الباب الثانى: بعض التجليات المتعينة لمعاداة اليهود
بعــض التجليـــات المتعيِّــنة لمعـــاداة اليهــــود
Some Concrete Manifestations of Anti-Semitism
يمكن تفسير ظاهرة معاداة اليهود من خلال نموذج تفسيري وتصـنيفي واحد مركب تتفرع عنه عدة نماذج فرعية تتـبدَّى، هي بدورها، في أحداث ووقائع ومؤلفات بعينها، مثل: اضطرابات فيتميلخ، وحادثة دريفوس، وتهمة الدم، وبروتوكولات حكماء صهيون. وفي كل مدخل، سنحاول أن نعرض لموقف كلٍّ من الرؤية العرْقية المعادية لليهود والرؤية الصهيونية من الظاهرة أو القضية موضوع الدراسة ثم نحاول أن نقدم تفسيراً أكثر تركيباً وأقل اختزالية.
طـــرد اليــــهود
Expulsion of Jews
يُشير مصطلح «طرد اليهود» في الكتابات الصهيونية إلى مجموعة من الوقائع التاريخية التي حدثت في مجتمعات وتشكيلات حضارية مختلفة تحت ظروف مختلفة لا يربطها أي رابط. والواقع أن الحديث عن «طرد اليهود»، كما لو كان ظاهرة تاريخية واحدة، هو تعبير عن الإيمان بوجود تاريخ يهودي واحد يُعبِّر عن هوية يهودية واحدة (منبوذة من الأغيار)، وأن اليهود شعب عضوي منبوذ.
وفيما يلي بعض تواريخ الطرد المهمة:
724 ق.م التهجير (النفي) الآشوري.
586 ق.م التهجير (النفي) البابلي.
139 ق.م القاضي (برائيتور) ، هسبالوس يطرد اليهود من روما.
19 ق.م تايبريوس ينفي الأجانب (ومن بينهم اليهود).
50 م كلوديوس يأمر بطرد اليهود من روما.
70 م هدم الهيكل على يد تيتوس وطرد اليهود من فلسطين (وتعد هذه هي أهم حادثة طرد من المنظور اليهودي والمسيحي).
94م دوميتان يطرد المسيحيين واليهود .
135 م طرد اليهود من القدس وتحريم دخولها عليهم.
415 م الطرد من الإسكندرية
624 - 628 م الطرد من الجزيرة العربية أيام الرسول .
1467 م الطرد من تلمسان
ولكن أهم وقائع الطرد توجد داخل التشكيل الحضاري الغربي في العصور الوسطى وبعدها:
1290 م إنجلترا
1492 م إسبانيا
1306 - 1394 م فرنسا
1495 م ليتوانيا
1367 م المجر
1497 م البرتغال
وقد شهد القرنان الرابع عشر والخامس عشر حوادث طرد من مدن إيطاليا وألمانيا:
1426 م كولونيا
1453 م برسلاو
1439 م أونسبرج
1648 م ثورة شميلنكي في أوكرانيا
واستمر الطرد حتى العصر الحديث:
1744 - 1752 م بــراغ
وبعد ذلك التاريخ، تأسَّست منطقة الاسـتيطان، وهو ما كان يعني:
1772 م الطرد من بقية روسيا
1891 م الطرد من موسكو
وقام الروس بعد الثورة البلشفية، والنازيون بعد استيلائهم على الحكم، بنقل أعداد من اليهود من أماكن إقامتهم إلى أماكن أخرى. كما هاجر يهود البلاد العربية إلى إسرائيل وأوربا بعد عام 1948. وتُصنِّف الموسوعة اليهودية هذه الأحداث التاريخية كافة باعتبارها « حوادث طرد ». وتذكر أنه يمكن تصنيفها على أسس مختلفة إلا أن الدافع الجذري وراءها جميعاً هو كُره اليهود «ومعاداتهم »!
وغني عن القول أن هذه الوقائع لا يربطها رابط، فالتهجير الآشوري والبابلي شملا أقواماً عديدة أخرى لضمان أمن منطقة عبر النهر، أي منطقة الشام. وفي كثير من الأحيان، لم يكن الحكام الآشوريون أو البابليون يعرفون شيئاً عن العبرانيين، فكانت تَصدُر الأوامر بهدم منطقة أو تهدئتها، الأمر الذي كان يعني إخلاءها من معظم سكانها وأقوامها، وبخاصة من أعضاء النخبة. وقد شهد عام 139 ق.م أول عملية طرد لأعضاء إحدى الجماعات اليهودية، بالمعنى الحرفي للكلمة، حيث إنها لم تكن تهجيراً كالتهجير البابلي مثلاً، وليست فراراً كما حدث مع ثورة شميلنكي. ويبدو أن سبب عملية الطرد من روما هذه هو الخوف من تحوُّل المواطنين الرومان إلى العقيدة اليهودية. ويبدو، بالفعل، أن كثيراً من الرومان المتعلمين كانوا يعجبون باليهودية نظراً لطبيعتها التوحيدية بالقياس إلى التعددية والشرك اللذين يسمان العبادة الوثنية في روما. أما طرد اليهود عام 19 ميلادية، فقد تم بتحريض من سيجانوس رئيس الحرس الإمبراطوري، غير أن الإمبراطور تايبريوس الذي أصدر أمر الطرد عاد وألغاه بعد اثنى عشر عاماً، وأمر بألا يُساء إلى اليهود أو إلى شعائرهم الدينية، وأعلن أن سيجانوس كان قد ضلله لتحقيق مآربه الخاصة. ورغم أن روما اتسمت بالتسامح، فإن التهود بأعداد كبيرة كان يهدد سلطة الدولة، ذلك أن شرعية الدولة تستند إلى العبادة الوثنية، كما أن كثيراً من الوظائف الإدارية كان مرتبطاً بهذه العبادة، وبالتالي فإن التهود كان يعني ضعف الولاء وأزمة الشرعية، كما كان يهدد ثبات موارد الهياكل المقدَّسة من هبات وقرابين. ويبدو أن رجال المال الرومان كانوا أيضاً وراء طرد اليهود، حيث كانوا يمارسون الربا بالتحايل على القانون ويودون التخلص من المرابين اليهود الذين يشكلون منافساً قوياً لهم.
أما طرد اليهود من القدس، فلم يكن جزءاً من سياسة روما الداخلية وإنما جاء في إطار سياستها الإمبراطورية وكمحاولة لتهدئة المنطقة. وكان طرد اليهود من المدينة المنورة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يعود إلى أسباب خاصة بحركيات الدين الجديد ومحاولة الدولة الإسلامية الجديدة تأمين مركزها وقلبها بضمان عدم وجود أقليات لا تدين لها بالولاء. وحينما قام شميلنكي بالهجوم على الجماعات اليهودية، فإنه كان يفعل ذلك في إطار حركة تحرُّر وطني وثورة فلاحية ضد المستغلين البولنديين الذين تَصادَف وجود اليهود كوكلاء لهم. وحينما كتب شميلنكي إلى كرومويل، في محاولة لتوحيد القوى الأرثوذكسية والبروتستانتية ضد الكاثوليكية، فإنه لم يذكر اليهود من قريب أو بعيد.
وإن أردنا أن نجد نمطاً متكرراً في ظاهرة طرد اليهود، فإننا لن نجده على صعيد العالم وإنما داخل التشكيل الحضاري الغربي، وبخاصة في العصر الوسيط.وسنجد أن السبب وراء طرد اليهود لم يكن كُرههم وإنما كونهم جماعة وظيفية وسيطة تشكل عنصراً استيطانياً غريباً، يُوطَّن (أي يُستورَد) ويُصدَّر ولا يضرب بجذوره في أي مكان،تماماً مثل الجنود المرتزقة.والجماعة الوظيفية الوسيطة تلعب دورها،ثم يستغنى عنها المجتمع فينبذها،فتنتقل إلى مجتمع آخر،وهكذا. وعادةً ما تستغني المجتمعات عن الجماعة الوظيفية الوسيطة حينما تظهر هياكل مركزية للإدارة (وهذا ما حدث في حالة إنجلترا عام 1290 وفي فرنسا في أواخر القرن الرابع عشر وفي إسبانيا في أواخر القرن الخامس عشر) أو حينما تظهر طبقات محلية بديلة (وهذا ما حدث في معظم أوربا بالتدريج ابتداءً من القرن الثاني عشر).
والجدير بالملاحظة:
أن المدن في العصور الوسطى كانت صغيرة للغاية وأن عدد أعضاء الجماعات اليهودية في كل مدينة كان صغيراً ولا يُعتد به من الناحية الإحصائية. إذ كان عدد يهود إنجلترا لا يزيد، حسب إحدى الروايات، على أربعة آلاف. وكانت أية جماعة يهودية لا تزيد على ألفين، وكانت الجماعة اليهودية تُعدُّ كبيرة إن زاد عدد أعضائها على بضع مئات. ومن هنا، فإن الحديث عن الطرد هو حديث عن طرد بضع مئات من التجار الغرباء. وكان الاستثناء الوحيد من القاعدة هو طرد اليهود من شبه الجزيرة الأيبيرية، حيث بلغ عددهم مائة وخمسين أو مائة وعشرين ألفاً، وقد طُردوا مع مئات الألوف (ويُقال أكثر من مليونين) من المسـلمين الذين رفضـوا التنصر وفاقت أعدادهم أعداد اليهود. ويُلاحَظ أن اليهود كانوا، في كثير من الأحيان، يُطردون أو يفرون لبضعة أشهر ثم يعودون إلى مواقعهم مرة أخرى. ولابد من الإشارة إلى أن اليهود لم يكونوا الجماعة الوحيدة التي يتم طردها، فقد كان يتم طرد مختلف أعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة الأخرى، مثل اللومبارد والكوهارسين. وأحياناً، كان يتم طرد إحدى الجماعات لتحل محلها جماعة أخرى تقدم شروطاً ائتمانية أفضل، فهذه الجماعات لم يكن يُنظَر إلى أعضائها باعتبارهم بشراً وإنما كان يُنظَر إليهم كأدوات إنتاج يمكن أن تحل الواحدة محل الأخرى.
وقد عمَّقت عمليات الطرد عدم تجذر اليهود في الحضارة الغربية وزادت هامشيتهم، وهي التي حددت إدراك العالم الغربي لهم. وتبدَّى هذا الإدراك في صورة «اليهودي التائه». ومن هنا، فإن الحل الصهيوني للمسألة اليهودية (الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة) يَصدُر عن قبول فكرة طرد اليهود من أوربا وحتميتها. ويُعَدُّ وعد بلفور النقطة التي اتفقت فيها أوربا مع قيادات الجماعة اليهودية على أن يتم نقل اليهود من العالم الغربي إلى فلسطين (أي طردهم بطريقة سلمية مؤسسية) باعتبارهم عنصراً نافعاً يمكنه الاضطلاع بوظيفة قتالية دفاعاً عن المصالح الإمبريالية الغربية داخل إطار الدولة الوظيفية. كما أن الإبادة على يد النازيين، هي الأخرى، شكل من أشكال الطرد (من العالم الغربي إلى العالم الآخر) أخذ شكل التصفية الجسدية، وذلك بسبب عدم وجود مستعمرات ألمانية يُطرَدون إليها، وبسبب رفض بولندا السماح بدخول قطارات اليهود المطرودين إليها.
ويتضح قبول الطرد، كنقطة انطلاق في صهيونية يهود الغرب التوطينية، من واقع أن اللجان (الأليانس وغيرها) كانت تُشكَّل لنقل اليهود إلى أي مكان في العالم ماعدا المكان الذي استوطنوا فيه بالفعل (في بلاد غرب أوربا). وقد أيد يهود الغرب الصهيونية الاستيطانية من منظور توطيني. كما أن المنظمات الصهيونية مازالت تشجع اليهود على الهجرة من روسيا وأوكرانيا بدلاً من الدفاع عن حقوقهم السياسية والمدنية وحقهم في التمتع بحياة كريمة في أوطانهم. ومن ثم، يمكن أيضاً تصنيف ذلك على أنه تقبُّل لحتمية خروج أو طرد اليهود من تلك البلدان، ويمكننا تصنيف الصهيونية على أنها حركة طاردة لليهود من أوطانهم المختلفة بهدف تجميعهم في بلد واحد، ويُطلَق على هذه العملية مصطلح «تجميع المنفيين».
ومما يجدر ذكره أن أعضاء الجماعات اليهودية أنفسهم اشتركوا، أحياناً، في عملية طرد اليهود. وكان ضمن حقوق الجيتوات، في العصور الوسطى، ما يُسمَّى «تحريم الاستيطان» (بالعبرية: حيريم هايشوف)، أي تحريم استيطان أي يهودي غريب على الجيتو فيه. ومن ثم، كانت هذه الجيتوات تطرد اليهود الغرباء منها. كما كانت هناك حالات في القرن الثامن عشر طالب فيها اليهود بطرد جماعات يهودية أخرى. فقد قدم يعقوب رودريجيز في عام 1760 التماساً إلى لويس الخامس عشر لطرد اليهود الألمان (الإشكناز)، وأيده في ذلك الطلب المفكِّر والمموِّل اليهودي السفاردي إسحق دي بنتو. ووافقت الحكومة الفرنسية على الطلب ونُفِّذ الاقتراح في العام التالي. ومن الظواهر التي تُفسَّر على أنها طرد لليهود، نتيجة العداء الكامن تجاههم، خروج اليهود من بلاد تأخذ بالنمط الاشتراكي في التنمية. ولعل أكثر الأمثلة بروزاً في هذا المجال هو كوبا. فبعد استيلاء كاسترو على الحكم، خرجت أعداد هائلة من اليهود حتى أوشكت الجماعة اليهودية على الاختفاء الكامل. وقد حدث الشيء نفسه في البلاد العربية التي نحت منحى اشتراكياً.
وإذا وضعنا هذه الظاهرة في سياقها التاريخي، يمكننا أن نفسر خروج اليهود بالأسباب التالية:
1 ـ يُلاحَظ أن النمط التنموي الاشتراكي يلجأ إلى تأميم قطاعات من الاقتصاد مثل المصارف ومنافذ التسويق حتى يمكنه التحكم في آليات السوق. ومثل هذه القطاعات هي التي يتركز فيها عادة أعضاء الجماعات الوظيفية الوسيطة، ومن بينهم أعضاء الجماعة اليهودية بطبيعة الحال. كما أن الوضع نفسه ينشأ حينما تظهر الطبقات المحلية الوطنية وتشارك في العملية الاقتصادية وتُسيِّرها كما ترغب.
2 ـ ويُلاحَظ أن الهجرة اليهودية في العالم، منذ نهاية القرن الماضي، تتجه من بلاد متخلفة مثل روسيا إلى بلاد متقدمة تتبع الاقتصاد الحر مثل الولايات المتحدة وغيرها من البلاد الاستيطانية (أستراليا وكندا وجنوب أفريقيا). ومن هنا يمكن تفسير خروج يهود كوبا.
3 ـ كما يُلاحَظ أن دول العالم الثالث، التي تخرج عن المسار الغربي، تمارس نوعاً من التضامن فيما بينها، وبالتالي فهي تأخذ موقفاً متعاطفاً من الدول العربية ومن منظمة التحرير الفلسطينية ومن كفاح الشعب الفلسطيني ضد الاستعمار الغربي والصهيوني. وقد نجحت المنظمة من جانبها في أن تقيم علاقات مع الحركات الثورية في الأرجنتين ونيكاراجوا واليابان، وهو ما يخلق خطاباً سياسياً يولد إحسـاسـاً بعـدم الأمن لدى أعضاء الجماعات اليهودية فتهاجر أعداد منهم، وتقع كوبا داخل هذا النمط . ومن المعروف أن نظام كاسترو بذل جهوداً غير عادية للدفاع عن حقوق المواطنين اليهود في كوبا، ولتيسير السبل لهم للتعبير عن هويتهم الدينية، وهذا يبين مدى تهافت فكرة كره اليهود.
وإذا قبلنا المقولة السابقة، فمن الممكن إعادة تفسير خروج اليهود من بعض البلاد العربية، مثل مصر وسوريا والجزائر، لا باعتباره طرداً وإنما باعتباره اتجاهاً ينتمي إلى الظاهرة نفسها، أي ظهور حكـومات قـومية محلية تستولي على الحكم وتعادي الاستعمار. والواقع أن ظهور مثل هذه الحكومات يجىء عادةً تعبيراً عن ظهور قوى محلية تشـارك بشـكل أكثر نشـاطاً في الاقتصاد الوطني، وهو ما نجم عنه تأميم (تمصير وتعريب) بعض القطاعات التي كان يتركز فيها أعضاء الجماعات الوظيفية الوسيطة (اليهود، واليونانيون، والإيطاليون). كما أن كثيراً من الدول العربية دخلت في صراع ضد الاستعمار الغربي وضد الدولة الصهيونية حليفته الأساسية في المنطقة، الأمر الذي خلق توتراً شديداً بين الأغلبية وأعضاء الجماعة اليهودية الذين تدَّعي الدولة الصهيونية تمثيلهم. وفي بعض الأحيان، كان أعضاء الجماعة اليهودية يتعاونون مع الدولة الصهيونية ـ كما حدث في حادثة لافون ـ كما أن الأغلبية العظمى من يهود العالم العربي، جاءوا إما من العالم الغربي (أساساً) مع الموجة الاستعمارية أو حصلوا على جوازات غربية للاستفادة من قوانين الامتيازات، ليلعبوا دور الجماعة الوسيطة بين الاستعمار والسكان المحليين. ومع تراجُع الاستعمار، كان لابد لهذه الجماعات (مثل اليونانيين والإيطاليين) أن يخرجوا معه. كما أن الدولة الصهيونية، بالقياس إلى كثير من دول العالم، تتمتع باقتصاد متقدم توجد فيه فرص كثيرة للنشاطات الاقتصادية المرتبطة بالاقتصاد الحر، وبالتالي فهي تمثل نقطة جذب بالنسبة إلى يهود العالم العربي، تماماً كما تمثل الولايات المتحدة نقطة جذب بالنسبة إلى اليهود الروس (ولذا، فهم لا يهاجرون إلى إسرائيل التي لا يمكنها أن تحقق لهم حراكاً اجتماعياً مماثلاً). والواقع أن خروج اليهود من البلاد العربية هو جزء من حركية مركبة ولا يمكن أن يُسمَّى «طرداً» ببساطة وآلية.
أما يهود العراق، فإن الأوضاع نفسها السابقة تنطبق عليهم، إلى جانب قيام العملاء الصهاينة بارتكاب أعمال تخريبية لإجبارهم على الهجرة . وقد نجحت المنظمة الصهيونية، بسعيها الحثيث، في تهجير يهود اليمن. ولا يمكن أن نعتبر كل هذه العمليات عمليات طرد!
تدنيس خبز القربان المقدَّس
Desecration of the Host
«تدنيس خبز القربان المقدَّس» عبارة تعني اتهام اليهود بأنهم لم يندموا على قيامهم بصلب المسيح (عيسى بن مريم) بل ويدنسون خبز القربان (الذي يتحول إلى جسد المسيح في القداس المسيحي) فيدوسونه بأقدامهم ثم يضربونه بوخزه وطعنه حتى يجددوا عذاب المسيح. كما تعني اتهام اليهود بالحصول على هذا الخبز عن طريق سرقته. وقد شاع هذا الاتهام في أوائل القرن الثالث عشر بعد أن اعترف المجمع اللاتراني الرابع عام 1215 بمبدأ تحوُّل خبز القربان وخمره إلى جسد المسيح ودمه. والاتهام مضحك وسخيف، فهو يفترض أن اليهود يؤمنون بمبدأ تحوُّل خبز القربان، وهو أمر بطبيعة الحال مستحيل. ولكن من منظور عنصري، لا يُعَدُّ عدم الاتساق أمراً مهماً، بل إن عدم الاتساق ذاته قد يُوظَّف لتأكيد صورة اليهودي لا من حيث هو منكر للمسيح وإنما من حيث هو شخص يؤمن فعلاً بالمسيح بل ويرى بنفسه ألوهيته ولكنه، مع هذا، ينكره ويتمادى في تعذيبه بعد أن قام بصلبه.
وتهمة تدنيس خبز القربان، مثل تهمة الدم والتهم الأخرى التي تعبِّر عن معاداة اليهود، هي نتاج الوجدان الشعبي في لحظات إحباطه وحيرته. فالجماهير البائسة لم تكن تفهم مصدر بؤسها، فكانت تفسره على أساس أنه من صنع اليهود الأشرار أعداء المسيح، خصوصاً وأن هؤلاء الأشرار كانوا أيضاً يشتغلون بالتجارة والربا، كما كانوا قريبين من النخبة الحاكمة التي تستخدمها كأدوات لها.
تهمـة الــدم
Blood Libel
«تهمة الدم» هي اتهام اليهود بأنهم يقتلون صبياً مسيحياً في عيد الفصح سخرية واستهزاء من صلب المسيح. ونظراً لأن عيدي الفصح المسيحي واليهودي قريبان، فقد تطورت التهمة وأصبح الاعتقاد أن اليهود يستعملون دماء ضحيتهم في شعائرهم الدينية وفي أعيادهم، وبخاصة في عيد الفصح اليهودي، حيث أُشيع أن خبز الفطير غير المخمر (ماتزوت) الذي يُؤكل فيه يُعجَن بهـذه الدمـاء. وقد تطـورت الإشاعة، فكان يُقال إن اليهود يُصَفّون دم ضحاياهم لأسباب طبية أو لاستخدامه في علاج الجروح الناجمة عن عملية الختان، بل و لاستخدامه كمنشط جنسي.
وتمتد جذور تهمة الدم إلى عصر اليونان والرومان، أي إلى ما قبل العصور المسيحية، فقد أتى في كتابات كلٍّ من الكاتبين اليونانيين آبيون (السكندري) وديموقريطس إشارة إلى أن اليهود يقدمون ضحايا بشرية إلى آلهتهم. ولكن هذا الادعاء لم يصبح جزءاً من الصورة الإدراكية العامة في الوجدان الغربي لليهود، ولم تُوجَّه هذه التهمة إليهم بشكل متكرر إلا في العصور الوسطى.
وقد وُجِّهت أول تهمة دم لأعضاء الجماعات اليهودية في إنجلترا في القرن الثاني عشر، في وقت كانوا يمارسون فيه نشاطهم التجاري والمالي والربوي، وهو ما كان يعني أن هناك أفراداً كثيرين اقترضوا أمولاً من المرابي اليهودي ولم ينجحوا في تسديدها وأن ملكية بعض أراضيهم أو ربما منازلهم قد آلت إليه. ففي عام 1144، اتُهم أعضاء الجماعة اليهودية في نورويتش بأنهم ذبحوا طفلاً يُدعَى ويليام عمره أربعة أعوام ونصف في الجمعة الحزينة (وقد نُصِّب قديساً فيما بعد). كما ذكر أحد اليهود المتنصرين أن من المعتاد أن تقوم إحدى الجماعات اليهودية في إحدى مدن أوربا بذبح طفل مسيحي في يوم عيد الفصح المسيحي (إيستر) الذي يقع عادةً في التاريخ نفسه الذي يقع فيه عيد الفصح اليهودي (بيساح). ثم وُجِّهت تهم دم أخرى في مناطق مختلفة من إنجلترا بين عامي 1168 و1192. أما في فرنسا، فقد وُجِّهت التهمة إلى الجماعة اليهودية في بلوا عام 1171. كما وُجِّهت خمس عشرة مرة في القرن الثالث عشر، ومن بينها حالة هيو من بلدة لنكولن عام 1255 والتي يذكرها تشوسر في حكايات كانتربري. وقد استمر توجيه التهمة حتى منتصف القرن العشرين، ومن أشهرها حادثة دمشق عام 1840، وقضية بيليس عام 1911. وتُعَدُّ حادثة دمشق التي حدثت في العالم الإسلامي استثناءً، إذ أن الظاهرة تكاد تكون مقصورة على العالم المسيحي.
وكانت تهمة الدم تأخذ الشكل التالي: يختفي شخص مسيحي (في العادة طفل)، أو يوجد مقتولاً، فيتذكر أحد الأشخاص أن هذا الطفل أو الشخص شُوهد آخر مرة بجوار الحي اليهودي، أو أن هناك عيداً يهودياً (عادةً عيد الفصح) تتطلب شعائره دم نصراني، ومن ثم، كانت تُوجَّه لأعضاء الجماعة اليهودية تهمة قتله ويُقبَض على بعضهم، ويتم تعذيبهم ثم يُشنَق عدد منهم أحياناً.
ويُشير الصهاينة إلى تهمة الدم باعتبارها أكبر دليل على أن عالم الأغيـار يرفض اليهود ويفتك بهم، وبالتالي لابد أن يكون لهم وطن قومي. ولكننا لو وضعنا هذه الوقائع في سياقها التاريخي، فإنها ستكتسب دلالة جديدة وسيمكننا فهمها بشكل أعمق.
لقد ظهرت تهمة الدم بعد تحوُّل اليهود في العالم الغربي إلى جماعة وظيفية وسيطة تشتغل بالتجارة والربا. وكانوا يُشبَّهون آنذاك بالإسفنجة التي تمتص نقود الطبقات كافة، والطبقات الشعبية على وجه الخصوص، ثم يقوم الإمبراطور أو الأمير أو الحاكم باعتصارهم لحسابه بعد ذلك (وهو الأمر الذي لم تكن تدركه هذه الطبقات الشعبية بطبيعة الحال). ومن هنا، كانت الإشارة إلى اليهود (كجماعة وظيفية وسيطة لا كيهود) على أنهم مصاصو دماء، ولم يكن من الصعب على الوجـدان الشـعبي أن يسـقط في الحرفية ويحـوِّل المجاز إلى حقيقة واقعـة.
وكان توجيه تهمة الدم يعني، في واقع الأمر، شنق بعض اليهود من بينهم عدد كبير من المرابين، حيث كان الربا من أهم الوظائف التي اضطلع بها اليهود في التشكيل الحضاري الغربي. وكان هذا يعني، في كثير من الأحيان، إسقاط الديون، أي أن توجيه تهمة الدم يشبه، من بعض الوجوه، التخطيط لسرقة بنك من البنوك على يد عصابة شعبية، وكان شنق اليهود بمثابة النجاح في هذه العملية، وهي عملية تشبه أيضاً عمليات روبين هود الذي كان يسرق من الأثرياء ليعطي الفقراء، وهو ما جعل جرائمه تحظى بشعبية كبيرة، بل وكانت الجماهير تحيطه بحمايتها.
وكانت الخزانة الملكية ذاتها تستفيد أحياناً من تهمة الدم حيث ترث ديون المرابي الذي يُشنَق أو يُطرَد، كما أن النخبة الحاكمة كانت تنتهز مثل هذه الفرصة لتعرض على اليهود تجديد المواثيق الممنوحة لهم والتي تتضمن حمايتهم وتكفل لهم المزايا نظير مبالغ جديدة يدفعونها.
ويبدو أن تهمة الدم صورة نمطية تتكرر في الوجدان الشعبي حينما يدرك «الآخر»، وهي عادةً اتهام يستخدمه فريق ضد أعدائه ليسقط عنهم إنسانيتهم. فقد اتُهم الغجر بأنهم يخطفون الأطفال ويمصون دمهم. كما وجَّه اليهود التهمة نفسها إلى المسيحيين الأوائل (حسبما جاء في كتابات أوريجين). وجاء في أحد كتب المدراش أن فرعون مصر حاول أن يحصل على الشفاء من البرص بذبح مائة وخمسين طفلاً يهودياً كل صباح وكل ظهر ليستحم في دمهم. كما أن بعض كتب الهاجاداه محلاة بصور لتهمة الدم الموجهة إلى فرعون مصر. وقد وُجِّهت التهمة كذلك إلى الغنوصيين من قبَل المسيحيين، وإلى إحدى الفرق الدينية الإيطالية عام 1466 من قبل الجماهير. واتُهِم المبشرون المسيحيون في الصين عام 1870 بأنهم يسرقون الأطفال الصينيين ليصنعوا من دمهم دواء سحرياً. واتُهم الأجانب في مدغشقر عام 1891 بابتلاع قلوب بعض السكان المحليين. أما الرهبان الدومينكان، فقد اتهمهم خصومهم من الرهبان الفرنسيسكان باستخدام دم وحواجب طفل يهودي في بعض شعائرهم السرية! ومعنى هذا كله أن تهمة الدم لم تكن مقصورة على اليهود. وإذا كان مرابون آخرون، مثل اللومبارد والكوهارسين (وهم مسيحيون)، لم تُوجَّه إليهم (بحسب علمنا) تهمة الدم، فقد وُجِّهت إليهم تهم أخرى لا تقل عنها سوءاً، كما أنهم كانوا أيضاً عرضة للطرد والمصادرة والشنق.
وساعد تكرار تصوير الدم والقتل في العهد القديم على إلصاق التهمة باليهود دون المرابين المسيحيين. كما أن شعائر اليهود الدينية، وخصوصاً شعائر عيد الفصح، كانت تثير الريبة في نفوس أعضاء الأغلبية، الأمر الذي كان يجعلهم يبحثون عن تفسير لها. هذا، مع العلم بأن قوانين الطعام اليهودية تمنع شرب الدم كما تمنع أكل اللحم قبل تصفية الدم منه. ويبدو أن ممارسة الختان والذبح الشرعي غذيا هذه الأوهام، حتى سُمِّي اليهود «أهل السكين».
ولم يكن اليهود يقفون في مجابهة مع كل الأغيار كما يدَّعي الصهاينة، فقد كانت النخبة الحاكمة (الكنيسة والإمبراطور والملوك) تدافع عن أعضاء الجماعة ضد هذه التهم التي كان يوجهها إليهم عامة الشعب. فبيَّن البابا إنوسنت الرابع، في مرسوم صدر عام 1245، أن التهمة باطلة وحرم على المسيحيين توجيهها إلى اليهود. ودافع البابا جريجوري العاشر، في مرسوم صدر عام 1274، عن اليهود، كما فعل بابوات آخرون الشيء نفسه. وفي عام 1758، أصدر الكاردينال لورنز جانجانلي (البابا كليمنت الرابع عشر فيما بعد) مذكرة يدين فيها تهمة الدم. وقد أصدر التحريم نفسه الإمبراطور الألماني فريدريك الثاني (1194 ـ 1250)، وإمبراطور النمسا رودولف من أسرة الهابسبرج عام 1275. وحاول الكثير من المسيحيين والعلماء تفنيد التهمة وإقناع الناس ببطلانها، ولكنهم فشلوا في مسعاهم واستمرت تهمة الدم مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بصورة اليهودي حتى عهد قريب.
أما في حادثة دمشق، فقد كانت تهمة الدم مرتبطة بالصراع بين الاستعمارين الإنجليزي والفرنسي اللذين كانا يتنافسان على مد نفوذهما عن طريق حماية أعضاء الأقليات الدينية. فكان الفرنسيون يحمون الكاثوليك والمارونيين الذين وجهوا تهمة الدم. أما الإنجليز، فإنهم نظراً لعدم وجود مسيحيين بروتستانت بأعداد كبيرة في العالم العربي كانوا يقومون بحماية اليهود! خصوصاً وأن روسيا، وهي بلدهم الأصلي، لم تكن مهتمة بهم كثيراً بسبب وجود المسيحيين الأرثوذكس، كما أن روسيا لم يكن لها أطماع في الشرق الأوسط إذ أن مشروعها الاستعماري كان موجَّهاً إلى مناطق أخرى. وقد أصدر السلطان العثماني فرماناً جرَّم فيه تهمة الدم.
يتبع إن شاء الله...