اسم الله: " الحق "
بِســـــمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
مع الاسم الخامس والعشرين من أسماء الله الحسنى والاسم هو اسم " الحق "، وهذه الكلمة متُداولة بكثرة كثيرة، والله سبحانه وتعالى هو الحق، وكلامه هو الحق، ووعده هو الحق، ووعيده الحق، وأفعاله حق، وكلمة حق قبل أن نمضي في الحديث عنها لابد من ضرب الأمثلة:
معك جهاز كهربائي، وبحاجة إلى طاقة كهربائية، توجهت إلى مأخذ كهربائي ووضعت فيه الشريط، فالآلة لم تتحرك، فهذا المأخذ ليس فيه كهرباء، فتوجهت إلى مأخذ آخر ووضعت فيه الشريط فدارت الآلة، أول مأخذ باطل، الثاني حق.. فما معنى الحق إذاً؟.
الشيء الموجود موجود، الحقيقة أن الله هو الحق، وإذا توجهت إلى غيره فلن تجد شيئاً بل سراباً في سراب، وعودٌ كاذبة، وأقوال فارغة، وكلمات طنانة، لكنها هراء وهواء، وإذا توجهت إلى الله عز وجل وجدت كل شيء، فأول معنى من معاني الحق الشيء الموجود، وأول معنى من معاني الباطل الشيء المعدوم، والإنسان إذا وعدك وعداً ونفّذَ وعده فوعده حق، فإن لم يُنفذ فوعده باطل، وإذا توهمت أن الجِنّ بإمكانهم أن يفعلوا كذا وكذا فهذا مجرد وهم، وفي الحقيقة أن الله سبحانه وتعالى ما أعطى الجن قوةً أبداً، فاعتقادك أن الجن بإمكانها أن تفعل وأن تؤذي وأن ترفع وأن تخلص فهذا اعتقاد باطل، لأنه لا يُطابق الحقيقة.
وإذا قُلت مثلاً:
فلان بإمكانه أن يفعل شيئاً خارقاً فلعلك مخطيء ، إذ هو في الحقيقة عبد مثلك لا يستطيع أن يفعل شيئاً من ذلك ، فقولُك باطل ، فالشيء الموجود واعتقاد وجودِهِ والاعتراف بوجودِهِ ، هذا هو الحق ، والشيء المعدوم أن يتوهَّم الإنسان أن هذا الشيء موجود وهو ليس بموجوداً فهذا الوهم باطل ، وأن تعتقد أن هذا الشيء موجود وهو غير موجود فهذا اعتقاد باطل ، وإذا قلت إن هذا الشيء موجود وهو غير موجود فهذا قول باطل ، والصواب أن الحق هو الموجود ، والباطل هو المعدوم ، والاعتقاد الحق حينما يوافق اعتقادُك الواقع فهو حق ، وإذا خالف الواقع فهو باطل ، والقول الحق حينما يوافق قولك الموجود فقولك حق ، وحينما يخالف قولك الموجود فالقول باطل.
وأخطر ما في الحياة أن تتجه إلى جهة لا تملك شيئاً ، وأخطر ما فيها أيضاً أن تعتقد اعتقاداً غير صحيح ليس له مرتكز واقعي أبداً ، وأخطر كلام تقوله أن تنطق بشيء لا يرتبط بالواقع، فما الذي ضيّعَ الناس ؟ الباطل ، وقد تعتقد اعتقاداً وبعد سنين طويلة ينكشف للعالم كله أنه اعتقاد باطل، وأن هذا المبدأ غير صحيح، وأن هذا المبدأ ما حقق نفعاً للإنسان، بل زاده شقاءً، فإذا كنت مع الحق فأنت في سعادة كبيرة، لماذا؟ لأنك مع الثابت ومع الموجود، وهذا ملخص الفكرة، أو هذه هي الخطوط العريضة لها.
والشيء الموجود إما أن يكون واجب الوجود أو ممكن الوجود فالخالق واجب الوجود ، فلابد من أن يكون موجوداً ، ولا يُمكن إلا أن يكون موجوداً ، والعقل لا يقبل هذه الدِقّة البالغة في الخلق من دون إلهٍ خالق ، ومن دون إلهٍ مبدع ، ومن دون إلهٍ مُصمم ، أو إلهٍ حكيم ، أو إلهٍ عليم أو إلهٍ قدير ، فالموجود واجب الوجود، أما المُمكن فهو ما كان مُمكن الوجود، فنحن مثلاً مُمكن أن نكون أو لا نكون ، ولا يكون وجودنا حقاً إلا إذا شاء واجب الوجود أن نكون، ولذلك ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
"وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) " (سورة إبراهيم: 22).
وعدُ الشيطان باطل، وأحياناً الشيطان يخوفك، وتخويفه باطل وأحياناً يَعِدُكَ بالفقر ووعده باطل، والقضية ليست قضية فكرة تتعلمها بل القضية قضيةٌ مصيرية، فإن كان لك مبلغ في حلب كبير جداً، ولن تقبضه إلا من الساعة الثانية عشرة حتى الساعة الواحدة من يوم السبت، وهذا المبلغ إذا قبضته يحل كل مشكلاتك، فإن توجهت إلى المحطة، وركبت قطاراً يوصلك إلى حلب، وصلت إلى غايتك، لكنك قد تخطئ وأنت راكب في هذا القطار عشرات الأخطاء ولكن ما دام هذا القطار في طريقه إلى حلب وسوف تصل إلى هذه المدينة قبل الساعة الثانية عشرة، فأنت في الحق.
أما إذا ركبت قطاراً متجهاً إلى درعا في مسار معاكس لمدينة حلب فهذا القطار باطل لأنه لن يوصلك إلى هدفك، إنه قطار ولكن يتجه بك إلى عكس هدفك، وأنا أحاول أن أبدد كل حيرة من أجل توضيح هذا الأمر لأنه دقيق وعميق جداً، وقد يحتاج الإنسان لتوضيح الحقائق إلى ضرب الأمثلة.
الله هو الحق، وهذا الكون لأنَّ الله خلقه هو حق، وكذلك لأنه موجود فهو حق ولكن هذا الشيء ممكن الوجود، فيمكن أن يكون ويمكن ألا يكون، لكن الله سبحانه وتعالى واجب الوجود، وأن تعتقد بوجوده فاعتقادُكَ حق، وأن تُقِرَّ بوجودِهَ فإقرارُكَ حق، وإذا اعتقدتَ بأنَّ زيداً من الناس بإمكانه أن ينفعك فاعتقادُكَ باطل، أو بإمكانه أن يضركَ فاعتقادُكَ باطل، وإذا قلت هذا فقولك باطل، فصار الموجود هو الحق، والاعتقاد بالوجود هو الاعتقاد الحق والإقرار بالوجود هو الإقرار الحق.
وهذه الفكرة النيّرة تقودنا إلى فكرةٍ أخرى، بأنَّ الحق في الكون لا يتعدد، بل أن الحق واحد، لقولِهِ تعالى: "هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)" (سورة يونس: 32).
فإن اعتقدتّ أحدٌ خِلاَف ما في هذا القرآن فهو بالدليل القطعي ضال، وعليه أن يقيل عثرة نفسه، وإذا اعتقد أن الأجل بحسب العناية بالصحة، والعناية بالصحة واجب، فإذا اعتقد أن الأجل متعلّق بذلك فهذا اعتقادٌ باطل، لأن الإنسان لا يموت إلا إذا انتهى أجله.
أخٌ كريم من إخواننا الكرام حدثني قصة:
فقال أنا وُلِدتُ في بيتٍ ولي عمَّان فوالدي له غرفة، وعمي له غرفة، وعمي الآخر له غرفة، وفي الساعة الرابعة من يوم الثلاثاء ولدت في غرفتنا والغرفة الملاصقة لها هي غرفة عمي، وفيها زوجته، وقد أصيبت بمرض عضال خطير، وأستُدعي أربعة أطباء لمعالجتها، ومن غرائب المصادفات أن الأطباء الأربعة اتفقوا على أنها لن تعيش أكثر من ساعة، فأنا ولدت وكبرت وترعرعت ودخلت المدرسة، وتخرجت فيها وعملت مع والدي، وتوفي والدي، وتزوجت، وانتقلت من بيت إلى بيت إلى بيت، واشتريت آخر بيت وهو الذي أسكنه وأقيم فيه، وأصبح عمري خمسة وأربعين عاماً وجاءت زوجة عمي لتزورني قبل أيام، فرغم قول الأربعة أطباء أنها ستموت بعد ساعة، فلقد عاشت بعد ذلك خمسة وأربعين عاماً، إذاً كلام الأطباء باطل.
إن الطبيب له علم يدل بــــــــه
إن كان للناس في الآجال تأخير
حتى إذا ما انتهت أيام رحلتـــه
حار الطبيب وخانته العقاقيـــــر
عزيزي القاريء؛ هل تعرف من البطل؟ البطل هو الذي يأتي اعتقادُهُ مطابقاً للواقع، ويأتي حديثه مطابقاً للواقع، وتأتي حركاته مطابقة لمنهج الله عز وجل، ولنا مثل في آلة غالية الثمن، معقدة التركيب، عظيمة النفع، وأنت حريص حِرصاً لا حدود له على أن تستعملها وَفْقَ تعليمات الشركة، فكيف بك وأنت المخلوق الأول؟.
إذاً: كلمة ( حق ) ذات شأن وخطر وإني لأتمنى على كل أخ أن يراجع نفسه وحقيقة أفكاره عن الدين ليتبين هل هي صحيحة؟ وهل معتقداته صحيحة؟ وهل تصوراته عن الله صحيحة؟ وهل مُعتقده بالنبي عليه الصلاة والسلام صحيح؟ وهل آراؤه في القضايا المعاصِرة صحيحة؟ وما قيمة رأيك أنت؟.
ذكرت ذات مرةً أنه قد جرت حرب أهلية في بلد مجاور ودامت أربعة عشر عاماً، وانتهت والحمد لله هذه الحرب الأهلية ويُمكن وقد مضى عليها زمن، أن تُفسر تفسيراً عربياً فنقول: هذا البلد أصبح ساحة صِراع للقِوى العربية، ويمكن أن تُفسر هذه الأحداث الدامية تفسيراً طائفياً، كما يمكن أن تُفسر تفسيراً دولياً، إنه مركز مالي قوي جداً نافَسَ مراكِزَ أُخرى، ويمكن أن تُفسر تفسيراً قرآنياً، دينياً، إلهياً، قال تعالى: "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)" (سورة النحل: 112).
هذا التفسير الديني، تفسير خالق الكون لما حدث، فأي هذه التفاسير هو الحق؟ إنه التفسير الديني.
إذاً: إذا توجهت إلى تفسيرات أخرى فتكون في باطل، لقد حصل زلزال، فهُدمت مدينة بأكملها، هناك تفسير ساذج إذا يقال: إنه تصدع بالقشرة الأرضية أو التواءات داخلية، فهذا تفسير علمي، ولكن هذا التفسير لا يتناقض مع التفسير الديني، قال تعالى: "وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)" (سورة هود: 117).
فلن تكون بطلاً إلا إذا استطعت أن تتعرّف إلى الحق، وأن يكون اعتقادك حقاً، وأن يكون كلامُك حقاً، وأن تكون حركتُكَ حقاً.
وإذا كنت تعاني من مشكلات، وأن تفسِّر هذه المعاناة بقلة الحظ، فهذا تفسير باطل، وهناك تفسير آخر أن تقول لي حُسّاد كثيرون رموني بحسدهم، وهذا تفسر باطل أيضاً، لأنَه لا يستطيع أحد أن يَضُرَّ أحداً، إلا إذا كان مستحقاً أو غافلاً، ولكن إذا قلت ما من عثرة، ولا اختلاج عرق، ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم، وما يعفو الله عنه أكثر، فهذا التفسير حق.
وأنت في اليوم الواحد أمام آلاف المقولات الباطلة، فالبطولة أن تتعرف إلى الحق وأن تعتقد الحق، وأن تَنطِق بالحق، ولن تكون على حق إلاّ إذا عرفته، ولن تعتقد به، ولن تَنطِق به إلا إذا عرفته، لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: "أصل الدين معرفة الله".
ومثلاً عن أصحاب الصنعات، فلو فرضنا إنساناً تصرّفَ في صنعته تصرُفاً خاطئاً، فنقول إن هذه الطريقة باطل، ولو أشاد إنسان بناء على الشاقول، فسوف نقول هذا البناء حق لأنه سيستمر، ولو أشاد بناء بلا شاقول فنقول هذا البناء باطل ، لماذا ؟ لأنه سيسقط وينهار.
فما هو الحق إذاً؟؛ هو الشيء الموجود، ولكن يجب أن نضيف إلى ذلك شيئاً فعندما قال ربنا: "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) " (سورة الحجر: 85).
وقال تعالى: "أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)" (سورة الروم: 8).
وقال تعالى: "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) " (سورة ص: 27).
فالباطل: هو الشيء الزائل، والحق: هو الشيء الموجود الثابت، ومن معاني الحق الشيء الموجود الثابت، والآن سنضيف شيئاً، الموجود حق، أمّا الدرجة الأعلى، فواجب الوجود، والدرجة الأعلى كذلك فدائم الوجود، فواجب الوجود ودائم الوجود، وهناك أعلى من ذلك، ولا موجود آخر معه، إنه واحد في وجوده، ثم انتهينا إلى درجة أعلى: كامل في وجوده، فهو واجب ودائم وواحد وكامل، هذه حقائق ثابتة عن الله عز وجل، الله موجود، بل هو واجب الوجود، بل هو أبدي الوجود، لا شيء بعده، وهو واحد في وجوده، وكامل في وجوده، فإذا عرفته بهذه الصفات فقد عرفت كل شيء، وإن فاتتك هذه المعرفة فاتك كل شيء، ووالله ما حصَّلتَ شيئاً، ولو ملكت أموال الدنيا، أو ارتقيت إلى أعلى مكانة في الحياة، ولو حصلت كل الشهوات وما عَرَفَتَ الحق، فلست بشيء، لأنَّ وجودُكَ ليس ذاتياً ، فلو كان وجودُكَ ذاتياً فليس هناك مانع، لكن وجودك مرتبط بواجب الوجود، فإذا شاء واجب الوجود وهو الله أن يُلغي وجودك فعندئذٍ نتهي أمرك كله.
لقد كنا مدعوين إلى عيد مولد في أحد مساجد دمشق، والذي دعاني وقدم لي بطاقة الدعوة، أحد إخواننا الأكارم، فتوجهت إلى مكان الحفل، وفي مدخله رجال عديدون يقفون لاستقبال المدعوين، صافحتهم واحداً واحداً، وسألت الذي دعاني في الطريق، من الذي أشرف على هذا المولد، قال لي: عمي فلان والد زوجتي، قلت له أين عمك؟، قال هو في الداخل فلما دخلت صحن المسجد، رأيت رجلاً مُكتمل الرجولة، يرتدي الثياب الأنيقة مورد الوجه نشيطاً، ولم أكن أعرفه من قبل، فرحّبَ بي ترحيباً حاراً، وأفاض.
فدخلت إلى مكاني في الحفل، وكان أحد الإخوة الأكارم يلقي كلمة، وأثناء إلقاء كلمته، تحرك اثنان من المدعوين، فما فهمت لِمَ تحركا، ثم ألقيت كلمتي التي استغرقت عشرين دقيقة، وبعد أن أنهيت كلمتي، جاء رجل وهمس في أذني أن هذا الذي استقبلك في صحن المسجد قد توفي، وما استمع إلى كلمتك.
لا تعجب فأنت ليس واجب الوجود بلأنت ممكن الوجود، والدليل واجب الوجود أنهى وجوده، بثانية، فقد كان ينتظر أن ألقي كلمة، فما استمع إليها، وبعد أن دخلت وقع ومات، ونحن والله لم نُصدّق، أُنهِيَ الحفل، وذهبنا إلى المستشفى، ودخلنا إلى غرفة العناية المشددة فإذا هو مسجى، قد فاضت روحه إلى بارئِها، فأنت لست واجب الوجود، بل ممكن الوجود، وأنت ليس حقاً، فالله هو الحق ولو كنت حقاً لسرى عليك قوله تعالى: "فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)" (سورة الواقعة: 86 - 87).
نعم، إنني مدين، وكلنا مدينون، وإذا هطلت الأمطار عمت الفرحة وشملت العباد والبلاد، لكن لو أن السماء انحبست، فما مصيرنا، وما وجودنا؟ إذ ستجف الآبار والأنهار، والنباتات تصير إلى الذبول واليبس، والسؤال الذي يطرح نفسه، فهل وجودنا ذاتي؟ لا، نحن وجودنا متعلِّق بمشيئة واجب الوجود، وفي المطر، وفي كل شاردة وواردة، وفي كل صغيرة وكبيرة.
وكم يكون هذا الإنسان غبياً إذا ظنَّ أنه موجود وأنه واجب الوجود وأنه يعمل وأنه يكسب المال، فهذا هو الباطل، وهو اعتقاد باطل، فأنت كُلما تعرفت إلى الله صَغُرَت نفسك في عينك وكَبُرَ في عينك الله سبحانه وتعالى، فمن هو المؤمن إذاً؟ الذي لا يرى إلا الله.
"إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم" (سورة الفتح).
"فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)" (سورة الأنفال: 17).
"وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)" (سورة هود: 123).
"مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)" (سورة هود: 55 - 56).
قد تسأل؛ لماذا يتكلم فلان بما ليس قانعاً به؟.. لأنه لم ير أنَّ الله هو كل شيء، فلعله رأى الله عظيماً، كما رأى فلاناً عظيماً، فهو يرى أن زيداً وعُبيداً وفلاناً بإمكانهم أن يفعلوا ويرفعوا ويخفضوا، وينفعوا ويضروا، وكلما نقص توحيدك ازداد شِركُك، فاعتقادك غير صحيح.
فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
فالقضية أخطر بكثير من أننا استمعنا إلى محاضرة فذة معانيها مقنعة، مؤثرة، هادفة ثم تفرقنا إلى بيوتنا، إن جلل، فالأمر يتعلق بحياة أبدية، فهل أنت على حق وهل اعتقادُك حق، وهل تصوراتك حق، أو أفعالُك حق، ومواقِفُك حق، وهل أعطيت بالحق أم بالباطل؟ وهل منعت بالحق وغضبت بالحق؟ ورضيت بالحق؟.
هناك غضب بالحق ورضى بالحق ، وإعطاء بالحق ، وصِلة به أو قطيعة ، وحينما تعرف الحق أنه واجب الوجود وأنه أبدي الوجود وأنه واحد في وجوده ، وكامل في وجوده ، و لا موجود سِواه ، وإليه المصير ، فعندئذٍ تقطع كل العلائق مع أي كان ، وتتجه إلى الخالق .
فالقضية أخطر بكثير من أن الإنسان حضر مجلس علم ، وأخطر بكثير من أنه صلى ركعتين ودفع ليرتين ، لأن الأمر أمر مصير أبديٍّ، والقضية قضية حق أو باطل، قال تعالى: "فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) " (سورة يونس: 32).
وشيء آخر ثم اعلم أيها القارئ العزيز أنك لو اعتقدت اعتقاداً ليس قطعياً، إذ سألك سائل: هل أنت مؤمن بالجنة؟ فقلت: والله أغلب الظن أن هناك جنة، فهل علمت أن هذا اعتقاد باطل، ولن يغنيك شيئاً وهل أنت مؤمن أنَّ الله عز وجل سيسألك عن كل صغيرة وكبيرة؟ فقلت: لن يُدقق، ولن يحاسبنا إلا على قدر عقولنا.. فهذا اعتقاد باطل أيضاً، وهل أنت مؤمن بقوله تعالى: "أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ مَنْ في النار" (سورة الزمر: 19).
فالله سبحانه يخاطب النبي، أي يا محمد ، أفمن حقت عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار، وقد تقول كما يقول بعضهم: لقد حكى لنا فلان حفظه الله؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يدخل الجنة حتى يُدخل كلَّ عصاة أمته، فنحن إذاً والحمد لله مصيرنا معروف، فهذا اعتقاد باطل وإن هي إلا أماني ، وإن هم إلا يظنون، ولا بد من مراجعة حساباتك، إذ الإنسان أحياناً ومن خلال دروس في المساجد متقطعة، ومن خلال خُطب غير دقيقة، ومن خلال أقوال في جلسات غير صحيحة، فيتسرّب الباطل إلى ذهنه وعند ذلك سوف يتصرف بالباطل، فمثلاً لِمَ تغش يا فلان؟ فيقول: أنا عندي أولاد والنفقات باهظة فماذا أفعل؟ فهذا كلام باطل، إذ غاب عن ذهنه أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وإن لكل حسنةٍ ثواباً ولكل سيئةٍ عِقاباً، فأولى بك وأجدر أن تُنقّح عقيدتك من كل غلط اتهم به الأنبياء: "وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ". (سورة يوسف: 24).
فتبادر إلى القول: هذا نبي ولن يقع في الزنا، وإن هذا اعتقاد باطل، وهو التفسير للآية باطل: " وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا "، همت بجذبه فهَمَّ بدفعها، أو تقرأ: ولقد همت به وقف، ثم تقرأ: وهم بها لولا أن رأى برهان ربه، فهذا هو التفسير الحق، عن الأنبياء، الله عز وجل يلقي نوراً في قلب المؤمن يُريهِ الحق حقاً والباطل باطلاً، أما بعض التفاسير تورد أنه رأى أباه في المحراب فقال له إياك، فهذا لا يستقيم، فنحن نريد التفسير الحق.
"وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)" (سورة السجدة: 13).
فيجب أن تفهم القرآن فهم حق وليس فهم باطل، وأن تفهم كلام النبي فهم حق: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ" (صحيح مسلم).
ماذا يعني بهذا الحديث؟ هل تقترف الذنوب جزافاً؟ ليس هذا هو المعنى... المعنى إذا بلغتم درجة لم تشعروا بذنوبكم فأنتم موتى، لذَهَبَ الله بكم فمن أمضى سهرة بالغيبة ونام مرتاحاً، فالنبي الكريم قال: " الغيبة أشد من الزنا ". ( رواه ابن أبي الدنيا والطبراني والبيهقي مرفوعا).
فإذا ارتكب الإنسان المعاصي ولم يشعر بشيء فهو ميّت، أما المؤمن فيملأ الليل بالعمل الصالح، فيجب عليك أن تكون عقيدتك صحيحة، عن الله عز وجل، والله قال: "يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية" (سورة آل عمران من الآية: 154).
وهناك خلق كثير أكثر أفكارهم عن الله ورسوله مغلوطة، وأكثر تصوراتهم و معتقداتهم خاطئة، فمثلاً يقولون: إن رسول الله كان ماشياً في الطريق فطرق باب زيد، ففُتِحَ الباب، وبدت زوجته زينب من دون ثياب وقد وصل شعرها إلى أسفل ظهرها فأُعجب بها النبي وقال سبحان الله، سبحان مُقلّب القلوب! مَنْ قال لك إن هذه القصة صحيحة؟ مَنْ قال هذا؟ فهل نبي عظيم يفعل هذا؟ فأنت إن كنت مؤمناً فلن تفعله، لذلك فهذه الخرافة باطلة، مدسوسة دساً على الإسلام ونبيه.
"ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين" (سورة الحجر: 24)، ويزعم أحدهم أن امرأة حسناء صلّت بين الصحابة، وهل يعقل أن تصلي امرأة بينهم؟ وهي وضيئة وحسناء، وبعضهم صلى خلفها ليرى محاسنها في أثناء الركوع والسجود وبعضهم صلى أمامها، فنزل قوله تعالى: " وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ "، إنه تفسير باطل، وقول سوء والصحابة أعظم من ذلك، وهؤلاء أصحاب رسول الله، فأنت ينبغي أن تعرف الحق، وأن تعرف ما يليق بالحق، وأن تعرف أسماء الله الحُسنى وصفاته الفُضلى، ويجب أن تعرف ما يليق بالأنبياء.
يتبع إن شاء الله...