منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 الباب الرابع: الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الباب الرابع: الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة  Empty
مُساهمةموضوع: الباب الرابع: الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة    الباب الرابع: الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة  Emptyالأربعاء 27 نوفمبر 2013, 9:13 pm

الباب الرابع: الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة 

الإبادة النازية ليهود أوربا: مشكلة المصطلح 
Nazi Extermination of Western Jewry: The Problem of Terminology 

يُستخدَم مصطلح «الإبادة» في العصر الحديث ليدل على محاولة القضاء على أقلية أو طائفة أو شعب قضاء كاملاً. ويُطلَق مصطلح «إبادة اليهود» (بالإنجليزية: إكستيرمينيشن أوف ذا جوز extermination of the Jews) في الخطاب السياسي الغربي على محاولة النازيين التخلص أساساً من أعضاء الجماعات اليهودية في ألمانيا وفي البلاد الأوربية (التي وقعت في دائرة نفوذ الألمان) عن طريق تصفيتهم جسدياً (من خلال أفران الغاز). وتُستخدَم أيضاً كلمة «جينوسايد » genocide وهي من مقطعين «جينو» من الكلمة اللاتينية «جيناس   »genus» بمعنى «نوع» و«كايديس» caedes بمعنى «مذبحة». وتُستخدَم أيضاً عبارة «الحل النهائي» للإشارة إلى «المخطط الذي وضعه النازيون لحل المسألة اليهودية بشكل جذري ونهائي ومنهجي وشامل عن طريق إبادة اليهود، أي تصفيتهم جسدياً». 

ويُشار إلى الإبادة في معظم الأحيان بكلمة «هولوكوست» وهي كلمة يونانية تعني «حرق القربان بالكامل» (وتُترجم إلى العبرية بكلمة «شواه»، وتُترجم إلى العربية أحياناً بكلمة «المحرقة»). وكانت كلمة «هولوكوست» في الأصل مصطلحاً دينياً يهودياً يشير إلى القربان الذي يُضحَّى به للرب، فلا يُشوى فقط بل يُحرق حرقاً كاملاً غير منقوص على المذبح، ولا يُترك أي جزء منه لمن قدَّم القربان أو للكهنة الذين كانوا يتعيشـون على القرابين المقدمة للرب. ولذلك، كان الهولوكوست يُعّدُّ من أكثر الطقوس قداسة، وكان يُقدَّم تكفيراً عن جريمة الكبرياء. ومن ناحية أخرى، كان الهولوكوست هو القربان الوحيد الذي يمكن للأغيار أن يُقدِّموه. 

ومن العسير معرفة سر اختيار هذا المصطلح، ولكن يمكننا أن نقول إن المقصود عموماً هو تشبيه « الشعب اليهودي » بالقربان المحروق أو المشوي وأنه حُرق لأنه أكثر الشعوب قداسة. كما أن النازيين، باعتبارهم من الأغيار، يحق لهم القيام بهذا الطقس. أو ربما وقع الاختيار على هذا المصطلح ليعني أن يهود غرب أوربا أُحرقوا كقربان الهولوكوست في عملية الإبادة النازية ولم يبق منهم شيء، فهي إبادة كاملة بالمعنى الحرفي. ولكن حينما تستخدم الجماعات المسيحية الأصولية (الحرفية) في الولايات المتحدة كلمة «هولوكوست» فهي تركز على جريمة الكبرياء، إذ ترى أن الإبادة عقاب عادل حاق باليهود بسبب صلفهم وغرورهم وكبريائهم. ويُشار إلى الإبادة أحياناً بأنها «حُربان» وهي كلمة عبرية تُستخدَم للإشارة إلى «هدم الهيكل»، فكأن الشعب اليهودي هنا هو الهيكل، أو البيت الذي يحل فيه الإله، والإبادة هي تهديم بيت الإله. وهذه الكلمة تُدخل حادثة الإبادة التاريخ اليهودي المقدَّس. 

وفي الوقت الراهن، تُستخدَم كلمة «هولوكوست» في اللغات الأوربية للإشارة إلى أية كارثة عظمى. فيشير الصهاينة، على سبيل المثال، إلى «الزواج المختلـط» بين اليهـود بأنـه «الهولوكوست الصامت» (بالإنجليزية: سايلانت هولوكوست silent Holocaust). وحينما يُصعِّد العرب من مقاومتهم للمستوطنين الصهاينة فإنهم ـ حسب المصطلح الصهيوني ـ يهددونهم بالهولوكوست. واستخدمت إحدى الصحف هذا المصطلح للإشارة إلى إحدى صفقات أسلحة الميراج بين ليبيا وفرنسا. كما استخدم أحد المتحدثين الصهاينة كلمة «هولوكوستي » وهي اسم صفة مشتق من هولوكوست فأشار إلى أحد الأفلام بأنه ليس «هولوكوستيHolocausty » بما فيه الكفاية. وهذا الاستخدام المستمر والممجوج للمصطلح يؤدي إلى نتائـج كوميدية أحياناً. إذ تسـاءل أحد دعاة حماية البيئة في نبرة جادة قائلاً: « كيف يمكن أن نستنكر الهولوكوست ضد اليهود، ونحن نذبح ستة مليون دجاجة يومياً؟»، أي أنه ساوى بذلك بين الطبيعي والإنساني، وبين الدجاجة واليهودي، ودفع بالنموذج العلماني الشامل إلى نتيجته المنطقية وأطلق استنكاره هذا. 

ويتم في الوقت الحاضر الاتجار بالهولوكوست وتوظيفها بشكل ممجوج لخدمة الأهداف الصهيونية والتجارية. وقد ظهرت مجموعة من المصطلحات المشتقة من كلمة «هولوكوست» والتي تُعبِّر عن الاستياء العميق من عملية التوظيف هذه. فنحت أحد الكُتَّاب كلمة «هولوكيتش Holokitsch» لوصف الكُتب والأفلام عن موضوع الهولوكوست والتي تُنتَج وتُنشَر بهدف تحقيق الربح، حيث إنها تحاول إثارة العواطف واستغلالها على أسوأ وجه. وكلمة «كيتش» في اللغة الألمانية تعني الأعمال الفنية الشعبية الرديئة. كما ظهرت عبارة «هولوكوست بيزنس Holocaust business» أي «مشروع الهولوكوست التجاري»، بمعنى توظيف الهولوكوست تجارياً لتحقيق الأرباح العالية. ومن العبارات الأخرى المتواترة عبارة «هولوكوست مانيا Holocaust mania »، أي «الإنشغال الجنوني أو المرضي بالإبادة». 

ومن المعروف أن هناك عدة شعوب قامت من قبل بإبادة شعوب أخرى أو على الأقل بإبادة أعداد كبيرة منها. ووردت في العهد القديم أوامر عديدة بإبادة سكان أرض كنعان وطردهم. ولكن من الثابت تاريخياً أن العبرانيين والكنعانيين تزاوجوا، وأن معظم ادعاءات الإبادة قد تكون من قبيل التهويلات التي تتواتر في كثير من الوثائق القديمة أو تكون ذات طابع مجازي. وربما يكون قد تم فعلاً إبادة سكان مدينة أو اثنتين، لكن هذا لم يكن النمط السائد نظراً لتدني المستوى العسكري لدى العبرانيين، كما أن استيطان العـبرانيين لم يتم عن طـريق الغزو دفعة واحـدة وإنما عن طريق التسـلل أيضاً. ويسـتند الاسـتعمار الاسـتيطاني الإحلالي الغربي إلى الإبادة، فهذا ما فعله سكان أمريكا الشمالية البيض بالسكان الأصليين، وهي عملية استمرت حتى أواخر القرن التاسع عشر. 

وفي تصوُّرنا أن ما يميِّز تجربة الإبادة النازية عن التجارب السابقة أنها تمت بشكل واع ومخطط ومنظَّم وشامل ومنهجي ومحايد، عن طريق استخدام أحدث الوسائل التكنولوجية وأسـاليب الإدارة الحديثـة (أي أنها تجربة حديثة تماماً، منفصـلة عن القيمة). وهذه السمات مرتبطة بتزايد معدلات الترشيد والعلمنة الشاملة وتحييد الواقع كله (الإنسـان والطبيعـة) وتحويلـه إلى مادة استعمالية ليسـت لها قداسـة خاصة، وذلك حتى يمكن التحكم (الإمبريالي) فيه وإخضاعه للتجريب بلا تمييز بين الإنسان والحـيوان أو بين الألماني واليهودي، وهو ما نسميه في مصطلحنا «الحوسلة»، أي تحويل كل شيء، وضمن ذلك الإنسان، إلى وسيلة. ومن ثم فهـناك فارق ضـخم بين الإبادة (الحـديثة) وبين المذابح في المجتمعات التقليدية، إذ كانت المذابح تتم عادةً بشكل تلقائي غير منظم وغير منهجي وغير مخطط.ويمكن في هذا المضمار أن نذكر «ليلة الزجاج المحطم» (بالألمانية: كريستال ناخت Kristallnacht) حينما قامت الجماهير الألمانية في العديد من مدن ألمانيا بالهجوم على أعضاء الجماعة اليهودية. ويُقال إن الغضب الشعبي لم يكن تلقائياً وإنما تم بتخطيط من القيادات النازية التي كانت مجتمعة في ميونخ. كما أن إلقاء القبض على أعداد من اليهود بعد الحادث يدل على أن الأمر لم يكن تلقائياً تماماً. 

ويصف بعض الدارسين ليلة الزجاج المحطم بأنها هجوم شعبي شبه منظَّم على اليهود (بوجروم)، ولكن نظراً لضآلة عدد الضحايا، لم يكن بوسع الدولة النازية أن تتخلص من ملايين اليهود باستخدام هـذه الآلية البدائية التقليدية التي تعتمـد على إثارة غضـب الجماهير. ولذا، كان لابد من اللجوء إلى آليات أخرى أكثر حداثة، ووجد النازيون ضالتهم في مؤسسات الدولة الحديثة مثل التكنولوجيا المتقدمة التي تمتلكها، وأجهزة الإعلام التابعة لها، وأساليب الإدارة الحديثة الرشيدة. ويذهب هؤلاء الباحثون إلى أن الدولة النازية ما كان بوسعها أن تحقق غرضها بهذه السرعة وبهذه الكفاءة بدون هذه الآليات المتقدمة! ونستخدم في هذه الموسوعة مصطلح «الإبادة النازية ليهود أوربا»، وهو ـ في تصوُّرنا ـ مصطلح أكثر تفسيرية وحياداً من المصطلحات المستخدمة في اللغات الأوربية والعبرية، فكلمتا «هولوكوست» و «شواه» تحملان إيحاءات دينية. ومصطلح «الحل النهائي» يحدد مجاله الدلالي بشكل قاطع لا يتفق مع مضمونه الحقيقي. أما مصطلحنا فقد حَدَّد الظاهرة النازية من حيث هي ظاهرة أوربية داخل سياق التاريخ الألماني والأوربي، ومن حيث هي ظاهرة لم تحدث في سياق التاريخ العالمي. كما أنها تُضمر الإشارة للإبادة النازية للأقليات والشعوب الأخرى. 

وكلمة «إبادة» كما نستخدمها لا تعني بالضرورة التصفية الجسدية، وإنما تعني «استئصال شأفة اليهود» بجميع الطرق وضمنها التهجير القسري (الترانسفير) وغيره من الطرق. ولذلك فنحن نشير أحياناً «للإبادة بالمعـنى الخـاص والمحدد للكلمـة»، أي «التصفية الجسدية المتعمَّدة»، كما نشير «للإبادة بالمعنى العام للكلمة» وهي عملية "إبادة اليهود من خلال التهجير والتجويع وأعمال السخرة، وأخيراً التصفية الجسدية المتعمَّدة". ويمكننا هنا أن نقتبس كلمات أحد أهم خبراء الإبادة في التاريخ، أي الزعيم النازي أدولف هتلر. فقد عبَّر عن إعجابه بإبادة الهنود الحمر (على يد المستوطنين البيض) عن "طريق التجويع أو القتال غير المتكافئ". (انظر: «إشكالية الحل النهائي ومؤتمر فانسي»). كما أننا لا نهمل ما نسميه «اختفاء اليهود» من خلال عوامل طبيعية مختلفة تقع خارج نطاق الإبادة النازية، بالمعنى العام أو الخاص (انظر: «موت الشعب اليهودي»).

الهولوكوســـت (الإبــــادة)
Holocaust (Extermination) 

«هولوكوست» كلمة يونانية تعني «حرق القربان بالكامل» وهي بالعبرية «شواه»، وتُترجَم إلى العربية أحياناً بكلمة «المحرقة». وتُستخدَم كلمة «هولوكوست» في العصر الحديث عادةً للإشارة إلى إبادة اليهود، بمعنى تصفيتهم جسدياً، على يد النازيين. 

المحرقة 
Shoah 

«المحرقة» ترجمة عربية للمصطلح العبري «شواه»، وهو بدوره ترجمة للمصطلح اليوناني «هولوكوست». ويُستخدَم المصطلح للإشارة إلى الإبادة النازية لليهود. 

الإبادة وتفكيك الإنسان كإمكانية كامنة في الحضارة الغربيـة الحديثة 
Extermination and Deconstruction of Man as a Potentiality in Modern Western Civilization 

لابد أن نؤكد ابتداءً أن التحولات الاقتصادية والسياسية في أي مجتمع لا تتم في فراغ مهما يكن مستوى هذه التحولات عمقاً أو ضحالة. فالمناخ الفكري والثقافي والنفسي يساعد على تحقيق بعض الإمكانات الكامنة في الواقع المادي وإجهاض البعض الآخر، وعلى تحديد المسار النهائي لهذا الواقع إلى حدٍّ كبير. وتبني ألمانيا النازية لسلاح الإبادة كوسيلة لحل بعض المشاكل التي واجهها المجتمع الألماني لم يكـن لينبع من الاعـتبارات الاقتصـادية أو السـياسية وحدها، فهو أمر مرتبط تماماً بإطار ثقافي وحضاري ونفسي أوسع. ويمكننا القول بأن ثمة عناصر تسم التشكيل الحضاري الغربي الحديث جعلت الإبادة احتمالاً كامناً فيه وليست مجرد مسألة عَرَضية، وولَّدت داخله استعداداً للتخلص من العناصر غير المرغوب فيها عن طريق إبادتها بشكل منظم ومخطط. وتحـققت هذه الإمكانية بشكل غير متبلور في لحظات متفرقة، ثم تحققت بشكل شبه كامل في اللحظة النازية النماذجية. وقد قام الإنسان الغربي بعملية الإبادة النازية وغيرها من عمليـات الإبادة لا رغم حضارته الغربية وحداثته، وإنما بسببها. 

ولكن قبل أن نتوجه لقضية النزعة الإبادية في الحضارة الغربية، لابد أن نشير إلى وضع اليهود داخل الحضارة الغربية حتى عصر النهضة. فالمسيحية الغربية لم تُطوِّر مفهوماً واضحاً خاصاً بالأقليات في المجتمع الغربي ولم تُشرِّع لهم ولم تحدد وضعهم القانوني، واكتفت بمفهوم المحبة إطاراً عاماً. وقد صنَّفت الكاثوليكية الغربيـة اليهـود باعتبارهم شـعباً شاهداً، يقف في تدنيه وضِعَته « شاهداً » على عظمة الكنيسة وانتصارها. ولم يكن الأمر مختلفاً كثيراً على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، حيث تحوَّل اليهود إلى جماعة وظيفية، وهي جماعة تُعرَّف في ضوء وظيفتها وفائدتها ونفعها (فهي مادة استعمالية) لا قداسة لها. وهذه الرؤية تعني «حوسلة» اليهود، ولكنها في الوقت نفسه تعني ضرورة الحفاظ عليهم وحمايتهم من الهجمات الشعبية. فالكنيسة الكاثوليكية كانت تحتاج إلى هذا الشاهد الأزلي على عظمتها. كما أن الطبقات الحاكمة (النبلاء الإقطاعيون والملوك) كانت في حاجة إلى اليهود كأداة طيعة من أدوات الاستغلال وامتصاص فائض القيمة من الجماهير (كان يُطلَق على اليهود كلمة «الإسفنجة»، لأنهم يمتصون فائض القيمة من الجماهير ثم يقوم الحاكم الإقطاعي باعتصار ما جمعوه من ثروة من خلال الضرائب). ولذا، وعلى عكس ما يتصور البعض، كان العداء لليهود حركة شعبية موجهة ضد الطبقات الحاكمة وضد الكنيسة مُمثَّلين في الرمز المحسوس المباشر اليهود، وكانت الكنيسة الكاثوليكية ومعها النبلاء هم حماة اليهود. 

وتغيَّر الوضع مع ظهور عصر النهضة وبداية التشكيل الحضاري الغربي الحديث بشكل جوهري. إذ ظهرت البروتستانتية التي رفضت فكرة الشعب الشاهد ولكنها تبنت بدلاً منها العقيدة الألفية الاسترجاعية التي ترى أن المسيح سيعود مرة أخرى للأرض ويؤسس مملكته على الأرض لمدة ألف عام، وكان كل هذا مشروطاً بعودة اليهود إلى أرض الميعاد وتنصيرهم. فكأن اليهودي ظل مجرد أداة (كما هو الحال في الرؤية الكاثوليكية) ولكنه أداة لا يتم الحفاظ عليها وإنما لابد من نقلها (ترانسفير) إلى فلسطين وتذويبها في المنظومة المسيحية. وتزامن هذا مع ظهور البورجوازيات المحلية والدولة القومية التي اضطلعت بكثير من وظائف الجماعة الوظيفية اليهودية التي لم يعد لها نفع. ولذا، كانت المسألة اليهودية في أوربا تُناقش في إطار مدى نفع اليهود، فكان أعداء اليهود يبينون أنهم لا فائدة لهم، أما المدافعون عنهم (ومنهم المتحدثون باسم اليهود) فكانوا يركزون على « فائدة » اليهود ونفعهم. وطُرح تصور مفاده أنه يجب زيادة حقوق اليهود زيادة طردية مع زيادة نفعهم، فإن زاد الواحد زاد الآخر (وهو ما يعني أن تَناقُص نفعهم يعني تفاقم مشاكلهم). وقد قُسِّم اليهود إلى أقسام مختلفة تم تنظيمها بشكل هرمي. ففي أعلى الهرم كان يوجد أكثر اليهود نفعاً، وهؤلاء كانوا يتمتعون بكافة الحقوق التي يتمتع بها أي مواطن ألماني، وفي قاعدة الهرم كان يوجد اليهود غير النافعين الذين لا يتمتعون بأية حقوق ولذا كانوا يُصنَّفون ضمن من يجب التخلص منه وذلك بترحيلهم (بالإنجليزية: ديسبوزابل ترانسفيرابل disposable transferable). 

وساهمت كل هذه العناصر ولا شك في خلق الاستعداد الكامن والتربة الخصبة والتبادل الاختياري (بالإنجليزية: اليكتيف أفينيتي elective affinity في مصطلح ماكس فيبر) بين الحضارة الغربية وعملية إبادة اليهود. ولكن العنصر الحاسم ـ في تصورنا ـ في ظهور النزعة الإبادية (ضد اليهــود وغــيرهم من الأقليــات والجمــاعات والشعوب) هـو الرؤيــة الغربيــة الحديثــة للكــون. وهي رؤية يمكن وصفها بإيجاز شديد بأنها رؤية مادية واحـدية (حلوليـة كمونية) تعـود جذورها إلى عصر النهضة في الغرب. وقد اتسع نطاقها وازدادت هيمنتها إلى أن أصبحت هي النموذج التفسيري الحاكم مع منتصف القرن التاسع عشر، عصر الإمبريالية والداروينية والعنصرية. وقد بدأت هذه الرؤية بمرحلة إنسانية هيومانية وضعت الإنسـان في مركز الكـون وتبنت منظومات أخلاقية مطلقة، تنبـع من الإيمان بالإنسـان باعتـباره كائناً مختلفــاً عن الطبيعــة/المــادة، ســابقاً عليهـا، لـه معياريتـه ومرجعيته وغائيته الإنسانية المستقلة عنهـا (وهـذا شكـل من أشكال العلمانية الجزئية). ولكن هذه الرؤية الإنسانية المادية تطورت من خلال منطق النسق المادي الذي يساوي بين الإنسان والطبيعـة ومن خـلال تَصـاعُد معدلات الحلولية والعلمنة وانفصـال كثــير من مجــالات النشاط الإنساني (الاقتصاد ـ السياســة ـ الفلسفة ـ العلم) عن المعيارية والمرجعية والغائية الإنسانية إلى أن فقد الإنسان مركزيته ومطلقيته وأسبقيته على الطبيعة/المادة وتحوَّل إلى جزء لا يتجزأ منها وأصبح هو الآخر مادة، منفصلة عن المرجعية والغائية والمعيارية الإنسانية (وهذه هي العلمانية الشاملة). 

وفي هذا الإطار ظهرت الأخلاق النفعية المادية التي تُعفي الإنسان من المسئولية الأخلاقية، فهي مستمدة من الطبيعة/المادة ومن قوانينها المتجاوزة للعواطف والغائيات والأخلاقيات الإنسانية. ومن ثم تَحرَّر الإنسان الغربي من أية مفاهيم متجاوزة مثل مفهوم «الإنسان ككل » أو «الإنسانية جمعاء» أو « صالح الإنسانية »، كما تحرر من القيم المطلقة مثل «مستقبل البشرية» و « المساواة » و«العدل»، وجعل من نفسه المركز والمطلق المنفصل تماماً عن كل القيم والغائيات الإنسانية العامة، وأصبح هو نفسه تجسيداً لقانون الطبيـعة ولحركة المادة وتحـول إلى مرجعية ذاته، وقانون ذاته، ومعـيارية ذاته، وغائية ذاته، ومن ثم أصبح من حقه أن يحوسل العالم كله وجميع شعوب الأرض لخدمة صالحه كما عرَّفه هو. وبذا تحوَّلت الإنسانية (الهيومانية) الغربية إلى إمبريالية وأداتية ثم إلى عنصرية، وانقسم البشر إلى سوبرمنsupermen إمبرياليين يتحكمون في كل البشر والطبيعة، وإلى سبمنsubermen دون البشر أداتيين يذعنون لإرادة السوبرمن ولقوانين الطبيعة والمادة. وهذا ما نسميه «النفعـية الداروينية» وهي المنظومة التي تذهب إلى أن من يملك القوة له «الحق» في أن يوظِّف الآخرين لخدمة مصالحه، مستخدماً في ذلك آخر المناهج العلمية وأحدث الوسائل التكنولوجية، متجرداً من أية عواطف أو أخلاق أو أحاسيس كلية أو إنسانية باعتبار أن الإنسان إن هو إلا مادة في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، ومن ثم فمثل هذه الأحاسيس هي مجرد أحاسيس ميتافيزيقية أو قيم نسبية مرتبطة بالزمان والمكان، وليس لها أية ثبات أو عالمية.

وتتبدَّى مادية هذه المنظومة وواحديتها في عدد من المصطلحات التي حققت قدراً من الذيوع في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حين أخذت المنظومة في التبلور وحينما تحددت معالم المشروع الإمبريالي الغربي والنظرية العرْقية الغربية. ومن أهم هذه المصطلحات، من منظور هذه الدراسة، ما يلي: «المادة البشرية» (بالإنجليزية: هيومان ماتيريال human material) - «الفائض البشري» (بالإنجليزية: هيومان سيربلاس human surplus) - «مادة استعمالية» (بالإنجليزية: يوسفول ماتر useful matter). فكان يُشار إلى البشر باعتبارهم «مادة بشرية» يمكن توظيفها، أما من لا يمكن توظيفه فكان يُشار إليه باعتباره «مادة بشرية فائضة» (وأحياناً «غير نافعة»). وهذه المادة الفائضة كان لابد وأن تُخضع لشكل من أشكال المعالجة، فكانت إما أن تُصدَّر (ترانسفير) أو تُعاد صياغتها أو تُباد إن فشلت معها كل الحلول السابقة. وترد هذه المصطلحات (وغيرها) في كتابات مفكري العنصرية الغربية مثل ماكس نوردو (قبل اعتناقه الصهيونية) وفي الأدبيات النازية (كان أيخمان يشير إلى اليهود المرحـلين إلى فلسـطين باعتبارهم « من أفضل المواد البيولوجية »). وفي الأدبيات الصهيونية (كتاب هرتزل دولة اليهود). ولنلاحظ أن كل المصطلحات تُضمِر البُعدين الإمبريالي والأداتي، الدارويني والبرجماتي، فالإنسان مادة تُوظَّف، مجرد موضوع، ولكن هناك أيضاً من يُوظِّف، فهو ذات نشطة فعالة. لكن كلاً من الـذات الإمبريالية والموضوع الأداتي يدوران في إطار الرؤية المادية الواحدية. فالسوبرمن والسبمن ينتميان إلى عالم وثني حلولي كموني. 

ولا يزال هذا هو المفهوم السائد للنفس البشرية، رغم تواري المصطلحات التي تُعبِّر عن المفهوم بشكل متبلور. ومع هذا يُفصح النموذج عن نفسه بشكل فاضح، وتعاود المصطلحات الشفافة الظهور. ففي عام 1996 تكشفت فضيحة تخلي حكومة الولايات المتحدة عن بعض عملائها من الفيتناميين ممن تم تجنيدهم ليعملوا كجواسيس لحسابها. وممن قبضت عليهم المقاومة الفيتامينية، إذ أنها بدلاً من أن تحاول العمل على الإفراج عنهم، آثرت الراحة وأعلنت أنهم لاقوا حتفهم حتى يُغلَق ملفهم تماماً ولا تُصدع رأسها. وقد برَّر أحد الجنرالات الأمريكيين موقف حكومته بقوله إن هؤلاء العملاء أصبحوا بعد القبض عليهم مجرد « ممتلكات لا قيمة لها » (بالإنجليزية: أن فايابل أستس unviable assets)، أي مادة بشرية فائضة لم يعد لها نفع بالنسبة للسوبرمان الذي قام باستخدامها. 

وهذه هي النواة المعرفية والأخلاقيـة الأسـاسية للحضارة الغربية الحديثة. وهي نواة نمت وترعرعت وعبَّرت عن نفسها من خلال ثنائية الإمبريالي والأداتي، والسوبرمان والسبمان، فتزايدت معدلات اليقينية العلمية من ناحية، الأمر الذي أدَّى إلى تَزايُد إحساس الإنسان الغربي بذاته وبقوة إرادته ومقدرته على البطش (خصوصاً بين النخبة الإمبريالية الحاكمة). كما تزايدت في الوقت نفسه معدلات النسبية المعرفية والأخلاقية، الأمر الذي أدَّى إلى ضمور حس الإنسان الغربي الخُلقي وضمور قدرته على اتخاذ القرار، كما عَمَّقت قابليته للإذعان للقانون الموضوعي العام المجرد (اللاإنساني) كقيمة مطلقة لابد من العمل بمقتضاها والسير بهديها دون تساؤل (خصوصاً بين الجماهير). 
يتبع إن شاء الله...


الباب الرابع: الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة  2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الباب الرابع: الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الرابع: الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة    الباب الرابع: الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة  Emptyالأربعاء 27 نوفمبر 2013, 11:18 pm

وسنورد فيما يلي بعض العناصر التي ساعدت على تعميق هذا الاتجاه العام في الحضارة الغربية. وتجدر ملاحظة أن كثيراً من العناصر التي سنوردها قد يكون لها وجهان أحدهما إمبريالي (بالنـسبة للسـوبرمن) والآخر أداتي (بالنسـبة للسبمن)، 

فالوجهان متداخلان، وإن كان هناك من يُوظِّف فلابد أن يوجد من يُوظَّف: 

1 ـ تصاعدت معدلات المشيحانية (أو المهدوية) العلمية أو العلموية، أي التبشير بأن التراكم المعرفي العلمي والتقدم التكنولوجي والتنظيم التكنوقراطي الدقيق (المنفصل عن القيمة) سيجعل الإنسان قادراً على التحكم في ذاته وفي واقعه تماماً، وعلى التوصل إلى الحلول النهائية لمشاكله كافة (الاقتصادية والسياسية والفلسفية والنفسية)، وإلى فرض هذه الحلول النهائية المجردة العلمية الدقيقة (المستمدة من عالم الطبيعة/المادة البسيطة) على الواقع الاجتماعي والإنساني، فيتخلص الإنسان من مشاكله (دفعة واحدة أو تدريجياً) ويستأصل كل ما يقع خارج حدود الحل النهائي أو يعوقه عن التحقق أو يعوق ظهور الإنسـان الجـديد الكامل (الذي يخـتلف عن الإنسـان كما نعرفه). فهذا الإنسان الكامل يتحكم في نفسه تماماً، ويبرمجها، أو يمكن برمجته. ومن هنا ظهر الاهتمام بعلوم جديدة مثل تحسين النسل (والهندسة الوراثية). 

ومن هنا العداء الشديد للتشوهات الخلقية وللأمراض النفسية، بل فكرة المرض نفسها باعتبارها تعبيراً عن الانحراف عن المعيار الطوباوي النهائي. ولكن حينما يُهيمن هذا المعيار يتم تأسيس الفردوس الأرضي، اليوتوبيا التكنولوجية التكنوقراطية، دولة النعيم المقيم في الأرض المؤسس على العلم والتكنولوجيا، وتُعلَن نهاية التاريخ والإنسان كما نعرفه. وهذا الحل النهائي سيعفي الإنسان من مسئولية الاختيار الأخلاقي إذ أن كل شيء سيكون مخططاً مبرمجاً، خاضعاً لهندسة اجتماعية صارمة، وتحت السيطرة السياسية والتكنوقراطية الكاملة. ولنا أن نلاحظ أنه سيكون هناك دائماً نخبة من السوبرمن تقرر طبيعة الحل أو البرنامج النهائي ومتى يمكن إعلان نهاية التاريخ وكيفية اتخاذ الإجراءات اللازمة للوصول لتلك اللحظة، وإلى جانب النخبة ستوجد قاعدة عريضة من السبمن يُدْفَع بها دفعاً نحو اليوتوبيا. 

2 ـ ظهور أيديولوجيات علمانية شاملة (مثل الماركسية أو الاشتراكية العلمية والفاشية والنازية) ذات طابع مشيحاني قوي وذات رؤية خلاصية تدور حول مطلق علماني مادي شامل، وتنطلق من الإيمان بالعلم والتكنولوجيا والتنظيم. هذا لا يعني أن الأيديولوجيات العلمانية الأخرى ترفض العلم مصدراً وحيداً للوصول إلى المعرفة ولتوليد القيم فهذا هو إطارها المرجعي الوحيد، ولكن ما يحدث مع أيديولوجيات مثل النازية والماركسية (في نزعتها الستالينية) أن منطق العلمانية الشاملة يُعبِّر عن نفسه بشكل كامل يتسم بدرجة عالية من التبلور، خصوصاً حينما يسانده جهاز الدولة المركزية الحديثة. 

3 ـ مع تَزايُد معدلات العلمنة الشاملة، لم يَعُد من الممكن تصنيف البشر على أساس ديني (متجاوز للقوانين الطبيعية/المادية)، فلم يكن ثمة مفر من تصنيفهم على أساس مادي موضوعي طبيعي كامن (حالّ) فيهم، وليس مفارقاً لهم. ولهذا، طُرح الأساس البيولوجي العرْقي أساساً وحيداً وأكيداً لتصنيفهم. وتم المزج بين هذه النظرية شبه العلمية ونظرية أخرى شبه علمية وهي الداروينية الاجتماعية، وكانت الثمرة هي النظرية الغربية في التفاوت بين الأعراق ذات الطابع الدارويني. وتُقسِّم هذه النظرية الجنس البشري بأسره إلى أعراق لكلٍ منها سماته التي يمكن تحديدها علمياً. ومن ثم يمكن تصنيف البشر إلى أعراق راقية عليا: الآريون وبخاصة النورديون، وأعراق دنيا: الزنوج والعرب واليهود. وتَفوُّق العنصر الآري الأبيض على كل الشعوب الأخرى يعطيه حقوقاً مطلقة كثيرة تتجاوز أية منظومات قيمية وأي حديث عن المساواة. وكلمة «آريان Aryan»، أي «آري»، مشتقة من اللغة السنسكريتية ومعناها «سيِّد». وقد استُخدم المصطلح في بداية الأمر للإشارة إلى مجموعة من اللغات الإيرانية ثم الهندية الأوربية، إذ طرح العالم الألماني ماكس مولر (1823 ـ 1900) نظرية مفادها أن هناك جنساً يُسمَّى «آرياس» كان يتحدث اللغة الهندية الأوربية التي تفرعت عنها اللغات الهندية الأوربية الأخرى جميعاً ابتداءً بالهندوستانية وانتهاء بالإنجليزية. كما استُخدم المصطلح للإشارة إلى الشعوب الهندية الأوربية التي انتشرت في جنوب آسيا وشمال الهند في العصور القديمة. وكان جوزيف جوبينو (1816 ـ1882) من أهم المفكرين الذين أشاعوا هذه الفكرة، فكان عادةً ما يضع الآريين مقابل الساميين، وكان ثمة تَرادُف مُفترَض بين الآرية والهيلينية مقابل السامية.

وقام المفكرون العرْقيون الغربيون بتطوير المفهوم فذهبوا إلى أن هذا الجنس الآري انتشر من شمال الهند وإيران عبر الإستبس، إلى أوربا، وهو جنس يتسم ـ حسب نظريتهم ـ بالجمال والذكاء والشجاعة وعمق التفكير والمقدرة على التنظيم السياسي، وبأنه المؤسس الحقيقي للحضارة وبتفوقه على الساميين والصفر والسود. ونبه هيوستون سـتيوارت تشـامبرلين (1855 ـ 1927) إلى أن النورديين هم أرقى الآريين، فهم الجنس السيد، أما اليهود والسود والعرب فيشغلون أدنى درجات السلم العرْقي. بينما ذهب دعاة النظرية العرْقية إلى أن التزاوج بين أعضاء الأجناس المختلفة يؤدي إلى تدهور العرْق الأسمى الذي يجب أن يحتفـظ بنفسـه قوياً نقياً حتى يضـمن لنفسه البقاء والتماسك العضوي. وبطبيعة الحال، صُنِّف أعضاء الأجناس الأدنى باعتبارهم غير نافعين من منظور المطلق العرْقي (الشعب العضوي) لأنهم خطر على تماسك الشعب (أو العرْق) وعلى تجانسه، وعدم التماسك يؤذي المصلحة العليا للدولة لأن التماسك يؤدي إلى زيادة الكفاءة الإنتاجية، وإلى زيادة قوة الدولة في مقدرتها على البقاء والانتشار والهيمنة. 

4 ـ مع تَصاعُد معدلات العلمنة ظهرت كذلك فكرة الفولك أو الشعب العضوي الذي تربطه بأرضه وثقافته رابطة عضوية حتمية لا تنفصم عراها، وهنا تحل الرابطة الإثنية محل الرابطة العرْقية، ولكنها لا تختلف عنها في كمونيتها وحتميتها وفي تحولها إلى أساس تأكيد التفاوت بين الشعوب. ويُلاحَظ أن الشعب العضوي باعتباره قيمة مطلقة ومرجعية ذاته يتجاوز كل القيم، ولكن صفة المطلق هنا لا تنسحب على الإنسان باعتباره فرداً قادراً على الاختيار الأخلاقي الحر وإنما على مجموعة من البشر لها سماتها الجماعية ومصالحها المشتركة وحقوقها المطلقة! 

5 ـ تزايدت معدلات النسبية المعرفية، فعالم الطبيعة/المادة هو عالم حركي لا ثبات فيه ولا حدود، بحيث أصبح الإنسان يشك في وجود أية حقيقة يقينية. وهذا الشك لا ينصرف إلى الحقيقة وحسب وإنما إلى الموضوع ثم إلى الذات. وقد انتهى الأمر بالفلسفة الغربية إلى إنكار الكليات والميتافيزيقا وظهرت الفلسفة المعادية للفلسفة والميتافيزيقا وأي شكل من أشكال الثبات، بما في ذلك ثبات الطبيعة البشرية. وهي فلسفة النسبية المعرفية الكاملة التي تصل إلى حالة من السيولة الكاملة وتنكر الذات والموضوع والمركز ومفهوم الطبيعة البشرية وإمكانية المعرفة والأخلاق وأي شكل من أشكال المعيارية (ما بعد الحداثة). ورغم أن النازية تسبق ظهور ما بعد الحداثة بعدة أجيال إلا أن كثيراً من العناصر التي أدَّت إلى ظهور ما بعد الحداثة كانت قد تشكلت وتبلورت وكانت الفلسفة الغربية قد دخلت عصر السيولة. ولعله ليس من قبيل الصدفة أن هايدجر، بنزعته النيتشوية، والذي خرجت ما بعد الحداثة من تحت عباءته، أيَّد النازية بلا تحفظ، وكان النازيون يعتبرونه فيلسوفهم. 

6 ـ تَزايُد معدل انفصال الحقائق والعلم الطبيعي عن القيمة، والتجريب عن العقـل، بحيث أصـبح التجريب، المنفـصل عن أية غائيات إنسانية أو أخلاقية، هدفاً في حد ذاته. وترجم هذا نفسه إلى ما يُسمَّى العلم المحايد، المتجرد تماماً من القيمة. ولكن هناك دائماً من يقرر القيمة ونوعية التجارب التي ستُجرى. 

7 ـ تعاظمت قوة الدولة المركزية وهيمنتها وتحويلها ذاتها إلى مطلق، ومن ثم أصبح الدفاع عن مصلحة الدولة القومية (ظالمة كانت أم مظلومة) مسألة لا تقبل النقاش ولا تخضع لأية معيارية، والانحراف عن هذا الهدف النهائي المطلق هو الخيانة العظمى وعقوبتها الإعدام. ويُلاحَظ أن مصطلحات مثل «مصلحة الدولة العليا» ليس لها مضمون أخلاقي، وتَقبُّلها يعني تَقبُّل المجردات غير الإنسانية. 

8 ـ ظهرت مؤسسات بيروقراطية قوية (حكومية وغير حكومية) تولت كثيراً من الوظائف التي كانت تتولاها الأسرة في الماضي، وتقوم بعملية الاختيار بالنيابة عن الإنسان الفرد الأمر الذي يعني تَزايُد ضمور الحس الخلقي وانكماش ما يُسمَّى «رقعة الحياة الخاصة». 

9 ـ كانت هذه المؤسسات ترى نفسها ذاتاً مطلقةً تُعبِّر عن مصلحة الدولة (التي تُعبِّر عن إرادة الشعب) وقد جعلت جل همها أن تنفِّذ المطلوب منها تنفيذه بأقل التكاليف وأكثر الوسائل كفاءة، دون أخذ أية اعتبارات خُلقية في الاعتبار. 

10ـ تزايدت معدلات الترشيد والتنميط والميكنة وهيمنة النماذج الكمية والبيروقراطية على المجتمع بكل ما ينجم عن ذلك من ترشيد للبيئة المادية والاجتماعية وترشيد للإنسان من خارجه وداخله. 

11 ـ تَصاعَد نفوذ مؤسسات الدولة المركزية « الأمنية» البرانية والجوانية وزادت مقدرتها على قمع الأفراد وتوجيههم « وإرشادهم » من الداخل والخارج. ورغم أهمية مؤسسات القمع المباشر البراني مثل المخابرات والبوليس السري، إلا أن المؤسسات الأمنية الجوانية، مثل المؤسسات التربوية والإعلام، كانت تفوقها في الأهمية. فإذا كانت المؤسسات البرانية تقوم بتوجيه الفرد بغلظه من الخارج، فالمؤسسات الثانية تقوم بترشيده من الداخل ببطء وبشكل روتيني يومي لا يشعر هو به حتى يصل به الأمر إلى تَمثُّل، ثم استبطان، رؤية الدولة تماماً، فينظر إلى الواقع من خلال عيونها دون حاجة إلى قمع خارجي، ويحيِّد ذاته وحسه الخلقي، ويصبح المجتمع أو الدولة أو العلم الطبيعي المصدَر الوحيد للقيمة المطلقة، وفي نهاية الأمر ينظر إلى نفسه باعتباره جزءاً من آلة كبرى، وتصبح مهمته الأساسية، وربما الوحيدة، هـي التكيف البرجماتي مع دوران الآلة.

12 ـ تزايدت معدلات التجريد في المجتمع، ومن المعروف أن عمليتي التجريد والترشيد هما عمليتان متلازمتان، إذ لا يمكن الترشيد دون تجريد، أي نزع الصفات الخاصة عن الشيء والتركيز على الصفات العامة فيه والتي تجمع بينه وبين الأشياء الأخرى حتى يتسنى استيعابه داخل الآلة الاجتماعية. ويؤدي التجريد إلى ابتعاد الواقع الحي بحيث لا يدركه المرء بشكل مباشر متعين له قيمة، إذ يصبح شيئاً له مواصفات محددة يمكن تقسيمه إلى أجزاء يمكن استبدال بعضها، وينطبق هذا على البشر انطباقه على الأشياء. ويرى أورتيجا جاسيت أن عملية التجريد مرتبطة تمام الارتباط بعملية نزع الصبغة الإنسانية (بالإنجليزية: دي هيومانايزيشن dehumanization). 

وقد نجحت عمليات التجريد المتزايدة في جعل القيمة الأخلاقية شيئاً بعيداً للغاية لا علاقة له بفعل الإنسان المباشر. ولنضرب مثلاً من صناعة الأسلحة الكيماوية الفتاكة: تُقسَّم عملية إنتاج المبيد البشري إلى عـدة وظائف صـغيرة، كل وظيفة تُشـكِّل حلقة تؤدي إلى ما بعـدها وحسب. ولأنها مجرد حلقة، فهي محايدة تماماً ولا معنى لها، إذ لا يوجد أي مضمون خلقي لعملية إضافة محلول لآخر. ومن ثم، تظل النهاية الأخلاقية (حرق البشر وإبادتهم) بعيدة للغاية. والعامل أو الموظف المسئول عن هذه الحلقة سيبذل قصارى جهده في أداء عمله الموكل إليه دون أية أعباء أخلاقية، ومن ثم تستمر الآلة الجهنمية في الدوران من خلال الحلقات والتروس، ولا يتحمل أي شخص مسئولية إبادة البشر، إذ أن مسئولية العامل أو الموظف مسئولية فنية تكنوقراطية وليست مسئولية أخلاقية. 

13 ـ ومن المظاهر الأخرى للتجريد في المجتمع الحديث ممارسة العنف عن طريق مؤسسات متخصصة تقوم بتحقيق أهدافها بشكل مؤسسي رشيد (أي مقنن) ومنظم لا دخل فيه للعواطف. وعادةً ما تتم عمليات التعذيب وغيرها من أعمال العنف بعيداً عن الناس في أطراف المدينة، داخل مكاتب أنيقة تم تقسيمها بعناية فائقة. وعادةً ما يتم التعذيب بأساليب علمية بحيث لا يترك أثراً على جسد الضحايا. وإن تم قتلهم فعادةً ما يمكن التخلص من جثثـهم بطريقة نظيفة عالية الكفاءة. 

14 ـ تظهر عمليتا التجريد والترشيد في اسـتجابة البـشر للعنف والإبادة، إذ تحل الحسابات الرشيدة محل الاستجابة التلقائية والعواطف بحيث يمكن للإنسان أن يكبت أية أحاسيس بالشفقة أو الانفعال الغريزي داخله أو الإحساس التلقائي المباشر ويَحل محل ذلك كله قدر عال من الانضباط والتخطيط. 

ويمكن القول بأن ما تم إنجازه في الحضارة الغربية الحديثة هو القضاء على الشخصية التقليدية ذات الولاء لمطلق خُلقي ثابت يتجاوز عالم المادة والتاريخ (ومن ثم فهي شخصية تعيش في ثنائيات وتعددية) وحلَّت محلها الشخصية الحركية المتغيرة والمتقلبة مع حركة المادة، التي لا ولاء عندها لأية ثوابت أو مطلقات والتي تحررت من أية قيم أو غائية، فهي تعيش في عالم الواحدية المادية المعقم من القيم المتجاوزة. هذه الشخصية يمكن أن تتبدَّى من خلال إمبريالية داروينية مليئة باليقينية العلمية توظِّف الكون (الطبيعة والإنسان) لصالحها، ويمكن لها أن تتبدَّى من خلال إذعان أداتي فتصبح شخصية نمطية تعاقدية برجماتية ذات بُعد واحد، تستبطن تماماً النماذج السائدة في المجتمع والتي تروجها الأجهزة الأمنية للمجتمع وضمن ذلك الإعلام، وهي شخصية نسبية هزيلة مهتزة لا تثق في ذاتها ولا رؤيتها ولا هويتها ولا منظوماتها ولذا يتحدد تَوجُّهها حسب ما يصدر لها من أوامر تأتي لها من عل، ويتحدد ولاؤها استناداً إلى المصلحة المادية المتغيرة التي يتم تعريفها مدنياً وقومياً وعلمياً وموضوعياً (من خلال الجهات المسئولة واللجان المتخصصة والسوبرمن) ومن ثم يمكنها أن تطيع الأوامر البرانية وتنفذ التعليمات بدقة متناهية. وهي شخصية ذات عقل أداتي لا تفكر في الغايات وإنما في الوسائل والإجراءات وحسب، وفي أحسن السبل لإنجاز ما أوكل لها من مهام دون تساؤل عن مضمونها الأخلاقي أو هدفها الإنساني. 
وحينما ظهرت هذه الشخصية، أصبح من الممكن أن تقرر الدولة وأعضاء النخبة إبادة عناصر غير نافعة في المجتمع (الفائض البشري) أو في وطـن آخـر أو قارة بأسرها تشكل مجالاً حيوياً للدولة صاحبة القرار.ولم يعـد هذا جريمة إذ لا توجـد قوانين مطلـقة خارجـة عن الدولـة،أو هـي « جريمة قانونية مشروعة »،إن صح القول،تكتسب مشروعيتها من أن الدولة توافق عليها وتباركها،بل تشـجع عليهـا وتضرب على يـد كـل من يعارضها أو يحجم عن اقترافها. 

وهناك على كلٍّ المؤسسات المتخصصة لتنفيذ الجريمة، وهي مؤسسات بيروقراطية منفصلة عن القيمة، تتجاوز الخير والشر، ولا تسأل عن السبب وإنما عن الوسيلة (أي أنها ملتزمة بالترشيد الإجرائي وأخلاقيات الصـيرورة)، والعاملون في مثل هذه المؤسـسات لا يتخذون قرار قتل الأطفال، على سبيل المثال، بأنفسهم، ولا ينفذون جريمة القتل بأيديهم فاللجان المتخصصة التي تضم السوبرمن تجتمع على أعلى مستوى وتناقش المسألة بطريقة علمية وبيروقراطية وفي لغة محايدة وتتخذ القرارات في ضوء ما تراه هي الصالح العام. ثم يصدر الأمر في نهاية الأمر، لا بالقتل أو التصفية الجسدية وإنما بالقيام بعمليات «التطهير العرْقي» أو «الحل النهائي» أو خدمة «مصلحة الدولة العليا». ثم يُقسَّم القرار إلى مئات التفاصيل التي يقوم بها آلاف الموظفين التنفيذيين من الجنود والعمال والفلاحين والمهنيين الذين لن يشعروا بهذا الطفل الذي سيُقتَل في غابات فيتنام أو في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين أو في معسكرات الاعتقال النازية. 

وحتى إذا شعر الإنسان في أعماق أعماقه بلا أخلاقية القرار، فسوف يكون قد تعلم من الآليات ما يجعله قادراً على إسكات حسه الخُلقي. فالإنسان الحديث أصبح بوسعه، بحسه العملي، ومن خلال الحسابات الرشيدة والتسويغ العلمي الموضوعي المحايد الصارم والنسبية الكاملة التي تجعل الأمور متساوية، تبرير أي شيء وقبول أي وضع، فتمكن التضحية بالجزء في سبيل الكل، والأقلية في سـبيل الأغلبية، والمرضى في سـبيل الأصـحاء، والعجزة في سبيل الشباب. ومع سيطرة حب البقاء، باعتبار أن البقاء قيمة مطلقـة، فإن الجميـع يمـكن أن يتعـاونوا مع الدولـة من قبيل تقليل الخسائر (إذ لا توجد قيم مطلقة أو مرجعية متجاوزة يمكن للفرد أن يؤمن بها ويموت من أجلها ويحاكم البشر والأمم كافة من منظورها). ثم تتكفل المؤسسات الإعلاميـة للدولـة بتصفيـة كل ما تبقى من أحاسيس إنسانية أو أخلاقية "متخلفة" تشكل ثنائية لا تريد أن تختفي. 

وبهذا المعنى يمكن القول بأن الحضارة الغربية الحديثة (في جانب هام من جوانبها) هي تعبير عن التراجع التدريجي والمستمر للفلسفة الإنسانية الهيومانية التي تؤكد استقلالية الإنسان عن الطبيعة/المادة ومقدرته على تجاوزها وعلى تطوير منظومات قيمية ومعرفية تضعه في مركز الكون. هذا التَراجُع يقابله تَصاعُد مستمر ومطرد للحلولية الكمونية المادية (أي الواحدية المادية أو وحدة الوجود المادية أو العلمانية الشاملة) التي تُهمِّش الإنسان ومنظوماته المعرفية والأخلاقية جميعاً وتُسوِّيه بالظواهر الطبيعية وترده إلى عناصره الأولية المادية، أي تقوم بتفكيكه وتذويبه تماماً في الطبيعة/المادة، فتلغيه وتبيده ككائن له قيمة مطلقة، مستقل عن قوانين الحركة الطبيعية/المادية وقد يكون من المفيد والطريف في الوقت نفسه أن نربط مصطلحي «الإبادة» (بالإنجليزية: إكسترمينيشن extermination) و«التفكيك» (بالإنجليزية: دي كونستراكشن deconstruction) بمجموعة من المصطلحات الأخرى التي استخدمها علم الاجتماع الغربي لوصف بعض الجوانب السلبية للحداثة الغربية، وكلها ت 

فيد تهميش وتفكيك وتَراجُع وضمور وذبول وغياب الإنساني والأخلاقي لصالح ما هو غير إنساني ومحايد ومتشيئ: 

1 ـ «دي سنترينج مان decentering man» أي «إزاحة الإنسان عن المركز»، بمعنى «إفقاد الإنسان مركزيته في الكون». 
2 ـ «دي برسونالايزيشن depersonalization» أي «إسقاط السمات الشخصية». 
3 ـ «ديس انتشانتمنت أوف ذي ورلد disenchantment of the world» أي «تحرير العالم من سحره وجلاله»، بمعنى أن يصبح العالم مادة محضة لا أسرار فيها، يمكن للعقل الإحاطة بها ومعرفة قوانينها والتحكم فيها. 
4 ـ «دي سانكتيفيكيشن desanctification» أو «دي ساكرالايزيشن desacralization» أي «نزع القداسة عن الظواهر كافة [ومنها الإنسان] بحيث تصبح لا حرمة لها وينظر لها نظرة مادية لا علاقة لها بما وراء الطبيعة». 
5 ـ «دي ميستفيكيشن demystification» أي «نزع السر عن الظواهر [بما في ذلك الإنسان]». 
6 ـ «دي نيودينج denuding» أي «تعرية كل الظواهر من أية مثاليات [ومنها الإنسان] حتى تظهر على حقيقتها المادية». 
7 ـ «دي هيومانايزيشن dehumanization» أي «تجريد الإنسان من خصائصه الإنسانية». 

وهكذا تبدأ عملية العلمنة الشاملة (بعد المرحلة الإنسانية الهيومانية الأولى) بإزاحة الإنسان عن المركز ثم نزع الجوانب الشخصية عنه بحيث يصبح شيئاً ليست له خصوصية أو تفرُّد. ثم «يُحرَّر » العالم من سحره وجماله فيصبح الإنسان والطبيعة مادة محضة، ثم تنزع عنه كل قداسة وتُهتَك كل أسراره، ويُعرَّى من أية مثاليات لنصل إلى نوع من أنواع الإباحية الأخلاقية المعرفية إذ يصبح الإنسان لحماً يُوظَّف في مزارع البيض في الجنوب الأمريكي أو مصانع الرأسماليين في لندن أو يُرسل إلى معسكرات السخرة والإبادة في ألمانيا أو يُصوَّر في مجلات إباحية في كل أو أي مكان. والمحصلة النهائية لكل هذا هي نزع الصفة الإنسانية عن الإنسان وتحويله إلى مادة محضة، قابلة للحوسلة. وهذه هي قمة العلمنة الشاملة والتفكيك الكامل. ونحن نربط كل هذه المصطلحات وغيرها بمصطلح «نهاية التاريخ» باعتبار أن نهاية التاريخ هي النقطة التي يتم التحكم فيها في كل شيء وينتهي الإنسان كما نعرفه، أي الإنسان الذي يشغل مركز الكون متجاوزاً النظام الطبيعي. ونحن لا نزعم أن الرؤية الواحدية المادية تؤدي حتماً وبشكل مطلق إلى الإبادة والتفكيكية. كل ما نؤكده أن مثل هذه الرؤية تخلق التربة الخصبة لانتشار الآراء النفعية الداروينية المادية التي تترعرع فيها الاتجاهات والأفكار الإبادية والتفكيكية وتتحقق.

الآريـون 
Aryans 

انظر: «الإبادة وتفكيك الإنسان كإمكانية كامنة في الحضارة الغربية الحديثة». 

تحـــول الإمكانيــة الإباديـــة إلــى حقيقـة تاريخية 
Historical Realization of the Genocidal Potential 

هذه القابلية أو الإمكانية الكامنة للإبادة، ولتفكيك الإنسان لعناصره المادية الأساسية لاستخدامها على أكمل وجه، تحققت أول ما تحققت بشكل جزئي وتدريجي في التجربة الاستعمارية الغربية بشقيها الاستيطاني والإمبريالي. فقد خرجت جيوش الدول الغربية الإمبريالية تحمل أسلحة الدمار والفتك والإبادة، وحَوَّل الإنسان الغربي نفسه إلى سوبرمان له حقوق مطلقة تتجاوز الخير والشر، ومن أهمها حق الاستيلاء على العالم وتحويله إلى مجال حيوي لحركته ونشاطه وتحويل العالم بأسره إلى مادة خام، طبيعية أو بشرية. فاعتُبرت شعوب آسيا وأفريقيا (الصفراء والسوداء المتخلفة) مجرد سبمن، مادة بشرية تُوظَّف في خدمته، كما اعتُبر العالم مجرد مادة طبيعية تُوظَّف في خدمة دول أوربا وشعوبها البيضاء المتقدمة، واعتُبرت الكرة الأرضية مجرد مجال حيوي له يصدِّر له مشاكله. بل لم تفرق الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية الشاملة في نهاية الأمر بين شعوب آسيا وأفريقيا وشعوب العالم الغربي، فالجميع مادة بشرية، نافعة أو غير نافعة، ضرورية أو فائضة. فكان العمال يُنظر لهم باعتبارهم مادة بشـرية نافعة، ومصدراً لفائض القيمة، أما المتعـطلون فهم مادة بشرية فائضة. وصُنِّف المجرمـون (وفي مرحلة أخرى، المعوقـون والمسـنون) مادةً بشريةً غير نافعة. وهذه المادة يجب أن « تُعالج»، وكانت الوسيلة الأساسية للمعالجة هي تصدير المادة البشرية الفائضة إلى مكان آخر لتحويلها إلى مادة نافعة إن أمكن (مع عدم استبعاد « الحلول الأخرى » إن استلزم الأمر). وكانت أولى عمليات " المعالجة " هي نقل الساخطين سياسياً ودينياً (البيوريتان) إلى أمريكا، والمجرمين والفاشلين في تحقيق الحراك الاجتماعي في أوطانهم إلى أمريكا وأستراليا.

وتبعتها عمليات ترانسفير أخرى تهدف جميعاً إلى تحقيق صالح الإنسان الغربي: 

ـ نقْل سـكان أفريقيا إلى الأمريكتين لتحـويلهم إلى مادة اسـتعمالية رخيصة. 

ـ نقْل جيوش أوربا إلى كل أنحاء العالم، وذلك للهيمنة عليها وتحويلها إلى مادة بشرية وطبيعية تُوظَّف لصالح الغرب. 

ـ نقْل الفائض البشري من أوربا إلى جيوب استيطانية غربية في كل أنحاء العالم، لتكون ركائز للجيوش الغربية والحضارة الغربية (فيما يُعَد أكبر حركة هجرة في التاريخ). 

ـ نقْل كثير من أعضاء الأقليات إلى بلاد أخرى (الصينيين إلى ماليزيا ـ الهنود إلى عدة أماكن ـ اليهود إلى الأرجنتين) كشكل من أشكال الاستعمار الاستيطاني، إذ أن هذه الأقليات تشكل جيوباً استيطانية داخل البلاد التي تستقر فيها. 

ـ نقْل كثير من العناصر المقاتلة من آسيا وأفريقيا وتحويلهم إلى جنود مرتزقة في الجيوش الغربية الاستعمارية، مثل الهنود (خصوصاً السيخ) في الجيوش البريطانية. وفي الحرب العالمية الأولى، تم تهجير 132 ألفاً من مختلف أقطار المغرب لسد الفراغ الناجم عن تجنيد الفرنسيين، بالإضافة إلى تجنيد بعضهم مباشرةً للقتال (وهذه هي أول «هجرة » لسكان المغرب العربي، وقد استمرت بعد ذلك تلقائياً). 

ـ مع ظهور فكر حركة الاستنارة في الغرب تم تعريف الناس حسب نفعهم للمجتمع والدولة وقد طُبِّق هذا المعيار على كل المواطنين وبخاصة أعضاء الأقليات. فتم تقسيم اليهود في كثير من البلاد الغربية ـ كما أسلفنا ـ بحيث أصبح غير النافعين قابلين للترحيل. 

ـ في هذا الإطار المعرفي الترانسفيري، تمت عملية الاستيطان الصهيونية التي هي في جوهرها تصدير لإحدى مشاكل أوربا الاجتماعية (المسألة اليهودية) إلى الشرق. فيهود أوربا هم مجرد مادة (فائض بشري لا نفع له داخل أوربا يمكن توظيفه في خدمتها في فلسطين)، والعرب أيضاً مادة (كتلة بشـرية تـقف ضد هـذه المصالح الغربية)، وفلسطين كذلك مادة، فهي ليست وطناً وإنما هي جزء لا يتجزأ من الطبيعة/المادة تُطلَق عليه كلمة «الأرض». فتم نقل العرب من فلسطين ونُقل اليهود إليها، وتمت إعادة صياغة كل شيء بما يتلاءم مع مصالح الإنسان الغربي. 

ـ تمت عمليات ترانسفير ضخمة بعد الحرب العالمية الأولى، فنُقل سكان يونانيون من تركيا إلى اليونان، وسكان أتراك من اليونان إلى تركيا، كما نُقل سكان ألمان من بروسيا الشرقية بعد ضمها إلى بولندا. وهذه العمليات هي التي أوحت لهتلر بعمليات نقل اليهود خارج الرايخ. بل إنه في السنين الأخيرة من حكم الرايخ طوَّر هملر جنرال بلان أوست Generalplan Ost لنقل 31 مليوناً «غير ألمان» من أوربا الشرقية وتوطين ألمان بدلاً منهم. 

وما يهمنا في هذا كله هو نزع القداسة عن البشر كافة (في الشرق والغرب) وتحويلهم إلى مادة استعمالية ليست لها قيمة مطلقة، ولا علاقة لها بأية معيارية. ولكن لنركز على التجربة الاسـتيطانية الغربية في جميع أنحاء العالم، خصوصاً في أمريكا الشمالية، وهي تجربة كانت تفترض ضرورة إبادة تلك العناصر البشرية الثابتة التي كانت تقف عقبة كأداء في طريق الإنسان الغربي وتحقيق مشروعه الإمبريالي. وقد قبلت الجماهير الأوربية عملية الإبادة الإمبريالية وساهمت فيها بحماس شديد، لأن هذه العملية كانت تخدم مصالحها، كما أوهمتها الدول الإمبريالية ذات القبضة الحديدية في الداخل والخارج. وتُعدُّ العقيدة البيوريتانية (أو التطهرية)، عقيدة المستوطنين البيض في أمريكا الشمالية، هي أولى الأيديولوجيات الإمبريالية الإبادية التي كانت تغطيها ديباجات دينية كثيفة. فكان هؤلاء المتطهرون يشيرون إلى هذا الوطن الجديد باعتباره «صهيون الجديدة» أو «الأرض العذراء» فهي «أرض بلا شعب». وكان المستوطنون يشيرون إلى أنفسهم باعتبارهم «عبرانيين»، وللسكان الأصليين باعتبارهم «كنعانيين» أو «عماليق» (وكلها مصطلحات توراتية إبادية، استخدمها معظم المستوطنين البيض فيما بعد في كل أرجاء العالم متجاهلين تماماً القيم المسيحية المطلقة مثل المحبة والإخاء). 

وكان كل هذا يعني في واقع الأمر إبادة السكان الأصليين حتى يمكن للمستوطنين البيض الاستقرار في الأرض الخالية الجديدة! وقد تم إنجاز هذا من خلال القتل المباشر، أو نقل الأمراض المختلفة (كأن تُترَك أغطية مصابة بالجدري كي يأخذها الهـنود فينتشر الوباء بينهـم ويتم إبادتهم تماماً). وكانت الحكومة البريطانية في عصر الملك جورج الثالث تعطي مكافأة مالية لكل من يحضر فروة رأس هندي قرينة على قتله. واستمرت هذه التقاليد الغربية الإبادية بعد استقلال أمريكا، بل تصاعدت بعد عام 1830 حين أصدر الرئيس جاكسون قانون ترحيل الهنود، والذي تم بمقتضاه تجميع خمسين ألفاً من هنود الشيروكي من جورجيا وترحيلهم (ترانسفير) أثناء فصل الشتاء سيراً على الأقدام إلى معسكر اعتقال خُصِّص لهم في أوكلاهوما. وقد مات أغلبهم في الطريق (وهذا شكل من أشكال الإبادة عن طريق التهجير [ترانسفير]، فهو شكلاً ترانسفير من مكان لآخر ولكنه فعلاً ترانسفير من هذا العالم للعالم الآخر). ووصلت العملية الإبادية إلى قمتها في معركة ونديد ني Wounded Knee (الركبة الجريحة) عام 1890. وكانت الثمرة النهائية لعمليات الإبادة هذه أنه لم يبق سوى نصف مليون من مجموع السكان الأصليين الذي كان يُقـدر بنحو 6.5مليون عـام 1500 لدى وصول الإنسان الأبيض، أي أنه تمت إبادة سـتة مليون مواطن أصلي (وهو رقم سحري لا يذكره أحد هذه الأيام)، إذا لم نحـسب نسبة التزايد الطبيعي (يُقدر البعض أن العدد الفعلي الذي تم إبادته منذ القرن السادس عشر حتى بداية القرن العشرين قد يصل إلى عشرات الملايين). وقد تكرر نفس النمط في أستراليا التي كان يبلغ عدد سكانها الأصليين 2 مليون عند استيطان البيض للقارة في عام 1788 لم يبق منهم سوى 300 ألف. ولا تزال عملية إبادة السكان الأصليين مستمرة في البرازيل وأماكن أخرى (وإن كان بشكل أقل منهجية وخارج نطاق الدولة).

وترتبط بالتجربة الاستيطانية في أمريكا الشمالية عمليات نقل ملايين الأفارقة السود للأمريكتين لتحويلهم إلى عمالة رخيصة. وقد تم نقل عشرة ملايين تقريباً، ومع هذا يجب أن نتذكر أن كل أسير كان يقابله بوجه عام عشرة أموات كانوا يلقون حتفـهم إما من خـلال أسـباب « طبيعية » بسبب الإنهاك والإرهاق وسوء الأحوال الصحية أو من خلال إلقائهم في البحر لإصابتهم بالمرض. وكانت أعمال السـخرة الاسـتعمارية في أفريقيا ذاتهـا لا تقل قسوة. ففي كتابه رحلة إلى الكونغو (1927)، يُبيِّن أندريه جيد كيف أن بناء السكة الحديد بين برازفيل والبوانت السوداء (مساحة طولها 140 كيلو متر) احتاجت إلى سبعة عشر ألف جثة. ويمكن أن نتذكر أيضاً حفر قنال السويس بنفس الطريقة وتحت نفس الظروف وبنفس التكلفة البشرية. وقد ورد في إحدى الدراسات أن عدد المواطنين الأوربيين الذين لهم علاقة بعمليات التطهير العرْقي والإبادة داخل أوربا (إما كضحايا أو كجزارين) يصل إلى مائة مليون، فإذا أضفنا إلى هذا عدد المتورطين في عمليات القمع والإبادة الاستعمارية في الكونغو وفلسطين والجزائر وفيتنام وغيرها من البلدان فإن العدد حتماً سوف يتضاعف. 
يتبع إن شاء الله...


الباب الرابع: الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة  2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الباب الرابع: الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الرابع: الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة    الباب الرابع: الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة  Emptyالأربعاء 27 نوفمبر 2013, 11:30 pm

ولكن الإمكانية الإبادية الكامنة التي تحققت بشكل غير متبلور وجزئي في التجربة الإمبريالية والاستيطانية الغربية، تحققت بشكل نماذجي كامل في الإبادة النازية أو في «اللحظة النازية النماذجية» في الحضارة الغربية، أي اللحظة التي تبلور فيها النموذج وأفصح عن نفسه بشكل متبلور فاضح، دون زخارف أو ديباجات (ولذا أذهلت الجميع، وضمنهم المدافعون عن النموذج في صوره الأقل تبلوراً وأكثر اعتدالاً). 

وكان النازيون يُدركون تمام الإدراك أن نظامهم النازي وممارساته الإبادية هما ثمرة طبيعية للتشكيل الحضاري الإمبريالي الغربي الحديث. وقد بيَّن كاتبو سيرة حياة هتلر أن أولى تجارب الإنسان الغربي الاستعمارية الاستيطانية، أي تجربته في أمريكا الشمالية، كانت تجربة مثالية أوحت له بكثير من أفكاره التي وضعها موضع التنفيذ فيما بعد. وكما يقول المؤرخ جون تولاند إن هتلر، في أحاديثه الخاصة مع أعضاء الحلقة المقرَّبة إليه، كثيراً ما كان يعبِّر عن إعجابه بالمستوطنين الأمريكيين وطريقة " معالجتهم " لقضية الهنود الحمر. فقد قاموا بمحاولة ترويضهم عن طريق الأسر، أما هؤلاء الذين رفضوا الرضوخ فكان يتم إبادتهم من خلال "التجويع أو القتال غير المتكافئ ". ويقول يواقيم فست إن حروب هتلر القارية المستمرة كانت محاكاة للنموذج الاستعماري الغربي في أمريكا الشمالية. وبالفعل صرح هتلر في إحدى خطبه بأنه حين قام كورتيز وبيزارو (وهما من أوائل القواد الاستعماريين الإسبان) بغزو أمريكا الوسطى والولايات الشمالية من أمريكا الجنوبية، فهم لم يفعلوا ذلك انطلاقاً من أي سند قانوني وإنما من الإحساس الداخلي المطلق بالتفوق. فاستيطان الإنسان الأبيض لأمريكا الشمالية، كما أكد هتلر، لم يكن له أي سند ديموقراطي أو دولي، وإنما كان ينبع من الإيمان بتفوق الجنس الأبيض.

ولذا في مجال تبريره للحرب الشرسة التي شنها على شرق أوربا قال هتلر: " إن هناك واجباً واحداً: أن نؤلمن هذه البلاد من خلال هجرة الألمان الاستيطانية وأن ننظر إلى السكان الأصليين باعتبارهم هنوداً حمراً ". وأكد هتلر أن الحرب التي تخوضها ألمانيا ضد عناصر المقاومة في شرق أوربا لا تختلف كثيراً عن كفـاح البيـض في أمريكـا الشـمالية ضــد الهنود الحمر. ومن هنا كان هتلر يشير إلى أوربا الشرقية باعتبارها "أرضاً عذراء" و"صحراء مهجورة " ("أرض بلا شعب" في المصطلح الصهيـوني). وقد بيَّن ألفريد روزنبرج، أثنـاء محاكمته في نورمبرج، هـذه العلاقة العضـوية بين العنصـرية النازية والمشـروع الغربي الإمبريالي، فأشار مثلاً إلى أنه تعرَّف لأول مرة على مصطلح «الإنسان الأعلى» (السوبرمان) في كتاب عن الاستعماري الإنجليزي كتشنر، وأن مصطلح «الجنس المتفوق» أو «الجنس السيد» مأخوذ من كتابات العالم الأمريكي الأنثروبولوجي ماديسون جرانت والعالم الفرنسي لابوج، وأن رؤيته العرْقية هي نتيجة أربعمائة عام من البحوث العلمية الغربية، فالنازية - كما أكد روزنبرج لمحاكميه - جزء من الحضارة الغربية. 

ولعل أكبر دليل على أن الإبادة إمكانية كامنة، تضرب بجذورها في الحضارة الغربية الحديثة، أنها لم تكن مقصورة على النازيين وإنما تشكل مرجعية فكر وسلوك الحلفاء، أعداء النازيين الذين قاموا بمحاكمتهم بعد الحرب! فإرنست همنجواي، الكاتب الأمريكي، كان يُطالب بتعقيم الألمان بشكل جماعي للقضاء على العنصر الألماني. وفي عام 1940 قال تشرشل إنه ينوي تجويع ألمانيا وتدمير المدن الألمانية وحرقها وحرق غاباتها. وقد عبَّر كاتب يُسمَّى كليفتون فاديمان عن هذا الموقف الإبادي بشكل متبلور. ولم يكن فاديمان هذا شخصية ثانوية في المؤسسة الثقافية الأمريكية فقد كان محرر مجلة النيو يوركر (وهي من أهم المجلات الأمريكية) ورئيس إحدى الوكالات الأدبية التي أنشأتها الحكومة الأمريكية إبَّان الحرب بغرض الحرب النفسية. وقد شن حملة كراهية ضارية ضد الألمان (تشبه في كثير من الوجوه الحملة التي شنها الغرب ضد العرب في الستينيات والتي يشنها ضد المسلمين والإسلام في الوقت الحاضر) وجعل الهدف منها "إضرام الكراهية لا ضد القيادة النازية وحسب، وإنما ضد الألمان ككل... فالطريقة الوحيدة لأن يفهم الألمان ما نقول هو قتلهم... فالعدوان النازي لا تقوم به عصابة صغيرة... وإنما هـو التعبير النهـائي عن أعمق غرائز الشعب الألماني، فهتلر هو تَجسُّد لقوى أكبر منه، والهرطقة التي ينادي بها هتلر عمرها 2000 عام". ومثل هذا الحديث لا يختلف كثيراً عن الحديث عن عبء الرجل الأبيض وعن الخطر الإسلامي ومن قبله الخطر الأصفر.

وقد اشترك بعض الزعماء والكُتَّاب اليهود في هذه الحملة، فصرح فلاديمير جابوتنسـكي عـام 1934 بأن مصلحـة اليهود تتطلب الإبادة النهائية لألمانيا، « فالشعب الألمـاني بأسره يُشكِّل تهديداً لنا». ولكن يمكن القول بأن كتاب الكاتب الأمريكي اليهودي تيودور كاوفمان بعنوان لابد من إبادة ألمانيا هو من أهم الكتب المحرضة على الإبادة، وقد استفادت منه آلة الدعاية النازية وبيَّنت أبعاد المؤامرة الإبادية ضد الألمان، وهو ما شكَّل تبريراً لفكرة الإبادة النازية نفسها. وقد ورد في هذا الكتاب أن كل الألمان، مهما كان توجههم السياسي (حتى لو كانوا معـادين للنازيـة، أو شـيوعيين، أو حتى محبين لليهود) لا يستحقون الحياة، ولذا لابد من تجنيد آلاف الأطباء بعد الحرب ليقوموا بتعقيمهم حتى يتسنى إبادة الجنس الألماني تماماً خلال ستين عاماً! 

وكان هناك حديث متواتر عن ضرورة «هدم ألمانيا »، وعن «تحويل ألمانيا إلى بلد رعوية » (بالإنجليزية: باستوراليزيشن patsoralization)، أي هدم كل صناعاتها ومؤسساتها الحديثة (كما حدث لمحمد علي). ونجحت غارات الحلفاء على المدن الألمانية في إبادة مئات الألوف من المدنيين (من الرجال والأطفال والنساء والعجائز) وتحطيم كل أشكال الحضارة والحياة. وقد بلغ عدد ضحايا الغارات على مدينة درسدن الألمانية وحـدها 200 ألف قتـيل. كما اسـتمرت النزعة الإبادية بعد الحرب،فقامت قوات الحلفاء بوضع مئات الألوف من الجنود الألمان في معسكرات اعتقال وتم إهمالهم عن عمد، فتم تصنيفهم على أساس أنهم DEFS وهي اختصار عبارة «ديس آرميد إنيمي فورسيز disarmed enemy forces» أي «قوات معادية تم نزع سلاحها» بدلاً من تصنيفهم «أسرى حرب». وإعادة التصنيف هذه كانت تعني في واقع الأمر حرمانهم من المعاملة الإنسانية التي تنص عليها اتفاقيات جنيف الخاصة بأسرى الحرب، وبالفعل قضى 793.239 جندي ألماني نحبهم في معسـكرات الاعتـقال الأمريكية عام 1945،كما قضى 167 ألف نحبهم في معسكرات الاعتقال الفرنسية نتيجةً للجوع والمرض والأحوال الصحية السـيئة (حسبما جاء في دراسة لجيمس باك James Bacque)، وفي الوقت ذاته كان يوجد 13.5 مليون طرد طعام في مخازن الصليب الأحمر،تعمدت سلطات الحلفاء عدم توزيعها عليهم. 

ولم تقتصر الإبادة على التصفية الجسدية بل كانت هناك إبادة ثقافية، فقد قام الحلفاء بما سُمِّي «عملية نزع الصبغة النازية عن ألمانيا» (بالإنجليزية: دي نازيفيكيشن denazification) للقضاء على النازيين في الحياة العامة، فأُقيمت 545 محكمة دائمة على الأقل يتبعها طاقم من الفنيين والسكرتارية عددهم اثنان وعشرون ألفاً. وقام الأمريكيون بتغطية ثلاثة عشر مليون حالة (أي معظم الذكور الألمان البالغين)، وتم توجيـه الاتهـام إلى ثلاثة مـلايين وسبعمائة ألف، أُجريت لهم محاكمات عاجلة. وأدين تسعمائة وثلاثون ألفاً منهم، وصدرت أحكام بشأنهم من بينها 169.282حكماً بتهمة ارتكاب جرائم نازية لا مجرد التعاون مع النظام النازي. وأصـدر البريطانيـون 22.296 حكـماً والفرنسـيون 17.353 حكماً، والروس ثمانية عشر ألف حكم. وبحـلول عـام 1945، كان قد تم طرد 141 ألف ألماني من وظائفهم، من بينهم معظم المدرسين في منطقة الاحتلال الأمريكية، وزُج بعدد أكبر من هؤلاء في السجن. 

وتظهر نفس النزعة الإبادية في استجابة الحلفاء لليابان، فقبل اكتشاف القنبلة الذرية، كان الجنرال الأمريكي كورتيس لي ماي يقوم بتحطيم مدن اليابان الواحدة تلو الأخرى بشكل منهجي لم يسبق له مثيل في التاريخ. فخلال عشرة أيام في مارس 1945، قامت الطائرات الأمريكية بطلعات جوية بلغ عددها 11.600، تم خلالها إغراق 32 ميل مربع من أكبر أربع مدن يابانية بالقنابل، وهو ما أدَّى إلى محو هذه المساحات وكل ما عليها من الوجود وتسببت في مقتل150.000. أما الغارات الجوية على طوكيو يوم 25 مايو 1945، فتسببت في اندلاع عاصفة نارية ضخمة حتى أن قائدي الطائرات المقاتلة كانوا يشمون رائحة لحم البشر المحترق وهم على ارتفاع آلاف الأقدام. وأدَّت هذه الغارات إلى مقتل الآلاف وتشريد مليون شخص على الأقل. 

وكانت عملية الإبادة من الشمول لدرجة أن الجنرال جروفز المسئول عن مشروع مانهاتن لإنتاج القنبلة النووية كان « يخشى» ألا يجد أي هدف سليم يمكن أن يُلقي عليه بقنابله ويدمره. ورغم أن الولايات المتحدة كانت تعرف أن اليابانيين كانوا قد بدأوا يفكرون بشكل جاد في إنهاء الحرب، فقد رأى الجنرال جروفز ضرورة استخدام القنبلة مهما كان الأمر (بعد أن تم إنفاق 2 بليون دولار في تطويرها وهو ما يُعادل 26 بليون دولار بحسابات اليوم). كما أن ترومان كان يشعر بعدم الثقة في نفسه أمام تشرشل وستالين، ولذا كان يود أن يذهب للاجتماع بهم وهو في موقع قوة، خصوصاً وأن الدب الروسي كان قد بدأ في التضخم. ومن ثم، كان لابد من إلقاء القنبلة الذرية بغـض النـظر عن عـدد الضحـايا أو حـجم التدمـير. وكان الجـنرال جروفـز « محظوظاً » (كما تقول بعض الدراسات) إذ وجد ضالته المنشودة في هيروشيما التي كان يقطنها 280 ألف نسمة ووجد أنها محاطة بتلال يمكن أن تُحوِّل المدينة إلى جهنم حقيقية بعد الانفجار إذ أنها ستركز الحرارة. وبالفعل قُتل فور وقوع الانفجار 70 ألف مدني ومات 130 ألف آخرون بعد عدة شهور متأثرين بحروقهم من الإشعاع. وكأن هيروشيما لم تكن كافية، فأُلقيت قنبـلة أخرى على ناجازاكي، أدَّت هي الأخـرى إلى مقـتل 70 ألـف آخرين، غير مئات الألوف الآخرىن الذين لقوا مصرعهم فيما بعد. فما بين ألمانيـا واليابـان تم إبـادة وإصـابة حوالي مليوني شخص معظمهم من المدنيين. 

كما يجـب أن نتـذكر عمليات الإبادة التي قام بها النظام السـتاليني ضد الشعوب الإسلامية في الخانات التركية (التي أصبحت الجمهوريات السوفيتية الإسلامية). وكان عدد شعب التتار وحده يساوي عدد سكان روسيا، أما الآن فهو لا يُكوِّن سوى نسبة مئوية ضئيلة، ومصيره بهذا لا يختلف كثيراً عن مصير السكان الأصليين في أستراليا وأمريكا الشمالية. وقد استمر النظام الستاليني في عمليات الإبادة المنهجية والمنظمة لأعدائه الطبقيين مثل الكولاك الذين قاوموا تحويل مزارعهم إلى مزارع جماعية، بل تم إبادة كثير من أعضاء الحزب الشيوعي ممن عارضوا الديكتاتور. وكانت الإبادة تأخذ أشكالاً مختلفة مثل الإعدام والعمل في معسكرات السخرة. وقد بلغ عدد الضحايا 20 مليون مات منهم 12 مليون على الأقل في معسكرات الجولاج: هذا حسب التقديرات المحافظة، أما أعداء النظام الستاليني فيقولون إن عدد الضحايا بلغ 50 مليوناً! وبعد حوالي نصف قرن لا تزال عمليات الإبادة والتطهير العرْقي على قدم وساق في البوسنة والهرسك والشيشان ولا تزال بعض الدول الغربية تراقب هذا بحياد غير عادي. 

إبادة الآخر إذن آلية أساسية استخدمها التشكيل الحضاري الإمبريالي الغربي في تحقيق رؤيته ومثالياته الداروينية، ومع هذا تظل الإبادة النازية لليهود لها مركزية خاصة، فكيف نفسِّر هذا؟ تعود هذه المركزية، فيما أعتقـد، إلى حـداثة الإبادة النـازية ومنهجيتها، الأمر الذي جعلها تقض مضجع الإنسان الغربي، فمشروعه الحضاري يستند إلى العلم المتجرد من القيمة وعبقرية حضارته تكمن في الترشيد المتزايد. كما أن الإبادة الاستعمارية كانت تتم دائماً "هناك" بعيداً عن أوربا، في آسيا وأفريقيا، أما الإبادة النازية فتمت « هنا » على أرض الحضارة الغربية، وعلى بُعد أمتار من منازل المواطنين العاديين. كما أن العنـاصر التي أُبـيدت لم تكـن داكـنة اللـون أو صفراء، وإنما « مثلنا تماماً ». وأخيراً يشغل اليهود مكانة خاصة في الوجدان الغربي الديني والحضاري، فاليهودي يقف دائماً على الهامش، موضع تقديس وكُره عميقين، وحينما صرعته الإبادة النازية تنبه الإنسان الغربي إلى الإمكانية الكامنة، التي تقف فاغرة فاهها، في قلب حضارته الحديثة.

الســــــياق الحضــــاري الألمــــاني للإبـــادة 
German Cultural Context of the Extermination 

تناولنا في المدخل السابق الإطار الحضاري الغربي العام للإبادة، ويمكننا الآن أن نترك المنظـور العـام لنركز على حالة محددة وهي الإبـادة الألمانية النازية ليهـود أوربا. ويمكن القول بأن المنظومة المعرفية العلمانية الإمبريالية اكتسبت حدةً خاصة في ألمانيا لأسباب عديدة من بينها تقاليد وحدة الوجود (الحلولية الكمونية) القوية التي تعود إلى جيكوب بومه والمعلم إيكهارت، وهي تقاليد ورثتها الفلسفة المثالية الألمانية وعمّقتها ووصلت إلى ذروتها في فلسفة فخته الذي جعل من الذات مركز الكون وتصورها قادرة على خلق العالم. ولكن فخته في الوقت نفسـه طالب بالقضـاء على الفرد (الشـخص الإمـبريقي) وكان يحـلم « بجمهورية الألمان » التي يُجنَّد كل ذكر فيها من سن العشرين حتى موته، فهي جمهورية جنود لا مواطنين. وقد ربطت الفلسفة الألمانية المثالية الإنسان الفرد بالمطلق الذي يمكن أن يتجسد في الفرد، كما يمكن للفرد أن يذوب فيه. وحتى يصل الفرد إلى المطلق أُعيد تعريف العقل وتم توسيع نطاقه ولم تَعُد هناك حدود تفصل بين عقل الفرد والعقل المطلق، ففقد العقل هويته وأصبح لاعقلانياً. وقد وصلت الحلولية الألمانية إلى قمتها في منظومة هيجل الشاملة التي تساوي بين المقدَّس والزمني، ثم يبلغ الحلول منتهاه في فلسفة نيتشه وفلسفات الحياة. 

في هذا الإطار تم تعيين "مطلقات" مختلفة تكون هي موضع الحلول والكمون. وكان أول المطلقات هو الشعب الألماني العضوي (فولك) موضع الحلول والكمون، وصاحب الرسالة. وقد وُلدت القومية الألمانية في أتون الحروب وتحت شعار الوحدة والمركزية، وصاحب ذلك تعميق مفهوم الشعب العضـوي، والإصرار على الانتماء الكـامل غير المـشروط مقياساً وحيداً للولاء، وطُرح شعار «ألمانيا فوق الجميع » الذي تبناه أعضاء الشعب الألماني، وبُذلت المحاولات لإعادة صياغة الشخصية الألمانية لضمان ولائها للدولة المطلقة. 

وقد بلغت سطوة هذا المفهوم حداً جعلته يبتلع المنظومة الدينية نفسها، فاختلطت الديباجات الدينية بالقيم القومية بحيث تطلب الانتماء للشعب العضوي الألماني الانتماء إلى المسيحية البروتستانتية. ولكن مما يجدر ذكره أن هذه البروتستانتية كانت بروتستانتية ثقافية أو إثنية ( « عقيدة أبائنا » ) تركز على المشاعر الدينية دون العقيدة الدينية، ولذا كان بوسعها أن تتصالح ببساطة مع النيتشوية والداروينية (يشير المفكر البروتستانتي الألماني بول تيليخ إلى نيتشه باعتباره مفكراً بروتستانتياً كبيراً). وقد نتج عن ذلك تَنصُّر أعداد هائلة من يهود ألمانيا حتى يندمجوا " ثقافياً " في مجتمعهم الألماني. ووصلت نسبة هؤلاء أحياناً إلى ما يزيد عن 50% من مجموع يهود برلين (الذين كانوا يشكلون معظم يهود ألمانيا في أواخر القرن التاسع عشر). ولكن في إطار مفهوم الشعب العضوي يصبح مثل هذا التنصر عملـية "تسلل" و"تآمر"، فصفات الشعب العضوي صفات موروثة تجري في العروق وفي أرض الأجداد. وبالفعل لوحظ تصاعد معدلات العداء لليهود في الفكر الألماني العلماني. فكتب ولهلم مار (1818 ـ 1904) كتابه المهم انتصار اليهودية على الألمانية: من منظور غير ديني (1862). كما نشر فاجنر وبول أنطون دي لاجارد وهنريش فون تراتيشكة كتاباتهم المعادية لليهود. 

ثم نأتي لأهم المفاهيم في الحلولية الكمونية المادية وهو مفهوم الدولة، التي تشغل مكاناً خاصاً في التفكير الرومانسي الألماني. وكما تم ربط الفرد بالمطلق، ثم ربط مفهوم الحرية بالدولة، بحيث لا تتحقق الحرية إلا من خلال الدولة (ومن هنا جنود فخته الأحرار!). ويصل هذا الاتجاه إلى ذروته (أو هوته) في فلسفة هيجل حيث تصبح الدولة هي المطلق، بل تجسيداً له، وهي الإطار السياسي الذي يمكن للشعب العضوي أن يُعبِّر عن نفسه من خلاله. إن الدولة أصبحت هي المطلق مجازياً وحرفياً ولذا طالب هيجل الإنسان بأن يعبد الدولة كما لو كانت إلهاً سماوياً، وهذه هي قمة الحلولية الوثنية (التي ستُعبِّر عن نفسها بشكل سوقي من خلال النازية والصهيونية فيما بعد). وقد تزامن هذا مع تزايد النزعة التاريخانية (تحت تأثير هيجل وغيره) بحيث لم يعد من الممكن أن يسأل الإنسان هل هذا الفعل خيِّر أم شرير، إذ أصبح السـؤال الوحيـد الممكن هـو: هـل يتفق هذا مع اللحظة التاريخية أو لا ؟ كما انتشرت الأفكار الداروينية بشكل متطرف، التي تُهمِّش الإنسان الفرد تماماً. 

وقد واكب هذه النسبية الأخلاقية تزايد الإيمان بالعلم المنفصل عن القيمة والغائية الإنسانية،فتعقيم المعوقين كان أمراً مقبولاً في الطب الألماني مع بداية القرن العشرين (الأمر الذي يعني أن أعداداً كبيرة من الأطباء الألمان اليهود كانوا متورطين في هذه الرؤية.ومن المعروف أن الأطباء اليهود لم يُطردوا من مهنة الطب في ألمانيا إلا في عام 1933).كما عرف الألمان أسلوب الانتفاع من الجثث البشرية قبل ظهور النازي،أي أن تزايد إطلاق الدولة واكبه تهميش الفعل الأخلاقي الفردي والمسئولية الفردية فتم استيعاب الفرد في الكل الشامل. وكان الشاعر هايني من أكثر المفكرين إدراكاً لخطر الحلولية الكمونية التي تجعل الإنسان إلهاً على الأرض، وفي الوقت نفسه تجعل الدولة إلهاً على الأرض. فقال إن فيلسوف الطبيعة سيعقد تحالفاً مع قوى الطبيعة الكونية وسيوقظ القوى الشيطانية لوحدة الوجود الألمانية التي ستضرم الشهوة للحرب (التي تسم الألمان القدامى) حيث لا يحارب الجندي ليدمر ويكسب المعركة، وإنما يحارب من أجل الحرب. هذه هي بعض مكونات السياق الحضاري الألماني للنازية وللإبادة النازية لليهود (ولغيرهم). وقد تشابكت هذه المكونات وتصاعدت حدتها وبلغت حداً عالياً من التبلور في العقيدة النازية، التي تشكل تعبيراً صافياً ونماذجياً عن المُثُل العليا للحضارة العلمانية الغربية وعن النموذج الحاكم الكامن فيها. والعقيدة النازية لم تفعل أكثر من وضع هذه المُثُل موضع التنفيذ بشكل أكثر تطرفاً من المعتاد، إذ طبقت الأفكار بشكل أكثر ثورية وأكثر منهجية وشمولاً على البشر كافة. 

النازيــــة والحضــــارة الغربيـــة 
Nazism and Western Civilization 

كلمة «نازي» مأخوذة بالاختصار والتصرف (بهدف التهكم) من العبارة الألمانية «ناشيونال سوشياليستيش دويتش أربايتربارتي National Sozialistische Deutsche Arbeiterpartei» (NSDAP)، أي «الاشتراكية القومية»، وهي حركة عرْقية داروينية شمولية، قادها هتلر وهيْمنت على مقاليد الحكم في ألمانيا، وعلى المجتمـع الألماني بأسـره. والحركة النازية هي حركة سياسية وفكرية، ضمن حركات سياسية فكرية أخرى تحمل نفس السمات، ظهرت داخل التشكيل الحضاري الغربي بعد الحرب العالمية الأولى. كانت النواة الأساسية للحركة النازية هي حزب صغير يُسمَّى «حزب العمال الألمان» أُسِّس في جو البطالة والثورة الاجتماعية عام 1918 بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى وإذلالها على يد الدول الغربية المنتصرة. وكان المنظِّر الأساسي للحزب هو جوتفريد فيدر الذي نادى بعقيدة لها صبغة قومية قوية وطابع اشـتراكي، تدعـو إلى ملكية الدولة للأرض وتأميم البنوك. وكان من أوائل من انضم لعضوية هذا الحزب محاربون قدامى مثل رودولف هس وهرمان جورنج، ومثقفون محبطون مثل ألفريد روزنبرج و ب.ج. جوبلز وهتلر نفسه، وشخصيات أخرى مثل يوليوس سترايخر. وقد ازدادت عضوية الحزب لأنه توجه إلى المخاوف الكامنة لدى قطاعات كبيرة من الألمان من الشيوعيين والبلاشفة، وإلى حنقها على معاهدة فرساي التي أذلت ألمانيا وحولتها إلى ما يشبه المستعمرة، وعلى جمهورية وايمار المتخاذلة التي قبلت هذا الوضع، وإلى إحساس الجماهير بالضياع في المجتمع الحديث وإحساسهم بالقلق وعدم الطمأنينة نتيجة تآكل المجتمع التقليدي. ورغم أن الحـزب كان يُسمَّى «حزب العمال»، فإنه لم يضم كثيراً من العمال بين أعضائه، ولم ينضم له من العمال سوى العاطلين عن العمل. وأُعيد تنظيم الحزب عام 1920 وسُمِّي «حزب العمال الألماني الاشتراكي القومي» وترأسه هتلر الذي حصل على تأييد لودندورف (بطل الحرب العالمية الأولى) وعديد من رجال الصناعة الذين رأوا أن بإمكان هتلر تقويض دعائم النظام السياسي القائم، الذي لم يكن يسمح لهم باتباع سياسة رأسمالية حرة تماماً، كما أنهم رأوا أن وجوده يمثل الفرصة الوحيدة أمامهم لوقف تقدم الشيوعيين. وقد تزايد نفوذ الحزب مع اتساع نطاق الكساد الاقتصادي. وحل كتاب هتلر كفاحي محل برنامج جوتفريد فيدر (الذي تحول إلى مجرد ناطق بلسان هتلر)، كما تراجع الخطاب الاشتراكي وحل محله خطابٌ نازيٌ أكثر تبلوراً ومادية. 

وسار الحزب النازي بخطى واسعة في الـفترة من 1930 حـتى 1932، ووصلت عضويته إلى مليونين بحيث أصبح الحزب الثاني في ألمانيا أثناء فترة الكساد الكبير الذي بدأ عام 1929، وهي فترة شهدت تآكل مدخرات الطبقة الوسطى الألمانية وانتشار الحركات الإباحية والبغاء والفوضوية وتَعاظُم نفوذ الشيوعيين. ورغم أن هتلر خسر انتخابات الرئاسة عام 1932 أمام هندنبرج، إلا أن حزبه النازي أصبح أكبر حزب ألماني على الإطلاق. وقد فشل المستشار فون بابن في الاحتفـاظ بأغلبية تمـكنه من الحـكم في البرلمان، فأُجريت انتخابات أخرى. وكان هتلر قد حصل إبَّان ذلك على الدعم المالي من رجال المال والصناعة في وادي الراين الذين كانوا يهدفون إلى احتوائه واستخدامه كأداة. 

وكان هتلر يستخدم خطابين مختلفين: أحدهما للجماهير، والآخر لرجال المال. وقد احتجت بعض العناصر الاشتراكية في الحزب على الاتجـاه المتزايد نحو اليمين، ولكن هتـلر نجح في القضاء على هذه العنـاصر. وفي عام 1933، قام الرئيـس هـندنبرج بتعيين هتلر مستشاراً. وحينما اندلع حريق في مبنى البرلمان، قام هتلر بطرد النواب الشيوعيين بعـد أن ألقى التبعة عليهم. ثم اقـترع البرلمان على منـح هتلر سـلطات شاملة، ومن ثم أنجز هتلر ثورته القانونية. وفي يونيه 1934، أصبح الحزب النازي هو الحزب الأوحد، وقام هتلر بتصفية البقية الباقية من العناصر العسكرية في حزبه بطريقة دموية، وكان من بينهم إرنست روم رئيس قوات العاصفة. كما قام هتلر بضرب اليمين، فأثبت بذلك أنه لم يكن مجرد أداة في يد المموِّلين أو بقايا النظام الملكي فأمم المصارف وبعض الصناعات. ومع هذا، استفادت العناصر الرأسمالية من خلال سيطرة الدولة على كثير من القطاعات الاقتصادية، وأُلغيت اتحادات العمال، وفقد العمال حقوقهم، وتم استيعابهم في مؤسسات الحزب، وتم التنسيق بين جميع مؤسسات الدولة والحزب. كما أصبحت الخدمة العامة إجبارية، ثم فُرض التجنيد الإجباري وأُخضعت ألمانيا كلها لنظام مركزي قوي. وأُلغي استقلال الولايات، وأُخضعت لهيمنة الفوهرر وأجهزته مباشرة، بل أسس الحزب كنيسة ألمانية بهدف السيطرة على الكنائس البروتستانتية. 

وفي عام 1936، بدأت خطة السـنوات الأربـع لإعـادة تسـليح ألمانيا، وإعادة تنظيم الاقتصاد انطلاقاً من الاعتماد على الذات. وقد حقق النازيون نجاحاً اقتصادياً باهراً، الأمر الذي زاد من التفاف الجماهير حولهم، حيث تم القضاء على البطالة وبُنيت منشآت عامة عديدة، ثم سيطر هتلر على حزبه سيطرة كاملة، وتولى هملر رئاسة الجستابو (البوليس السري) عام 1936. وبعد مـوت هندنبرج، أصبح هتلر رئيـساً للدولة لا يقاسـمه السـلطة أحد. ونجح في استصدار قرار عام 1934 بتأسيس الرايخ الثالث الذي سيدوم ألف عام (والرايخ هو ألمانيا أو الإمبراطورية الألمانية المقدَّسة حيث يمتد الرايخ الأول من تاريخ تأسيس الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة عام 962 حتى انحلالها عام 1806، والرايـخ الثـاني هو الإمبراطورية الألمانية منذ 1871 وحتى 1918، أما الرايخ الثالث فهو الدولة النازية من 1933)، وأصبح هو حاكم (فوهرر) ألمانيا بلا منازع. 

وبدأ هتلر في تنفيذ مخططه الإمبريالي في الداخل والخارج صدوراً عن الرؤية النازية للعالم التي اسـتمدت ملامحـها الأسـاسية من الحضارة الغربية: 

1 ـ السمة الأساسية للمنظومة النازية هي علمانيتها الشاملة وواحديتها المادية الصارمة. وقد هاجم ألفريد روزنبرج (أهم «الفلاسفة » النازيين) المسيحية باعتبارها عقيـدة يهودية تدافـع عن المطلقات. وفي كتابه أسطورة القرن العشرين حاول أن يُبيِّن بعض الأطروحات الأساسية للنازية، فالروح والعرْق هما شيء واحد، فالعرْق إن هو إلا التعبير البراني عن الروح، والروح إن هي إلا التعبير الجواني عن العرْق (وهذا لا يختلف كثيراً عن تصور الفلسفة الألمانية المثالية عن تماثل الروح والطبيعة)، والروح العرْقية هي التي تحرك التاريخ. بل إن روزنبرج كان مدركاً للحلولية كنمط نهائي، إذ يؤكد أن الروح الألمانية تُعبِّر عن انتصار فكرة الحرية وعن التصوف الحقيقي، تصوف المعلم إيكهارت، وهي صوفية مسيحية اسماً ومظهراً وحسب، ولكن يجب أن تُفهم باعتبارها تزايد حرية الروح إلى أن تصل إلى المرحلة التي تتحرر فيها تماماً من الإله نفسه. وكان روزنبرج، انطـلاقاً من عقيدته العرْقية هذه، يعـطي مواعظ نارية عن أسـطورة الـدم. 

ولكن هتلر، بذكائه الشديد، حاول أن يُبقي هذه النقطة من برنامجـه غامضة حـتى لا يسـتفز الجماهير ولا يواجه الكنيسة بشكل علني. وقد عقد اتفاقاً مع الكنيسة الكاثوليكية غير أنه لم يلتزم به وأرسـل بكثـير من رجال الدين إلى المحرقة. وقد أسس هتلر "كنيسة" ألمانية بهدف السيطرة على الكنائس البروتستانتية، وتطهير فكرة القومية الألمانية من العناصر المسيحية التي دخلت عليها. وكان الالتحاق بهذه الكنيسة القومية ـ ومن ثم الانفصال عن المنظومة المسيحية ـ شرطاً أساسياً للانضمام إلى فرق الحرس الخاص المعروفة بالإس. إس. وفي السنوات الأخـيرة من حكم النازي، وضع هتلر مخططاً شاملاً للقضاء على الكنائس المسيحية بشكل كامل، حتى تسود الواحدية المادية وقيم القومية العضوية والولاء الكامل لألمانيا ولدولة الرايخ الثالث. وكل سمات النازية الأخرى تنبع من رؤيتها العلمانية الإمبريالية الشاملة.

2 ـ تتضح مادية النازيين الصارمة في إنكارهم للطبيعة البشرية وثباتها فكل شيء من منظورهم خاضع للتغير والحوسلة. ويمكن القول بأن ثمة نزعة مشيحانية علموية مادية قوية هي التي تعطي النازية تفردها واختلافها عن الأيديولوجيات العلمانية الأخرى. فالنازية دفعت بكثير من المقولات الكامنة في الرؤية العلمانية الشاملة إلى نتيجتها المنطقية، ولم تعـد تَقْنَع بتغيـير العـالم وإنما كانت تطمح إلى تغيير النفس البشرية ذاتها (وعلى كلٍّ، هذا الاتجاه أمر كامن في كل الطوباويات التكنولوجية التي تعود بداياتها إلى بداية عصر النهضة في الغرب). ومن هنا اهتمام النازيين بعلم مثل علم تحسين النسل (بالإنجليزية: إيوجينكس eugenics) وإعادة تنظيم العالم من خلال سياسات بيولوجية وضعية. ومن هنا حربهم الشديدة ضد الأمراض النفسية والجسمانية وضد كل انحراف عن المعيـارية العلميـة الصارمة (ومن هنا نجد أنهم قاموا بإبادة الأقزام!). 

3 ـ آمن النازيون بفكرة الدولة باعتبارها مطلقاً علمانياً متجاوزاً للخير والشر. وحدَّد هتلر المطلق الأول والأوحد (الدولة) بدقة غير عادية حين قال إنه لابد من تحقيق العدالة وتوظيفها في خدمة الدولة، أي أنه لا يوجد مفهوم مطـلق للعـدالة، وإنما تتحدد العدالة بمقدار تحقيق نفع الدولـة. والدولة كمطلق هي الإطار الذي يُعبِّر الشعب العضوي (فولك) الألماني من خلاله عن إرادته. 

4 ـ تبنت النازية النظرية العرْقية الداروينية الغربية، وأكدت التفوق العرْقي للشعب الألماني على كل شعوب أوربا، ولشعوب أوربا على كل شعوب العالم. ورفض هتلر فكرة المساواة بين البشر باعتبارها فكرة دينية ("حيلة يهودية مسيحية"، "نوع من التنويم المغناطيسي تمارسه اليهودية الغازية للعالم بمساعدة الكنائس المسيحية"(. 

5 ـ من الأفكار الأساسية في الفكر النازي فكرة الشعب العضوي (فولك) الذي تُوجَد وحدة عضوية بين أعضائه من جهة، وبين حضارتهم والأرض التي يعيشون عليها من جهة أخرى، وهي وحدة لا تنفصم عراها. ولا يمكن لهذا الشعب أن يحقق كل إمكانياته إلا بعد أن يضم إليه مجاله الحيوي (الأرض في الثالوث الحلولي العضوي) حتى تكتمل الدائرة العضوية. أما العناصر الغريبة الأجنبية فهي تؤدي إلى إعاقة هذا التكامل العضوي الصارم، وبالتالي فهي عناصر ضارة لابد من استبعادها. 

6 ـ من العبارات المتواترة في الخطـاب العضوي النازي عبـارة «الدم والتربة»، وهي ترجمة للعبارة الألمانية «بلوت أوند بودين Blut und Boden»، وهي من الشعارات الأساسية للنازية والمرتبطة بفكرة الشعب العضوي. وهذه العبارة النيتشوية تمجد آداب الفلاحين وعواطفهم باعتبارها تجسيداً للصفتين الأساسيتين اللتين يستند إليهما رقي الجنس الألماني؛ الدم الألماني والتربة الألمانية. وهي تحول الدم والتربة إلى المرجعية أو الركيزة النهائية التي يستند إليها النسق المعرفي والأخلاقي. وشعار«الدم والتربة» هو مثل جيد على ما نسميه «الواحدية المادية الكونية» التي تسم الأنساق الحلولية الكمونية، حيث يصبح المطلق كامناً في المادة لا متـجاوزاً لها، ويُنصِّب شـعبٌ من الشـعوب نفسـه إلهاً على بقية الشعوب، فدمه وتربته يحويان كل القداسة ويعطيانه حقوقاً مطلقة لا يمكن النقاش بشأنها. ولكن هذه الحلولية هي حلولية بدون إله، فثالوث القومية العضوية: الـدم ـ التـربة ـ الشـعب، ليس إلا صدىً للثالوث الحلولي الوثنـي: الإله ـ الطبيعة ـ الإنسان. ويبدو أن الدم، باعتباره حامل القداسة وباعتباره الصلة التي تربط الإنسان والأرض، يحل محل الإله. (وقد وجدت هذه العبارة طريقها إلى الفكر والخطاب الصهيوني(. 

7 ـ وقد ترجم كل هذا نفسه إلى مفهوم العرْق السيد، وهو العرْق الآري الألماني التيوتوني الذي سيحتفظ بنقائه العرْقي ويؤسس أمة تتألف من الحكام المحاربين والمفكرين، قدرها المحتوم أن تحكم الأعراق الدنيا وتعيش على عملها وتحقق السيادة على العالم. وهذه الأمة ستنظم نفسها على شكل هرمي تقف على قمته نخبة تتسم بالصفات العرْقية الأكثر تفوقاً، وعلى قمة الهرم يقف الفوهرر: التجسد المادي والمحسوس والتاريخي للمطلق العلماني (الشعب العضوي والدولة). وكان تنظيم الحزب النازي تعبيراً عن نفس الرؤية، فقد استعار هتلر من التنظيمات الشيوعية فكرة الخلية والتنظيم الهرمي للحزب والانضباط الداخلي، واستعار من الفاشية الإيطالية فكرة ميليشيا الحزب ذات الزي الموحَّد، وهؤلاء هم مرتدو القمصان البُنيَّة وكان يُشار إليهم بالحرفين إس. آيه S. A..، وهما اختصار عبارة «شتورم أبتايلونج Sturm Abteilung» أي «قوات العاصفة». أما «النخبة»، فهم فرق الإس. إس S. S. وهما اختصار للعبارة الألمانية «شوتس ستافل Schutz Staffel» ومعناها «نخبة الأمن» أو «الحرس الخاص»، وكانوا يرتدون قمصاناً سوداء وشارة الموت. وكان للحزب تحيته الخاصة بأن يرفع العضو ذراعه اليمنى ويقول: "هايل هتلر". وأصبح الصليب المعقوف رمزه، كما كان له نشيده الخاص. 

8 ـ رأت العقيدة النازية أن هذا الهرم الألماني المنظم، لابد أن يسيطر على العالم بأسره. وقد استفادت هنا من الفكر الجغرافي السياسي (الجيوبولوتيكي) الغربي. إذ رأى النازيون أن ألمانيا أمة حركية من حقها أن تحصل على مجال يتناسب مع قوتها وحيويتها، وهو مجال أوسع مما سمحت به معاهدة فرساي. 

9 ـ انطلاقاً من كل هذا وُضعت ألمانيا فوق الجميع وأصبح للألمان حقوق مطلقة فيما تصوروا أنه مجالهم الحيوي. وقد رأى النازيون أنه يجب على الشعب الألماني أن يستيقظ من سباته ويتنبه للخطر، وأن يغزو مجاله الحيوي حتى يصبح مجالاً ألمانياً صرفاً خالياً من السلاف. 

10 ـ لكن الشعوب العضوية (فولك) تحتاج دائماً إلى آخر تستمد منه هويتها. والآخر هنا هو كل من يقف في طريق تحقيق الأطروحات النازية، وهم في هذه الحالة السلاف بالدرجة الأولى، الذين يشغلون المجال الحيوي في الخارج. أما في الداخل، فكانت توجد عناصر عديدة غير نافعة مستهلكة دون أن تكون منتجة، وأحياناً ضارة، من بينها المعوقون والشواذ جنسياً والشيوعيون والغجر والمصابون بأمراض وراثية مزمنة، بل الأقزام. ولذا كان النازيون يرون ضرورة إبادة العناصر الضارة في الداخل والخارج: السكان السلاف الذين يعيشون داخل المجال الألماني الحيوي، والغجر ممن لا نفع لهم، واليهود خصوصاً الأقلية المالية اليهودية. 

11 ـ ولكن لنركِّز على أعضاء الجماعة اليهودية وحدهم، لا بسبب أهميتهم المطلقة ولكن بسبب أهميتهم من منظور هذه الموسوعة. كان اليهود ـ حسب التصور النازي ـ من أهـم القـطاعات غـير النافعـة، بل الضارة، فهم يتركزون في القطاعات الهامشية للاقتصاد، مثل تجارة الرقيق الأبيـض. ورغم أنهم مثل البكتريا والطفيليات التي تعيش على الآخرين، إلا أنهم يدَّعون أنهم يُشكِّلون عرْقاً سامياً وشعباً مختاراً، ولذا فهم يحاولون دائماً الهيمنة على الحياة السياسية والاقتصادية للشعوب الأخرى. ويشير هتلر إلى أن اليهود سيطروا على عالم المال في ألمانيا، وأنهم يحيكون مؤامرة عالمية للسيطرة ولذا فهم يحاولون إشعال الحروب والثورات (وهذه هي الأفكار الأساسية في بروتوكولات حكماء صهيون، وفي كتاب إدموند دروموند فرنسا اليهودية، وهما من أكثر الكتب شيوعاً في أوربا في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر). كما بيَّن هتلر أن الماركسية والماسونية ليستا إلا مجرد حيل يهودية للسيطرة على العالم. وقد صُنِّف اليهود أحياناً باعتبارهم سلافيين، لأن كثيراً منهم كانوا «أوست يودين Ostjuden»«، أي من يهود شرق أوربا. وأُلقي اللوم على اليهود باعتبارهم مسئولين عن هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى وعن إذلالها. ولذا قرر الألمان أن يجعلوا المجال الحيوي الألماني  خالياً من اليهود  بالألمانية: يودين راين (Judenrein).

وقد بدأ النظام النازي حملته على اليهود عقب تعيين هتلر مستشاراً في 30 يناير عام 1933. ففي أبريل عام 1933 نُظِّمت مقاطعة للأعمال التجارية اليهودية، ثم استُبعد اليهود من كثير من الوظائف العامة. وفي أبريل 1935، استُبعد الأطفال اليهود من النظام التعليمي. وفي سبتمبر من نفس العام، صدرت قوانين نورمبرج التي نزعت عن أعـضاء الجمـاعة اليهـودية حقهم في أن يكونوا مواطنين بالرايخ، تنفيذاً لفكرة الشعب العضوي والشعب العضوي المنبوذ، ومُنعت الزيجات المُختلَطة بين اليهود والآريين. وفي عام 1938، مُنع اليهود من العمل في الوظائف الوسيطة كأن يكونوا وكلاء وبائعين ومديري عقارات ومستشارين في الأعمال التجارية. وأدَّى اغتيال عضو في السفارة الألمانية في باريس على يد يهودي بولندي في 9 ـ 10 نوفمبر 1938 إلى قيام ثورة شعبية ضد اليهود تُعرف باسم «كريستال ناخت«« أي ليلة الزجاج المحطم» أُحرق خلالها أربعمائة معبد ونُهب كثير من المتاجر والمنازل الخاصة، وتم القبض على الألوف منهم وفُرضت غرامة على اليهود (ككل). وبعد ذلك بدأ النظام النازي في عملية الإبادة والحل النهائي النازي للمسألة اليهودية والتي استمرت حتى نهاية الحرب. وكما سنبين فيما بعد لم يكن النظام النازي عشوائياً لاعقلانياً في اضطهاده لأعضاء الجماعات اليهودية، بل إن كلمة «اضطهاد» ذاتها قد لا تنطبق على علاقة النازيين بأعضاء الجماعات اليهودية إذ أن ما حدد هذه العلاقة هو مدى نفع اليهودي وإمكانية توظيفه. 

12 ـ أشرنا من قبل إلى تَراجُع الجوانب الاشتراكية (الإنسانية) في برنامج الحزب النازي الذي كان يحوي بلا شك بعض المطلقات الإنسانية (مثل فكرة العدل وضرورة التكافل)، وظهور رؤية مادية واحدية صارمة في ماديتها وواحديتها تنفي المطلقات والثوابت والماهيات كافة، رؤية علمانية شاملة تنزع القداسة عن كل شيء بحدة وشراسة وتُسقط تماماً فكرة الحرمات. وهذا التحول عن الإنسانية (الهيومانية) والسقوط التدريجي والمطرد في الواحدية المادية هو نمط التطور الأساسي في الحضارة الغربية الحديثة، حيث تطورت من رؤية إنسانية (علمانية جزئية) تحوي مطلقات إلى رؤية علمانية إمبريالية شاملة تنفي المطلقات والثوابت والكليات كافة. 

13 ـ تنطوي الرؤية النازية للكون، شأنها شأن كل الرؤى المادية، على إشكالية أساسية داخلها، وهي مشكلة الأساس الفلسفي والمعرفي الذي تستند إليه منظومات الإنسان الأخلاقية. وقد حسم النازيون هذه القضية بتصورهم أن العلم (الطبيعي) قادر على مساعدة الإنسان على التوصل إلى حلول لجميع المشاكل، وضمن ذلك المشاكل الإنسانية والأخلاقية والروحية. ومن ثم فالعلم هو وحده القادر على تحديد الصالح والطالح والخيِّر والشرير وهو وحده المرجعية النهائية. ولذا طالب النازيـون بضـرورة تطبـيق قيـم العلم والمنفعة المادية على الإنسان والمجتمع، وآمن النازيون بالمنفعة المادية كمعيار أخلاقي للحكم على الواقع. وبالفعل، اتسم النازيون بالحياد العلمي الشديد في تعاملهم مع الواقع ومع البشر، واستخدموا مقاييس علمية رشـيدة لا تشوبها أية قيم أخلاقية أو عاطفيـة أو غائية، وتحوَّل كل البشر، وضمن ذلك الألمان، إلى مادة بشرية. ومن ثم، قُسِّم العالم كله إلى نافعين وغير نافعين (وهو تقسيم يعود إلى القرن الثامن عشر، عصر العقل المادي والعقلانية المادية). وتقرر أنه لا يستحق الحياة إلا من ينتج ويستهلك، أما من لا ينتج ويستهلك (بالإنجليزية: يوسلس إيترز useless eaters حرفياً «من يأكلون ولا نفع لهم») فمصيره أمر مفروغ منه، فقد صُنِّف على أن حياته لا قيمة لها (بالألمانية: بالاست إكسستينزن Ballastexistenzen)، وتشكل عبئاً على الاقتصاد الوطني بطبيعة الحال. 

14 ـ ولكن كما هو الحال دائماً تخبئ الرؤيةُ العلمية النفعية المحايدة أخلاقياً الرؤيةَ الداروينية النيتشوية، بتأكيدها على فكرة البقاء باعتباره القيمة المطلقة والصراع باعتباره الآلية الوحيدة للبقاء، وهي عملية مادية محضة. فالبقاء هو البقاء المادي، والصراع صراع مادي، والبقاء في هذه الغابة الداروينية الواحدية المادية التي لا تعرف الرحمة أو العدل ليس من نصيب الأرق قلباً أو الأرقى خُلقاً أو الأكثر تراحماً وإنما هـو مـن نصيب الأصلح والأقوى مادياً (فالقوة هي المطلق النهائي)، والأقـوى هـو الذي لا تعرف الرحمة طريقاً إلى قلبـه والذي يتحلى بأخلاق الأقوياء ويضرب بيد من حديد على الضعفاء بدلاً من أن يأخذ بأيديهم. بعد تَقبُّل النازيين النفع المادي والقوة، باعتبارهما المعيار الأخلاقي الأوحد في منظومة معرفية علمانية مادية شاملة لا تعرف المطلقات الإنسانية أو الأخلاقية أو الدينية، قام المفكرون والعلماء النازيون بتقييم الواقع المحيط بهم من خلال هذه المنظومة الفكرية المادية وصنفوا كثيراً من العناصر باعتبارها غير نافعة (السلاف ـ الغجرـ اليهود ـ المعوقين... إلخ) 

ولا يمكن الدفاع عن كل هؤلاء من منظور أخلاقي مطلق، فهذا أمر مرفوض من منظور علماني شامل، نفعي نسبي، مستنير رشيد، ينطلق من حساب دقيق للمدخلات والمخرجات. ومن يريد الدفاع عن نفسه عليه أن يفعل ذلك من داخل المنظور العلمي النفعي المستنير لا من خارجه. وكان قد تم إعداد الآلة المادية النفعية ذات الكفاءة العالية، كما تم تحويل العالم بأسره، على المستويين المعرفي والوجداني، إلى مادة استعمالية خام. ومن جهة أخرى، تم استئناس الشعب الألماني وترشيده وتحييد حسه الخلقي تماماً وإسكات عواطفه، ليكون في انتظار التعليمات والحلول الواقعية العلمية العملية (المادية) النهائية لمشـاكله، وهي حلول سـتأتيه من مجمـوعة من رجال الحزب والعلماء وأهل التخصص. وحينما بدأت آلة الإبادة المادية النفعية الموضوعية الجهنمية ذات الكفاءة العالية منقطعة النظير، في الدوران، كانت الإبادة قد تحقَّـقت معـرفياً ووجدانياً ونظرياً، من خلال النموذج الواحدي المادي، قبل أن تتحقق فعلياً من خلال معسكرات الاعتقال والسخرة والإبادة. 

إن الأطروحات الأساسية للنازية هي ذاتها الأطروحات الأساسية للحضارة الغربية الحديثة والتشكيل الإمبريالي الغربي. وبالفعل حظيت الحركة النازية في البداية بتأييد رأسمالي غربي لأنها كانت تنظر إلى الاتحاد السوفيتي باعتباره العدو الأكبر (السلافي) للحضارة الآرية، ومن ثم كان الرايخ الثالث من هذا المنظور يشكل قلعة ضد الزحف السلافي الشيوعي. ولكن ستالين كان أكثر دهاءً، حيث عقد حلفاً مع هتلر اقتسما بمقتضاه بولندا والمجال الحيوي المحيط بهما. ثم تحالف الغرب الرأسمالي مع الشرق الاشتراكي ضد هتلر، لا دفاعاً عن المبادئ ولكن لأنه بدأ يهدد مصالحهما معاً. النازية هي وليدة الحضارة الغربية إذن، ومع هذا يتساءل بعض الدارسين الغربيين للإبادة النازية عن الكيفية التي أمكن بها لمجتمع غربي يُقال إنه «متحضر» مثل المجتمع الألماني (مجتمع هيجل وفاجنر وهايدجر) أن يفرز حركة بربرية تماماً كالحركة النازية ثم يُخضع كل أعضاء المجتمع لها. وفي محاولة الإجابة على هذا السؤال، ذهب بعضهم إلى القول بأن النازية هي مجرد انحراف لا عن مسار التاريخ الألماني وحسب وإنما عن مسار التاريخ الغربي ككل.

ويذهب المؤرخ الألماني إرنست نولتErnest Nolt (وهو أستاذ في جامعة برلين الحرة يمثل تياراً مراجعاً داخل علم التاريخ في ألمانيا) إلى أن المرحلة النازية ليست مرحلة نماذجية، أي لا ترقى إلى مستوى النموذج والنمط، وإنما هي مرحلة عرضية غير مُمثِّلة لمسار التاريخ في ألمانيا. وهم يُقارنونها بروسيا الستالينية. ويذهب نولت إلى القول بأن النازيين قاموا بعمليات الإبادة خوفاً من أن تُطبَّق عليهم سياسات الإبادة التي كان يطبقها السوفييت منذ عام 1917 على الطبقات والشعوب غير المرغوب فيها، بل يؤكد أن النازيين تعلموا الإبادة و


الباب الرابع: الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة  2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الباب الرابع: الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الرابع: الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة    الباب الرابع: الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة  Emptyالأربعاء 27 نوفمبر 2013, 11:45 pm

بل يؤكد أن النازيين تعلموا الإبادة والتصفية الجسدية ومعسكرات السخرة من الشـيوعية السوفيتية ومن ممارسـات سـتالين الإبادية؛ فالأصل هو الجولاج، وأوشفيتس هي النسخة. 

وهناك كثيرون داخل ألمانيا وخارجها يعارضون هذا الرأي ويؤكدون أن سلوك الألمان هو جزء لا يتجزأ من تاريخهم الحضاري (بل هناك من يتطرف إلى درجة القول بأن سلوك الألمان هو في واقع الأمر تعبير عن طبيعتهم الثابتة). والحوار هنا يتعلق بدلالة الإبادة: هل هي جريمة نازية ضد اليهود، أم جريمة غربية متكررة (نمط متكرر) يُعبِّر عن نموذج معرفي كامن، أم أنها مجرد حادثة؟ ونحن نذهب ـ كما أسلفنا ـ إلى أن الحضارة التي أفرزت الإمبريالية والشـمولية والمنفعـة المادية والداروينية، وفلاسفة العرْقية الحديثة، هي الحضارة التي أفرزت رؤية إبادية وصلت إلى قمتها في اللحظة النازية. ومن ثم، فإن الإبادة النازية تُعبِّر عن شيء حقيقي أصيل لا في التشكيل الحضاري الألماني وحده وإنما في الحضارة الغربية، وليست مجرد انحراف عن تاريخ ألمانيا أو تاريخ الغرب الحديث. 

إن جوهر الفكر النازي، متمثلاً في كتابات أدولف هتلر (وغيره من المفكرين النازيين)، لا يختلف كثيراً عن فكر سير آرثر بلفور صاحب الوعد المشهور (وغيره من الساسة والمفكرين الاستعماريين). فكلٌ من هتلر وبلفور يدور داخل الإطار الإمبريالي العِرقي المبني على الإيمان بالتفاوت بين الأعراق، وعلى حل مشـاكل أوربا عن طريق تصـديرها. وكلاهما يؤمن بفكرة الشـعب العضوي، وكلاهما يرى في اليهود عنصراً غير مرغوب فيه ويؤكد، من ثم، ضرورة وضع حل نهائي للمسألة اليهودية في أوربا، وكلاهما لا يلتزم بأية منظومة أخلاقية سوى منظومة المنفعة المادية ومنظومة الصراع الداروينية. وقد تم الحل النهائي في حالة بلفور بنقل (ترانسفير) اليهود خارج إنجلترا وأوربا إلى فلسطين. 

وقد حاول هتلر، في بداية الأمر، أن يحل مسألته اليهودية بشكل نهائي أيضاً، بالطرق الاستعمارية السلمية البلفورية التقليدية، أي التخلص من الفائض البشري اليهودي عن طريق تصديره (ترانسفير) إلى رقعة أخرى خارج ألمانيا. وكان هتلر يدرك أن الترانسفير (تفريغ الأراضي من سكانها ونقلهم) هو جزء من المنظومة الغربية وطريقة حلها للمشاكل. فقد أشار (في أغسطس 1940) إلى أنه تم إفراغ بروسيا الشرقية من سكانها الألمان بعد الحرب العالمية الأولى، وتساءل عن وجه الضرر في نقل 600 ألف يهودي من أراضي الرايخ (وكان هناك مشروع نازي ترانسـفيري أكبر وهـو نقل 31 مليـون « غير ألماني» من شرق أوربا، وهي عبارة بلفورية لا تختلف عن تلك العبارة التي وردت في وعد بلفور حيث تمت الإشارة لسكان فلسطين العرب على أنهم « الجماعات غير اليهودية»). 

وداخل هذا التصور الترانسفيري البلفوري الغربي تحرَّك هتلر لتنفيذ خطته: 

1 ـ قام هتلر بشحن عشرة آلاف يهودي وأرسلهم عبر الحدود إلى بولندا في 28 أكتوبر 1938، ولكن الحدود البولندية كانت موصـدة دونهـم (فبولندا هي الأخرى كانت تود الدفاع عن مصالحها المادية). 

2 ـ اسـتمرت المحاولات النازية التي تستهدف تهجير اليهـود حتى نهاية الحكم النازي. فبُذلت المحاولة تلو الأخرى لتوطينهم في سوريا وإكوادور وتم تشجيعهم على الهجرة إلى فلسطين. وكان هناك مشروع صهيوني نازي يُسمَّى «مشروع مدغشقر» يهدف إلى تأسيس دولة يهودية في تلك الجزيرة الأفريقية. ولكن معظم هذه المشروعات فشلت.ولم تُطرح بدائل أخرى، فالمجال الاستعماري الحيوي لألمانيا،بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، كان محدوداً. 

3 ـ لم تكن الدول الغربية (التي تتباكى حتى الآن على ضحايا الإبادة) ترحب هي الأخرى بالمهاجرين اليهود أو غيرهم (بسبب حالة الكساد الاقتصـادي). 

وكان هتلر يسمي خطة الترانسفير هذه « الحل الشامل » و« الحل النهائي » ولكن هذا الحل النهائي البلفوري لم يكن متاحاً لهتلر، ولذا لم يكن أمـامه سوى استبعاد اليهود بطريقة غير بلفورية، وتتميَّز بكونها أكثر حدة ومنهجية وتبلوراً وسوقية. ومع هذا يميل كثير من العلماء إلى القول بأن «الحل النهائي النازي للمسألة اليهودية» ظل ذا طابع بلفوري حتى النهاية، أي حل نهائي من خلال الترانسفير، أو التهجير القسري إما إلى المستعمرات في آسيا وأفريقيا أو إلى معسكرات العمل والسخرة في ألمانيا، التي لم تكن الأوضاع فيها تختلف كثيراً عن الأوضاع السائدة في المستعمرات. 

وإذا كان فكر هتلر هو نتاج لحضارة الغرب، خصوصاً في القرن التاسع عشر، والتي تدور داخل الإطار العرْقي العلماني الإمبريالي الدارويني، فلابد أن تكون هناك نقط اتفاق بين هذا الفكر والفكر الصـهيوني الذي هو أيضاً نتاج المعطيـات الفكرية نفسها. وبالفعل، نجد أن الفكر الصهيوني يتحدث عن اليهود باعتبارهم عناصر بكتيرية. والواقـع أن تعـبير البكتريا المجـازي (وهـو تعبير دارويني لا علاقة له بقيم " بالية " مثل المحبة والمساواة والعدل) يستخدمه كل من هتلر ونوردو وهرتزل، الذين يتحدثون عن اليهود باعتبارهم شعباً عضوياً منبوذاً (قارن هذا بكلمات بوبر حيث يتحدث عن اليهود بوصفهم شعباً آسيوياً طُرد من آسيا ولكنهـا لم تُطرد منـه، أي أن آسيا تجري في دمه). كما أن الصهيونية ترى ضرورة إخلاء أوربا من اليهود، ولعل الخلاف الوحيد هو أن الصهاينة يفضلون الطريقة البلفورية على الطريقة الهتلرية. ويتضح مدى انتماء المنظومة النازية للحضارة الغربية الحديثة في معلومة مخيفة وغريبة ولكنها نماذجية وممثِّلة في ذات الوقت، وهي أن النازيين كانوا يطلقون عبارة «مسلم» على اليهودي الذي تقرر إبادته. فكأن النازيين هم حملة عبء الرؤية الأوربية في مجابهتها مع أقرب الحضارات الشرقية لهم، وهي الحضارة الإسلامية، وهم لم ينسوا قط هذا العبء وهم يبيدون بعضاً من سكان أوربا غير النافعين والذين يقلون تقدماً عن الآخرين.

الســــياق السياســــي والاجتماعـــي الألمــــاني للإبـــادة 
German Political and Social Context of the Extermination 

بعد أن درسنا الإبادة كإمكانية كامنة داخل الحضارة الغربية الحديثة وداخل المجتمع الألماني الحديث، وبعد أن درسنا العناصر الحضارية التي ساعدت على تَحقُّق الإمكانية، بوسعنا أن ندرس العناصر السياسية والاجتماعية الألمانية العامة والعناصر الألمانية اليهودية الخاصة، التي ساهمت بدورها في تحقيق الإمكانية الإبادية. وقد يكون من المنطقي أن نبدأ بتناول أهم العناصر التاريخية في القرن العشرين وأثرها على ألمانيا، أي عملية التحديث أو تحول المجتمع الغربي من النمط التقليدي إلى ما يُسمَّى «النمط العقلاني (المادي) أو الرشيد» في الإنتاج والإدارة، والذي يخضع لعمليات الترشيد. ونحن لا نشير عادةً إلى التحديث إلا عندما نتناول العالم الثالث، وذلك بسبب وضوح هذه العملية فيه، وبسبب كونها عملية مازلنا نعيشها في وقتنا الحاضر. لكن عملية التحديث هي المدخل الأساسي لفهم كثير من الظواهر في العالم الغربي منذ القرن الرابع عشر، برغم أنها تأخذ أشكالاً أكثر تركيباً وتقدماً هناك. 

ولعل من أهم الحقائق التي تسم عملية التحديث أو التصنيع في ألمانيا، أنها بدأت في وقت متأخر قليلاً بالنسبة لغرب أوربا. فالجهود الرامية لتحديث ألمانيا ظلت متعثرة ولم تحرز تقدماً إلا في سبعينيات القرن الماضي بعد الحرب البروسية الفرنسية نظراً لعدم وجود سلطة مركزية. ولكن الوضع تغيَّر بعد أن أحرزت بروسيا انتصارها الساحق على فرنسا، وبعد أن ضمت الألزاس واللورين، إذ قامت بتوحيد ألمانيا، ثم حققت عملية التحديث من خلال قفزات هائلة في فترة وجيزة نسبياً، بحيث أصبحت ألمانيا من كبريات الدول الصناعية لا يفوقها سوى إنجلترا، بل إنها تفوقت على إنجلترا ذاتها في بعض الجوانب. 

وعادةً ما يؤدي التحديث السريع إلى اضطرابات اجتماعية، لأنه لا يتيح الفرصة أمام أعضاء كثير من الجماعات والأقليات الإثنية والدينية للتأقلم مع الوضع الجديد، بحيث يمكنهم إعادة تحديد ولائهم وإعـادة صيـاغة هويتهم بما يتفـق مـع متطلبات الولاء للدولـة القومية الحديثة. وقد ظـهر هـذا الوضع، أول ما ظهر، حينما سـعت الدولة الألمانية الجديدة، ذات التوجه البروتستانتي الواضح أو ذات الديباجات البروتستانتية، إلى وضع كل النشاطات الاقتصادية والثقافية تحت سيطرتها، وهذا أمر أساسي في عملية الترشيد. وعلى سبيل المثال، حاولت الدولة الجديدة السيطرة على النظام التعليمي بأكمله، ومن ثم، تدخلت في عملية تعيين (وفصل) المدرسين في المدارس الكاثوليكية حتى يمتثلوا لأوامرها هي ولا يخضعوا لسلطان الكنيسة، وحتى تتحول الأقلية الكاثوليكية من جماعة شبه ألمانية لها سماتها الخاصة يتوزع ولاؤها بين القيم الدينية المطلقة والقيم القومية العضوية إلى جماعة ألمانية خالصة تدين بالولاء للدولة وحدها. وقد أدَّى هذا إلى صدام بين الدولة والكتلة الكاثوليكية الضخمة، وأُطلق على هذا الصدام مصطلح «كولتوركامبف Kulturkampf» أي «الكفاح الثقافي» (وقد وقف أعضاء الجماعة اليهودية إلى جانب الدولة ضد أعضاء الجماعة الكاثوليكية). 

وأدَّى التحديث السريع إلى اقتلاع أعداد كبيرة من الجماهير الريفية من مجتمعاتهم المترابطة (جماينشافت) والإلقاء بهم في المدن الضخمة التي تسود فيها العلاقات التعاقدية (جيسليشافت). وتزايـدت درجـة الاغـتراب بين أعضاء الطبقة الوسـطى وغيرها من الطبقات، حيث تغيَّر أسلوب حياتهم نتيجةً لازدياد حجم المدن بسرعة مذهلة وظهور مؤسسات قومية رأسمالية ضخمة لم يألفوها. وفي مثل هذه الظروف، يبحث أعضاء المجتمع في العادة عن عقيدة متكاملة تجيب عن أسئلتهم وتمنحهم الطمأنينة التي يفتقـدونها في المجتمـع الجديد وتحميهم من وحـشية وتائر التغير السريع. وحيث إن العقائد الشمولية تقوم بهذه المهمة على أكمل وجه، فقد وجدت تربة خصبة في ألمانيا. (ويقف هذا الوضع على الطرف النقيض من التحديث التدريجي البطيء في غرب أوربا الذي سمح بترسيخ قيم الفردية والليبرالية ثم بهيمنة البورجوازية في نهاية الأمر على المجتمع ككل بمختلف أعضائه ومؤسساته). 

وتم التحديث في ألمانيا تحت ظروف خاصة (التحديث المتأخر الذي تزامن مع توحيد ألمانيا). وقد نجح بسمارك في استغلالها ببراعة فائقة، حيث اكتشف أن العناصر الثورية في الطبقة الوسطى والبورجوازية تبنَّت قضية توحيد ألمانيا وربطت بينها وبين قضية القضاء على القوى التقليدية والمحافظة في المجتمع والتي كان من صالحها أن تبقي على وضع التجزئة. لكن بسمارك توصل إلى صيغة عقائدية تسمح بفصل الهدف الأول عن الثاني، كما تسمح باستغلال قضية الوحدة في تصفية العناصر الليبرالية والثورية مثلما يحدث في العالم الثالث في الوقت الحاضر عندما تُطرح قضايا قومية يُقال لها « مصيرية » للتحكم في الجبهة الداخلية ولتصفية أية جيوب معارضة باسم الإجماع القومي ("في تلك اللحظة المصيرية من تاريخ الأمة"). وانطلاقاً من هذا، تبنت القوى والطبقات المحافظة والأرستقراطية، بقيادة بسمارك، قضية توحيد ألمانيا وضرورة قيام سلطة مركزية، بعد أن أصبحت موضع إجماع قومي، ثم أنجزت هذا الهدف التاريخي في نهاية الأمر. ولذا، كان بوسع هذه القوى أن تبرم هدنة بينها وبين البورجوازية بحيث تحتفظ هي بالقيادة السياسية لألمانيا على أن تستفيد البورجوازية من النتائج الاقتصادية لعملية التوحيد، أي أن عملية التحديث في ألمانيا تمت تحت مظلة القوى التقليدية المحافظة مثلما كان الحال، وإن تباينت صورته، في دول شرق أوربا. ومن ثم، ظهر مجتمع حديث يُدار بشكل حديث من قبَل طبقة تقليدية ذات مُثُل تسلطية شمولية، وهذا مغاير تماماً لنمط التحديث في كلٍّ من فرنسا وإنجلترا. 

ومن الحقائق الأساسية التي كثيراً ما نغفل عنها، أن التحديث في العالم الغربي، في أوربا الغربية خاصة، ارتبط ارتباطاً كاملاً وعضوياً بالمشروع الاستعماري الغربي. ولا يمكن رؤية عملية التحديث (والتراكم الرأسمالي المرتبط به)، في فرنسا وإنجلترا وهولندا وبلجيكا وأمثالها، خارج إطار التوسع الاستعماري وتحويل شعوب آسيا وأفريقيا إلى ما يشبه الطبقة العاملة (مصدر فائض القيمة) بالنسبة إلى شعوب الغرب (ولذا فنحن نفضل الحديث عن «التراكم الإمبريالي»). ومما لا شك فيه، أن التوسع الاستعماري يُساهم في التخفيف من حدة كثير من المشاكل الناجمة عن التحديث مثل الأزمات الاقتصادية والانفجارات السكانية، وذلك عن طريق تصديرها إلى المستعمرات. ولكن ألمانيا لم يكن لها مشروع استعماري مستقل نظراً لانقسامها، وقد مرت عليها مرحلة الاسـتعمار المركنتالي (التجـاري) في القرنين السادس عشر والسابع عشر، كما مرت عليها مرحلة الاستعمار في إطار المنافسة الحرة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ولم تدخل ألمانيا الحلبة الاستعمارية إلا في مرحلة الرأسمالية الاحتكارية بعد أن كانت إنجلترا وفرنسا (ومن قبلهـما إسـبانيا والبرتغال) قد التهمتا معـظم أنحاء العالم. وبطبيعة الحال، سعت ألمانيا، بعد أن تسارعت وتيرة التحديث داخلها، إلى بسط نفوذها على بعض مناطق العالم، فأنشأت علاقـات وثيـقة مع الدولة العثمانية وحلَّت محل بريطانيا وفرنسـا كحليفة كبرى، كما احتلت بعض المناطق في أفريقيا بل في أوربا ذاتها. وقد تحطم المشروع الاستعماري لألمانيا تماماً في الحرب العالمية الأولى، إذ اقتسم الحلفاء (المنتصرون) مستعمراتها فيما بينهم ولم يعد لها مجال استعماري حيوي تقوم بتصدير مشاكلها إليه.

ويمكن القول بأن معاهدة فرساي لم تحطم المشروع الاستعماري الألماني وحسب، بل حطمت المشروع التحديثي الألماني، وحولت ألمانيا نفسـها إلى ما يشـبه المسـتعمرة. وقد مُنعـت ألمانيا من الاتحاد مع النمسا، مع أن ذلك كان مطلباً للشعبين الألماني والنمساوي كليهما. كما تم استقطاع أجزاء كبيرة منها ضُمت إلى كلٍّ من الدنمارك وبولندا وفرنسا وبلجيكا وليتوانيا. ووُضعت منطقة السار، الغنية بالفحم، تحت إشراف عصـبة الأمم لمدة خمسـة عـشر عاماً أُديرت مناجمها أثناءها عن طريق فرنسا. وعلاوة على هذا، تم تحديد حجم الجيش الألماني الذي سلِّم كميات هائلة من الزاد والعتـاد الحربي للحلفاء، وخُفضت كمية الذخيرة المسموح بإنتاجها، وخُفضـت قوة السـلاح البحري ولم يُسمَح بوجود قوات جوية بتاتاً، كما فُرضت غرامة مالية كبيرة على ألمانيا. وفضلاً عن ذلك، تقرر أن تحتل قوات الحلفاء الضفة اليسرى للراين لمدة خمسة عشر عاماً للتأكد من تنفيذ شروط المعاهدة. وألغى الحلفاء المنتصرون المعاهدات التجارية المبرمة بين ألمانيـا والدول الأخـرى، وصُودرت الودائـع المالية الألمانيـة في الخارج، وأُنقص حجم البحرية التجارية الألمانية إلى عُشر حجمها. وكل هذه الإجراءات تذكر المرء بما حدث لمحمد علي، صاحب أول تجربة تحديث في الشرق العربي، والذي هدَّد ظهوره الخطط الغربية للاستيلاء على تركة الدولة العثمانية، رجل أوربا المريض. وفي نهاية الأمر، كان على ألمانيا أن تدفع غرامة عينية قدرها 20 مليار مارك ذهبي، على أن تدفع جزءاً منها فوراً وجزءاً منها بعد حين. وتم تحديد الغرامة في نهاية الأمر، في أبريل 1921، بمقدار 132 مليار مارك ذهبي. وبرغم معارضة جميع الأحزاب الألمانية لتلك الشـروط، اضـطرت جمهـورية وايمار في النهـاية إلى أن ترضخ. وكما هـو الحـال في مثل هذه المواقف، حينما تُجْرح الكبرياء الوطنية لشعب ما، ذاع بين الألمان الاعتقاد بأن ألمانيا لم تُهزم وإنما طعنهـا الثـوريون والليـبراليون واليهـود من الخلف. 

وأدَّى الوضع المذكور إلى تدهور سعر المارك من 4.20 مارك للدولار في عام 1914 إلى 162 ماركاً للـدولار، ثم إلى سـبعة آلاف مارك عام 1922. وقد احتلت فرنسا منطقة الروهر عام 1923 بحجة فشل ألمانيا في إرسال شحنة من الخشب على سبيل التعويض العيني، ثم قامت القوات الفرنسية والبلجيكية بإلقاء القبض على العمال الألمان الذين رفضوا العمل في المناجم، وفُرض حصار اقتصادي تم بمقتضاه فصل منطقة الروهر وكذلك وادي الراين المحتلين عن ألمانيا، الأمر الذي كان يشكل ضربة اقتصادية هائلة لألمانيا، خصوصاً بعد أن تم استقطاع منطقة سيلزيا العليا الغنية بالفحم. وبناءً على ذلك، هبط المارك إلى 160 ألفاً للـدولار في عـام 1923 ثم إلى 4.200.000.000.000 في نوفمـبر 1923. ولأن جمهورية وايمار لم تضع أية قيود على حرية رأس المال، فقد استفاد كثير من الرأسماليين (ومنهم أعداد كبيرة من أعضاء الجماعات اليهودية) من هذا الوضع، وحققوا أرباحاً هائلة وراكموا الثروات في وقت كانت فيه معظم طبقات الشعب الألماني تعاني من الفقر والهوان. 

وبذلت حكومة ألمانيا قصارى جهدها لإصلاح هذا الوضع. وبالفعل، تم تحديد ديون ألمانيا وطريقة دفعها، وبدأت قوات الحلفاء في الانسحاب مع أوائل الثلاثينيات، ثم عقدت الجمهورية بعض القروض لاستثمارها في الاقتصاد الألماني حتى ظهرت بعض علامات التحسن والاستقرار. ولكن هـذا الاسـتقرار كان يعتمـد بالدرجـة الأولى على القروض الخارجية، ومن ثم، أدَّت أزمة الرأسمالية العالمية عام 1929 وانهيار البورصة في نيويورك إلى انهيار الوضع في ألمانيا، فوصل عدد العاطلين فيها عن العمل إلى ما يزيد على ستة ملايين (أي نحو ثلث مجموع القوى العاملة في الفترة 1930 ـ 1932)، وانخفض الدخل بنسبة 43%، وفقدت الطبقة الوسطى ما تبقى لديها من مدخرات. هذا هو السياق الاجتماعي والسياسي العام الذي أدَّى إلى احتدام التناقضات والثورات داخل المجتمع الألماني والذي أدَّى في نهاية الأمر إلى تَفجُّر الوضع الداخلي وظهور الأفكار الشمولية الاستبعادية وإلى ظهور إمبريالية تتجه نحو « الداخل» الأوربي بعد أن حُرمت من "الخارج" الآسيوي والإفريقي " العالمي". فقد اتجه المشروع الاستعماري الألماني بكل قوته، حينما استعادها، نحو الداخل، أي نحو الشعوب السلافية المجاورة والأقليات المختلفة مثل الغجر واليهود، حيث اعتبر المناطق التي تعيش فيها مجاله الحيوي، الذي لابد من تفريغه من تلك العناصر التي لا تنتمي إلى الفولك والتي تعوق تحقيقه لمصلحته وأهدافه.

السـياق السـياسي والاجتماعي الألمانـي اليهـودي للإبادة 
Jewish-German Political and Social Context of the Extermination 

ولكن إلى جانب هذه الظروف الألمانية العامة، كانت هناك ظروف خاصة بأعضاء الجماعة اليهودية في ألمانيا ساهمت في تحويل الموقف المتفجر إلى وضع مدمر بالنسبة لهم ولغيرهم من الأقليات، وهو ما سنتناوله في هذا الجزء. 

لم يكن للجماعة اليهودية في ألمانيا وزن عددي يذكر. فمن الناحية الكمية المحضة، لم يكن أعضاؤها يُشكلون أي تحدٍّ خاص للأغلبية الألمانية الساحقة كما يبيِّن الجدول التالي: 
 
السنة / عدد اليهود / النسبة الى عدد السكان 
1871 / 512150 / 1.22%
1880 /512612 / 1.24%
1890 /567884 / 1.15%
1900 /586833 / 1.04%
1910 /615.021 / 0.95%

ويُلاحَظ من الجدول السابق أن الجماعة اليهودية لم تكن آخذة في التزايد برغم الانفجار السكاني في أوربا في القرن التاسع عشر (زاد عدد يهود شرق أوربا بين عامي 1800 و1935 بنحو ستة أضعاف). كما أن نسبة يهود ألمانيا إلى عدد السكان كانت آخذة في التناقص، وقد تزايد هذا الاتجاه عام 1910 بسبب التنصُّر والزواج المختلط الذي بلغت نسبته بين عامي 1921 و1927 نحو 44.5% من جملة الزيجات اليهودية. ولذا، لم تكن المسألة اليهودية في ألمانيا كامنة في الكم كما كان الوضع (إلى حدٍّ ما) في شرق أوربا، وإنما في الكيف، وعلى وجه التحديد في الوضع الوظيفي المتميِّز لأعضاء الجماعة اليهودية الذي تأثر تأثراً عميقاً بعملية التحديث في ألمانيا. فقد كان أعضاء الجماعة، حتى نهاية القرن الثامن عشر، يعيشون أساساً في الريف والمدن الصغيرة. ولكن، مع بدايات القرن التاسع عشر وظهور الاقتصاد الجديد، هاجرت أعداد هائلة منهم إلى المدن الكبرى. ومع نهاية القرن، كانت أغلبيتهم تقيم في المدن الكبرى مثل براسـلاو وليبزج وكولونيا، بالإضـافة إلى هامبـورج وفرانكفورت، وكانت برلين تضم ثُلث يهود ألمانيا. 

وأدَّى تركز يهود ألمانيا في المدن إلى وضوح تمايزهم الوظيفي والمهني، وهي ظاهرة موغلة في القدم في دول وسط أوربا، وخصوصاً في ألمانيا. فلقد كان أعضاء الجماعة اليهودية في الإمارات الألمانية يُشكِّلون، في العصور الوسطى، جماعة وظيفية وسيطة تضطلع بدور التاجر والصيرفي والمرابي، ثم تم طردهم من عدة مدن وإمارات ألمانية، فهاجروا منها إلى مدن وإمارات ألمانية أخرى. ولكن، مع حلول القرن السادس عشر، سُمح لليهود بالاستقرار في كثير من المدن والإمارات التي كانوا قد طُردوا منها، وتم استقدامهم كعنصر تجاري نشط لديه رأس المال اللازم والاتصالات الدولية. وكان يهـود المارانـو (الذين طُردوا من شبه جزيرة أيبريا) من أهم هذه العناصر. وعادةً ما كان يتم استقدام اليهود، سواء في العصور الوسطى أو في القرن السادس عشر، بأمر من الإمبراطور أو الأمير أو النخبة الحاكمة، فكان أعضاء الجماعات اليهودية يتبعون النخبة الحاكمة (أو أحد أعضائها) بشكل مباشر ويُشكِّلون مصدر دخل كبير لها، وكان الممولون اليهود يقومون باعتصار الجماهير من خلال الفوائد الضخمة التي يُحصِّلونها على قروضهم. ولكن النخبة الحاكمة كانت تستولي على نسبة ضخمة من الأرباح في نهاية الأمر عن طريق الضرائب التي تفرضها على أعضاء الجماعات اليهودية. وفي القرن السادس عشر ظهرت مهنة يهودي البلاط الذي يدير الخزانة الملكية ويعقد الصفقات والقروض بالنيابة عن الأمراء ويمول الحروب ويدير الاتصالات التجارية اللازمة، أي أن أعضاء الجماعة اليهودية في ألمانيا كانوا مرتبطين بالحاكم ملتصقين به ومتميِّزين طبقياً ومهنياً عن بقية أفراد الشعب، وهو وضع ازداد تبلوراً في القرن التاسع عشر، كما يبيِّن الجدول التالي الخاص بتوزيع أعضاء الجماعة اليهودية في المهن والحرف المختلفة: 

المهنة أو الحرفة / 1895 / 1903

الزراعة / 1.4% / 1.3%

الصناعة / 19.3% / 22.03%

التجارة والنقل / 56.0% / 50.6%

عمال أجراء / 0.4% / 0.6%

مهن حرة / 6.1% / 6.5%
أعمال حرة / 16.7% / 19.0%
وكان وجود بعض أعضاء الجماعة اليهودية كوسطاء أمراً واضحاً جداً، فقد تركزوا في صناعة الأثاث والملابس الجاهزة وارتبطوا بالصيرفة والمحال التجارية، الأمر الذي حولهم إلى شخصيات مكروهة من الطبقة الوسطى، خصوصاً في ظروف الأزمة. واتضح كذلك وجود اليهود في مهنة الإقراض وتحصيل ريع الملكيات الزراعية (بالنيابة عن أصحاب الأمـلاك)، كما عملـوا تجار مواش، الأمر الذي جعلهم مكروهين من الفلاحين.

وقبل الحرب العالمية الثانية، كان عدد يهود ألمانيا لا يزيد على 1% وكان يهود برلين يُشكِّلون 5% من سكانها، ومع هذا كانوا يُشكِّلون النسب التالية في بعض القطاعات الاقتصادية في برلين: 
النسبة / القطاع الاقتصادي 
70% / من مجموع أصحاب الحوانيت 
30% / من مجموع تجار الملابس 
25% / في تجارة الأثاث 
17% / من مجموع العاملين في المصارف 
10% / من الأطباء 
16% / من المحامين 



ومن الإحصاءات الأخرى ذات الدلالة أن يهود برلين الذين كانوا يشكلون ـ كما أسلفنا ـ 5% من سكانها كانوا يدفعون 30% من جملة الضرائب، وكان يهود فرانكفورت الذين يشكلون 7% من سكانها يدفعون 28% من ضرائبها، كما بلغت نسبة أصحاب الأعمال ومديري البنوك من اليهود في برلين 55.15% في عام 1882، ثم هبطت إلى 32.6% في عام 1925 (وهي أيضاً نسبة عالية). وتقول الموسوعة اليهودية العالمية إن الهبوط في النسبة المئوية لم يصاحبه هبوط في النفوذ، إذ كان اليهود، في بعـض السـنوات، يُديرون أهـم ثلاثة بنوك تتحكم في 60% من نسبة الإقراض في بعض السنوات، وكانوا يديرون نحو ثلاثة أرباع القروض الأجنبية التي مُنحت لألمانيا من عام 1924 إلى عام 1929. كما سيطر اليهود على 57.32% من صناعة المعادن في عام 1930. وهكذا، ارتبط اليهود في العقل الألماني بالمشروع الحر والمضاربات والسياسات الليبرالية. ومن جهة أخرى، كان والتر راتناو (وزير التعمير ثم وزير الخزانة في حكومة وايمار) يهودياً، كما كان واضـع دسـتور هـذه الجمـهورية (التي استمرت فترة قصيرة) يهودياً أيضاً. 

وكانت هذه الجمهورية ترمز في العقل الألماني لليبرالية المتخاذلة المتهالكة أمام هجوم أعداء ألمانيا. ومن قبيل المفارقات أن أعضاء الجماعة اليهودية ارتبطوا بالمثل الليبرالية في وقت كان فيه المجتمع الألماني (ككل) يتخلى، بعد تَعثُّر التحديث، عن هذه المُثٌل ليبحث عن طرق أخرى شمولية لحل مشاكله. ولعل في هذا الارتباط الوثيق بين الرأسمالية الألمانية ويهود ألمانيا ما يُفسِّر النقد الاشتراكي الثوري العنيف لليهود باعتبارهم ممثلين للرأسمالية، ولليهودية باعتبارها دين الاقتصاد الجديد. ولعل هذا يُفسِّر أيضاً السبب في أن ماركس يَقرن اليهودية بروح التجـارة ويُوحِّد بينهما، ويرى أن إله إسرائيل الطماع هو المال. وهذا التراث الاشتراكي في نقد الشخصية اليهودية نابع من تربة ألمانية أساساً، حيث كان اليهود ممثلين بشكل واضح في الطبقات الرأسمالية. ولا ينطبق هذا، بأية حال، على شرق أوربا حيث تحوَّلت البورجوازية الصغيرة والجماعات اليهودية إلى بروليتاريا تعاني من ويلات الفقر.

وبرغم هذا الربط بين الجماعات اليهودية والرأسمالية في ألمانيا، فقد انضم عدد كبير من المثقفين اليهود إلى الحركات الثورية فيها، وكان ارتباطهم بها على المستوى الفردي واضحاً وضوح الارتباط الجماعي لليهود بالرأسمالية. فكان رئيس حكومة بافاريا الثورية (البلشفية) يهودياً، وكان كثير من قيادات الحركة الثورية المتطرفة (مثل روزا لوكسمبرج) من اليهود، وكان هناك شبح ماركس يرفرف على الجميع. ثم اتضح عام 1917 الوجود اليهودي الملحوظ في الثورة البلشفية (التي كان يُطلَق عليها في بعض الأوساط «الثورة اليهودية»). 

وهكذا، ارتبط اليهودي بالصناعة والاستغلال والمشروع الحر، وكذلك بالثورة الاشتراكية المتطرفة والحركات الثورية، أي أن اليهودي أصبح رمزاً جيـداً لهذا المجتمـع الحديث (جيسيلشافت) المبني على التعاقد والتنافـس، والذي قوض دعائم المجتمع الألماني المترابط (جماينشافت)، وأصبح بؤرة تتجمع فيها مخاوف الطبقة الوسطى التي كانت آخذة في التدهور الاجتماعي والطبقي بسبب التضخم والبطالة. بل أصبح رمزاً لكل تلك القوى، من اليمين واليسار، التي أودت بألمانيا وفرضت عليها أن تذعن للحلفاء. وحينما استأنفت ألمانيا عملية التحديث بعد الحرب، تمت هذه العملية بقروض أجنبية وتحت رعاية الدولة، أي أن النمط الاقتصادي السائد في ألمانيـا لم يكن فيه مجـال للرأسـمال الحـر تماماً ولا للنمط الاشتراكي الجمعي. وارتطمت الدولة النازية بكل من الرأسمال الحر الذي ارتبط به اليهود واليسار المتطرف الذي وُجد فيه اليهود بشكل ملحوظ. وساهمت العوامل السابقة جميعاً، بشكلٍّ أو بآخر، في عزل أعضـاء الجماعة اليهوديـة عن بقية التشـكيل السياسي الحضاري الألماني. 
يتبع إن شاء الله...


الباب الرابع: الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة  2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الباب الرابع: الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الرابع: الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة    الباب الرابع: الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة  Emptyالأربعاء 27 نوفمبر 2013, 11:58 pm

ولكن العنصرين التاليين كانا حاسمين في فصلهما عن سواد الشعب الألماني، وفي تهميشهما تماماً. والعنصران هما: 
1ـ العلاقة الخاصة بين أعضاء الجماعة اليهودية والمشروع الاستعماري الألماني: 

تعود العلاقة الخاصة بين أعضاء الجماعة اليهودية والمشروع الاستعماري الألماني إلى منتصف القرن التاسع عشر، وتُعتبَر امتداداً لظاهرة يهود البلاط ولارتباط أعضاء الجماعة بالحاكم. (تُعَدُّ عائلة روتشـيلد مثلاً جيـداً على ذلك، حيث كانت آخر أسرة من أسر يهود البلاط وهي أيضاً أول أسرة يهودية ثرية تتولى مشاريع الاستيطان الصهيوني). 

والجدير بالذكر أن وضع اليهود تحسن كثيراً في منتصف القرن التاسع عشر مع توحيد ألمانيا، فقد كان ثلاثة من أهم مستشاري بسمارك من اليهود. ويُقال إن اليهودي المتنصِّر فريدريك ستاهل هو مُنظِّر الدعوة إلى العسكرية البروسية. والواقع أن بسمارك كان يفكر، حسب تقاليد النخبة الحاكمة الألمانية، في استخدام اليهود دائماً في مشاريعه. ويظهر ذلك الاتجاه بشكل أوضح في تفكير إمبراطور ألمانيا (ويلهلم الثاني) الذي كان يرى إمكان استخدام اليهود في مشروعه الاستعماري، كما كان واعياً بالقدرات المالية لليهود وحجم اتصالاتهم الدولية. وكانت مفاوضات هرتزل، مع إمبراطور ألمانيا، تدور داخل هذا الإطار وتنطلق من هذا التفاهم الضمني. وفي الوقت نفسه، كانت المنظمة الصهيونية في ألمانيا لا تكف عن الحديث عن نفع اليهود وإمكان استخدامهم في المشاريع الاستعمارية الألمانية، وتوطينهم في فلسطين أو في غيرها تحت راية الاستعمار الألماني. وقامت جمعية الغوث الألمانية اليهودية بالمساهمة في النشاط الاستطاني الصهيوني باسم الاستعمار الألماني، كما كان يُنظَر إلى العنصر اليهودي من شرق أوربا (المتحدث باليديشية) باعتباره عنصراً ألمانياً، يمكن تسخيره في صالح المشروع الألماني الاستيطاني. 

وكما هو معروف، صدر وعد بلفور الذي ينطوي، بشكل ضمني، على إمكان تحويل اليهود إلى عناصر تدين بالولاء للاستعمار الإنجليزي. ورغم هذا، استمرت رئاسة المنظمة الصهيونية الموجودة آنذاك في ألمانيا في التقرب إلى النظام الحاكم، واستمرت في بذل المحاولات لاستصدار وعد بلفوري ألماني. ولكن هذه الجهود لم تُثمر، بسبب علاقة ألمانيا الخاصة بالدولة العثمانية ورفض الخليفة العثماني الموافقة على المشـروع الصهيـوني حتى ولـو تم في إطار المشروع الاستعماري الألماني. ومع هذا، أصدرت الحكومة الألمانية (بعد صدور وعد بلفور) تصريحاً مبهماً يشبه وعد بلفور من بعض الوجوه، تَعد فيه بمساعدة المشروع الصهـيوني عـلى أمل أن تجند يهود العالم لصالحها وتكسبهم إلى صفها. وقد جاء هذا التصريح متأخراً، ولم يؤد في النهاية إلى شيء يُذكر. ولكن ما يهمنا في هذا السياق هو أن التعامل مع اليهود (باعتبارهم جزءاً من المشروع الاستعماري الألماني) يُعتبَر (في جوهره) تهميشاً لهم من منظور المشروع القومي الألماني، فهو يعطيهم حقوقاً للاستيطان في فلسـطين، كما يمنحـهم الحـق في التمـتع برعاية الحكومـة الألمانيـة « خارج » ألمانيـا، الأمر الذي يعني ضمناً إنـكار حقـوقهم « داخلها ». فقد كان الاستعمار الاستيطاني هو الإطار الذي يتم من خلاله تصدير الفائض البشري غير المرغوب فيه إلى الشرق. ولكن القيادة الصهيونية، بقبولها هذا الإطار، رضيت بالتعريف الضمني الكامن لليهود كعنصر غريب غير منتم يجب أن يتم تصديره عن طريق التهجير. وهذا، على كل حال، هو التعريف الصهيوني (الواضح) لليهود. 

2 ـ تهميش اليهود من خلال هجرة يهود شرق أوربا: 

تسبَّبت الهجرة الكثيفة ليهود اليديشية في أعقاب تعثُّر التحديث في شرق أوربا في تهميش اليهود وفصلهم عن التشكيل القومي الألماني العضوي. ومن الجدير بالذكر أن الهجرة اليهودية الحديثة اتسمت بأنها هجرة داخلية في أوربا (أي من بلد أوربي إلى آخر) حتى عام 1880. ولم تبدأ الهجرة عبر الأطلنطي بشكل مكثف إلا بعد ذلك التاريخ. وقد هاجر، في المرحلة الأولى بصفة خاصة، مئات الألوف، ووصلت أعداد كبيرة منهم إلى إنجلترا وتسببوا في استصدار وعد بلفور لتحويل سيل الهجرة عنها، كما وصلت أعداد لا بأس بها إلى ألمانيا.

ومما زاد الأمور سوءاً أن ألمانيا قامت، في نهاية القرن الثامن عشر، بضم بولندا التي كانت تضم يهوداً من المتحدثين باليديشية (أوست يودين، أي يهود شرق أوربا)، وهو ما كان يعني أن يهاجر هؤلاء إلى المدن الألمانية الكبرى. وبالفعل، انتقل معظم يهود بوزنان إلى ألمانيا، وكذا أعداد كبيرة من يهود جاليشيا. ولا شك في أن ظهور هذه الكتلة الضخمة من يهود شرق أوربا ذوي الطابع الجيتوي المنغلق، والذين لا يوجد لديهم (كغرباء مُقتَلعين) التزام قوي بالمعايير الأخلاقية المحلية أو بالقيم الغربية، كما يفتقرون إلى الكفاءات المطلوبة في التعامل مع أوربا الحديثة والاقتصاد الجديد، كان يمثل تهديداً للموقع الطبقي لليهود ولمكانتهم الاجتماعية. وقد شهدت سنوات العشرينيات من هذا القرن هجرة يهودية ضخمة من بولندا بسبب الأزمة الاقتصادية. وقد أشـرنا من قبل إلى النسبة المرتفعة من الزيجات المُختلَطة بين يهود ألمانيا، ويمكن أن نضيف هنا أننا نعتقد أن النسبة كانت عالية للغاية بين اليهود من أصل ألماني، ولكن الإحصاءات لا تذكر سوى المتوسط العام دون أن تُفرِّق بين يهود شرق أوربا المقيمين في ألمانيا واليهود من أصل ألماني. وبوجه عام كان يهود ألمانيا يختفون، بينما كان يهود الشرق يحلون محلهم، أي أن الطابع العام للجماعة اليهودية كان آخذاً في التغير وفي اكتساب طابع غير ألماني (كانت نسبة اليهود الأجانب بين يهود ألمانيا هي 2.7 % عام 1880، ارتفعت إلى 12.8% عام 1910، ولا شك أنها استمرت في التزايد بعد هذا التاريخ). 

وتحوَّلت ألمانيا، بعد الحرب العالمية الأولى، إلى مركز للثقافة العبرية نتيجـةً لهرب عديد من الكتاب اليهود من روسـيا، فتم تأسـيس دار نشر عبرية، كما أسست الحركة الصهيونية كثيراً من المدارس لتعليم العبرية. (وهو اتجاه أيده النازيون فيما بعد ودعموه لأنهم كانوا يرون ضرورة عبرنة اليهود باعتبارهم شعباً عضوياً مستقلاً عن الشعب العضوي الألماني. ولنا أن نلاحظ أن الدولة النازية سبقت الدولة الصهيونية في تبنِّي كثير من مشارع العبرنة). وكان من شأن هذا كله أن أصبح العنصر اليهودي مرة أخرى عنصراً عضوياً متماسكاً غريباً يقف خارج المجتمع أو على هامشه. ولذا، كان أحد المطالب الأساسية لأعداء اليهود وقف الهجرة من شرق أوربا لأنها تأتي بالغرباء. وكانت حقوق اليهود الأجانب مثار نقاش حتى في عهد جمهورية وايمار الليبرالي، ولهذا نجد بعض الألمان، ممن لا يمكن اتهامهم بمعادة اليهود، يطالبون بعدم السماح ليهود الشرق بامتلاك عقارات باعتبارهم أجانب لا باعتبارهم يهوداً. بل لقد طُرحت القضية نفسها داخل المنظمات اليهودية ذاتها: هل يُمنح اليهود الأجانب، الذين كانوا يشكلون أحياناً الأغلبية في بعض المجتمعات، حق التصويت في الانتخابات؟ وبالفعل، قرر كثير من هذه التجمعات السماح ليهود الشرق بالانضمام إليها بدون ممارسة حق التصويت. ولعل تأسيس جمعية الغوث كان يهدف إلى إبعاد يهود الشرق عن ألمانيا حتى لا يتأثر وضع اليهود داخلها، كما هو الحال مع جمعيات الغوث الأخرى (التوطينية) التي أنشأها أثرياء اليهود في الغرب (أمثال هيرش وروتشيلد). 

وظهرت في هذه المرحلة جمعيات يهودية، مثل: التنظيم المركزي للمواطنين الألمان من أتباع العقيدة اليهودية (وهي جمعية يهودية تدعو إلى الاندماج)، وجمعية غوث يهود ألمانيا (وهي جمعية خيرية قامت بنشاط استيطاني في فلسطين كما أشرنا)، وغير ذلك من جمعيات دينية وثقافية. وتم تأسيس اتحاد عام لهذه الجمعيات في أواخر العشرينيات. ولكن الأمر الذي يجدر ذكره، من وجهة نظر هذه الدراسة، هو تأسيس فرع للمنظمة الصهيونية في ألمانيا (بل أصبح المقر الرئيسي داخل ألمانيا منذ عام 1904). وترأس فرع ألمانيا رجل ألماني متزوج من يهودية من شرق أوربا (كورت بلومنفلد) طرح شعارات قومية عضوية كانت تسبب الكثير من الحرج لأعضاء الجماعة الذين كانوا يحاولون الاندماج. وتُوِّجت جهوده باستصدار قرار بوزنان الصهيوني عام 1912 الذي جعل من الهجرة إلى فلسطين هدفاً أساسياً لكل يهودي. وظل الصهاينة، ومعظمهم من أصل شرق أوربي، يتقبلون مختلف المنطلقات القومية العضوية. فدافع مارتن بوبر عن علاقـة التربة بالدم، كما دافـع عن أن اليهود شـعب آسـيوي أساساً. وتحدث ناحوم جولدمان عن اليهود كعنصر هدام في كل المجتمعات لأنهم غرباء، وتحدث جيكوب كلاتسكين عن ازدواج الولاء عند اليهود، وتحدث حاييم وايزمان عن اليهود باعتبارهم عنصراً فائضاً يقف في حلق الأمة الألمانية، وهي شعارات تعود كلها لتيودور هرتزل وماكس نوردو اللذين وضعا أساس الصهيونية الألمانية. وأشاعت هذه الدعاية صورة سلبية للغاية عن أعضاء الجماعة اليهودية وعن عدم إمكان دمجهم في الشعب العضوي الألماني. وفي هذا المناخ، ظهر هتلر وظهرت النازية. وأثناء محاكمات نورمبرج، أصر الزعماء النازيون، الواحد تلو الآخر، على أنهم تعلمـوا ما تعلمـوه عن المسألة اليهودية من أدبيات الصهاينة. 

ورغم هذا الجو الهستيري الصهيوني النازي، ظلت الجماعة اليهودية رافضة للمنطق الصهيوني واستمرت في مقاومة المنطق النازي. ومع وصول هتلر للحكم، استولى الصهاينة على قيادة الجماعة اليهودية وطرحوا برنامجاً عام 1933 لإعادة صياغة الجماعة اليهودية في ألمانيا وتعليم اليهود ما يتفق مع التقاليد الصهيونية، وذلك عن طريق مزج القومية بالدين بهدف تهجيرهم خارج ألمانيا. وقد وَصفت جمعية التنظيم المركزي للمواطنين الألمان هذا الموقف من قبل الصهاينة بأنه طعنة في الخلف. أما النازيون، فوافقوا على الطرح الصهيوني للقضية وقدَّموا التأييد والدعم للأنشطة والمؤسسات الصهيونية. وكانت كل هذه الأسباب النابعة من الملابسات التاريخية والسياسية والحضارية العامة (أي المرتبطة بالمجتمع الألماني ككل)، والخاصة (أي المرتبطة بالجماعة اليهودية على وجه التحديد)، هي التي أدَّت إلى ارتطامهم بالنظام النازي وإلى إبادة أعداد كبيرة منهم (بالمعنيين العام والخاص اللذين نطرحهما، أي الإبادة من خلال التجويع والسخرة والتهجير والإبادة من خلال التصفية الجسدية).

الإبــــادة النازيــــة للغــــجر 
Nazi Extermination of Gypsies 

ارتبطت عبارة «الإبادة النازية» بكلمة «اليهود» بحيث استقر في الأذهان أن النازيين لم يبيدوا سوى اليهود. وقد ساعد الإعلام الغربي والصهيوني على ترسيخ هذه الفكرة حتى أصبح دور الضحية حكراً على اليهود. بل تطور الأمر إلى حد أنه إذا ما أراد باحث أن يبيِّن أن الإبادة النازية لم تكن مقصورة على اليهود، وإنما هي ظاهرة شاملة ممتدة تشمل الغجر والسلاف والبولنديين وغيرهم، فإنه يصبح هدفاً لهجوم شرس. 

ونحن نرى أن ثمة اتجاهاً كامناً نحو الإبادة في الحضارة العقلانية المادية الحديثة، وأنه تحقق بدرجات متفاوتة من الحدة والتبلور واتخذ أشكالاً مختلفة. وإحدى لحظات التحقق المتبلورة هي الإبادة النازية للغجر، التي ورد الوصف التالي لها في إحدى منشورات اليونسكو. كانت إبادة الغجر مُدرجة في برنامج ألمانيا النازية. وكان لدى شرطة إقليم بافاريا الألماني منذ عام 1899 قسمٌ خاص « بشئون الغجر» يتلقى نسخاً من قرارات المحاكم المكلّفة بالبت في المخالفات التي يرتكبها الغجر. وتحوَّل هذا القسم عام 1929 إلى « مركز وطني»مقره ميونيـخ، وحُظر على الغـجر منذ ذلك التاريخ التنقل بدون تصريح الشرطة. وكان الغجر الذين يزيد أعمارهم على السادسة عشرة ولا يعملون يُجبرون على العمل لمدة سنتين في مركز من مراكز التأهيل. وابتداءً من عام 1933، وهو تاريخ وصول هتلر إلى الحكم، زادت تلك القيود شدة وصرامة. وطُرد الغجر الذين لا يحملون الجنسية الألمانية، وزُجّ بالباقين في المعتقلات بحجة أنهم «غير اجتماعيين ». 

ثم بدأ الاهتمام بالبحث في الخصائص العِرقية للغجر، فأعلن الدكتور هانز جلوبكه ـ أحد المساهمين في صياغة قوانين نورمبرج ـ عام 1936 ـ أن الدم الذي يجري في عروق الغجر « دم أجنبي ». ثم صنَّفهم الأستاذ هانز ف. حينثر في فئة مستقلة تمثل مزيجاً عرْقياً غير محدَّد (إذ لم يستطع نفي أصلهم الآري). وبلغت الخصائص العرْقية لدى الغجر من الأهمية درجة أهلتها لأن تصلح موضوعاً لرسالة دكتوراه. ومما قالته إيفا جوستين مساعدة الدكتور ريتّر في قسم الأبحاث العِرقية بوزارة الصحة (عند مناقشة رسالتها) إن الدم الغجري « يُشكِّل خطراً بالغاً على صفاء الجنس الألماني ». ووجَّه طبيب يُدعَى الدكتور بورتشي مذكرة إلى هتلر يقترح فيها فرض الأشغال الشاقة على الغجر وتعقيمـهم بالجملة نظراً لأنهم "يُشكِّلون خطراً على نقاء دم الفلاحين الألمان". 

وفي 14 ديسمبر عام 1936، صدر قرار أدى إلى تفاقم أوضاع الغجر إذ وصمهم بأنهم « مجرمون معتادون على الإجرام». وفي نهاية عام 1937 وخلال عام 1938 شُنت حملات اعتقال جماعية عديدة ضد الغجر وخُصِّص لهم جناح في معتقل بوخنولد، وكانت قوائم الوفيات في كثير من المعسكرات تحوي أسماء غجرية يُذكَر منها: ماوتهاوسن وجوسن وداوتمرجن وناتلزفايلر وفلوسنبورج. وفي رافنسبروك، راحت كثيرات من نساء الغجر ضحايا لتجارب أطباء الشرطة العسكرية الهتلرية الإس. إس. (ss). وفي عام 1938، أصدر هملر بنفسه أمراً بنقل مقر المركز الوطني لشئون الغجر إلى برلين. وفي السنة نفسها اعتُقل ثلاثمائة غجري كان قد استقر بهم المقام في قرية مانفويرت حيث كانوا يملكون الحقول والكروم. وقد أمر هملر بتصنيف الغجر في الفئات التالية: غجري صرف (Z)، وخلاسي يغلب عليه العرْق الغجري (ZM+)، وخلاسي يغلب عليه العرْق الآري (ZM-)، وخلاسي يتساوى فيه العرْقان الغجري والآري (ZM). ويميِّز المؤرخ ح. بلِّنج في كتابه ألمانيا وإبادة الجنس بين أساليب مختلفة لإبادة الجنس تتمثل في الإبادة عن طريق إزالة القدرة على الإنجـاب واخـتطاف الأطفال، والإبادة عن طريق الزج في المعتقـلات، والإبادة عن طريق الإفناء. 

وقد عُقِّمت في مستشفى برسلدورف - لبيرنفلد نساء غجريات متزوجات من غير الغجر، ومات بعضهن على أثر تعقيمهن وهنَّ حوامل. وفي رافنسبروك، قام أطباء الإس. إس. بتعقيم مائة وعشرين فتاة غجرية صغيرة. وكان من أمثلة الإبادة الجماعية عن طريق الاعتقال ترحيل خمسة آلاف غجري من ألمانيا إلى جيتو لودز في بولندا، وكانت ظروف المعيشة في هذا الجيتـو من الفظاعـة بحيث لم ينج أحد من هؤلاء الغجر من الهلاك. ومع ذلك فإن الطريقة التي كان يؤثرها النازيون هي طريقة الإفناء المباشر. ويُعتقد أن قرار إبادة الغجر بالإفناء اتُخذ في ربيع عام 1941 عندما شُكِّل ما عُرف باسم «فرق الإعدام». ولكي يتحقق ذلك كان يتعيَّن جمع الغجر في أماكن محددة. فمنذ صدور قرار هملر في 8 ديسمبر 1938، كانت أماكن سكنى الغجر قد أصبحت معروفة لدى الشرطة، ثم جاء قرار 17 نوفمبر 1939 ليحظر عليهم ترك منازلهم أو ليضعهم تحت طائلة الحبس في معسكرات الاعتقال. ورُحل ثلاثون ألف غجري إلى بولندا فلاقوا حتفهم في معتقلات الموت في بلزك وتربلينكا وسوبيبور ومايدانك، شأنهم شأن آلاف آخرين رُحلوا من بلجيكا وهولندا وفرنسا إلى معتقل أوشفيتس. ويروي هويس، قائد المعتقل، في مذكراته أنه كان بين المعتقلين شيوخ يناهزون المائة سنة من العمر ونساء حوامل وأعداد كبيرة من الأطفال. كذلك يروي بعض السجناء الذين نجوا من الهلاك، كما يسرد كولكا وكرواس في كتابهما المعنون مصنع الموت، قصة مذبحة الغجر الرهيبة التي وقعت في ليلة 31 يوليه عام 1944. 

وفي بولندا، كان الغجر يُقتلون في معسكرات الموت أو يُعدمون في البراري. وامتد نطاق القتل إلى الاتحاد السوفيتي عندما اندلعت نيران الحرب بين الألمان والسوفييت، فكانت فرق الإعدام التابعة للإس. إس. تسير مع الجيوش الألمانية، وكانت القبور الجماعية تملأ مناطق البلطيق وأوكرانيا والقرم. وفي ليلة 24 ديسمبر 1941 أُعدم رمياً بالرصاص في سيمفيروبول ثمانمائة غجري من الرجال والنساء والأطفال. وحينما زحفت الجيوش النازية، كان الغجر يُعتقلون أو يُرحلون إلى المعسكرات أو يُقتلون. وفي يوغسلافيا، كان الغجر واليهود يُعدمون في غابة باجنيس. 

ومن الصعب تقدير عدد الغجر الذين كانوا يعيشون في أوربا قبل الحرب العالمية الثانية وعدد ضحايا هذه الحرب. ويُقدِّر المؤرخ راؤول هيلبرج عدد الغجر في ألمانيا قبل الحرب بأربعة وثلاثين ألف نسمة؛ أما عدد من بقي منهم على قيد الحياة بعدها فغير معروف. ويتبيَّن من تقارير فرق الإعدام أن عدد الضحايا في روسيا وأوكرانيا والقرم بلغ ثلاثمائة ألف غجري، بينما تُقدر السلطات اليوغسلافية عدد القتلى من الغجر بثمانية وعشرين ألفاً في الصرب وحدها. أما عدد الضحايا في بولندا، فمن الصعب تقديره وإن كان المؤرخ تيننباوم يؤكد أن الشعب الغجري فقد على الأقل خمسمائة ألف من أبنائه. هذا، مع العلم بأن الشعب الغجري شعب عريق وكثير النسل (على عكس اليهود).وعلى كل حال، ومهما اختلفت النسب، فإن نسبة من أُبيد من الغجر (إلى عددهم الكلي) يفوق نسبة من أُبيد من اليهود. 

مارتن هايدجر (1889 – 1976 ( والنازية 
Martin Heidegger and Nazism 

في كتابه المعنون الحداثة الرجعية: التكنولوجيا والثقافة والسياسة في جمهورية فايمار والرايخ الثالث يُبيِّن جيفري هيرف أن الحداثة لم تكن حركة نحو اليمين أو نحو اليسار، إذ يرى أن هناك حداثة رجعية فاشية هي حداثة انتصار الإرادة على العقل، والروح المبدعة على الحدود. وفي إطار هذه الحداثة ترتبط الإرادة المنتصرة بالعنصر الجمالي الذي يصبح هو وحده مبرر الحياة، ولذا تُعَّلق (أي تُعطَّل) كل المعايير الأخلاقية وتهيمن الرغبة التي لا تعرف أية حدود. وفي حديثه عن هـذه الحـداثة الرجـعية يُبيِّن هيرف أن مصـادرها متعددة، يذكر من بينها ما يلي: الرومانسية ـ أيديولوجية الفولك ـ المصطلح الوجودي عن الذات والأصالة ـ الداروينية الاجتماعية ـ فلسفات الحياة Lebensphilosophie ـ احتفاء نيتشه بالجمال الذي يتجاوز الأخلاق أو الذي لا علاقة له بالأخلاق (بالإنجليزية: أمورال amoral) ـ الاحتفال بالجمال باعتباره معياراً « أخلاقياً » ـ تمجيد التكنولوجيا وربطها بالقيم المتجاوزة للأخلاق. ويستمر هيرف، عبر كتابه، في تعداد هذه العناصر وغيرها. 

ونحن نرى أنه رغم دقة ملاحظاته وجدَّتها إلا أن كتالوج العناصر الذي قدَّمه يتسم بعدم الترابط. وقد يكون من الأجدى أن نرى نمطاً عاماً في الحضارة الغربية: تصاعد معدلات الحلولية الكمونية والانتقال من العقلانية المادية (المتجاوزة للقيمة والأخلاق والغائية الإنسانية) إلى اللاعقلانية المادية (المتجاوزة للقيمة والأخلاق والغائية الإنسانية) والتأرجح بين الذات والموضوع (وهو نمط عام يصل إلى قمته في فلسفة ما بعد الحداثة). وفلسفـة مارتن هايـدجر (1889 ـ 1976)، الوجـودي والفينومينولوجي، هي جزء من هذا النمط العام. وهو يُعَدُّ من أهم فلاسفة القرن العشرين في الغرب، إن لم يكن أهمهم على الإطلاق، وينزله البعض منزلة أفلاطون وهيجل. وقد تأثر هايدجر بأعمال جيكوب بومه والمعلم إيكهارت ونيتشه وكيركجارد وهوسرل، ويبدو أن الفكر الغنوصي ترك أثراً عميقاً فيه. وكتابه الأساسي: الوجود والزمن (1927)، بالإضافة إلى كتبه الأخرى: كانط ومشـكلة الميـتافيزيقـا (1929)، و ماهــية الحقـيقة (1943)، و مدخل إلـى الميتافيزيقا (1935)، و رسـالة حـول الإنسانية (1947)، و ما الفلسفة (1955(. 
يتبع إن شاء الله...


الباب الرابع: الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة  2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الباب الرابع: الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الرابع: الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة    الباب الرابع: الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة  Emptyالخميس 28 نوفمبر 2013, 12:03 am

ونقطة انطـلاق هـايدجر هي الوجـود، فالسـؤال الأساسي عنده هو: ما معنى الوجود؟ فهو السـؤال الذي يجـب أن يسـأله كل إنسـان ليصبح إنساناً. ويذهب هايدجر إلى أن الخلل الأساسي في الأنطولوجيا الغربية أنها سقطت في ثنائية راديكالية فظنت أن الوجود هو كيان موضوعي مفارق للذات ثم قامت بفصل الواحد، وبحدة، عن الآخر، فحوَّلت العالم الموضوعي إلى مادة لا أسـرار فيها ولا سـحر خاضعة للحَوْسَلة منفصلة تماماً عن الذات، كما تحوَّل الإنسان إلى عقل أداتي وذات متعجرفة متكبرة تنفصل تماماً عن واقعها وتتعالى عليه بدلاً من التفاعل معه، تحاول أن تغزو الكون بدلاً من أن تعيشه، وتحاول أن تفرض صورتها على الكون وتحتل مركزه وتحوسله. وتتجلى هذه الرؤية من خلال فلسفة ديكارت وفكر حركة الاستنارة والفلسفة الوضعية والنزعة التكنولوجية. 

وفي محاولة تجاوز هذه الثنائية يرفض هايدجر العودة للإله، كما يرفض أن يعود إلى الذات المستقلة، وبدلاً من ذلك يطرح مشروعه الفلسفي الذي يصفه هو نفسه بأنه عملية هدم (بالإنجليزية: ديستراكشن destruction ـ بالألمانية: ديستروكسيون destruktion) للفلسفات السابقة، بل لكل الأنطولوجيا الغربية، أنطولوجيا الذات والموضوع (ويتحول الهدم [ديستراكش] إلى تفكيك بالإنجليزية: «ديكونستراكشن deconstruction» في خطاب دريدا الفلسفي، الذي يدين بالكثير لفلسفة هايدجر). وجوهر عملية التفكيك أو الهدم هذه هو الاقتراب من الواقع بدون المنظار الديكارتي بحيث يتجاوز الدارس ثنائية الذات والموضوع وينظر إلى الوجود (شأنه في هذا شأن فلاسفة عالم الحياة) باعتباره الاثنين معاً. ومن هنا اهتمام هايدجر (ونيتشه من قبله) بالفلسفة اليونانية قبل سقراط، وهي فلسفة لم تعان في تصوره من انقسام الذات والموضوع. 

ونحن نذهب إلى أن هذا الانقسام الحاد بين الذات والموضوع هو سمة أساسية في كل الرؤى الحلولية الكمونية المادية التي ترفض فكرة المركز المفـارق للمـادة المنزه عنها، وتحاول أن تعين مركزاً كامناً أو حالاً فيها، فتجده إما في الإنسان أو في الطبيعة، إما في الذات أو في الموضوع. وتحسم هذه الثنائية الصلبة ذاتها إلى واحدية مادية بذوبان الذات في الموضوع، أو الموضوع في الذات (وإن كان البديل الأول هو الأكثر شيوعاً). وهو انقسـام لم تسـلم منه الفلسـفة اليونانية أو أية فلسـفة حلولية كمونية مادية، قبل سقراط أو بعده، في اليونان أو خارجها. ونمط الثنائية الصلبة التي تؤدي إلى واحدية يظهر بوضوح في فلسفة هايدجر. يتناول هايدجر قضية الوجود من خلال مفهوم «دازاين Dasein» وهي كلمة ألمانية تعني حرفياً «الوجود هناك» (بالإنجليزية: بينج ذير being there) أي «الوجود في العالم». وفي سياق فلسفة هايدجر يمكن ترجمتها إلى «الإنسان» أو «حالة كون الإنسان إنساناً» (بالإنجليزية: ذي مود أوف بينج هيومان the mode of being human). وأهم خصائص وجود الإنسان أن وجوده لا يشبه وجود الشيء، فقانونه هو عدم التعين، فهو كائن غير ثابت، ليست له طبيعة محددة. وبما أن لكل فرد الحق في أن يقول « أنا »، فإن الوجود الإنساني يتغيَّر من فرد لآخر. فهذا الأنا ليس جوهراً، أي ليس موضوعاً ثابتاً تجرى عليه التغيرات، بل هو ينبوع للإمكانات واستعداد لتحققها (عبد الرحمن بدوي(. 

وتوجد هذه الذات الإنسـانية في عالم الصيرورة والزمان، لا فكاك لها منه، وليس لها وجود مستقل عنه. بل إن وجودها نفسه هو ثمرة علاقتها مع العالم المادي ومع الآخرين، ومع هذا لا تُردُّ الذات إلى واقع خارج عنها ولا تُستوعَب تماماً فيه. فالعلاقة بين الذات والموضوع علاقة جدلية. فالواقع الذي نتـفاعل مـعه يصوغنا بقدر ما نصـوغه نحن،ونمتلكه بمقدار ما يمتلكنا. والذات هي إمكانية دائمة ومشروع مستمر وحوار مستمر مع العالم. وعملية الحوار هذه تعني الصيرورة الدائمة، فالواقع الذي نتفاعل معه مركب تماماً، ولا يمكن إخضاعه لعملية الرد الفينومينولوجي أو التجريد الإيديتيكي التي تعلق الواقع (على الطريقة الهوسرلية). ولا يمكننا استنفاد معناه تماماً ولا يمكن حوسلته أو استيعابه في مقولات منطقية مجردة عامة (ومن هنا عجز العلم الطبيعي عن فهم الوجود). والإنسان كائن أُلقي به في عالم ليس من صنعه، ولكنه مع هذا عالمه الوحيد، ولا يمكن للإنسان أن يأخذ موقفاً تأملياً محايداً من هذا العالم، فنحن نصبح جزءاً من الأشياء التي في وعينا، ولذا فإن الإنسان ليس كائناً عارفاً وإنما هو كائن قلق بشأن مصيره في عالم غريب عنه. ويتسم الإنسان بأنه ليس لديه ردود فعل (موضوعية) للأحداث، فهو « يستجيب » لها، ومن ثم فالإنسان محتم عليه الاختيار ومحاولة فهم العالم.

واللغة من أهم العناصر في الوجود الإنساني، فهي أساسية له (بل إنها توجد قبل جود الإنسان الفرد)، وهي طريقة انفصال الإنسان عن الوجود ليشعر الإنسان بالدهشة تجاهه بل يشعر بوجوده (على عكس الكائنات الأخرى، والوجود بالنسبة لها كينونة وليس حضوراً، فهي كائنة في الوجود لا تعيشه). ولكن اللغة هي أيضاً أداة اتصالنا مع العالم ومع الآخرين. ولكنها أداة ليست موصلة تماماً لا يمكنها الإفصاح تماماً عما لا يمكن تسميته، ولذا فاللغة لا يمكن أن تمثل الواقع كما أن اللغة تفقد حدتها بسبب تفاهة اللغة السائدة. ولعل هذا هو الذي حدا بهايدجر أن يحاول تطوير مصطلحه الخاص تماماً وأن ينحت كلمات جديدة ويلجأ للعب بالكلمات حتى يُفصح عن رؤيته الخاصة (كما فعل دريدا بعده متأثراً به). كما أن هايدجر كان يذهب إلى أن لغة الشعر أكثر قدرة على التوصيل من اللغة العادية. ومع هذا كان يذهب إلى أن بعض الأفعال مثل «يستقر» و«يرى» تكشف عن الحقائق الأولية للوجود الإنساني. 

لكن الإنسان كمشروع مستمر وإمكانية غير متحققة قد يفقد ذاته ويصبح «الهُم». وهي عبارة تعني ببساطة «الشخصية المتوجهة نحو الآخر» (بالإنجليزية: أذر دايركتيد other directed) والإنسان الاجتماعي بالمعنى السلبي، أو الإنسان المستوعَب تماماً في الأعراف الاجتماعية وآراء الآخرين (ولكن هايدجر يصر دائماً على تحاشي المصطلحات السوسيولوجية ويفضل المصطلحات الفلسفية الأنطولوجية التي ينحتها بسرعة وغزارة تسبب كثيراً من الصداع الذي لا مبرر له). هذا « الإنسان الهُم » هو إنسان ذو بُعد واحد يحكم على نفسه بمعايير الآخرين ويُستوعَب في الآخرين ويسقط في لغو الحديث الذي يقف على الطرف النقيض من الحوار، فالحوار هو أن ترى الآخرين باعتبارهم بشراً (دازاين) لهم وجودهم الخاص المتعين، لا باعتبارهم أشياء موضوعية (داس مان: الهُم) بحيث يمكن الدخول معهم في علاقة حميـمة تكـشف شــخصيتهم الأصــيلة والحقيقـية. والإنسـان الهُم هـذا لا يشعر بالدهشة الحقيقية وإنما يتسم بحب الاستطلاع، وحب الاستطلاع هو الرغبة في اقتناء الجديد والمختلف دون أي إحساس حقيقي بالدهشة. 

وحتى لا يسقط الإنسان في حالة الهُم هذه فهو دائماً في حاجة إلى الإحساس بالرهبة (بالألمانية: أنجست Angst، وبالإنجليزية: دريد dread) ويظهر هذا الإحساس عندما يدخل الإنسان في علاقة مع العدم من خلال إدراكه للموت (وهي لحظة لا يمكن للعلوم الطبيعية أن تدركها ولا يمكن للحياة اليومية أن تتعايش معها). وعندما يمارس الإنسان الإحساس بالقلق وبتناهي الوجود الإنساني وبزمنيته، تسقط التفاصيل اليومية ويتوارى العالم العادي ويتفتح الوجود ويكشف عن نفسه وتكتشف الذات أصالتها وإمكانياتها وضمنها إمكانية الحرية والاختيار، حرية أن تختار الذات نفسها وأن تمسك بنفسها، ومن ثم تكتشف الذات قدرتها على تجاوز العالم وعلى الخروج من حدودها الضيقة (الهُم) لا لتعرف العالم وحسب ولتكون فيه وإنما لتوجد فيه، أي أن يتحقق وجودها الأصيل والحقيقي في العـالم في الزمـان. وتصل قمـة الحرية إلى حرية الإنسـان في أن يقابل الموت. 

ورغم حديث هايدجر عن العلاقة الجدلية التفاعلية التبادلية بين الذات والموضوع، ورغم محاولته المستميتة أن يحافظ على المسافة بين الذات والموضوع إلا أنهما يلتحمان (بسبب غياب المركز المفارق) بعد فترة من التأرجح (المأساوي أحياناً، والملهاوي أحياناً أخرى) بين الذات المطلقة التي لا حدود لها ولا قيود عليها والتي تلتهم الموضوع، والموضوع المطلق، الذي يتجاوز كل شيء، وضمن ذلك الإنسان الفرد، ويبتلع كل الذوات، أي أن هايدجر يتأرجح فلسفياً بين العقل الإمبريالي النيتشوي الدارويني والعقل الأداتي البرجماتي. فلنأخذ على سبيل المثال مفهوم هايدجر للتاريخ الإنساني، التاريخ بالنسبة له ليس تاريخاً متعيناً، وإنما هو زمان وحسب، تجربة ذاتية وجودية، يصبح الوجود من خلالها حضوراً، أي تجربة فريدة معاشة، وهكذا يختفي أي مركز مفارق للإنسان ولا تبقى إلا الذات. (وسنرى كيف أن الذات الهتلرية تبتلع الموضوع الألماني بل كل الوجود). ويحدث الشيء نفسه للذات، إذ يذهب هايدجر إلى أن الذات لا يمكن أن تكون نفسها في أية لحظة، فهي في حالة صيرورة مقلقة، ولا يمكن للإنسان الفرد أن يمسك بوجوده تماماً، فوجود الإنسان يسبقه دائماً كمشروع غير متحقق بعد، وهو مشروع دائم لا ينتهي، ومن ثم فالوجود الفرد إن هو إلا وهم. 

وللخروج من هذه الحالة اقترح هايدجر، كما أسلفنا، تجربة الرهبة (أنجست) الناجمة عن مواجهة الموت والعدم والتأمل فيهما. ولكن هـذا ليـس هـو الحـل الوحيد، فهناك الحل الألماني المثالي/المادي المألوف، أي افتراض أن الذات والوجود هما شيء واحد، أو أن كليهما موضع الحلول. ولكن هذا الحل الألماني هو حل مؤقت إذ عادةً ما تنحل هذه الوحدة العضوية الكاملة إلى عنصر واحد يغلب الآخر، وهو عادةً العنصر الموضوعي الذي يطـوق الذات ويذيبها فيـه، أي أن الوحـدة العضـوية تتحول إلى واحدية مادية. وهذا أمر متوقع تماماً، فالفرد القلق المنعزل الملئ بالقلق والرهبة (أنجست) سيحاول بأقصى جهده أن يخرج من حالة العزلة هذه، حالة الوهم، وإحدى وسائل الخروج التوحد بالذات الجماعية، بالوجود الجمعي بديل الإله (وهذا هو الحل الذي اقترحه هيجل ودوركهايم وغيرهما(. 

والعنصر الموضوعي أو الكلي هنا هو الوجود. وقد لاحظ أحد مؤرخي الفلسفة أن مضمون كلمة «وجود» عند هايدجر لا يختلف كثيراً عن مضمون كلمة «إله» في الفكر البروتستانتي. ولذا فهو يتحدث عن أن "الوجود يدعونا" و "يخبئ نفسه" و"يكشف عن نفسه لنا ". ولكن هذا الإله إله مادي، ولهذا يأخذ أشكالاً مادية مختلفة، وهكذا نكتشف أن الوجود يصبح أحياناً الطبيعة، ومن ثم يطرح هايدجر فكرة المجتمع العضوي الذي يلتحم فيه الإنسـان بالطبيعـة وبالآخرين (ومن هنا سُمِّي «فيلسوف الغابة السوداء»). وتظهر عملية تطويق الموضوع للذات في أن كلمة «دازاين Dasien» لم تعد تعني «وجود الفرد بشكل متعيِّن في الواقع» بل تصبح "الوجود الفردي باعتباره شكلاً من أشكال الوجود الجماعي". 

ويضيق نطاق الحلول ويتركز فبدلاً من الإنسانية ككل باعتبارها مركزاً للحلول (كما كانت تدَّعي الهيومانية الغربية) يصبح مركز الحلول هو "الوجود الألماني". ( "الألمان شعب مختار، مفعم بقوى الأرض والدم، وعلى الطلبة أن يعلنوا التزامهم بذلك" ـ "لقد أدَّت الثورة الاشتراكية الوطنية إلى انقلاب كامل في الوجود الألماني" ـ " الفرد في حد ذاته [أينما كان] لا قيمة له، فأهم شيء هو مصير شعبنا" ـ "أيها الطالب الألماني، خلال تجوالك ومسيراتك الطويلة، تلمَّس بقدميك أراضي الجبال والغابات والأودية في الغابات السوداء فإنك تلمس الأرض التي أنجبت البطل. دونما سلاح، أطلق البطل نظراته متحدياً البنادق الموجهة إليه وعانق النهار وجبال موطنه حتى يموت وعيناه مثبتتان على الأرض الألمانية وعلى الشعب الألماني والرايخ"). وتزداد درجات تركز الحلول ويضيق نطاقه وبدلاً من الشعب الألماني تصبح الدولة الألمانية هي موضع الحلول فيتحدث هايدجر عن "وجود الدولة" (بالألمانـية: دازاين ديس شتاتيس Dasein des Staates ) "أهـم شـيء هـو مصير شعبنا في دولته". "لقد أيقظ هتلر الإرادة لوجود الدولة في الفولك ». ونصح هايدجر الشباب بأن تنمو شجاعتهم دائماً « لينقذوا جوهر الشعب ولإعلاء القوى الداخلية للشعب في إطار الدولة".

وهكذا يهيمن الموضوع أو الذات الجماعية تماماً، ولكن التأرجح مع هذا لا يتوقف إذ تتزايد درجات الحلول تركزاً وضيقاً إلى أن نصل إلى الذروة وننتقل من الموضوع إلى الذات مرة أخرى حين يتم استيعاب الدولة نفسها في الإنسان الفرد الأسمى، هتلر، الذي "جمع إرادة الأمة في فرد واحد". "إن الفوهرر نفسه، هو وحده، الحقيقة الألمانية في الحاضر والمستقبل، وهو قانونها... هايل هتلر"، أي أن المبـدأ الواحد، جوهـر وحـدة الوجود المادية، يصبح أولاً الوجود الجمعي والوجود كطبيعة، ثم يضيق نطاقه ويتركز فيصبح الشعب الألماني، ثم الدولة الألمانية، وأخيراً الفوهرر. وكما قال هايدجر، إن قاعدة وجود الإنسان الألماني « يجب ألا تكون هي فرضيات أو نظريات [رفض الميتافيزيقا]، فالفوهرر، هو وحده، حقيقة الحاضر والمسـتقبل قانونهما، فهو منقذ شـعبنا... هو المعلم ورائد الروح الجديدة » (من رسالة هايدجر إلى الفوهرر)، هو مركز الحلول، هو الإله المادي والوثن الأعظم. لكل هذا ينحل الدازاين تماماً في الذات النيتشوية: "إن الفلسفة تقف وراء هتلر، لأن هتلر يقف إلى جانب الوجود". 

وتظهر علمانية هايدجر الشاملة،وماديته الراديكالية النيتشوية الجديدة،في تحريضه الجامعة الألمانية على أن تخوض غمار حرب حاسمة بروح الاشتراكية الديموقراطية (النازية) التي يجب ألا تخنقها أية نزعات إنسانية (هيومانية) أو مفاهيم مسيحية.كما تظهر هذه العلمانية المادية الشاملة في تبنيه للحل الصهيوني للمسألة اليهودية، إذ كان يرى ضرورة توطين اليهود في فلسطين أو أي مكان آخر خارج ألمانيا وأوربا. 

كان النازيون يعتبرون هايدجر فيلسوفهم، ونحن نرى أنهم كانوا على حق في تصورهم هذا. فقد انضم هايدجر إلى الحزب النازي عام 1933 وكان من أعز أصدقائه بيوجين فيشر، وهو ممن دافعوا عن القتل الموضوعي أو الأداتي للمعوقين وعن إبادة اليهود. وانطلاقاً من رؤيته النازية دافع هايدجر عن المشروع الصهيوني الذي يطالب بطرد اليهود من أوطانهم (باعتبارهم شعباً عضوياً) ليُعاد توطينهم في فلسطين (باعتبارها وطناً قومياً لهم). كما كانت زوجة هايدجر نفسها ترى أن الأمومة هي الحفاظ على الميراث العرْقي. وقد تنكر هايدجر لأستاذه هوسرل عام 1933 لأنه يهودي، وكان يتجسس على زملائه لحساب السلطة النازية، وهو ما أدَّى إلى طرد بعضهم. (يُوثق كتاب فيكتور فارياسVictor Farias [عام 1987] هذا الجانب من حياة هايدجر الفلسفية). ومن الجدير بالملاحظة أن أستاذاً ألمانياً اسمه جيدو شنيبرجر Guido Schneeberger نشر عام 1961 كتاباً يضم 217 نصاً نازياً لهايدجر. 

ويبدو أن هايدجر أدرك خطأه عام 1934 ومن ثم استقال من رئاسة جامعة فرايبورج. ولكن من المعروف أنه استمر مع هذا في دفع اشتراكات العضوية في الحزب النازي حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد كتب المفكر الألماني كارل أوديث في مذكراته أنه تحدث مع هايدجر عام 1936 وأن هايدجر عبَّر عن إيمانه الكامل بهتلر، وأخبره أن الطريقة النازية هي الطريقة الأمثل لألمانيا. وحتى بافتراض أن هايدجر ابتعد عن النازية السياسية، فمما لا شك فيه أن نسقه الفلسفي ظل كما هو، يُشكِّل تربة خصبة لظهور الأفكار النازية، شأنه في هذا شأن كل « فلسفات الحياة » اللاعقلانية المادية. 

كان هايدجر يتصور أن النازية هي روح العالم المتجسدة التي ستزاوج بين التكنولوجيا والثقافة ("رسالة الشعب الألماني"). وهو لم يكن مخطئاً تماماً في تصوره، فقد قام النازيون بالفعل بمزاوجة التكنولوجيا والثقافة الألمانية، بل إنهم كانوا يرون أن التكنولوجيا هي التعبير البراني عن إرادة القوة الألمانية، وكانوا يرون أن ألمانيا بوجودها بين روسيا والولايات المتحدة أصبح بوسعها أن تزاوج بين التكنولوجيا وروح الشعب، فالتكنولوجيا الألمانية تنبع من أعماق الحضارة Kultur الألمانية. وهي روح مطلقة لا تتقيد بأية قيم بورجوازية، روح لا متناهية لا تعرف سوى القيم الجمالية. وهكذا أمسك بروميثيوس الجديد بالنار، مسـلحاً بحـس جمالي عميق وبشهية لا تعرف الحدود وبإدراك للذات كمطلق، فأحرق الأخضر واليابس. وقد أدرك هايدجر تدريجياً أن هذا الالتحام النازي بين الذات والموضوع وبين التكنولوجيا والثقافة، خارج إطار المنظومات الأخلاقية، هو في واقع الأمر مرض وليـس حلاً. ولكن إدراكه هذا ظل مقصـوراً على الحـالة النازية وحسب، ولهذا لم يراجع منظومته الفلسفية. 

ولا تمثل رؤية هايدجر العلمانية الإمبريالية الشاملة انحرافاً عن مسار الحضارة الغربية الحديثة، فهي جزء من نمط عام متكرر يتمثل في التأرجح بين الذات والموضوع، وفي حسم هذا الصراع لصالح الموضوع أو لصالح الموضوع متجسداً في الذات الإمبريالية، كما يتمثل الانتقال التدريجي من العقلانية المادية إلى اللاعقلانية المادية التي تتضح في تقديس هيجل للدولة البروسية (إله يسير على الأرض!) وأفكار نيتشه الداروينية عن إرادة القوة وميول ياسبرز النازية والتوجهات النازية والصهيونية لبول دي مان تلميذ هايدجر النشيط المخلص. والنازيـة ما هـي إلا تجلٍ متبلور لهذا الاتجاه حين أصبح الدازاين الألماني الجمعي هو الفولك الذي تجسد في هتلر واحد وأصبـح الآخرون مثل أيخمـان، منفذين عــاديين تسير وراءهم الملايين. 

ويمكن فهم نازية هايدجر، شأنها شأن صهيونيته، من خلال هذا السياق. فالنازي الإمبريالي الذي يُجسد إرادة القوة يُحوسل الآخرين ويُحركهم ليخدم مصالحه أو مصالح أمنية، فهو ينقل اليهود إلى فلسطين (أو ينقل الفلسطينيين منها) أو إلى معسكرات الاعتقال واللاجئين، حسبما تمليه عليه الظروف الطارئة والمصالح المادية الثابتة وموازين القوى، دون التقيد بأية قيم أخلاقية، إذ لا توجد إلا قيم جمالية. ومن المعروف أن النازيين تمسكوا بالقيم الجمالية أيما تمسك، فكانت واجهات معسكرات الاعتقال من الطراز التيرولي، كما كان الجنود الألمان يسمعون موسيقى موتسارت وفاجنر بينما كان يُساق الملايين إلى معسكرات الاعتقال التي تتسم بالانضباط الشديد. 

ولعل إدراك العالم الغربي للنزعة الإمبريالية (الإبادية) الكامنة في مشروع هايدجر الحضاري الحديث هو ما يدفعه لإخفائها بشتى الوسائل والطرق ومن ذلك محاولة إخفاء الحقائق الصلبة. ولهذا تبذل جهود مضنية لإخفاء حقيقة أن دول الحلفاء (التي تتباكى الآن على ضحايا النازية) لم تفتح أبوابها للمهاجرين من المناطق التي وقعت تحت نفوذ النازي، وأن قوات الحلفاء (بقيادة إيزنهاور) لم تكن متحمسة لضرب السكك الحديدية المؤدية لمعسكرات الاعتقال لتوفير الطاقة العسكرية. وفي هذا الإطار يمكن أن نفهم ما حدث لجيدو شنيبرجر فقد وجد صعوبة بالغة في نشر كتابه عن نازية هايدجر، وحينما نشره بطريقته الخاصة، اختفى الكتاب من أرفف المكتبات، ثم قوبل بالصمت من المؤسسات الأكاديمية (التي تلتزم الصمت أيضاً تجاه توجهات ياسبرز ودي مان النازية)، فعدم التزام الصمت يعني فتح باب الاجتهاد فيما يتصل بالنازية ودلالتها المركزية بالنسبة للحضارة الغربية الحديثة، الأمر الذي لا يمكن لهذه الحضارة تحمله، إذ قد تشكل ضربة في العمق.


الباب الرابع: الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة  2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
الباب الرابع: الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـثـقــافـــــــــة والإعـــــــــلام :: مـوسـوعة الـيـهـــود-
انتقل الى: