نسأل أي سؤال يقع خارج نطاق أخلاقيات الإجراءات والصيرورة؟ ألا يُشكِّل هذا سقوطاً في الميتافيزيقا والماهوية والمطلقية؟

توظيــــــــــــف الإبــــــــــــادة 
Instrumentalization of the Holocaust 

تتـسم المجتمعات الغربية الحديثة بمقدرتها الفائقة على حوسلة كل شـيء، دون أي اعتبار لقداسة أو محرمات، ويحدث الشيء نفسه بالنسبة للإبادة. وتبدأ عمـلية توظـيف الإبادة ـ على يد الصهاينة ـ بمحاولتهم فرض معنى صهيوني ضيق علىها باعتبارهـا جريمة العصـر التي ارتكبها الألمان والأغيار ضد اليهود فحسب. ثم تُعطي واقعة الإبادة مكانة محورية في تاريخ أوربا وتاريخ العالم. ولذا صدرت عشرات الأفلام والدراسات والأعمال الفنية لحفر الإبادة في الذاكرة باعتبارها واقعة حدثت لليهود وحدهم، لا باعتبارها جريمة ارتكبتها الحضارة الغربية ضد قطاعـات كبيرة من سكانها. وقد دخلت دراسة الهولوكوست عشرات الجامعات والكليات الأمريكية، وأُقيمت نصب تذكارية للإبادة بالعبرية والإنجليزية في واشنطن ونيويورك ولوس أنجلوس وغيرها. وأنشأت الحكومة الأمريكية المجلس الأمريكي للتذكير بالإبادة، وتم إنشاء متحف تُخلَّد فيه ذكرى الإبادة النازية في واشنطن بجوار المتاحف القومية الأمريكية. وباسم الإبادة، حاولت المؤسسة الصهيونية التدخل (دون نجاح كبير) في انتخابات الرئاسة في النمسا عام 1986، واعترضت بشدة (دون نجاح مرة أخرى) على زيارة الرئيس الأمريكي ريجان لمقبرة بتبرج الألمانية التذكارية لمجرد أن بعض المدفونين فيها من رجال قوات الصاعقة النازية. 

ومن أهم أشكال توظيف الإبادة لصالح الصهيونية هو استخدامها كسحابة كثيفة لتبرير الفظائع التي ارتكبتها وترتكبها الدولة الصهوينة ضد الفلسطينيين. كما تُوظَّف الإبادة في جمع التعويضات التي تمول الكيان الاستيطاني الصهيوني (بلغ حجم التعويضات الألمانية وحدها 70 بليوناً من الدولارات في 35 عاماً). ومن المعروف أن هذه التعويضات التي تلقتها الدولة الصهيونية انعشت الاقتصـاد الإسـرائيلي، ومكنت الدولة الصهيونية من شراء مزيد من الأسلحة والمستوطنات والقنابل العنقودية! والتعويضات تعني، في واقع الأمر، حصول إسرائيل (وبعض أعضاء الجماعات اليهودية) على مقابل مالي تعويضاً عن الآلام التي لحقت بهم. وهذا يخفف من البُعد الأخلاقي للقضية، إن لم يكن يلغيه. ففي موقف مماثل رفضت الصين أن تتقاضى تعويضات مالية من اليابان على جرائمها ضد الصينيين باعتبار أن قبول التعويضات فيه تنازل عن الحق الأدبي، وفيه تخلٍّ عن المنظور الأخلاقي (المطلق) حيث تتحول القضية إلى ما يشبه المقايضة. 

ومن الواضح أن عملية توظيف الإبادة تتم من منظور نفعي مادي انتقائي محض، لا علاقة له بالقيم الأخلاقية. وفي هذا الإطار يثير بعض الدارسين قضية علاقة الدولة الصهيونية مع بعض الشخصيات والدول التي كانت لها علاقة بالنظام النازي. إذ لا تُمانع إسرائيل البتة في توثيق علاقتها مع بعض حكومات دول أمريكا اللاتينية التي تأوي مجرمي الحرب النازيين (الذين تزعم إسرائيل أنها تطاردهم في كل زمان ومكان!) مادام هذا يخدم مصلحتها. وقد تعاونت إسرائيل مع حكومة جنوب أفريقيا العنصرية التي كانت معروفة بتعاطفها الكامل مع النظام النازي. وقامت باستضافة رئيس وزراء جنوب أفريقيا السابق، بلثازا فورستر، وهو جنرال سابق في الحركة الوطنية في جنوب أفريقيا الموالية للنازيين والتي كانت تقاوم المجهود الحربي للحلفاء، وقد اعتُقل لمدة عشرين شهراً بسبب اشتراكه في المقاومة. ورغم مرور عشرات السنين إلا أنه لم يُنكر موقفه الموالي للنازية. وقد سمحت له الحكومة الصهيونية بوضع إكليل من الزهور على ياد فاشيم (النصب التذكاري) المقام لضحايا الإبادة النازية لليهود، الأمر الذي دفع جريدة الجيروساليم بوست (الصهيونية) إلى الاحتجاج وإلى الإشارة إلى الحقيقة البدهية التي أغفلتها إسرائيل وهي أن اليهود ينبغي عليهم ألا يرتبطوا بأحد المؤيدين السابقين للنازية. 

وفي مجال توظيف الإبادة يلجأ الصهاينة أحياناً لاختلاق القصص أو تزييف الحقائق كما حدث في حادثة آن فرانك (1929 ـ 1945)، وهي فتاة ألمانية هاجرت إلى هولندا مع أسرتها بعد وصول هتلر إلى السلطة في عام 1933. وحينما قرر النازيون إرسال أختها إلى معسكرات العمل، اضطرت هي وأسرتها إلى الاختباء، فعاشوا في مخبئهم ما يزيد على عام، ثم أُلقي القبض عليهم ورُحِّلوا إلى معسكرات الاعتقال حيث لقيت آن وأختها حتفهما بسبب المرض. ويُقال إن آن فرانك كتبت، أثناء فترة اختبائها، مذكراتها التي نُشرت بعد الحرب وتُرجمت إلى الإنجليزية. وهناك الكثير من الشكوك التي تحيط بهذه المذكرات إذ يُقال إنها لم تكتبها بنفسها بل كتبها أبوها (أو بعـض من حوله) بعـد موتها بطريقة مثيرة ليـحقق من ورائها ربحاً مالياً. ولهذا فهي لا تُعتبَر وثيقة تاريخية يُعتد بها. ومع أنها ليست ذات قيمة أدبية كبيرة، إلا أنها أصبحت مصدراً لعدة أفلام ومسرحيات. كما غدت آن فرانك إحدى الأساطير التي تُستخدَم لتحويل الإبادة النازية من جريمة غربية ضد قطاعات بشرية عديدة داخل التشكيل الحضاري الغربي (تضم السـلاف والغـجر والجماعات اليهودية) إلى جريمة ألمانية ضـد اليهـود وحسب. وأصبح المنزل الذي اختبأت فيه أسرة فرانك متحفاً. 

وتحاول الدعاية الصهيونية توظيف واقعة الإبادة في تعبئة أعضاء الجماعات اليهودية (باعتبارهم الضحية الوحيدة) وراء الأهداف الصهيونية. ولتحقيق هذا يحاول الصهاينة أن يجعلوا من الإبادة حجر الزاوية الذي تستند إليه الوحدة بين يهود العالم في إسرائيل وخارجها. فالإبادة، بعد فرض المعنى الصهيوني عليها، تنهض دليلاً على رفض العالم لليهود، وعلى أن الأغيار يتربصون دائماً بالضحية اليهود الذين يُقدَّمون قرباناً على المحرقة. وهذا تأكيد للمقولة الصهيونية الخاصة بأزلية معاداة الأغيار لليهـود وحتميتها، ومن ثم يتـعيَّن على يهـود العالم الهجرة إلى الوطن القومي. (ولكن يهود العالم، مع هذا، يتصرفون على أساس أن الإبادة أمر مستحيل الوقوع مرة أخرى، ومن الصعب أن يخطط المرء على أساس حادثة استثنائية وفريدة). 

ويحاول الصهاينة تقديم قراءة كاملة لما يسمونه «التاريخ اليهودي» بحيث تصبح الإبادة أهم معلم فيه، فيُقال «قبل الإبادة» و«بعد الإبادة»، تماماً مثل «قبل هدم الهيكل» و«بعد هدم الهيكل». ويُشار للإبادة بأنها «حُربان» وهي كلمة عبرية تستخدم للإشارة إلى «هدم الهيكل». والإبادة هي إذن هدم الهيكل للمرة الثالثة، الأمر الذي يدخلها دورة التاريخ اليهودي المقدَّس. بل يذهب بعض المفكرين الدينيين اليهود إلى أن الإبادة غيَّرت من النسق الديني اليهودي ذاته. ولذا، فإن من الضروري، حسب رأيهم، الحديث عن «لاهوت ما بعد أوشفيتس»، أو «لاهوت الإبادة» الذي يرى حادثة الإبادة باعتبارها حادثة مطلقة لا يمكن فهمها، وهي أكثر الحوادث أهمية وقداسة، ويصبح الشعب اليهودي هو المسيح المصلوب. وينادي هؤلاء المفكرون بحتمية أن تصبح الإبادة هي المرجعية الأساسية لليهود، ومن ثم ضرورة مناقشة مدى عدالة الرب، وهل هو رب خيِّر أم شرير، وهل يتدخل في التاريخ بمنحه الغرض والغاية أم يترك التاريخ في حالة فوضى كاملة؟ كما أن البقاء (بقاء الشعب اليهودي) يصبح هو المطلق الوحيد الذي يَجُبُّ سائر الاعتبارات الأخلاقية الأخرى ويصبح النقطة المرجعية النهائية الوحيدة. ويساعد التركيب الجيولوجي لليهودية على السماح بإفراز مثل هذه الأفكار وإعطائها قسطاً من الشرعية. (ومما يجدر ذكره أن الجماعات الأصولية ذات التوجه الصهيوني المسيحي الواضح ترى أن الإبادة هي بالفعل دليل على أن الرب قد هجر اليهود بسبب الذنوب التي اقترفوها).

ويذهب بعض المفكرين الدينيين اليهود (الأرثوذكس) إلى أن الإبادة ذات مغزى ديني عميق، فيرى بعضهم أن إبادة اليهود هي هدم الهيكل الثالث وأن هتلر هو أداة الخالق في حرق اليهود، كما يذهبون إلى أنهم بمثابة الماشيَّح المذبوح الذي سيُولَد العالم من جديد بعد ذبحه. (ولكن هناك رأي مغاير لهذا، إذ يذهب بعض الحاخامات [مثل مناحم هارتوم وإليعازر شاخ، الأب الروحي لحزبي شاس و ديجيل هاتورا] إلى أن الإبادة لها حقاً مغزى ديني ولكنها عقاب على خطيئة اليهود لابتعادهم عن تنفيذ الأوامر والنواهي، وسوف يقوم الإله بتدميرهم مرة أخرى إن لم يندموا ويعودوا عن طريق المعصية). وقد جعلت المؤسسة العسكرية الخوف من الإبادة أحد أسس الإستراتيجية الصهيونية، فقد أشار كل من أبا إيبان ورابين إلى حدود إسرائيل قبل عام 1967 بأنها «حدود أوشفيتس». وهناك قدر كبير من الادعاء في هذه التشبيهات وصل إلى قمته حينما قال مناحيم بيجين إن ياسر عرفات حينما كان مُحاصَراً في بيروت يشبه هتلر في مخبئه، فالقائد الفلسطيني المحاصر والذي اغتُصبت أرض شعبه يشبه القائد النازي المُحاصَر الذي جيَّش جيوشه وأرسلها إلى الشعوب المجاورة ليستولي على أراضيها ويستعبدهم أو يبيد أعداداً منهم. وفي هذا تزييف كامل للحقائق، ولكن هذه هي عقلية العنصري الفاشي الذي يرى أنه عضو في الشعب المختار، ولذا فهو دائماً مضطهد، حتى حينما يقوم بتدمير الآخرين. 

وقد نجح الصهاينة في ترسيخ واقعة الإبادة النازية ليهود أوربا في وجدان الأغلبية العظمى من الإسرائيليين. فالصحف لا تكف عن الكتابة عنها. وهناك يوم محدَّد لإحياء ذكرى الإبادة يُسمَّى «يوم الذكرى (يوم هازكرون)» ويقع في يوم 4 ايار، أي قبل عيد الاستقلال والذي يقع في يوم 5 آيار (وهو اليوم الذي يحتفل فيه المستوطنون بإنشاء الدولة الصهيونية على أرض فلسطين بعد طرد سكانها منها). ويبدأ اليوم بإطلاق صفارة إنذار في كل أنحاء الدولة في مغرب اليوم السابق فتُنكس الأعلام، وتُغلَق دور اللهو بأمر القانون، وتُقام الصلوات في المعابد اليهودية وتُوقد الشموع فيها، كما تُعلن صفارات الإنذار في الصباح عن دقيقـتين حـداداً يتوقـف فيهما النشاط تماماً في الدولة الصهيونية بكاملها. ثم تُطلَق صفارة إنذار أخرى للإعلان عن انتهاء اليوم وبداية عيد الاستقلال. وقد لاحَظ الفيلسوف الديني الإسرائيلي اليهودي يشياهو لابيوفيتش أن الاحتفال بيوم الذكرى يزداد حدة عاماً بعد عام لأن قائمة أسماء الضحايا تزداد يوماً بعد يوم. بل تؤكد بعض الأبحاث الإسرائيلية أن شبح الكارثة لا يزال منعكساً وجاثماً على عقل الإسرائيليين من الجيل الثاني. ويرى واحد وستون بالمائة من الإسرائيليين أن الكارثة كانت عنصراً أساسياً من عناصر قيام الدولة الإسرائيلية والمسوغ الأساسي له. ويعتقد اثنان وستون بالمائة أن قيام الدولة الإسرائيلية يمنع حدوث كارثة مماثلة في المستقبل. 

ومما لا شك فيه أن الإحساس بخطر الإبادة إحساس حقيقي متجذر في الوجدان الإسرائيلي. ولكننا نذهب إلى أن أساسه الحقيقي ليس خطر الإبادة على يد النازيين، وإنما هو الطبيعة الاستيطانية للتجمع الصهيوني الذي لم يضرب بجذوره في المنطقة، وبخاصة أن أصحاب الأرض الأصليين لم تتم إبادتهم، بل لم يكفوا عن المقاومة، الأمر الذي يخلق عند الإسرائيليين ما نسميه «عقدة الشرعية» والخوف الدائم من عودة صاحب الأرض الذي يؤكد حضوره كذبهم (أرض بلا شعب)، بل قد يؤدي إلى غيابهم في نهاية الأمر. ولكن بدلاً من أن يواجه المستوطنون حقيقة وضعهم كمستوطنين ومغتصبين للأرض، وبدلاً من أن يدركوا الأصل الحقيقي لمشاعرهم ومخاوفهم، فإنهم يتجاهلونها ويفرضون عليها هذا التفسير الصهيوني. فالإدراك الحقيقي سيُفقدهم ثقتهم بأنفسهم وإحساسهم بشرعية وجودهم وأخلاقيته، أما التفسير الصهيوني فسيسبغ عليهم المزيد من الشرعية وسيزيد إصرارهم على حقهـم في البقـاء وإبادة كل من يقـف في طريق الضحـية الوحيدة للمجازر؛ المهددة دائماً وأبداً بالإبادة! 

وقد لاحظ بعض التربويين أن هذا التركيز على فكرة الإبادة، كفكرة رئيسية في وجدان أعضاء الجماعات اليهودية داخل وخارج إسرائيل، يسبب لهم مشاكل نفسية عميقة، إذ لا يمكن أن يعيش الإنسان حياة نفسية سوية، وسط بلاد العالم أو بين أحد الشعوب، وهو يعتقد أنهم قد يبيدونه تماماً في أية لحظة وأنه الضحية الوحيدة. ولذا، بدأت ترتفع أصوات للتحذير من خطورة هذا الاتجاه. ولكن الصهيونية عقيدة تستند شرعيتها إلى الكوارث التي حاقت باليهود في الماضي والتي قد تحيق بهم في المستقبل، ومن ثم، فإن أية رؤية مُركَّبة للتاريخ تسحب هذه الشرعية منها. وعلى هذا، فليس من المتوقع أن يتغيَّر هذا الاتجاه في القريب.

احتــــــــكار الإبـــــــــادة 
Monopolizing the Holocaust 

يحاول الصهاينة احتكار دور الضحية لليهود وحدهم دون غيرهم من الجماعات أو الأقليات أو الشعوب، بحيث تُصوَّر الإبادة النازية باعتبارها جريمة موجهة ضد اليهود وحدهم. ولهذا يرفض الصهاينة والمدافعون عن الموقف الصهيوني أية محاولة لرؤية الإبادة النازية باعتبارها تعبيراً عن نمط تاريخي عام يتجاوز الحالة النازية والحالة اليهودية. كما يرفض الصهاينة تماماً محاولة مقارنة ما حدث لليهود على يد النازيين بما حدث للغجر أو البولنديين على سبيل المثال، أو بما حدث لسكان أمريكا الأصليين على يد الإنسان الأبيض أو ما يحدث للفلسطينيين على أيديهم. وتثبت الدراسات التاريخية أن الإبادة النازية لم تكن موجهة ضد اليهود وحسب، فعدد ضحايا الحرب العـالمية الثانية من جميع الشعوب الأوربية يبلغ ما بين خمسة وثلاثين وخمسين مليوناً. وأظهر معرض لحكومة بولندا كان يطوف أمريكا عام 1986 أن أكبر معسكرات الاعتقال هو أوشفيتس وأن التركيز النازي كان أساساً على البولنديين والاشتراكيين واليهود والغجر (بهذا الترتيب) لتفريغ بولندا جزئياً وتوطين الألمان فيها. 

وتوحي الأدبيات الصهيونية بأن العالم كله تجاهل اليهود وتركهم يلاقون حتفهم ومصيرهم وحدهم. ولكن من الواضح أن المسألة أكثر تركيباً من ذلك بكثير. فصحيح أن بعض الشعوب ساعدت النازيين، كما حدث في النمسا، ولكن البعض الآخر ساعد اليهود وآواهم كما حدث في بلغاريا (خصوصاً بين أعضاء الجماعة الإسلامية) وفي الدنمارك وفنلندا ورومانيا وإيطاليا وهولندا. وفي فرنسا، تم تسليم خمسة وسبعين ألف يهودي للقوات النازية، ولكن تمت، في الوقت نفسه،حماية أضعاف هذا العدد. كما رفض السلطان محمد الخامس تطبيق القوانين النازية على يهود المغرب رغم مطالبة حكومة فيشي الفرنسية بذلك.ولا يمكن أيضاً تجاهل جهود الحكومة السوفيتية في نقل مئات الآلاف من اليهود بعيداً عن المناطق التي احتلها النازيون (رغم تحالفها في بداية الأمر مع هتلر). وتتجاهل التواريخ الصهيونية كل هذا، تماماً مثلما تتجاهل العلاقة الفكرية والفعلية بين النازية والصهيونية والزعامات الصهيونية التي تعاونت مع النازيين. 

ولكن هناك من يتحدى هذا الاحتكار الصهيوني للإبادة، وقد بدأت الكنيسة الكاثوليكية المواجهة حين قامت بتنصيب الأخت تريزا بنديكتا قديسةً. والأخت تريزا هي إيديث شتاين سكرتيرة الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر، وكانت يهودية. وعندما قرأت قصة حياة القديسة تريزا شعرت بإحساس ديني غامر وتنصرت وتكثلكت ثم ترهبنت، وقام النازيون باعتقالها وقتلها. ويُصر الصهاينة على أن سبب قتلها هو كونها يهودية بينما ترى الكنيسة أنها راهبة كاثوليكية استُشهدت من أجل عقيدتها. والحادثة الثانية هي الخاصة بدير الراهبات الكرمليات في أوشفيتس، الذي طالب اليهود بإزالته وتمسكت المؤسسة الكاثوليكية في بولندا بالإبقاء عليه. وقد قامت معركة إعلامية ساخنة بين الطرفين. وكتب باتريك بيوكانان (الصحفي والمرشح الجمهوري في انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 1996) ما نتصور أنه خير احتجاج على هذا الموقف في مقال بعنوان «الكاثوليك ليـسوا بحاجة إلى محاضرات في الأخلاق من سـفاح عصابة شـتيرن السـابق» جـاء فيه: 

"وفي متحف المذبحة النازية، هناك ثلاثة ملايين يهودي بولندي سيظلون في الذاكرة، ولكن ماذا عن ثلاثة ملايين تقريباً من الأوكرانيين والصرب والليتوانيين والمجريين واللاتفيين والإستونيين، نُحروا في ساحات القتل على أيدي الوثنيين العنصريين في برلين وعلى أيدي الملحدين المتعاونين معهم في موسكو؟ وما الذي يتطلبه الأمر حتى يكون المرء ضحية من الدرجة الأولى؟ فــإذا كـانت ذكــرى الضبـاط اليهــود الذيـن ماتــوا إلى جـانب إخــوانهم الكاثوليك في كاتين قد خُلدت بنجمة داود، فلمـاذا لا يتم تخليد ذكرى المليون كاثوليكي الذين أفنُوا في أوشفيتس بصليب؟ وإذا كان التذكار حيوياً، فلماذا يُستثنى المسيحيون؟". ونحن، بطبيعة الحال، نرى أن الإبادة لم تكن موجهة ضد اليهود وحسب، وإنما ضد سائر العناصر التي اعتُبرت، من منظور النازية، غير نافعة، خصوصاً وأنه لو انتصرت قوات روميل في العلمين لامتدت آلة الفتك النازية إلى أعراق يعتبرها النازيون متدنية (مثل العرب). ومن ثم، فإن احتكار الصهاينة واقعة الإبادة ليس له ما يبرره في الواقع التاريخي. 

إنــــكار الإبـــــادة والخطـــــاب الحضـــــاري الغـــربي 
Denial of the Holocaust and Western Cultural Discourse 

«إنكار الإبادة» مصطلح يتواتر الآن في الصحف الغربية وفي بعض الأدبيات الخاصة بالإبادة النازية لليهود، وهو يشير إلى أي كتاب أو مؤلف تجرَّأ صاحبه وكتب دراسة (علميــة أو غــير علمية) تطعن فيما ذهب إليه الكثـيرون مـن أن عـدد ضحايا النازية من اليهود سـتة ملايين، أو تثير الشكوك بخصوص أفران الغاز وغاز زيكلون بي. 

وقد صدرت في السنوات الأخيرة عدة كتب ودراسات تدور حول هذا المحور: 

1 ـ كتب بول راسينيه Paul Rassinier في الخمسينيات دراسة ضخمة بعنوان أسطورة غرف الغاز. وكان المؤلف قد رُحِّل إلى أحد معسكرات الاعتقال. وفند في كتابه وجود مثل هذه الغرف أساساً وبيَّن أنها أكذوبة تاريخية وأورد إحصاءات ديموجرافية (رسمية) عن عدد اليهود في كل أوربا قبل الحرب وبعدها، وعقب صدور الكتاب حُوكم راسينيه وناشره وعُوقب بالسجن (مع إيقاف التنفيذ) كما فُرضت عليه غرامة مالية فادحة. 

2 ـ من أهم الكتب التي صدرت في هذا المجال كتاب البروفسور آرثر باتس Arthur Butz الأستاذ بجامعة نورث ويسترن أكذوبة القرن العشرين الذي يثير الشكوك حول عملية الإبادة نفسها. ولا يزال البروفسير باتس يُدرِّس في الجامعة في الولايات المتحدة. 

3 ـ أصدر روبير فوريسون R. Faurisson (أستاذ الأدب في جامعة ليون) سلسلة مقالات ثم مؤلفاً كبيراً كتب مقدمتـه اللغـوي الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي يثبت أنه لم تكن هناك أصلاً أفران غاز. 

4 ـ تقدَّم هنري روكيه Henri Roquesبرسالة للدكتوراه إلى جامعة نانت يُشـكك فيهـا في وجـود غُرف الإعـدام بالغاز «زيكلون بي». وقد أجازت الجامعة الرسالة ومنحته الدرجة العلمية بامتياز. ولكن الحكومة الفرنسية ألغت قرار اللجنة وسحبت منه الدرجة. ويُعَدُّ هذا التدخل سـابقة ليـس لها مثيل في تاريخ الجامعات الفرنسية الذي يمتد ألف عام. 

5 ـ أصدر ستاجليش Staglish، أحد قضاة مدينة هامبورج، كتاباً بعنوان أسطورة أوشفيتس. والكتاب هو رسالة للدكتوراه كان القاضي قد قدمها إلى جامعة جوتينجن، وتوصَّل فيها إلى أن كثيراً من النصوص وشهادات الشهود بخصوص معسكر أوشفيتس أو عما كان يجري فيه غير صحيح بالمرة ومليئة بالتناقضات. وقد أُجيزت الدكتوراه بالفعل. وما إن صدر الكتاب حتى قررت الجامعة سحب الدكتوراه من الرجل. كما أصدرت السلطات القضائية قراراً بخصم 10% من راتبه. 

6 ـ يتعرض المؤرخ البريطاني ديفيد إيرفينج David Irving للمطاردة منذ نهاية الثمانينيات لأنه ينكر الإبادة رغم أن مجلة ذا نيويورك ريفيو أوف بوكس The New York Review of Books وصفته بأنه "يعرف عن الاشتراكية الوطنية (أي النازية) أكثر من أي عالم آخر متخصص في هذا الحقل، وأشارت إلى كتابه عن حرب هتلر بأنه أحسن دراسة عن الجانب الألماني في الحرب". ورغم كل هذا طُرد من كندا وبعد ذلك من أستراليا، ومُنع من إلقاء محاضراته فيهما. وأصدرت إحدى المحاكم الألمانية حكماً بتغريمه عشرة آلاف مارك لمجرد أنه نفى أن اليهود كانوا يموتون في غرف الغاز في معسكر أوشفيتس. 

وقد وصل هذا الاتجاه إلى ذروته (أو هوته) مع صدور قانون فابيوس (رقم 43) في مايو 1990 المسمى «قانون جيسو» (وهو اسم النائب الشيوعي الذي َتبنَّى هذا القانون). ويُحرِّم هذا القانون أي تشكيك في الجرائم المقترفة ضد الإنسانية بإضافة المادة 24 مكرر إلى قانون حرية الصحافة عام 1881، جاء فيها: "يُعاقب بإحدى العقوبات المنصوص عليها في الفقرة السادسة من المادة 24، كل من ينكر وجود أي من الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية كما وردت في المادة 6 من النظام الأساسي للمحكمة العسكرية الدولية الملحق باتفاق لندن الموقع في 8 أغسطس 1945". 

وقد يظن المرء لأول وهلة أن كل القضايا المرتبطة بالإبادة النازية مثل: هل هي حقيقة أم مجرد اختلاق؟ وعدد الضحايا اليهود، وهل يبلغ عددهم ستة ملايين بالفعل أم أنه أقل من ذلك بكثير؟ هي قضايا تم حسمها تماماً في الأوساط العلمية. وقد يظن المرء كذلك أن الدراسات السابقة هي دراسات عنصرية تآمرية كتبها مهيجون يحاولون إثبات أن اليهود وراء كل الشرور والجرائم. ولكن الأمر أبعد ما يكون عن ذلك، فهي دراسات علمية، ذات مقدرة تفسيرية معقولة تتناول قضايا خلافية. وهي دراسات تطرح وجهة نظر قد تكون متطرفة أو خاطئة (والوصول إلى قـدر من الحقيقة في مثل هـذه الأمـور الخلافية أمر جد عسير)، إلا أنها تدلل على وجهة نظرها من خلال الأرقام والحقائق والمعلومات. ومما لا شك فيه أن هناك المئات من الكتب الأخرى التي كتبها بعض المؤلفين العنصريين، ومثل هذه الكتب لا تستحق القراءة لأنها كتابات عصبية متشنجة لا تبرهن على وجهة نظرها بطريقة علمية تفسيرية هادئة. 

ولكن الإعلام الغربي والصهيوني يُهاجم هذه الكتب بشدة، العلمي منها وغير العلمي، ويشجبها بعصبية واضحة، ويهيج ضدها بطريقة غوغائية، ويوجه الاتهام لكل من تسول له نفسه أن يُنكر الإبادة أو يثير الشكوك حـول موضوع الملايين الستة حتى لو كان من العلماء المتخصصين، مع العلم بأن هناك دراسات كتبها علماء إسرائيليون يُعبِّرون فيها عن شكوكهم بخصوص رقم ستة ملايين. ولعله كان من الأجدى أن يميِّز الإعلام الغربي بين الدراسات العلمية والدراسات غير العلمية، وأن يُخضع الدراسـات العلمية للنقد العلمي الهادئ، وأن يُطالب بفتح كل الملفات السرية والأرشيفات الغربية والشرقية لنتبيَّن مدى صحة هذه الأطروحات. وقد أصبح هذا متيـسراً بعد سـقوط الاتحاد السـوفيتي إذ أصبحـت وثائقه متاحة للدراسـة. ولعل حالة ديمانجوك الذي اتُهم بأنه « إيفان الرهيب »، الذي اشترك في إبادة اليهود وغيرهم في معسكر تربلينكا، تكون مثلاً على الخطوات المطلوب اتخاذها. فقد كانت كل الدلائل التي جمعها الأمريكيون والإسرائيليون تبيِّن أن ديمانجوك هـو إيـفان الرهيب، وأصدرت المحاكم الإسرائيلية حكماً ضده بالفعل. ولكن، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، ظهرت وثائق تبيِّن بما لا يقبل الشك أن هناك شخصاً آخر هو الذي قام بعمليات الإبادة فأُفرج عن ديمانجوك. 

ومن الصعب فهم تلك الاستجابة الهستيرية لدى الإعلام الغربي والصهيوني إزاء عمليات إثارة الشكوك حول الإبادة وعدد الستة ملايين، ومع هذا فلنحاول تناول هذه الظاهرة غير العقلانية. ونحن نذهب إلى أن الخطاب الحضاري الغربي له حدوده التي يفرضها على عملية الإدراك. فقد قام الغرب بتحديد معنى الإبادة النازية لليهود ومستواها التعميمي والتخصيصي، فقام باختزالها وفرض منطق غربي ضيق عليها من خلال التلاعب بالمستويات التعميمية والتخصيصية، ومن خلال نزعها من سياقها الغربي، الحضاري والسياسي الحديث.
يتبع إن شاء الله...


الباب الخامس: بعض إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

الباب الخامس: بعض إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الخامس: بعض إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا   الباب الخامس: بعض إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا Emptyالخميس 28 نوفمبر 2013, 12:30 am

1 ـ بالنسبة للمسئول عن الجريمة: تُخضَع الإبادة النازية لعمليتين متناقضتين: 

أ ) يتم تضييق نطاق المسئولية إلى أقصى حد بحيث تصبح الإبادة النازية جريمة ارتكبها الألمان وحدهم ضد اليهود. 
ب) يتم توسيع نطاق المسئولية إلى أقصى حد بحيث تختفي كل الحدود وتصبح الإبادة النازية ليهود أوربا جريمة كل الأغيار بشكل مطلق، أو جريمة كلٍّ من الألمان والأغيار، أو الألمان باعتبارهم أغياراً، أو الألمان بموافقة وممالأة الأغيار. 

2 ـ بالنسبة للضحية: تُخضَع الإبادة كذلك لعمليتين متناقضتين: 

أ ) يتم تضييق نطاق الجريمة إلى أقصى حد بحيث تصبح جريمة موجهة ضد اليهود وحدهم، لا ضد الملايين من اليهود وغير اليهود (من الغجر والسلاف وغيرهم). 
ب) يتم تعميم الجريمة إلى أقصى حد بحيث تصبح جريمة موجهة ضد اليهود، كل اليهود، لا يهود العالم الغربي وحسب. 

وبعد أن تم تعريف الإبادة بهذه الطريقة، وبعد أن تم التلاعب بالمسـتويات التعميمـية والتخصيصـية وضبطها بما يتفق مع مصلحة الغرب، قام الغرب بأيقنة الإبادة، أي جعلها مثل الأيقونة تشير إلى ذاتها حتى لا يمكن التساؤل بشأنها، فهي مصدر المعنى النهائي. وكما قال دان داينر إن أوشفيتس هي أرض لا يمتلكها أحد، هي فراغ يبتلع كل التفسيرات التاريخية (فهو يشبه الثقوب السوداء التي تتحطم فيها قوانين الضوء والزمان). فأوشفتس هو "المعيار المطلق الذي يُحكَم من خلاله على التاريخ، ولا يمكن أن يصبح هو نفسه جزءاً من التاريخ"، وهو كلام لا معنى له بطبيعة الحال، فأوشفيتس حدث تاريخي، وقع في الزمان، ولا يصلح أن يكون معياراً أخلاقياً أو تاريخياً يُحكم به على كل الأمور الإنسانية في كل زمان ومكان (ألا يشكل هذا قمة التمركز الأوربي حول الذات [بالإنجليزية: إيورو سنترستي Euro-Centricity]). ولكن مثل هذا الكلام الأجوف له معنى داخل الخطاب الحضاري الغربي بسبب عملية الأيقنة التي أشرنا لها (وتجدر ملاحظة أن الأيقنة ليست مقصورة على المفكرين اليهود وإنما تشمل أعداداً كبيرة من غير اليهود). فالإبادة بهذا المعنى أصبحت من المسلمات، التي تُشكِّل فَهْم الإنسان الغربي المسبق، شأنها في هذا شأن مقولة " عبء الرجل الأبيض " في القرن التاسع عشر، وشأن إحساس الغرب بمركزيته في القرن العشرين أو الإيمان بالتقدم المادي وتحقيق الذات باعتبارهما الغاية النهائية لوجود الإنسان في الأرض. والمسلمات هي الركيزة الأساسية للنموذج، فهي التي تحدد حلاله وحرامه، وما هو مقدَّس وما هو مدنَّس. ومن ثم أصبح التساؤل بشأن الإبادة هو تساؤل بشأن إحدى المسلمات (المقدسات أو المطلقات، إن شئت) وهو ما لا يمكن لأية حضارة، مهما بلغت من سـعة صـدر وليبرالية وتعـددية قبوله. 

وقد يُقال إنهم في الغرب ينتجون أفلاماً تُعرِّض بالسيد المسيح عليه السلام مثل فيلم سكورسيزيScorsese "الإغواء الأخير للمسيح"، وأعمالاً فنية مثل لوحة الفنان أندريه سيرانو Andre Serrano الشهيرة بعنوان "فلتتبول على المسيح" (Piss Christ) حيث وَضَع الفنان صورة المسـيح على الصـليب في البول، وعرضـها في معرض قامت الدولة بتمويله، إن كانوا يفعلون ذلك فلم لا يقبلون بفتح ملفات الإبادة؟ والرد على هذا هو أن السيد المسيح لم يعد ضمن المقدسات، أما الإبادة فقد أصبحت كذلك. وقل الشيء نفسه عن الشذوذ الجنسي، فحتى الستينيات كان الخطاب الغربي يرى أن ثمة معيارية مـا وثمـة انحراف عنـها، ولهـذا كان هناك مفهوم للشذوذ والانحراف، ولكن مع غياب المعيارية تآكل بالتالي مفهوم الشذوذ تماماً، وبالتدريج أصبح الشذوذ شكلاً من أشكال تأكيد الحرية الفردية المطلقة (التي تتجاوز أية معيارية اجتماعية)، وتعبيراً عن حق الفرد في اختيار الهوية الجنسية التي تعجبه والتي يمكنه من خلالها تحقيق ذاته على أفضل وجه ممكن. وبذلك تحوَّل الشذوذ الجنسي من كونه انحرافاً إلى علامة من علامات التفرد وتعبيراً نماذجياً متبلوراً عن المنظومة الحضارية والأخلاقية السائدة في المجتمع في تمركزها حول الذات والمتعة (وفي عدم اكتراثها بالقيم الدينية والاجتماعية أو بأية ثوابت إنسانية). وأصبح تقبل الشذوذ الجنسي علامة من علامات التحضر وسعة الأفق والتعددية، وأصبح رفضها دليلاً قاطعاً على تزمت الشخص وتطرفه بل "أصوليته". 

لكل هذا أصبح من الممكن، داخل الخطاب الحضاري الغربي، ربط الشذوذ بالمقدسات العلمانية (المادية) الجديدة. وهذا بالضبط ما يفعله الروائي الأمريكي اليهودي ليف روفائيل، فهو يربط بين الشذوذ الجنسي والهولوكوست، فبطل إحدى رواياته يهودي يخاف من تأكيد الأبعاد الثلاثة لهويته: هويته اليهودية، وهويته كشاذ جنسي، وهويته كأحد ضحايا الهولوكوست. فيقوم صديقه الذي يعيش معه بتشجيعه على تجاوز مخاوفه. ومنذ عدة سنوات أُقيم مؤتمر للشواذ والسحاقيات في إسرائيل، وأقام أعضاء المؤتمر صلاة القاديش في نصب ياد فاشيم من أجل الشواذ جنسياً والسحاقيات ممن سقطوا ضحايا للاضطهاد النازي. ولا شك في أن ربط الشذوذ الجنسي بالهوية اليهودية بالهولوكوست تصدمنا، ولكن علينا أن ندرك ما هـو مقـدَّس وما هو مدنـَّس في خطاب الآخر قبل أن نشعر بالصدمة، والهولوكوسـت أيقونة مقدَّسـة والشـذوذ أمر عـادي، بل أمر محبب، ومن يدري لعله أصبح أمراً له « قداسته » الخاصة، ونحن لا نعرف بعد، إذ أننا لا نتابع ما يجري هناك بكفاءة عالية؟ 

ولنا الآن أن نطرح السؤال التالي: لم تم تحويل الإبادة إلى أيقونة مقدَّسة، ومسلمة نهائية؟ والإجابة على هذا السؤال تتطلب منا الانتقال من عالم القرائن والوثائق والاستشهادات إلى عالم محفوف بالمخاطر وهو عالم الخطاب الحضاري والنماذج الحضارية. ولذا سنحاول أن نقدح زناد الفكر وأن نـقنع بإجابات ذات مقدرة تفـسيرية معقولة وليـست ذات طابع يقيني عال. وسوف نعمد بدايةً إلى استبعاد الصيغة العربية الجاهزة للإجابة على كل الأسئلة، أي «اللوبي الصهيوني» أو «المؤامرة اليهودية» أو «النفوذ اليهودي» وغير ذلك من مقولات ما أنزل الله بها من سلطان لأنها تُفسِّر كل شيء ببساطة بالغة، وما يُفسِّر كل شيء بهذه البساطة لا يُفسِّر شيئاً على الإطلاق! 

ونحن نذهب إلى أن ثمة خطاباً غربياً واحداً فيما يتصل بالإبادة، يتفرع عنه الخطاب الصهيوني، وهو خطاب لا يختلف عن الخطاب الغـربي العـام إلا في التفاصـيل، فهما يكـادان يكونان وجهين لعملة واحدة، وعلاقة الواحد بالآخر هي علاقة الكل بالجزء والأصل بالفرع. وتتلخص خصوصية الخطاب الصهيوني في تعميق الجوانب اليهودية وفي إضافة ديباجات يهودية (دينية وإثنية) كثيفة. فالخطاب الصهيوني ينزع، هو الآخر، حادثة الإبادة من سياقها الحضاري والتاريخي الغربي، ويتلاعب بالمستوى التعميمي والتخصيصي، فيُحوِّل واقعة الإبادة من جريمة ارتكبتها الحضارة الغربية ضد مجموعات بشرية داخلها إلى جريمة ألمانية أو جريمة الأغيار ضد اليهود. ولكن الخطاب الصهيوني (انطلاقاً من مفهوم الشعب المختار والحلولية اليهودية التي تسبغ القداسة على اليهود) يُعمِّق عملية التخصيص فتتحوَّل الإبادة من قضية اجتماعية تاريخية إنسانية إلى إشكالية غير إنسانية تستعصي على الفهم الإنساني، وإلى سر من الأسرار يتحـدى العقل، وإلى نقطـة نهائية ميتافيزيقية تتجاوز الزمان والمكان والتاريخ. والاختلاف هنا هو اختلاف في الدرجة وليس في النوع، إذ تظل هناك وحدة أساسية، ولذا لا يجوز في الخطاب السياسي الغربي والصهيوني تشبيه إبادة أية أقلية بإبادة اليهود.

ويمكننـا الآن أن ندرج بعـض الأبعـاد التـي أدَّت إلى أيقـنة الإبادة: 

1 ـ يعيش الغرب في إطار أن الإبادة جريمة ألمانية نازية وحسب ضد اليهود وحدهم، وليست حلقة في سلسلة الجرائم الإبادية التي ارتكبتها الحضارة الغربية ضد شعوب العالم، والتي تنبع من رؤيتها النفعية المادية الإمبريالية المتجردة من القيمة. وقد استقر هذا المفهوم وأصبح إطاراً مرجعياً ينظر الإنسان الغربي إلى نفسـه وإلى تاريخه من خلاله. وعملية الأيقنة تفصل هذه الجريمة عن نمط حضاري عام متكرر ولا تُذكِّر هذه الحضارة بماضيها الإبادي، كما تعفيها من مسئولية الجريمة النازية ذاتها. 

ورغم أن الإبادة هي إحدى ثمرات النازية والعلم المنفصل عن القيمة، فإن عملية أيقنة الإبادة تصاحبها عملية أخرى، وهي عملية تهميش النازية ومنظومتها القيمية رؤيتها للكون، بحيث تصبح النازية وجرائمها مجرد انحراف عن الحضارة الغربية. والتخلي عن هذا الإطار (الذي يُأيقن الإبادة ويُهمِّش النازية) سيكشف فضيحة الحضارة الغربية ومسئوليتها عن هذه الجريمة البشعة المنظمة وعن غيرها من الجرائم التي هي جزء من نمط عام متكرر. وفي هذه الإطار يمكن فهم الحرج الزائد الذي يسببه اكتشاف تورط كثير من الشخصيات الفكرية الأساسية في الحضارة الغربية (مثل هايدجر) مع النازيين، ومحاولة إخفاء هذه الحقيقة وغيرها من الحقائق (مثل تلكؤ أيزنهاور في ضرب القطارات التي كانت تقل اليهود إلى معسكرات الاعتقال والسخرة، ورفض الدول الغربية فتح أبوابها للمهاجرين). فإبراز تورط هايدجر وغيره قد يشير إلى تورط الحضارة بأسرها وقد يقوض المعنى الغربي المفروض على الإبادة. 

2 ـ لا يمكن إنكار الدور الذي يلعبه شعور الغربيين بالذنب تجاه ما حدث لليهود على يد النازيين. ولكن الإحساس بالذنب هنا يوجه نحو الأيقونة (الفريدة التي تشير إلى ذاتها) ومن ثم يتحول من إحساس خُلقي عميق ورغبة في إقامة العدل إلى حالة شعورية تدغدغ الأعصاب بل إلى مصدر راحة، إذ يمكن للإنسان الغربي أن يهنئ نفسـه بأنــه لا يزال يمـارس مثل هـذه المشـاعر النبيلة. وبدلاً من أن يحفز الشعور بالذنب الإنسانَ الغربي إلى التصدي لما يجري في العـالم من عمليات إبــادة (تقــوم بهـا حكــوماته أو تقف موقف « الحياد » تجاههــا) فــإنه يتــجه نحو تأكيد تفرد الهولوكوست والمبالغة في أهـوالها، وبالتالي يتحول الحس الخُلقي إلى حس جمالي أو حالة شعورية لا تُترجم نفـسها أبداً إلى فعل فاضـل؛ إلى أمر بالمعروف ونهي عن المنكر. وأيقنة الإبادة بذلك تغطي على ما يجري من مذابح سواء في فيتنام أو البوسنة والهرسك أو الشيشان أو لبنان. 

3 ـ لكن الفضيحة الأســاسية التـي تغطيــها عملـية أيقنة الإبادة النازية هي الجريمة التي ارتكبتها الحضارة الغربية في حق الشعب الفلسطيني الذي طُرد من أرضه بموجب وعد بلفور وقرار هيئة الأمم المتحدة وبدعم كل الدول الغربية. فإذا كانت الجريمة هي حقاً جريمة الألمان على وجه الخصوص أو الأغيار على وجه العموم، وضد اليهود على وجه العموم وضـد اليهود وحـدهم كما يدَّعي الخطاب الحضاري الغربي، فلابد إذن من حلها على مستوى عالمي وألماني، ولابد من تعويض الضحـايا اليهود وحسـب وإهمال الضحايا الآخرين. ومن ثم، يصبح من المنطقي أخذ (لا اغتصاب) فلسطين من "الأغيار" وردها «لليهود» بسبب الجرم الذي حاق بهم على يد هؤلاء الأغيار. كما يمكن أخذ التعويضات من الألمان وتمويل المستوطن الصهيوني باعتباره المأوى الذي "عاد" إليه ضحايا الإبادة. وإذا كانـت الإبــادة هــي حقاً جريمة موجهة ضد اليهود وحسب، فإن المتحدثين اليهود هم وحدهم أصحاب الحق في فرض المعنى الذي يريدونه على الواقعة، وهم وحدهم أصحاب الحق في التعويض. 

4 ـ ترتكز المنظومة الغربية التحديثية بأسرها إلى العلم المنفصل عن القيمة وعن الغائية الإنسانية. ورغم الإدراك المتزايد لوحشية هذا الافتراض، فإنه لا يزال هو المقولة المعرفية الحاكمة. وفتح باب الاجتهاد بخصوص الإبادة يعني في واقع الأمر فتح باب الاجتهاد بخصوص الأساس الفلسفي الذي تستند إليه الحداثة الغربية بأسرها. 

5 ـ ويمكننا الآن أن نثير قضية ليست ذات علاقة مباشرة بالإبادة، إلا أنها قد تلقي الضوء على عملية أيقنتها. فالمجتمعات الغربية مجتمعات تسـيطر عليها العلمانية الشـاملة، وتسـود فيها النسبية المعرفية والأخلاقية، ولذا فهي تعيش بلا مقدَّسات أو ميتافيزيقا، وهو أمر مستحيل بالنسبة لمعظم البشر. إذ يبدو أن حياة الإنسان لابد أن يكون فيها شيء مقدَّس ما، فإن لم يكن الإله فيمكن أن يكون أي شيء، وكل شيء. وما حدث بالنسبة للإنسان الغربي أنه فقد إيمانه بمقدَّساته الدينية التقليدية، فأخذ يبحث عن مقدَّسات مادية حديثة يمكنه أن يدركها بحواسه الخمس (المصدر الوحيد للمعرفة بالنسبة له) وبوسعه أن يُقسِّم العالم من خلالها إلى مقدَّس ومدنَّس، وإلى محرَّم ومباح. إن الإنسان الغربي دائب البحث عن ميتافيزيقا علمانية مادية، تريحه نفسياً ولا تُحمِّله أية أعباء أخلاقية (مثل الإيمان بالأطباق الطائرة أو علاقة الأبراج بمصير الإنسان وسلوكه). ويبدو أنه وجد ضالته في الإبادة النازية لليهـود التي تولِّد فيه إحـساسـاً لذيذاً بالـذنب، لا يكلفه أي جهد أخلاقي. وقد تحولت الإبادة إلى أيقونة تجسِّد ميتافيزيقا كاملة من خلال علمنة المفاهيم الدينية المسيحية، إذ أصبح اليهود (في لاهوت موت الإله وفي الخطاب الحضاري الغربي ككل) هم المسيح المصلوب وأصبح ظهور الدولة اليهودية هو قيامه. والصلب والقيام هنا أمران ماديان يتمان داخل الزمان والتاريخ. فكأن الإبادة النازية لليهود هي الأيقونة العلمانية الشاملة المقدَّسة في الوجدان الغربي، فهي مفهوم قبلي بُنيت عليها مجموعة من المفاهيم الأخرى، فإن سقطت الأيقونة سقط كل ما بُني عليها وأصبح من الضروري مراجعة كل شيء، وهو أمر صعب للغاية على البشر. 

وهذا لا يعني بطبيعة الحال إنكار أهمية البُعد الصهيوني للاستجابة الغربية الهستيرية. 

1 ـ لا يمكن إنكار وجود قدر كبير من الضغط الذي تمارسه المؤسسات اليهودية والصهيونية للإبقاء على الوضع المعرفي والمعلوماتي القائم، الذي يُحقق لها فوائد جمّة. كما أن هناك الآلاف من أعضاء الجماعات اليهودية ممن تقاضوا التعويضات الألمانية عما لحق بهم من أذى وممن لا يزالون يطالبون بها، وهؤلاء أيضاً أصبحوا جزءاً من "جمـاعة مصـالح" تحـوَّلت إلى جماعة ضـغط. وليـس من صـالح هؤلاء كشـف حقيقة ما حدث. 

2 ـ أصبح الخطاب الصهيوني يستند بشكل شبه كامل إلى الإبادة النازية، وأصبحت الشرعية الصهيونية ذاتها تستند إلى حادث الإبادة. والشرعية عادةً لا تستند إلا إلى مطلقات، لا يمكن إخضاعها للتساؤل. 

ويميل كاتب هذه الموسوعة إلى القول بأن معسكرات الاعتقال والسخرة والإبادة حقيقة مادية لا شك فيها، وأن أفران الغاز هي الأخرى حقيقة (ومن ثم لا يمكن إنكار الإبادة باعتبارها تصفية جسدية متعمدة). ولكن حجم هذه الأفران ومدى كفاءتها وعدد ضحاياها ودلالة هذه الحقائق المادية وتفسيرها تظل كلها موضوعات قابلة للاجتهاد والفحص العلمي والوثائقي بل تتطلبها، فهي موضوعات خلافية. وهنـاك فيما يبـدو مصلحة للبعض في أن يُضـخمهـا أو يُقلل من أهميتها. فإذا كان الحياد الكامل مستحيلاً في مثل هذه الأمور (كما في غيرها)، فلابد، على الأقل، أن ننفصل إلى حدٍّ ما عن الظاهرة موضع الدراسة ونُعيد قراءة الوثائق المتاحة ونطالب بإتاحة كل الوثائق السرية، وخصوصاً أن الموضوع أصبح موضوعاً تاريخياً مر عليه أكثر من خمسين عاماً.

إشــكالية الحــــل النهـــائي ومؤتمر فانــسي 
The Problematic of the Final Solution and the Wannsee Conference 

تزعم الأدبيات الصهيونية أنه في 20 يناير 1942 عُقد مؤتمر يُسمَّى «مؤتمر فانسي» بهدف التنسيق بين الوزارات المختلفة التي اشتركت هي والحزب النازي وقوات الإس. إس. في محاولة تنفيذ الحل النهائي، باعتباره التصفية الجسدية لليهود. ويُقال إن رينهارد هايدريش دعي إلى هذا المؤتمر بناء على خطاب من هرمان جورنج بتاريخ 31 يوليه 1941، وأشـار إلى «الحـل الكامل للمسألة اليهودية». وقد أعد أيخمان الإحصاءات والبيانات اللازمة لمناقشة الموضوع. وحضر المؤتمر كبار موظفي الدولة والحزب وناقشـوا كيفية تهجير اليهود وإرسـالهم إلى معتقلات العمل والسـخرة. وعبارة «الحل الكامل» هي صيغة أخرى لعبارة «الحل النهائي» (بالألمانـية: إندلوسـونج Endlosung) التي ترد في بعض الأدبيـات النازية، وتعني في الأدبيات الغربية التي تتناول الحركة النازية «المخطط الواعي الذي وضعه النازيون لحل المسألة اليهودية بشكل جذري ونهائي ومنهجي وشامل عن طريق إبادة اليهود»، أي بمعنى تصفيتهم جسدياً. والمفتـرض أن هذا المخطط تم تنفيـذه من خلال المؤسسات الحكومية النازية. (وهذا المعنى خلافي كما سنبين فيما بعد). 

ويمكن القول بأن مقولة «الحل النهائي»، مثلها مثل مقولة «نهاية التاريخ»، كامنة في بنية الأيديولوجيا النازية، وفي كثير من الأيديولوجيات الأخرى الشبيهة التي تعتمد العلم الطبيعي مصدراً أساسياً وربما وحيداً للمعرفة والقيم الأخلاقية. فهذه الأيديولوجيات تؤمن بإمكانية، أو حتى بحتمية، التقدم الدائم من خلال تراكم المعرفة حتى تتم معرفة قوانين الحركة أو قـوانين الضرورة أو القـوانين الطبيعية (التي تسري على الطبيعة والإنسان). ومن خلال هذه المعرفة الكاملة أو شبه الكاملة، يمكن ترشيد الواقع تماماً والهيمنة عليه ووضع الحلول النهائية لكل المشاكل وإعلان «نهاية التاريخ» (كما فعل فوكوياما في الولايات المتحدة في أواخر الثمانينيات). والنازية، من هذا المنظور، ما هي إلا إحدى هذه الأيديولوجيات. ومن ثم، فحتى لو لم يعلن النازيون الحل النهائي، فإن الفكرة كامنة في بنية الفكر الغربي والنازي. وعلى كلٍ، لا يمكن فهم التجارب الاستيطانية الإحلالية، سواء في الولايات المتحدة أو في أستراليا أو فلسطين، إلا في إطار فكرة الحل النهائي الذي يُطبَّق على السكان الأصليين، هنوداً كانوا أم فلسطينيين، ويمكن إنجاز الحل النهائي إما عن طريق الإبادة أو عن طريق التهجير. ووعد بلفور وثيقة سياسية تهدف إلى وضع حل نهائي للمسألة اليهودية عن طريق التهجير. والمسألة الفلسطينية أو العربية، من هذا المنظور، هي نتيجة لعدم تطبيق الحل النهائي الصهيوني أو سـببها الفشـل في تطبـيق هذا الحـل حتى الآن. وقد عبَّر عن هذا المعنى صراحةً رحبعام زئيف (رئيس حزب موليديت) الذي انضم إلى الوزارة الإسرائيلية وطالب صراحةً بتهجير العرب، فقد بيَّن بما لا يقبل الشك أن مقولة «الحل النهائي» مقولة أساسية في الفكر الصهيوني، وتنتمي إلى عائلة من الأيديولوجيات الغربية الحديثة التي تبحث عن حل جذري ونهائي ومنهجي لمشكلتها السكانية كما فعل المستوطنون الأمريكيون من قبل، وكما فعل النازيـون في ألمانيا، وكما يفعل الصـرب في البوسـنة والهرسـك، وكما يفعل المستوطنون الغربيون في كل زمان ومكان! 

ويمكننا الآن أن نثير قضية ترادف عبارة «الحل النهائي» مع عبارة «الإبادة كتصفية جسدية»، كما تزعم الأدبيات الصهيونية، وهو ترادف ينكره رجاء جارودي، وغيره من الدارسين، للأسباب التالية: 

1 ـ لوحظ عدم ورود لفظ «الإبادة كتصفية جسدية» مقروناً بعبارة «الحل النهائي» في أية مذكرة نازية. وقد بيَّن ريمون آرون وجاك فيوريت (عام 1979) - في ختام مؤتمر عُقد خصيصاً لهذه القضية وغيرها من القضايا المتعلقة بالإبادة النازية ليهود أوربا - أنه لم يتم العثور على أية مذكرة تحمل هذا المعنى رغم كل الجهود المبذولة. وقد وافقهما المؤرخ الصهيوني النزعة وولتر لاكير على رأيهما هذا (عام 1981)، ولذا أضاف أن مثل هذا الأمر لم َيصدُر قط. 

2 ـ يروج بعض الصهاينة فكرة مؤداها أنه لم يتم العثور على مثل هذه المذكرة لسبب بسيط وهو أن النازيين كانوا يستخدمون لغة مشفرة أو رمزية حتى لا يكتشف أحد أمرهم. والرد على مثل هذا الرأي ـ كما بيَّن جارودي ـ هو الإشارة إلى عدد لا حصر له من الوثائق النازية تضم أوامر صريحة بإبادة السكان الذكور في ستالينجراد (على سبيل المثال) وقتل الجنود البريطانيين الذين يتم أسرهم أثناء تأديتهم بعض العمليات الخاصة (الكوماندوز)، وقتل المسنين بالوسائل العلمية. فلماذا يُشفر النازيون الأوامر الخاصة بإبادة اليهود وحدهم؟ 

3 - حينما يذكر النازيون الإبادة فهي بديل ضمن بدائل عديدة، كما أنها تتم بعدة طرق. فقد تحدَّث هتلر عن الإبادة من خلال "التجويع والقتال غير المتكافئ"، بل تحدَّث عن "هجرة الألمان الاستيطانية" في شرق أوربا وحرب ألمانيا ضد عناصر "المقاومة الشعبية" باعتبارها شكلاً من أشكال الإبادة (وهو تعريف جيد للإبادة يخرج بها عن معناها الضيق المباشر، ويُوسِّع حقلها الدلالي بحيث تصبح الحروب الاستعمارية حروب إبادة، ويصبح الاستعمار الاستيطاني الصهيوني الذي يلجأ إلى التجويع والقتال غير المتكافئ وتهجير اليهود وضرب المقاومة الشعبية أيضاً شكلاً يُصنَّف بكل تأكيد ضمن أشكال الإبادة). وبغض النظر عن رؤية هتلر للتاريخ، فإن مؤتمر فانسي قد قسَّم طريقة التخلص من العناصر غير الاجتماعية غير المرغوب فيها من خلال أربعة طرق مختلفة: التعقيم أو الإبادة بالجوع أو الإبادة بالعمل أو حتى من خلال برنامج الألمنة. 

4 ـ كان النازيون يتحركون في إطار الحل الإمبريالي للمسألة اليهودية وهو تصديرها للخارج. وقد بيَّن هتلر أنه يميِّز بين معاداة اليهود العاطفية ومعاداة اليهود المنهجية، فالأولى تنتهي بالمجازر، أما الثانية فتنتهي بتهجير (ترانسفير) اليهود. وقد حدد هتلر مشروعه بالنسبة لليهود باعتباره عملية تهجير. وفي رده على سؤال وُجه إليه في اجتماع عام بشأن حقوق اليهود الإنسانية، قال: « ليبحث اليهودي عن حقوقه الإنسانية في دولته فلسطين ». وفي 10 أغسطس 1941 دافع هتلر عن الحل الشامل للمسألة اليهـودية باعتـباره نقل 600 ألف من أراضي الرايخ. وكانت مجلة الإس. إس. قد استخدمت العبارة نفسها بهذا المعنى في عددها الصادر في 24 نوفمبر 1938 حين تحدثت عن الحل الشامل باعتباره « الفصل والعزل الكلي لليهود ». 

5 ـ طبق النازيون هذه الرؤية الإمبريالية (الصهيونية) على اليهود، ولذا بدأ الحل النهائي بتهجير اليهود من أصل بولندي إلى بولندا، ولكن الحدود أُوصدت دونهم. ثم طرح النازيون مشاريع صهيونية عديدة تهدف إلى توطين اليهود وتأسيس وطن قومي لهم في أي مكان خارج أوربا (أكوادور ـ سوريا ـ مدغشقر). 

وقد تعاون النازيون مع الصهاينة انطلاقاً من قبول هذا الحل الصهيوني النازي للمسألة اليهودية فتم توقيع معاهدة الهعفراة للمساعدة في تهجير اليهود إلى فلسطين. وحقق النازيون بعض النجاح في هذا المضمار إذ بلغ عدد اليهود الذين هاجروا من ألمانيا وحـدها حوالي 150 ألف (بين 1933 ـ 1938) وهي نسـبة مئوية عالية. وظل النازيون يدافعون عن فكرة تهجير اليهود، وكانوا لا يكفـون عن الشـكوى من أن سـيل الهجرة لم يكن سـريعاً بما فيه الكفـاية، ومن أن الدول الغربية توصـد أبوابها في وجه المهاجرين اليهود.

وفي السنين الأخيرة للحرب، بعد مؤتمر فانسي (يناير 1942) وبعد وقوع مساحات شاسعة من الأرض السوفيتية البولندية في أيدي النازيين، بدأت فكرة توطين اليهود فيها تراود النازيين («ترحيل اليهود إلى الشرق» في المصطلح النازي). وقد جاء في مذكرة رسمية بتاريخ 10 فبراير 1942 صادرة من وزارة الخارجية الألمانية ما يلي: « إن الحرب ضد الاتحاد السوفيتي وفرت لنا أراضي جديدة لتنفيذ الحل النهائي. وقد قرر الفوهرر أنه بدلاً من إرسال اليهود إلى مدغشقر فسيقوم بإرسالهم إلى الشرق. ولذا ليـس هناك ما يدعو إلى التفكير في مدغشـقر باعتبارها [مجال] الحل النهائي ». وكل هذا يعني في واقع الأمر أن الحل النهائي هو حل صهيوني إقليمي، يعني التخلص من اليهود عن طريق ترحيلهم (ترانسفير) من مكان لآخر، تماماً كما فعلت الحضارة الغربية مع اليهود حيث نقلتهم إلى فلسطين، وكما فعل الصهاينة مع الفلسطينيين بنقلهم منها. 

6 ـ كان النازيون في حاجة ماسة للأيدي العاملة، فلماذا تُضيِّع آلة الحرب النازية وقتها في إبادة الملايين بدلاً من توظيفهم في أعمال السخرة؟ ومن الواضح أن النازيين كانوا أكثر رشداً ونفعية مما يتصوره الدارسون الصهاينة. فكانوا يزيدون من عدد العمال الذين يعملون نظير دولار واحد في اليوم للاستفادة من العمالة الرخيصة. وقد أرسل هملر مذكرة إلى أحد رؤساء معسكرات الإبادة (بتاريخ 25 يناير 1942) يخبره فيها أن يستعد لاستقبال 200 ألف يهودي حيث ستسند للمعسكر مهام اقتصادية مهمة. وفي مايو 1944 أصدر هتلر أمراً باستخدام 200 ألف يهودي كعمال في أحد المشاريع الإنسانية. وقد أصدرت قيادة الإس. إس S. S. أمراً بمنح مكافأة لكل السجناء (ومنهم اليهود) الذين أبلوا بلاءً حسناً في العمل. كما وفرت المؤسسات النازية لهؤلاء العاملين كل الأنشطة الترفيهية، وضمنها بيت دعارة، لزيادة الإنتاجية. 

7 ـ حينما يرد لفظ «الإبادة» في نصوص نازية فإنه لم يكن يعني دائماً «التصفية الجسدية»، ففي 26 مارس 1941 في حفل افتتاح معهد فرانكفورت لدراسة المسألة اليهودية أشار أحد المتحدثين إلى الإبادة (بالألمانية: فولكشتود Volkstod) باعتبارها الحل الشامل للمسألة اليهودية وعُرِّف هذا الحل بأنه « أن يترك اليهود أوربا ». وقد أفاض المتحدث وقال إنه يمكن أن يترك اليهود أوربا عن طريق وضعهم في معسكرات عمل في بولندا (حيث يتم إفقارهم) أو في مستعمرة. ولعل تجربتي جيتو وارسو وتيرس آينشتات (وغيرهما من التجارب) قد تمتا في هذا الإطار. 

8 ـ لوحظ أثناء محاكمات نورمبرج أن المدّعين الذين مثلّوا الحلفاء كانوا يحاولون قصارى جهدهم أن يلووا عنق بعض الكلمات الألمانية ليترجموها بكلمة «إبادة». فكلمة «أوسروتونج Ausrottung» على سبيل المثال، والتي تعني «استئصال شأفة» شيء ما بأية طريقة فعلية أو مجازية تُرجمت إلى «إبادة» بمعنى «تصفية جسدية متعمدة»، مع أن النازيين اسـتخدموا في إحـدى وثائقهم عبارة «استئصال شأفة المسيحية»، ولم يُفسِّر أحد هذه العبارة باعتبارها مخططاً نازياً لإبادة المسيحيين. 

9 ـ ما تهملـه كثير من الدراسـات الغربية هو ما يمكن تسـميته «الاختفاء»، أي اختفاء أعداد كبيرة من اليهود من خلال عوامل طبيعية مثل الزواج المختلط والموت بسبب الغازات والأوبئة أثناء الحرب. 

لكل هذا فعبارة «الحل النهائي» تعني ما تقول دون زيادة أو نقصان، ومن ثم فهي لا تعني بالضرورة «تصفية جسدية متعمدة»، وقد تعني «تصفية من خلال التهجير وأعمال السخرة».

معسـكرات الاعتقــال (الســخرة والإبـادة) 
Concentration and Extermination Camps 

أُقيمت معسكرات الاعتقال في ألمانيا عام 1933 بعد استيلاء النازيين على الحكم، فكان البوليس السري الألماني (جستابو) يقوم بالقبض على خصـوم الحـكومة النازية واحتجازهم في هذه المعسكرات. وحين عظم نفوذ الجستابو وأُعطي الحرية المطلقة في التصرف، أصبحت عمليات القبض تتم على نطاق واسع، فقُبض على جماعات بأكملها ثم أُرسلت إلى معسكرات الاعتقال. ولم تكن هذه العمليات موجهة ضد اليهود بالذات، وإنما كان يُعتقل كل من يشكل خطراً على الدولة الجديدة بغض النظر عن دينه أو جنسيته. وقد وقعت أول حادثة موجهة ضد اليهود في نوفمبر 1938 عندما وُضع عشرون ألـف يهـودي في هذه المعسـكرات في داخـاو وبوخنوالد. ومن معسكرات الاعتقال الشهيرة الأخرى، معسكر برجن بلسن. 

وقد أُقيمت ستة معسكرات للاعتقال والإبادة في بولندا، وهذه المعسكرات هي: 

1 ـ كلمنو (بالقرب من لودز). 
2 ـ بلزك (بالقرب من لفوف ولوبلين). 
3 ـ سوبيبور (بالقرب من لوبلين). 
4 ـ مايدانيك (على حدود لوبلين). 
5 ـ تربلينكا. 
6 - أوشفيتس ـ بيركناو، وهو أشهرها جميعاً. 

وقد أُرسل إلى هذه المعسكرات كثير من الضحايا اليهود والغجر والسلاف وغيرهم، من كل أنحاء أوربا. ويُقال إن كل معسكر كان مزوداً بأدوات متنوعة للإبادة مثل فرق إطلاق النيران، وأدشاش المياه التي تطلق الغاز، والمحارق. ومع هذا يثير كثير من الباحثين الشكوك حول وجـود أفـران الغاز أصلاً وقد صـدرت عدة دراسـات موثقة في هذا الشأن. كما تُثار الشكوك حول استخدام غاز زايكلون بي Zyclon B. في أفران الغاز. إذ تشير معظم الدراسات إلى أن استخدام مثل هذا الغاز يتطلب احتياطات فنية عالية، مكلفة للغاية (يجب أن تكون الغرفة محكمة تماماً ـ لابد من تهويتها لمدة عشر ساعات بعد استخدامها ـ يجب أن تكون المفاصل مصنوعة من الإسبستوس أو التيفلون). ومثل هذه الاحتياطات لم تكن متوفرة للألمان تحت ظروف الحرب، وهو ما يعني استحالة استخدامه على نطاق واسع. وقد ورد كل هذا في تقرير ليوشتر Leuchter Report، الذي كان يعمل مستشاراً لولاية ميسوري وكان متخصصاً في مثل هذه الأمور (ومما له دلالته أن كثيراً من حكومات الولايات المتحـدة، التي كانت تسـتخدم هذا الغاز في عمليـات إعدام المجرمين، قررت الاستغناء عنه، بسبب تكلفته العالية). 

وثمة نظرية تذهب إلى أن غُرف الغاز الموجودة إنما كانت غُرف غاز لتعقيم الخارجين والداخلين إلى المعسكر. أما المقابر الجماعية فهي مقابر الآلاف الذين لقوا حتفهم بعد انتشار الأوبئة كالملاريا والتيفود، وهو أمر مُتوقَّع في ظل ظروف الحرب وفقر الرعاية الصحية. ويرى أنصار هذه النظرية أن الإبادة لم تكن عملية منظمة مقصودة تمت دفعة واحدة، وإنما تمت نتيجةً لعناصر مختلفة فرضت نفسها بسبب ظروف الحرب مثل سوء التغذية والأوبئـة وغيرهـا، وأن من أُبيدوا بطريقة منهجية منظمة أعداد صغيرة جداً، وهي قضية خلافية. ويُقال إن كثيرين ممن أُبيدوا بطريقة منظمة لم تكن إبادتهم بدافع الحقد العنصري وإنما كانت جزءاً من محاربة النازيين للمرض وللتشوهات والانحرافات النفسية والخلقية. ولذا حينما كان يندلع وباء في أحد المعسكرات لم يكن النازيون يلجأون لمحاربته (فهـذا أمر مكلف، بخـاصة في ظروف الحـرب) وإنما كانوا يلجـأون للتخلص من المرضى بطريقة عملية سريعة. 

ولم تكن معسكرات الاعتقال مخصصة لليهود وحدهم وإنما كانت أداة من أدوات النظام النازي تُستخدَم لتحقيق أهدافه القومية، بل إن عدد ضحاياها من غير اليهود يفوق عدد ضحاياها من اليهود. ومن المهم بمكان أن نضع معسـكرات الاعـتقال والإبادة في سـياقها الحضـاري والمعرفي العام. فمنذ بداية التشكيل الحضاري الغربي الحديث أصبحت معسكرات الاعتقال والإبادة نمطاً متكرراً، حيث تم نقل سكان أمريكا الأصليين (الهنود الحمر) إلى معسكرات اعتقال منعزلة كان يُطلَق على كل واحد منها اسم «ريزيرفيشن reservation» تمهيداً لإبادتهم بشكل مباشر أو غير مباشر. وكانت عملية النقل ذات طابع إبادي. وكان السود، الذين يجري اصطيادهم في أفريقيا ونقلهم (ترانسفير) إلى أمريكا، يتم وضعهم في معسكرات أيضاً ويسكنون في مساكن هي أقرب ما تكون إلى معسكرات السخرة. وفي الحرب العالمية الثانية، وضعت الولايات المتحدة الغالبية الساحقة من المواطنين الأمريكيين من أصل ياباني في معسكرات مماثلة. وفي جنوب أفريقيا قامت حكومة التفرقة اللونية (الأبارتهايد) البيضاء بوضع المواطنين الأصليين في معازل جماعية يُقال لها "البانتوستان". وغني عن القول إن هذا الوضع لا يختلف كثيراً عما يحدث في فلسطين المحتلة بعد عام 1967. 

ولم تكن الإبادة مصير كل من يذهب إلى معسكرات الاعتقال، التي كانت أساساً معسكرات سخرة، ولذا نجد أن العدد الأكبر كان يُستخدَم في أعمال السخرة. وقد أُسِّس بجوار أوشفيتس، على سبيل المثال، ثلاثة مصانع كبرى لإنتاج بعض المواد اللازمة للعمليات العسكرية. وكانت الشركات الألمانية تستأجر المعتقلين عشر ساعات يومياً من العمل الشاق مقابل دولار واحد يومياً (وهو موقف كولونيالي تماماً)، ونظراً لحرصها الشديد على الأيدي العاملة الرخيصة كانت توفر لهم بعض الأنشطة الترفيهية (ضمنها بيت دعارة). كما اختير عدد من نزلاء المعسكرات لإجراء التجارب الطبية والعلمية عليهم. وكانت المعسكرات تدار بطريقة تتسم بنوع من الإدارة الذاتية، فكان يتم اختيار بعض العناصر من بين المساجين يشكلون نخبة داخل هذه المعسكرات،وتكون بمنزلة حلقة الوصل بين المساجين والألمان. ويُطلَق عليهم اسم «كابو»،وكان بعضهم من اليهود بطبيعة الحال. وكان كثير من هؤلاء يحرصون على إظهار القسوة نحو المساجين حتى يحظوا برضا الألمان.ومن المعروف أن المساجين الألمان كانوا يُعاملون غالباً بقسوة تفوق ما يعامل به الآخرون لأنهم كانوا يُعتبَرون خونة. واتسمت معسكرات الاعتقال بكفاءتها الشديدة وتحكُّمها الكامل في المادة البـشرية التي كـانت تُصنَّف بعناية وتُوظَّف على أحسن وجـه. وقد حققـت هذه المعسـكرات عائداً كبيراً للاقتصاد الوطني الألماني. هذا، بخلاف التخلص من أعداد كبيرة من الأفراد الذين يشكلون عبئاً على ألمانيا، أي أن التجربة لا غبار عليها البتة إن نظرنا إليها من منظور نفعي مادي لا يكترث بالمطلقات. وبالطبع، يختلف الأمر تماماً إن نظرنا للقضية من المنظور غير المادي، أي من منظور قداسة الإنسان وحقوقه المطلقة. 
يتبع إن شاء الله...


الباب الخامس: بعض إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

الباب الخامس: بعض إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الخامس: بعض إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا   الباب الخامس: بعض إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا Emptyالخميس 28 نوفمبر 2013, 12:40 am

أوشفيتــس 
Auschwitz 

يُعَدُّ «أوشفيتس» أهم معسكرات الاعتقال. وكان يُقال دائماً إن عدد ضحايا أوشفيتس هو أربعة ملايين، منهم مليون ونصف مليون يهودي، والباقون غير يهود. والسند الأساسي لأسطورة إبادة هذه الملايين في أوشفيتس هي اعترافات رودولف هس أثناء محاكمات نورمبرج. وقد ثبت أن كثيراً من " أدلة " الاتهامات في محاكمات نورمبرج هي في معظمها اعترافات يدين خلالها المتهمون أنفسهم، بعد أن ظلوا في الأسر عامين أو يزيد تعرضوا فيها للتعذيب والامتهان. وقد استُبعد عدد كبير من الوثائق والشـهادات التي كان من شـأنها تحطيم الأسـاطير التي حاول الحلفاء نسجها. وهناك من البحوث ما يشير إلى أن العدد الإجمالي لا يمكن أن يزيد على 1.6 مليون، وأنهم قضوا حتفهم لا من خـلال أفران الغاز وإنما بسـبب الجـوع والمرض، والموت أثناء التعذيب، والانتحار. وفي عام 1994 تم تغيير اللافتة الموضوعة على المعسكر، فبعد أن كانت اللافتة القديمة تتحدث عن مقتل أربعة ملايين رجل وامرأة وطفل أصبحت اللافتة الجديدة تتحدث عن مليون ونصف فقط. 

وقد أصبح معسكر أوشفيتس (في الخطاب السياسي والحضاري الغربي) رمزاً ودالاً على عدة مدلولات. فهو رمز مباشر على الإبادة النازية لليهود (بمعنى التصفية الجسدية المتعمدة)، أي أنه الجزء الذي يتبدَّى الكل من خلاله. كما أصبح معسكر أوشفيتس دالاً يشير إلى كل جرائم الإبادة التي تتم بشكل منهجي لا شخصي بيروقراطي (ولكن الصهاينة يرفضون استخدام الاسم على هذا النحو حتى يحتفظ معسكر أوشفيتس بقداسته اليهودية). ويقـول تيودور أدورنو (أحـد مفكري مدرسة فرانكفورت): "لا شعر بعد أوشفيتس"، أي لا يمكن لأي إنسان أن يقرض الشعر بعد أن كشفت الإنسانية عن وجهها القبيح في أوشفيتس. وفي هذا تلاعب بمستويات التعميم والتخصيص، ولعله كان من الأجدر بأدورنو أن يتحدث عن حضـارة العقلانية المادية، بدلاً من الحديث العـام، العـائم الغائم، عن الإنسانية جمعاء. وهذا ما فعله فاكيلاف هافيل، المؤلف المسرحي ورئيس جمهورية التشيك، حينما تحدث عن كبرياء العقل المادي الحديث وغروره الذي يطور مخططات علمية مجردة يحاول فرضها على الحياة الإنسانية (بكل ما تحويه من أسرار لا يسبر لها غور) ويفرض عليها التجانس والتنميط وينتهي به الأمر إلى اختزالها وتدميرها. ثم قال: "وماذا يكون معسكر الاعتقال سوى محاولة من جانب دعاة اليوتوبيا [التكنولوجيا البيروقراطية] أن يتخلصوا من العناصر غير الملائمة [للمخطط التكنولوجي]؟". 

أما في التفكير الديني (المسيحي واليهودي) في الغرب، فقد أصبح معسكر أوشفيتس رمزاً للعالم المادي الذي لا معنى له والذي لا هدف له ولا غاية، فهو عالم انسحب منه الإله، ولذا يُقال «لاهوت ما بعد أوشفيتس» بمعنى «لاهوت موت الإله». ويذهب البعض إلى أن معسكر أوشفيتس أصبح مدلولاً (متجاوزاً) لا يمكن لأي دال أن يدل عليه. فالتجربة اليهودية في أوشفيتس لا يمكن فهمها أو تفسيرها وإنما يمكن تجربتها وحسب. ومن لم يعش التجربة لن يفهم ما حدث، ومن ثم فإن كلمة «أوشفيتس» بمثابة الأيقونة حيث يلتحم الدال بالمدلول وتختفي المساحة بينهما، وتصبح الأيقونة (الرمز) هي نفسها ما ترمز إليه. إن أوشفيتس تتجاوز اللغة الإنسانية ولذا "لا شعر بعد أوشفيتس". 

وفي استخدام مغاير تماماً للكلمة صرح ناحوم جولدمان بأن إسرائيل هي كارثة تاريخية كبرى، تفوق ما حدث في أوشفيتس، ومن ثم تحل الدولة الصهيونية محل أوشفيتس باعتبارها أكبر كارثة حاقت بالجماعات اليهودية في العالم. وقد أصبح معسكر أوشفيتس موضع جدل كبير في الوقت الحالي فقد أُقيم دير للراهبات الكرمليات في بقعة أباد فيها الألمان كثيراً من البولنديين اليهود وغير اليهود، على أن تُقام الصلوات يومياً من أجل الجميع. ولكن بعض القيادات اليهودية في الولايات المتحدة أصرت على ضرورة أن يُزال هذا الدير حتى تظل أوشفيتس رمزاً يهودياً. وقد أذعنت القيادة الكاثوليكية في نهاية الأمر لهذا المطلب. 

ستة ملايين يهودي: عدد ضحايا الإبادة النازية ليهـود أوربا؟ 
Six Milion Jews: Number of European Jewish Victims of Nazi Extermination? 

يرد في وسائل الإعلام الغربية رقم «ستة ملايين» باعتباره عدد ضحايا الإبادة النازية لليهود. وقد استقر الرقم تماماً حتى أصبح من البدهيات، ولكن هناك رفضاً مبدئياً للرقم في الأوساط العلمية اليهودية وغير اليهودية. فعلى سبيل المثال قام راؤول هيلبرج في كتابه تدمير يهود أوربا (1985) بتخفيض العدد من ستة إلى خمسة ملايين (بعد دراسة إحصائية مستفيضة للموضوع). وذكر سيسيل روث، في موسوعته اليهودية، أن الهولوكوست نُفذ بطريقة يصعب معها التحقق من دقة الأرقام، وأن العدد يتراوح بين أربعة ملايين ونصف المليون وستة ملايين يهودي. ويميل المؤرخ الأمريكي اليهودي(صهيوني النزعـة) هوارد ساخار إلى الأخذ برقم أربعة ملايين ونصف مليون. وهناك من الأدلة الإحصـائية ما يرجح الأخذ برأي ساخار، فالكتاب السنوي ورلد ألماناك لعام 1939 يقدر يهود العالم آنذاك بنحو 15.6 مليون. وفي عام 1950، قُدِّر عددهم بنحو 16.6 مليوناً، في حين قدرته صحيفة نيويورك تايمز عام 1948 بما بين 15.7 و18.6مليون، وهناك تقديرات تذهب إلى أن عددهم أقل من ذلك، وقد يصل إلى ما بين 13 و14 مليوناً. وفي جميع الحالات، لا يمكن أن يزيد عدد من اختفوا على أربعة ملايين. ومؤخراً، ذكر المؤرخ الإسرائيلي يهودا باور، مدير قسم دراسات الهولوكوست في معهد دراسات اليهود في العصر الحديث التابع للجامعة العبرية، أن الرقم ستة ملايين لا أساس له من الصحة، وأن الرقم الحقيقي أقل من ذلك. وبيَّنت بحوث المؤرخ الفرنسي جورج ويلير G. Wellers أن العدد الإجمالي لمن أُبيدوا في أوشفيتس من اليهود وغير اليهود ليس أربعة ملايين وإنما هو 1.6 مليون وحسب، وأن هؤلاء لم يقضوا حتفهم من خلال أفران الغاز وحسب وإنما أيضاً بسبب الجوع والمرض والموت أثناء التعذيب والانتحار. ومما يجدر ذكره أن من يتبنون رقم ستة ملايين وغيره من الأرقام لا يشيرون من قريب أو بعيد إلى ظاهرة اختفاء اليهود من خلال عوامل طبيعية مثل الزواج المختلط وسوء التغذية والغازات والأوبئة (التي تتزايد بسبب ظروف الحرب). 

وبغض النظر عن الرقم مليون أو الأربعة أو الستة ملايين،فإن ثمة خللاً أساسياً في المنطق الصهيوني يمكن تلخيص بعض جوانبه فيما يلي: 

1 ـ التركيز على اليهود بالذات دون الجماعات الأخرى. فمع أن اليهود عانوا، مثلهم في ذلك مثل غيرهم من ضحايا النازية، إلا أن سياسة هتلر في الإبادة كانت موجهة أيضاً نحو الغجر والكاثوليك والمعارضين السياسيين والمرضى والمتخلفين عقلياً والسلاف عامة والبولنديين والروس على وجه الخصـوص. وقد بلغ عـدد ضحـايا الحرب ما بين خمسـة وثلاثين مليوناً وخمسين مليون، وخسر الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية ما بين سبعة عشر وعشرين مليوناً بين مدنيين وعسكريين، وخسر البولنديون نحو خمسة ملايين بعضهم من اليهود. وخسر الصينيون ما يزيد على عشرة ملايين ماتوا جوعاً أو قتلاً على يد الاحتلال الياباني. 

2 ـ التركيز على المدنيين دون العسكريين. ومع ذلك، فإنه من بين العشرين مليون سوفيتي الذين قُتلوا في الحرب، كان هناك أربعة ملايين ونصف مليون مدني والباقون من العسكريين، ناهيك عن عدة ملايين من الألمان أرسلهم هتلر للموت في ساحة القتال. كما كان هناك كثيرون من جنود الحلفاء ضمن من قُتلوا في الحرب. ويجب ألا ننسى الجنود من الأفارقة والآسيويين الذين جُنـدوا، رغـم أنفهم، ليشتركوا في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، حيث كانوا يوضعون في الصفوف الأمامية باعتبارهم مادة بشرية رخيصة. 

3 ـ التركيز على الماضي دون الحاضر، وعلى ملايين اليهود الذين هلكوا قـبل نحـو نصـف قرن، دون اهتمـام مماثل بالملايين التي أُبيدت بعد ذلك. فقد فقدت كمبوتشيا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية نحو مليوني شخص، وفَقَدت الجزائر أكثر من مليون شخص، وفقدت أفغانستان منذ الغزو السوفيتي عام 1978 نحو مليون قتيل، فضلاً عن مليوني مهاجر داخل البلد وخمسة ملايين مهاجر إلى خارجها حتى صاروا يمثلون نصف مجموع اللاجئين في العالم. 

4 ـ وهناك، بطبيعة الحال، مشكلة ملايين الفلسطينيين الذين طُردوا من ديارهم والذين يخضعون لظروف إرهابية شبه دائمة. 

لكن التشكيك في مدى دقة الرقم (الستة ملايين) لا يعني بحال من الأحوال التشكيك في الجريمة النازية ذاتها، فالجريمة النازية هي إحدى جرائم الحضارة الغربية الحديثة العديدة التي لا يمكن التهوين من شأنها. وما نهدف أساساً إليه من خلال مناقشة هذه الإشكالية هو تصحيح الرقـم ووضع الظاهرة في سياق إنساني عام ومنظور تاريخي شامل، بحيث نُحدِّد هويتها باعتبارها جريمة غربية محددة ضد قطاعات بشرية عديدة بدلاً من أن تكون جريمة ألمانية ضيقة أو جريمة عـالمية غير محـدَّدة ضـد اليهود كلهم، وضد اليهود دون سواهم. ونحن بهذا ننقذ واقعة الإبادة من سخافات الإعلام الغربي والصهيوني، ولعبة الأرقام الطفولية التي تخبئ الأبعاد التاريخية والأخلاقية والإنسانية العامة للواقعة. 

اختفاء وموت الشعب اليهودي بعد الحرب العالمية الأولى 
Disappearance and Death of the Jewish People after the First World War

يروج المدافعون عن الرؤية الصهيونية للإبادة النازية لرقم ستة ملايين، كجزء من عملية الأيقنة وتحويل الإبادة إلى لغز من الألغاز وسر من الأسرار المقدَّسة. وقد أهمل هؤلاء تماماً بعض العناصر التي أدَّت إلى اختفاء اليهود من خلال عناصر طبيعية مختلفة سنتناولها في هذا القسم. فمن المعروف أن الفترة ما بين عامي 1967 و 1982 شهدت تَناقُص عدد يهود العالم مليوناً، فانخفض من 13.837.500 إلى 12.988.600، دون حدوث إبادة بل دون حالة حرب أو أوبئة. وقد تناقص عددهم لمركب من الأسباب أدَّى إلى ما يُسمَّى «موت الشعب اليهودي». ومن الواضح أن يهود أوربا، أي أغلبية يهود العالم آنذاك، بدأوا يدخلون في مرحلة التناقص ابتداءً من القرن العشرين، للأسباب التالية: 

1 ـ أسباب تؤدي إلى العزوف عن الإنجاب وإلى تناقص الخصوبة ومعدلات التكاثر: 

أ ) أدَّت الهجرة اليهودية الكبرى في نهاية القرن التاسع عشر إلى انتقال أعداد كبيرة من اليهود إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ويُقال إن هجرة اليهود قضت تقريباً على اليهود في المرحلة العمرية من عشرين إلى أربعين عاماً، وهي مرحلة الخصوبة التي تجعل بإمكان الجماعة أن تُعيد إنتاج نفسها. 

ب) كان أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب يضطلعون بدور الجماعة الوظيفية الوسيطة، أي بأعمال التجارة والمال. وكانوا، لهذا، مركزين إما في المدن أو المناطق شبه الحضرية. ومع منتصف القرن التاسع عشر، تصاعد هذا الاتجاه وتزايد تركزهم في المدن بحيث أصبحت أغلبيتهم الساحقة تسكن في المدن عشية الحرب العالمية الثانية، فقد كان ثلث يهود روسيا يوجدون في خمس مدن وبقيتهم تعيش في مدن صغيرة. وكان أربعة وثمانون في المائة من يهود الولايات المتحدة يعيشون في ثماني عشرة مدينة كبيرة ونصفهم في نيويورك. كما كان معظم يهود النمسا في فيينا، ومعظم يهود فرنسا في باريس، وهكذا. ومن المعروف أن سكان المدن من أقل القطاعات البشرية خصوبة. 

جـ) كان اليهود، حتى عشية الحرب العالمية الثانية، جماعة بشرية مهاجرة، ومن المعروف أن أعضاء مثل هذه الجماعات يعزفون عن الإنجاب لعدم استقرارهم. 

د ) كانت هناك عناصر أخرى أدَّت إلى عزوف اليهود عن الإنجاب، من بينها تحسن مستواهم المعيشي، والقلق الذي كان يعيشه أعضاء الجماعات اليهودية في الفترة بين الحربين وإبَّان الحرب العالمية الثانية، وكذلك تزايد معـدلات العلـمنة وبالتالي زيادة التوجه نحو اللذة وتحقيق الذات، الأمر الذي يقوض من الرغبة في إنجاب الأطفال. 

وبالفعل، يُلاحَظ تناقص أعداد اليهود وضمنهم يهود اليديشية. فبعد أن كانوا يتمتعون بأعلى نسبة خصوبة وتَكاثُر بين شعوب الإمبراطورية القيصرية في منتصف القرن التاسع عشر، انخفضت النسبة إلى أقل النسب على الإطلاق في عام 1926. فبعد أن كانت 35.9 في الألف، انخفضت إلى 24.8 في الألف. وفي بولندا، انخفضت النسبة من 28.6 في الألف عام 1900 إلى 12.3 في الألف عام 1925 في وارسو، وإلى 11.6 في الألف في لودز عام 1925. أما يهود المجر، فقد انخفضت النسبة بينهم من 33.91 في الألف في بداية القرن الحالي إلى 10.5 في الألف، أي أنها انخفضت نحو 23.4 في الألف. وكانت نسبة المواليد في بروسيا (ألمانيا) 5.2 في الألف عام 1935 و2 في الألف في لندن عام 1932. وقد حدا هذا الوضع بالكُتَّاب اليهود إلى التحذير من أن يهود أوربا قد يختفون تماماً لأن معدلات المواليد لا تعوض الوفيات. وعلى مستوى العالم، كانت النسبة 5.53 في الألف في الفترة 1822 ـ 1840، انخفضت إلى 19.7 في الألف في الفترة 1898 ـ 1902، ثم إلى 9.1 في الألف عام 1929. كما أنها انخفضت إلى ما دون ذلك لمدة عشرين عاماً (1929 ـ 1949). وكان معدل نسبة المواليد في الفترة 1906 ـ 1910 هو 32 في الألف، ونسبة الوفيات 15 في الألف، والزيادة الطبيعية هي 17 في الألف. ثم انخفضت إلى نحو النصف في نحو خمسة وعشرين عاماً، ففي الفترة 1926 ـ 1930 كانت نسبة المواليد هي 21 في الألف والوفيات 12 في الألف، والزيادة الطبيعية 9 في الألف (انخفضت إلى 8 في الألف عام 1932). ولا توجد إحصاءات عن الفترة 1935 ـ 1949 لأنها كانت فترة الحرب، كما أنها أصبحت موضوعاً يحجم كثير من الباحثين عن الخوض فيه. 

2 ـ عوامل تؤدي إلى الاختفاء: 

أ ) ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر كان يتم تجنيد أعضاء الجماعات اليهودية، وهو أمر جديد كل الجدة، إذ كانوا يتمتعون بالإعفاء من الخدمة العسكرية قبل ذلك، كما سقط منهم ضحايا بأعداد كبيرة في الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية. لكن هذا العنصر لا يؤدي إلى انقاص عدد اليهود مباشرة عن طريق سقوطهم قتلى وحسب وإنما بشكل غير مباشر أيضاً عن طريق زيادة معدل العزوف عن الإنجاب. كما أن العناصر القادرة على القتال هي عادةً من الذكور في سن الخصوبة. 
ب) تزايد نسبة الزواج المُختلَط بدرجة عالية كانت تصل إلى أكثر من 50% في بعض العواصم الأوربية. 
جـ) تَنصُّر أعداد كبيرة من اليهود، وهو شكل من الأشكال الحادة للاندماج. وقد تزايد المعدل عشية الحرب العالمية الثانية لأسباب عملية منها الهرب من بطش النازي. كما حصل كثير من اليهود على شهادات تعميد من الكنيسة الكاثوليكية حتى يتيسر لهم دخول أمريكا اللاتينية. وآثرت أعداد كبيرة منهم عدم الإفصاح عن هويتهم اليهودية حتى بعد زوال الخطر. 
د ) ينطبق الشيء نفسه على مئات الألوف من الذين هاجروا إلى روسيا السوفيتية هرباً من النازي.فكثير منهم لم يفصح عن انتمائه اليهودي،خصوصاً وأن الاتحاد السوفيتي (سابقاً) كان يترك لكل شخص أن يحدد انتـماءه، فلو كان الشـخص يهودياً وعرَّف نفسه بأنه «روسي» أو «أوكراني» فإن الأمر متروك له. ومع تآكل الهوية اليهودية،لم يعد هناك دافع قوي لدى كثير من اليهود للإفصاح عن هويتهم. وقد أشار عالم الاجتماع اليهودي لوريا أنجلمان، عشية الحرب العالمية الثانية، إلى ما سماه «العملية ذات الأبعاد الثلاثة» (تناقص المواليد، وتزايد الوفيات، وتزايد معدلات الاندماج) باعتبارها العملية التي ستؤدي إلى الاختفاء الكامل لليهود. 

3 ـ ظروف الحرب العالمية الثانية: 

لابد أن نضيف إلى كل ذلك ظروف الحرب العالمية الثانية التي صعَّدت من كل العناصر السابقة وزادتها حدة، ولابد أن نأخذ في الاعتبار انتشار الأوبئة وسوء التغذية في نفس الفترة. كما ينبغي الإشـارة إلى بعـض طرق الإبادة البطيئة غير أفـران الغاز، مثل أعمال السخرة وعزل اليهود في الجيتو بمناطق مستقلة مزدحمة يعملون ويعيشون فيها تحت حد الكفاف، وهو ما كان يعني المزيد من الجوع والمرض. ويُقال إن نحو ثلث سكان جيتو وارسو قضوا نحبهم بهذه الطريقة، وإنه كان من المتوقع لهم جميعاً أن يُبادوا تماماً خلال عدة أعوام. (وهذا العنصر هو ولا شك عملية إبادة، إذ لا يهم أن يموت الضحية بأفران الغاز أو عن طريق التجويع. ولكننا نذكر هذا العنصر أيضاً حتى تكتمل الصورة لدينا). كما هلك الآلاف بسبب حالة الحرب ابتداءً من عدم توفر الرعاية الصحية، وانتهاءً بالغارات على المدن، مروراً بأحكام الإعدام التي كان النازيون يصدرونها على اليهود وغيرهم. وإذا أخذنا في الاعتبار كل هذه العناصر يصبح من الصعب أن نعزو اختفاء الستة ملايين يهودي (أو حتى الأربعة ملايين حسب بعض الإحصاءات) إلى أفران الغاز وحدها أو عمليات الإبادة كتصفية جسدية متعمدة فحسب. 

إشكــــالية ملاحقــــة مجــــرمي الحــــرب النازيـــين 
The Problematic of Hunting down Nazi War Criminals 

تقوم إسرائيل بتعقب مجرمي الحرب النازيين بروح انتقامية مفترسة لا يمكن أن توصف إلا بالتطرف، خصوصاً أن الحرب انتهت منذ حوالي خمسين عاماً، أي أن الغالبية الساحقة للشعب الألماني كانوا أطفالاً أثناء الحرب أو لم يكونوا قد وُلدوا بعد. كما أن المحاكمات التي أجراها الحلفاء، والتي تمت بمنهجية وشمولية كاملتين، عاقبت الغالبية الساحقة من مجرمي الحرب النازيين والمتعاونين مع النظام النازي. ومع هذا تستمر عمليات الملاحقة والمحاكمة (كما حـدث مع أدولف أيخمان وكـلاوس باربي وكـورت فالـدهايم وجون ديمانجوك). 

وتهدف المطاردة المستمرة لمجرمي الحرب النازيين إلى تعميق الإحساس الغربي بالذنب تجاه اليهود وتذكير الشعب الألماني، والشعوب التي قاتلت إلى جانب ألمانيا، بمسئوليتها عن هذه الإبادة وإظهار الإبادة كما لو كانت موجهة ضد اليهود وحسب، وتوظيف هذا الشعور في إضفاء شرعية على الوجود الصهيوني في فلسطين. كما تأتي في سياق السعي إلى تعميق إحساس أعضاء الجماعات اليهودية بهويتهم اليهودية وبالمصير اليهودي المشترك، خصوصاً مع تزايد معدلات الاندماج وتآكل الجانب الديني للهوية اليهودية بين أعضاء الجماعات اليهودية في الدول الأوربية والغربية الحديثة. ومن هنا تأتي ضرورة إحياء ذكرى الإبادة بصفة مستمرة عن طريق عمليات المطاردة للنازيين القدامى وتقديمهم إلى المحاكمة في ظل متابعة إعلامية كثيفة. بالإضافة إلى أن التذكير والتلويح بخطر الإبادة قد يدفع أعضاء الجمـاعات اليهـودية إلى الهجــرة إلى إسرائيل. وقد نجحت إسرائيل عام 1979 في إلغاء مبدأ تقادم جرائم مجرمي الحرب في ألمانيا الغربية، ولكنها اعتقلت آلافاً منهم مع أن نسبة إدانتهم في النهاية كانت تتراوح بين تسعة في المائة عام 1964 وواحد ونصف في المائة عام 1976. ففي عام 1972، مثلاً، اعتُقل ستة عشر شـخصاً بشبهة أنهم مارتن بورمان (نائب هتلر)، ثم ثبتت براءتهم جميعاً. وتحت الضغط اليومي المكثف، أنشأت وزارة العدل الأمريكية عام 1980 مكتباً للتحقيق مع مئات الأمريكيين من مجرمي الحرب، ولكنها لم تُوفَّق كثيراً في التوصل إليهم. 

وفي كندا، صرح كثير من الصهاينة بوجود ما لا يقل عن ستة آلاف من مجرمي الحرب، فأُسِّـست في أوائل عام 1985 لجنـة للبحث عـن مجرمي الحرب (لجنة ديشين Deschênes Commission) وقُدِّم لها 2114 اسماً. كما قدَّم سيمون ويزنتال، المتخصص في تعقب مجرمي الحرب، قائمة من 217 اسماً زعم أنهم أعضاء في فرق الإس. إس. من أوكرانيا وعملوا في جاليشيا. وقد استغرق عمل اللجنة سنتين ثم قدمت تقريرها في ديسمبر 1986، وتبين أن هناك عشرين اسماً فقط، من بين 2114 اسماً، أوصت اللجنة إما بمحاكمتهم أو بترحيلهم. أما قائمة ويزنتال، فقد ظهر أن 187 منهم لم يدخلوا كندا قط. ومن الثلاثين الباقين، حضر اثنان بالفعل إلى كندا ثم غادراها، ومات أحد عشر شخصاً، بينما كان هناك ستة عشر شخصـاً لــم يثبت أي شــيء ضدهم. أما المتهم الوحيد البـاقي، فلـم يمكن الاسـتدلال عليه. وقد طلبت اللجـنة مـن ويزنتال أن يزودها بمزيد من الأسـماء، ولكنـه لم يتمكن من ذلك. وهو أمر متوقع بعد أن قام الحلفاء بعملية « نزع الصبغة النازية عن ألمانيا ». 

وقد بدأ كثيرون يُعبِّرون عن ضيقهم من عملية الملاحقة. فقد ذكرت صحيفة التايمز البريطانية في عام 1972 أن ثمة دلائل متزايدة على أن الرأي العام صار ضد تعقب الشيوخ بدعوى أنهم مجرمون نازيون. وأشارت جريدة ديلي تلغراف البريطانية إلى أن حراس السجون والكثير من الناس في ألمانيا نفسها يتساءلون عن الحكمة في استمرار محاكمات جرائم النازية بعد مرور كل هذه السنوات على انتهاء الحرب. وعندما زار الكاتب الألماني جونتر جراس إسرائيل عام 1971 صارح شعبها بأنه لا يحب عقلية التـوراة التي تقـول إن على الجيلين الثاني والثالث أن يحملا وزر جيل سبقهما. وتُعدُّ محاكمة أيخمان وكلاوس باربي وديمانجوك وحادثة فالدهايم نموذجاً لعمليات الملاحقة التي تقوم بها إسرائيل، بكل ما تنطوي عليه من دلالات. 

محاكمة أيخـمـان 
Eichmann Trial 

أدولف أتو أيخمان (1906 ـ 1962) مسئول نازي وضابط في فرق العاصفة، ومن أهم الشخصيات في عملية الإبادة النازية ليهود أوربا. وُلد في ألمانيا لأسرة متواضعة هاجرت إلى النمسا حيث تلقى تعليمه. عمل بائعاً متجولاً ممثلاً لشركة سوكوني فاكوم من عام 1928 وحتى 1933. انضم أيخمان للحزب النازي في عام 1932، وبدأ منذ عام 1934 يعمل في قسم اليهود بالمخابرات الألمانية، حيث أُرسل إلى فلسـطين بدعـوة من المستوطنين الصهاينة ليدرس التجربة الصهيونية هناك. فبدأ يدرس اليديشية والعبرية والعقيدة اليهودية، وبحلول عام 1938 أصبح حجة في مسألة التنظيمات الصهيونية والهجرة اليهودية، فأرسله النظام النازي إلى النمسا ليساعد في عملية تهجير أعضاء الجماعة اليهودية. وقد أظهر أيخمان كفاءة غير عادية إذ استخدم أسلوب خطوط التجميع، المستخدم في المصانع، لتسهيل العمل. وبعـد عـودته إلى برلين عام 1939، عُيِّن مـديراً لمركز الرايخ للهجرة اليهودية، ثم عُيِّن فيما بعد رئيساً لقسم الشئون اليهودية في الجستابو حيث قام بالإشراف على عملية نقل اليهود إلى معسكرات الاعتقال. 

قُبض على أيخمان بعد الحرب، ولكن لم تُكتشف هويته الحقيقيـة، ففر إلى الأرجنتـين عـام 1945 واختبـأ فيها إلى أن عـثر عليه عمـلاء المخـابرات الإسـرائيليـة عام 1960. وسـاهم في عملية اكتشــاف شـخصية أيخمـان فـي الأرجنـتين المدعي العام في ألمانيا الغربية، الذي وضع المعلومات التي حصل عليها تحت تصرف المخابرات الإسرائيلية، فأوفدت إسرائيل مجموعة من رجال مخابراتها إلى بيونس أيريس حيث تحققت من شخصية أيخمان، وتم اختطافه ونقله بعد عشرة أيام مخدَّراً متخفياً في زي مضيف جوي على متن طائرة إسرائيلية كانت قد جاءت إلى الأرجنتين تحت ستار نقل وفد إسرائيلي رسمي للاشتراك في احتفال الأرجنتين بالذكرى المائة والخمسين لاستقلالها. وبدأت محاكمة أيخمان في 11 أبريل عام 1961 بالقدس المحتلة، حيث وجه إليه المدعي العام الإسرائيلي جدعون هاوزنر تهمة المشاركة في إبادة يهود أوربا،وتولى الدكتور روبرت سرفاتيوس،الذي تخصص في الدفاع عن مجرمي الحرب النازيين،مهمة الدفاع عن أيخمان. 

ولم يُنكر أيخمان أو محاميه أياً من الاتهامات الموجهة إليه، ولكنهما ركزا دفاعهما أساساً على أن أيخمان لم يكن سوى موظف في مؤسسة حديثة ضخمة يقوم بتنفيذ الأوامر التي يصدرها إليه رؤساؤه كما كان يُفترض فيه أن يفعل، ولذا فهو مجرد بيروقراطي منفذ للإجراءات دون أن يسأل عن الأهداف، وبالتالي يجب أن يُحاكم على مدى كفاءته أو عدم كفاءته في تنفيذ الأوامر لا على مدى تقييمه الأخلاقي لهذه الأهداف، أي أن أيخمان طالب بأن يُنظر إليه باعتباره إنساناً حديثاً أداتياً يهتم بالإجراءات ويدين بالولاء للمؤسسة التي يعمل فيها ولا يكترث بالقضايا الأخلاقية النهائية. ولكن المحكمة رفضت دفعه، وحكمت عليه بالإعدام. وكان بن جوريون، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، يهدف من وراء المحاكمة إلى زيادة الوعي اليهودي بين أعضاء التجمع الاستيطاني وأعضاء الجماعات اليهودية في العالم عن طريق تعميق الإحساس بأنهم الضحية الوحيدة وأن الآخرين أو الأغيار (ممثلين في النازيين) لا تأخذهم الرحمة باليهود. 

ومع هذا، فجرت المحاكمة عدة قضايا لم يكن من أعدوا لها قد انتبهوا إليها: 

1 ـ بيَّن أيخمان أن الرؤية الصهيونية لليهود لا تختلف كثيراً عن رؤيته هو، فكلاهما يؤمن بضرورة تهجير اليهود باعتبارهم شعباً عضوياً منبوذاً إلى أرض خاصة بهم، كما أشار أيخمان إلى أن المسئولين طلبوا منه، عند تعيينه في وظيفته، أن يقرأ كتاب هرتزل دولة اليهود، وأنه تأثر به أيما تأثر، وأنه، في هذا، لا يختلف كثيراً عن الزعماء النازيين الذين تأثروا بالفكر الصهيوني وخصوصاً بوبر. 

2 ـ أشار أيخمان إلى التعاون بين السلطات النازية والصهاينة، خصوصاً رودولف كاستنر وجويل براند، وأوضح أنه كانت هناك صفقة هُجِّر بموجبها بضعة يهود « من خيرة العناصر البيولوجية » إلى المستوطَن الصهيوني. كما أُرسلت كميات من البضائع إلى هناك في نظير أن تضـمن القيادات الصهيونية هدوء اليهود المرحلين إلى معسـكرات الاعتقال. 

3 ـ أثار سلوك الضحايا اليهود كثيراً من الدهشة، حيث لاقوا حتفهم دون مقاومة، ولعلهـم لو قاومـوا لعطلوا آلة الحرب النازية التي كانت مرهَقة. وقد نظر الجيل الجديد من أبناء المستوطن الصهيوني إلى سلوكهم هذا باعتباره سلوكاً نموذجياً ليهودي الجيتو الضعيف (مقابل العبراني الجديد القوي)، وبالتالي نجـم عن المحاكمة مزيد مـن الرفض ليهود العالم. 

4 ـ أثناء تقديمه لعريضة الاتهام، بيَّن المدعي العام الإسرائيلي أن الشعب اليهودي تعرض للاضطهاد والطرد والملاحقة في كل البلاد عبر التاريخ. وهنا تلقف محامي الدفاع هذه الأطروحة وتساءل: ما هي طبيعة هذا الشعب الذي يجد نفسه عُرضة للطرد والملاحقة أينما كان؟ ألا يوجد احتمال أن يكون هذا الشعب مسئولاً عما يلحق به من أذى، وأنه شـعب مسـتفز يضطر كل الشـعوب في كل زمان ومكان لطرده وملاحقته؟ وقد أُصيب الحاضرون بالذهول من تساؤلات محامي الدفاع. كما أثارت المحاكمة قضايا أخرى مختلفة مثل دور المجالس اليهودية التي شـكلها النازيـون وعيـنوا فيـها يهوداً، فكانوا أداة تنفيذية في يد النازي، بالإضافة إلى أسئلة أخرى حول دور كثير من الحاخامات الذين لم يشاركوا في تنظيم حركة المقاومة. وقد كانت المحاكمة محط اهتمام دولي، وخصوصاً أن الدولة الصهيونية انتهكت القانون الدولي وسيادة عدة دول (الأرجنتين وألمانيا) باختطاف أيخمان الذي حُكم عليه بالإعدام، ثم أُعدم شنقاً في سجن الرملة وأُحرقت جثته ونُثر رمادها في البحر الأبيض المتوسط. 

محاكمة كلاوس باربي 
Klaus Barbie Trial 

كلاوس باربي، الذي أُطلق عليه لقب «سفاح ليون»، هو أحد ضباط الجستابو (البوليس السري الألماني). وأُدين بارتكاب جرائم الحرب في فرنسا إبَّان الحرب العالمية الثانية. وكان باربي قد تولى عام 1942 قيادة قوات الجستابو في مدينة ليون الفرنسية، كما تولى مهمة تعقب عناصر المقاومة الفرنسية والتصدي لنشاطها. وخلال فترة عمله التي استمرت عامين، قام باربي بترحيل 842 شخصاً من ليون إلى معسكرات الاعتقال النازية، كان نصفهم من عناصر المقاومة والنصف الآخر من اليهود. كما أُدين كلاوس باربي بارتكاب عمليات التعذيب والمذابح ضد عناصر المقاومة والمدنيين في ليون والمناطق المحيطة بها. 

ورغم ذلك، قامت الاستخبارات المضادة التابعة للجيش الأمريكي المتمركز في ألمانيا بتجنيد باربي للعمل لصالحها عام 1947، فتحول باربي إلى مصدر مهم وقيم للمعلومات (خصوصاً فيما يتعلق بالعناصر اليسارية والشيوعية)، وهو ما دفع المسئولين الأمريكيين إلى عدم الاستجابة للمطالب الفرنسية بتسليمه للسلطات الفرنسية. بل قاموا بتهريبه إلى بوليفيا عام 1951 حيث عاش تحت اسم مستعار هو كلاوس التمان. وقد قُدِّم باربي للمحاكمة غيابياً في فرنسا في 1952 ـ 1954 حيث أدين بارتكاب المذابح والفظائع وصدر ضده حكم بالإعدام. وفي عام 1971، نجح فرنسيان من جماعة صائدي النازيين من العثور عليه. وأثمرت مساعي فرنسا عن طرده من بوليفيا عام 1983، ثم تقديمه للمحاكمة في فرنسا عام 1987 بتهمتين لم يتم توجيههما إليه من قبل، وصدر ضده حكم بالسجن مدى الحياة. غير أن محاكمته أثارت اهتماماً واسعاً داخل فرنسا وخارجها، حيث تخوَّف بعض أعضاء الجماعة اليهودية من أن ذلك قد يثير المشــاعر المعادية لهم أو قد تتحول المحاكمة إلى منبر لنفي الإبادة النازية. ومن ناحية أخرى، انتقد بعض الفرنسيين المحاكمة باعتبار أن الأعمال التي ارتكبها باربي لا تختلف كثيراً عما ارتكتبه قوات الحلفاء حين قتلت المدنيين العزل أثناء قصفها للمدن الألمانية. 
يتبع إن شاء الله...


الباب الخامس: بعض إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

الباب الخامس: بعض إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الخامس: بعض إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا   الباب الخامس: بعض إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا Emptyالخميس 28 نوفمبر 2013, 12:51 am

حادثــة فالدهـايم 
Waldheim Affair 

أثناء حملته الانتخابية لرئاسة النمسا عام 1986، أُثيرت ضد كورت فالدهايم (الأمين العام السابق للأمم المتحدة) قضية ما يُسمَّى «ماضيه النازي». وقد تزَّعم الحملة ضده المؤتمر اليهودي العالمي الذي اتهم فالدهايم بإخفاء جوانب من ماضيه أثناء الحرب العالمية الثانية وبالكذب حين ادعى عدم ارتباطه بالنازي بأي شكل من الأشكال، مؤكداً أنه كان عضواً في اتحاد الطلبة النازي، وأنه التحق (على حد زعم المؤتمر) بإحدى وحدات قوات العاصفة، بل أُلحق في نهاية عام 1942 بالقوات الألمانية في سالونيكا والتي تولَّت ترحيل اليهود من اليونان إلى معسكرات الاعتقال وقامت بعمليات عسكرية وحشية ضد المقاومة اليوغسلافية ومؤيديها من المدنيين. 

وفي إطار حملته المكثفة ضد فالدهايم، كشف المؤتمر اليهودي العالمي النقاب عن بعض الوثائق التي ادعى أنها تؤكد إدانة فالدهايم ومن أهمها ملف «أودلو كانمر» (أو القرار) اليوغسلافي الذي ضم قائمة بأسماء الأشخاص الذين كانت السلطات اليوغسلافية تشتبه في تورطهم في ارتكاب جرائم الحرب وكان من بينها اسم فالدهايم. واستناداً إلى هذا الملف، تم ضم اسم فالدهايم إلى ملف لجنة الامم المتحدة لجرائم الحرب. 

كما قام المؤتمر بإسناد مهمة البحث في ماضي فالدهايم إلى عَالم في التاريخ أشارت نتائج بحثه إلى أن فالدهايم عمل ضابطاً في قسم الاستخبارات العسكرية للجيش المتمركز في غرب البوسنة والذي كانت قواته مسئولة عن ارتكاب المذابح ضد آلاف اليوغسلاف في جبال كوزارا عام 1942، وأن فالدهايم حصل على نوط الشجاعة من الحكومة الكرواتية الموالية لألمانيا في هذه الفترة. وفي ضوء هذه النتائج، حث المؤتمر اليهودي العالمي الحكومة الأمريكية على وضع كورت فالدهايم على قائمة الأجانب غير المرغوب في دخولهم إلى الولايات المتحدة. وقد أقدمت الحكومة الأمريكية على ذلك بالفعل في أبريل عام 1987. 

ورغم هذه الحملة الإعلامية المكثفة نجح فالدهايم في انتخابات الرئاسة النمساوية، ولكن هذه القضية تركت أثارها على مكانته الدولية حيث رفض كثير من قادة أوربا والولايات المتحدة الالتقاء به أو حتى زيارة النمسا أثناء توليه رئاسة البلاد. وقد نفى فالدهايم مراراً الاتهامات التي وُجِّهت إليه ونفى اشتراكه في عمليات ترحيل لليهود أو في مذابح ضد المقاومة اليوغسلافية واعتبر هذه الاتهامات جزءاً من حملة تشهير وافتراء دولية بدأتها المعارضة النمساوية وتزعمها المؤتمر اليهودي العالمي والصحافة الدولية، وأكد أن ماضيه قد بُحث بشكل واف من قبَل الأجهزة الأمنية النمساوية قبل توليه العمل في السلك الدبلوماسي النمساوي وأيضاً من قبَل أجهزة المخابرات الأمريكية (سي. آي. آيه) والسوفيتية (كي. جي. بي) والإسرائيلية (الموساد) عند ترشيحه لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة، ولم تجد أي منها ما يدينه. 

ولم يتم أبداً إثبات أيٍّ من الاتهامات الموجَّهة ضد فالدهايم، بل تبيَّن فيما بعد أن ملف أودلو كانمر (أهم وثيقة في القضية) تحيط به الشكوك. وقد قامت ثلاث جهات نمساوية وبريطانية ودولية مستقلة بالتحري والبحث في هذه الاتهامات ولم تجد أيٌّ منها ما يدين فالدهايم بأي عمل إجرامي أو يؤكد تورطه فيما نُسب إليه. وقد ساعد ذلك على فك العزلة المضروبة من حوله إلى حدٍّ ما، فالتقى به البابا عام 1987 ثم رئيسا ألمانيا وتشيكوسلوفاكيا عام 1990، كما رحَّبت به عدد من الدول العربية. ومن ناحية أخرى، كانت هذه القضية محاولة ناجحة إلى حدٍّ كبير للنيل من سمعة كورت فالدهايم التي شهدت الأمم المتحدة خلال فترة توليه منصب الأمين العام (1971 - 1982) دعوة ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ولأول مرة، لإلقاء كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكذلك صدور قرار يعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية. 

محاكمة ديمانجوك 
Demanjuk Trial 

جون ديمانجوك مواطن أمريكي من أصل أوكراني اتُهم بارتكاب جرائم حرب إبَّان الحرب العالمية الثانية. وأشارت الاتهامات والادعـاءات الموجَّهة إليه، إلى أنه كان يقاتل في صفوف الجيش السوفيتي حينما وقع في أسـر الألمـان ورُحِّل إلى أحد معـسكرات أسرى الحرب. وأثناء ذلك، وافق ديمانجوك على الانضمام إلى إحدى الوحدات العسكرية المشكلة من الأجانب والعاملة في خدمة قوات الإس. إس. الألمانية. وقد تدرب أولاً في أعمال الحراسة ثم نُقل إلى معسكر تربلينكا حيث أشرف على غرف الغاز وأُطلق عليه لقب «إيفان الرهيب» بسبب قسوته البالغة، وظل في المعسكر حتى إغلاقه عام 1943. 

ومع انتهاء الحرب، انتقل ديمانجوك إلى الولايات المتحدة حيث عاش حياة هادئة إلى أن علمت السلطات الأمريكية بماضيه، فقامت بتجريده من جنسيته الأمريكية. وفي عام 1986، تم ترحيله إلى إسرائيل حيث قُدِّم للمحاكمة عام 1987 بعد أن وُجِّهت إليه اتهامات بالقتل وارتكاب جرائم ضد الإنسانية وارتكاب جرائم ضد الشعب اليهودي. وقد أكد الدفاع أن هناك خطأً ولبساً في شخصية المتهم، فجون ديمانجوك ليس هو «إيفان الرهيب»، كما شكك الدفاع في الأدلة المقدمة ضده وفي قدرة الشـهود على تذكر أحـداث جـرت منذ أكـثر من 54 عاماً. ورغم ذلك، أُدين ديمانجوك بالتهم الموجهة إليه وحُكم عليه بالإعدام عام 1988. 

وبطبيعة الحال، حاولت المؤسسة الصهيونية استثمار عملية المحاكمة نفسها، بغض النظر عن نتائجها، في تحقيق أهدافها الخاصة برفع ما يُسـمَّى «الوعي اليهودي» بين الأجيـال الجـديدة من أعضاء الجماعات اليهودية. كما حـاولت تذكير العـالم (الغربي) بالجرم النازي ضد اليهود، وذلك في محاولة للتغطية على القمع الإرهابي الذي تمارسه إسرائيل للقضاء على الانتفاضة الفلسطينية. ولكن محاكمة ديمانجوك تبين أن هذه العملية تقترب من نهايتها. فقد اعترف بعض المسئولين الأمريكيين (في مكتب التحقيقيات التابع لوزارة العدل الأمريكية) بجرمهم في إخفاء الأوراق التي تثبت أن ديمانجوك ليس إيفان الرهيب. 

وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وفتح كثير من الملفات السرية، ظهرت دلائل جديدة تؤكد أن ديمانجوك ليس هو إيفان الرهيب وأنه عمل حارساً في معسكر آخر غير تربلينكا. وكتبت النيويورك تايمز تقول إنه لابد من الإفراج عنه لعدم توافر أية أدلة، ونبه باتريك بوكانان عن الحـزب الجمهــوري) إلى أن السـلطات الإســرائيلية تماطل في إصدار الحكم ببراءة ديمانجوك على أمل أن يمـوت في السجن ولا تضطر إسرائيل إلى الاعتراف بخطئها. بل إن الصحف الإسرائيلية ذاتها بدأت تنبه إلى أن الاستمرار في مثل هذه المحاكمات قد يؤدي إلى نتائج عكسية. ولعل حكم البراءة الذي اضطرت المحكمة الإسرائيلية العليا إلى إصـداره في عـام 1993 هو نهاية هذه المهزلة. وقد عاد ديمانجوك فيما بعد إلى الولايات المتحدة. 

ســـيمون وزنتــال (1908?- ) 
Simon Wiesenthal 

يهودي من أصل تشيكي تخصص في مطاردة مجرمي الحرب النازيين. وُلد وتعلم في تشيكوسلوفاكيا حيث حصل على شهادة في العمارة عام 1940. اعتقله النازيون في الفترة 1941 - 1945. وبعد الحرب، انضم ويزنتال إلى اللجنة الأمريكية لجرائم الحرب. وأسس عام 1946، هو وآخرون، مركز التوثيق التاريخي اليهودي الذي يوجد الآن في فيينا بالنمسا. وقد نجح ويزنتال في المساعدة على القبض على 1100 مجرم نازي من بينهم أيخمان. وقد نشر ويزنتال مقالاً في التورنتوستار (19 مايو 1971) زعم فيه أن « عدة مئات » من مجرمي الحرب النازيين يعيشـون في كندا. وحينما شُـكِّلت لجنة للتحقيق لم يُقدَّم سـوى 217 اسماً، ولكن ثبت أن غالبيتهم الساحقة (187 اسماً) لم يدخلوا كندا قط، والباقون إما ماتوا أو غادروا كندا أو لم يمكن العثور على أي دليل على تورطهم في جرائم الحرب، وقد أثر هذا كثيراً في مصداقيته. 

بعض التغيرات التي طرأت على الخطاب الغربي فيما يتصل بالإبادة النازية ليهود أوربا 
Some Developments of the Western Discourse on the Nazi Extermination of European Jewry 

رغم كل الهستريا الإعلامية الصهيونية وغير الصهيونية ضد أية محاولة لتناول ظاهرة الإبادة بعقلانية واتزان، يمكن أن نلاحظ تغيرات هامة بدأت تدخل على الخطاب الغربي فيما يتصل بالإبادة النازية: 

1 ـ بدأت محاولات إسرائيل في استخدام الإبادة لتبرير استمرارها في ارتكاب الجرائم ضد الفلسطينيين تصبح أمراً ممجوجاً، وبدأ بعض المفكرين اليهود وغير اليهود يُعبِّرون عن رفضهم لمثل هذا المنطق الابتزازي. كما بدأ كثير من يهود العالم يضيقون ذرعاً بجعل الإبادة هي النقطة المرجعية النهائية في رؤيتهم للكون والأغيار. 

2 ـ بدأ الخطاب السياسي في الغرب وفي إسرائيل يرفض التابو (التحريم) الذي يمنع تشبيه الإبادة النازية ليهود الغرب بأحداث مماثلة في التاريخ الماضي والوقت الحاضر. وقد تجرأ عدة متحدثين غربيين (من بينهم يهود) على تشبيه ما يحدث للفلسطينيين على يد الإسرائيليين بما حدث لليهود في أوربا على يد النازيين. فعلى سبيل المثال، صرح الكاتب الإسرائيلي يهوشاوا بأنه يفهم الآن سبب جهل الألمان بما حدث لليهود بعد أن رأى الإسرائيليين يرفضون معرفة ما يحدث للفلسطينيين. ويشير اليهود السفارد والشرقيون إلى اليهود الغربيين بأنهم « إشكي نازي» وهو نوع من التلاعب بالألفاظ يشير إلى أن ما كان محرماً أصبح مباحاً. ووصف البروفسير لايبوفيتز سياسة إسرائيل في لبنان بأنها نازية يهودية (بالإنجليزية: جوديو/نازي Judeo-Nazi). 

3 ـ نعتقد أن الأمور بعد توحيد ألمانيا وتحوُّلها إلى قوة عظمى ستتغيَّر كثيراً، وسيُنظَر إلى حادثة الإبادة النازية ليهود أوربا نظرة أكثر تفسيرية وتركيباً واتزاناً. كما أن كثيراً من الوثائق الألمانية والسوفيتية التي لم تُنشَر بعد ستجد طريقها إلى النشر. ولعل هذا يوفر جواً علمياً أكثر استقراراً وطمأنينة، بعيداً عن هستريا الأيقنة الكاملة للإبادة لصـالح اليهود، وعن هـسـتريا الإنكار الكـامل لها (بالمعنى العام، أي الإبادة عن طريق التجويع والسخرة؛ والمعنى الخاص، أي التصفية الجسدية).


الباب الخامس: بعض إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
الباب الخامس: بعض إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـثـقــافـــــــــة والإعـــــــــلام :: مـوسـوعة الـيـهـــود-
انتقل الى: