منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

soon after IZHAR UL-HAQ (Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.


 

 الباب السادس: مصطلحات جديدة لبلورة النموذج الكامن

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49013
العمر : 72

الباب السادس: مصطلحات جديدة لبلورة النموذج الكامن Empty
مُساهمةموضوع: الباب السادس: مصطلحات جديدة لبلورة النموذج الكامن   الباب السادس: مصطلحات جديدة لبلورة النموذج الكامن Emptyالسبت 02 نوفمبر 2013, 11:16 pm

الباب السادس: مصطلحات جديدة لبلورة النموذج الكامن

العلمنة البنيوية الكامنة

»العلمنة البنيوية الكامنة» مصطلح قمنا بسكه لوصف أهم أشكال العلمنة وأكثرها ظهوراً وشيوعاً. وقد يكون من المفيد أن نبدأ بأن نُذكِّر أنفسنا بحقيقة بديهية وهي أن كل الأشياء المحيطة بنا، المهم منها والتافه، تُجسِّد نموذجاً حضارياً متكاملاً يحوي داخله إجابة عن الأسئلة الكلية النهائية. فإن كانت هذه الأشياء تُجسِّد الرؤية العلمانية الشاملة، فإنها ستقوم بإعادة صياغة وجدان وأحلام ورغبات الناس (حياتهم الخاصة) وتعلمنهم بشكل شامل، دون أن يشعروا بذلك، من خلال عمليات في غاية التركيب والكمون.

وفي دراستنا للعلمانية عادةً ما نركز على التعريفات والمصطلحات المعجمية وعلى المخططات الثقافية والممارسات الواضحة وننسى أن العلمنة تتم من خلال منتجات حضارية يومية وأفكار شائعة وتحولات اجتماعية تبدو كلها بريئة أو لا علاقة لها بالعلمانية أو الإيمانية، ولكنها، في واقع الأمر، تخلق جواً خصباً مواتياً لانتشار الرؤية العلمانية الشاملة للكون، وتصوغ سلوك من يتبناها وتوجِّهه وجهة علمانية ولذا فهي «علمنة بنيوية وكامنة». 

وقد وصفناها بأنها «بنيوية» لأن سمات المنتج الحضاري أو الأفكار أو التحولات التي تقوم بعملية العلمنة هي جزء عضوي من بنية هذا المنتج وهذه الأفكار وهذه التحولات لا تضاف إليه، ولا يمكن استخدام هذا المنتج أو تبنِّي هذه الأفكار أو خوض هذه التحـولات دون أن يجـد الإنسـان نفسـه متوجـهاً توجُّهاً علمانياً شـاملاً. والصفات البنيوية عادة ما تكون كامنة، غير ظاهرة أو واضحة، وهي من الكمون والتخفي لدرجة أن معظم من يتداولون المنتجات الحضارية ويستبطنون الأفكار البريئة ويعيشون في ظلال التحولات الانقلابية التي تؤدي إلى توليد الرؤية العلمانية غير مدركين لأثرها. 

بل إن كثيرين ممن يساهمون في صنع هذه المنتجات وصياغة هذه الأفكار وإحداث هذه الانقلابات قد يفعلون ذلك وهم غير مدركين لتضميناتها الفلسفية ودورها القوي في صياغة الإدراك والسلوك. ولذا يمكن أن يكون هناك مجتمع يتبنى بشكل واضح ظاهر أيديولوجية دينية، أو رؤية علمانية جزئية، ولكن عمليات العلمنة الشاملة البنيوية الكامنة من القوة بحيث إنها توجِّه المجتمع وجهة مغايرة تماماً لا يشعر بها أعضاء المجتمع أنفسهم.

ولنحاول أن نضرب بعض الأمثلة:
1 ـ التحولات الاجتماعية:

من المعروف أن الاتحاد السوفيتي كان دولة تؤمن بعقيدة علمانية شاملة محددة واضحة ذات طابع إلحادي مادي هجومي. ويرى البعض أن هذه الدعاية الإلحادية في الاتحاد السوفيتي هي التي تسببت في هيمنة العلمانية الشاملة. ولكن الدراسة المتعمقة تُبيِّن أن عمليات العلمنة تمت أساساً في واقع الأمر من خلال عمليات التصنيع والتمدن «إربانيزيشن urbanization»، أي «انتشار نمط الحياة في المدن»، مثل تركيز البشر في رقعة محدودة، وظهور أشكال جديدة من التضامن غير الأشكال القبلية أو القروية أو الأسرية، وتَسارُع إيقاع الحياة، وانتشار المصنع (والسوق) كوحدات أساسية ومركزية.

وهكذا فقد خلقت هذه التطورات البنيوية استعداداً ذهنياً ونفسياً لدى المواطن السوفيتي للتعامل مع الواقع بشكل هندسي كمي، وخلقت التربة الخصبة التي ينمو فيها الإيمان بأن الواقع إن هو إلا مادة نسبية تُوظَّف لتعظيم اللذة وزيادة المنفعة المادية، وبأن القيم الأخلاقية نسبية، وبأن البقاء للأصلح، أي أن بنية المجتمع نفسها تُولِّد رؤية معرفية أخلاقية علمانية بغض النظر عن نطاق الدعاية الإلحادية الصريحة. وقد تمت علمنة المجتمع السوفيتي من خلال هذه العمليات التي تبدو بريئة تماماً.

ويمكننا الآن أن نقارن بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. فلو كانت الدعاية الإلحادية وإشاعة الأفكار العلمانية الواضحة هي سبب علمنة الاتحاد السوفيتي لكانت معدلات العلمنة في الاتحاد السوفيتي تفوق المعدلات السائدة في الولايات المتحدة كثيراً. فالولايات المتحدة تسمح بحرية العقيدة وبالتبشير وبالدعاية الدينية، وعدد الكنائس في الولايات المتحدة كبير جداً. وحتى عهد قريب كان من المستحيل على أحد أعضاء النخبة الحاكمة أن يُجاهر بإلحاده ويحتفظ بمنصبه، ولا يزال هذا الوضع قائماً في كثير من الولايات، ولا يزال كثير من الساسة يحرصون على حضور الصلوات يوم الأحد، بل إن الدولار الأمريكي متوج بعبارة "نحن نثق بالإله". رغم كل هذا سنكتشف أن الولايات المتحدة هي أكثر البلاد علمنة بلا منازع. وهذا يعود إلى مركب من الأسباب من أهمها التغيرات البنيوية الضخمة (التي ليس لها نظير في أي مجتمع) التي أدَّت إلى تزايد التصنيع والتمدن وتَسارُع إيقاع الحياة بمعدلات تفوق المعدلات السائدة في الاتحاد السوفيتي.

ويمكن القول بأن ظهور الدولة المركزية من أهم أشكال العلمنة البنيوية الكامنة. فالدولة المركزية، نظراً لطبيعتها وبنيتها، لا يمكنها أن تتعامل مع الجماعات الصغيرة أو الوحدات الاجتماعية التي تتمتع بقدر من الخصوصية، فالتعامل مع الوحدات الكبيرة أمر أيسر بكثير بالنسبة لها، ولذا فهي تميل نحو التنميط والترشيد في إطار النماذج الكمية والمادية. وهذا إما أن يؤدي إلى علمنة المجتمع أو إلى خلق تربة خصبة لتقبل العلمانية. وكثيرون ممن تبنوا نمط الدولة المركزية القومية لم يكونوا مدركين لهذه الخاصية البنيوية اللصيقة بها.

2 ـ الأفكار التي تبدو محايدة بريئة:

كثير من الأفكار التي تبدو محايدة بريئة تماماً، لا علاقة لها بأية أيديولوجيـة، تضمر في واقع الأمر الرؤية العلمانية الشاملة. ففكرة الإنسان الطبيعي والقول بوحدة (أي واحدية) العلوم وتبني النماذج الموضوعية المادية في تفسير ظاهرة الإنسان وفكرة نهاية التاريخ والمنظومات الحلولية وخطاب التمركز حول الأنثى (انظر: «الإنسان الطبيعي(المادي) » ـ «وحدة العلوم» ـ «هيمنة النماذج البيروقراطية والكمية» ـ «نهاية التاريخ») هي في تصوُّري الأساس الصلب للرؤية العلمانية الشاملة، ومع هذا فإن كثيرين ممن قاموا بالترويج لهذه الأفكار ولغيرها لم يدركوا النماذج الكامنة وراءها.

3 ـ المنتجات الحضارية اليومية:

تُعَد المنتجات الحضارية المألوفة البريئة من أهم آليات العلمنة الشاملة البنيوية الكامنة. ولنضرب مثلاً بالتِّيشيرت T-Shirt الذي يرتديه أي طفل أو رجل وقد كتب عليه مثلاً «اشـرب كوكا كولا». إن الرداء الذي كان يُوظَّف في الماضـي لسـتر عورة الإنسـان ولوقايته من الحر والبرد، وربما للتعبير عن الهوية، قد وُظِّف في حالة التِّيشيرت بحيث أصبح الإنسان مساحة لا خصوصية لها غير متجاوزة لعالم الحواس والطبيعة/المادة، ثم تُوظف هذه المساحة في خدمة شركة الكوكاكولا (على سبيل المثال) وهي عملية توظيف تُفقد المرء هويته وتحيّده بحيث يصبح منتجاً بائعاً (الصدر كمساحة) ومستهلكاً للكوكاكولا (هذا مع العلم بأن الكوكاكولا ليست محرمة)، أي أن التِّيشيرت أصبح آلية كامنة من آليات العلمنة، ومع هذا لا يمكن القول بأن الكثيرين يدركون ذلك.

وقُل الشيء نفسه عن المنزل، فهو ليس بأمر محايد أو برئ، كما قد يتراءى للمرء لأول وهلة، فهو عادةً ما يُجسِّد رؤية للكون تؤثر في سلوك من يعيش فيه، شاء أم أبى. لذا حينما يصبح المنزل عملياً وظيفياً، يهدف إلى تحقيق الكفاءة في الحركة والأداء ولا يكترث بالخصوصية والأسرار، فإنه مثل التيشيرت يصبح هو الآخر خلواً من الشخصية والعمق. وأثاث هذا المنزل عادةً وظيفي، يلفظ أية خصوصية باسم الوظيفية والبساطة، ولكن البساطة هنا تعني في الواقع غياب الخصوصية. 

ولنتخيل الآن إنساناً يلبس التيشيرت ويسكن في منزل وظيفي بُني ربما على طريقة البريفاب (الكتل الصماء سابقة الإعداد) ويأكل طعاماً وظيفياً (هامبورجر ـ تيك أواي تم طبخه بطريقة نمطية) وينام على سرير وظيفي، أفلن يتحول هذا الإنسان إلى إنسان وظيفي متكيف لا تُوجَد في حياته خصوصية أو أسرار، إنسان قادر على تنفيذ كل ما يصدر إليه من أوامر دون أن يثير أية تساؤلات أخلاقية أو فلسفية؟ قد يقيم هذا الإنسان الوظيفي الصلاة في مواقيتها، ولكن كل ما حوله يخلق له بيئة معادية لإدراك مفهوم القيمة المتجاوزة وجدواها.

والعلمنة الشاملة البنيوية الكامنة هذه، من خلال أبسط الأشياء، لا تتم على مستوى البيئة الاجتماعية والمادية البرانية وإنما تتغلغل لتصل إلى باطن الإنسان، إلى مستوى عالم الأحلام والرغبات، وهنا سيأتي دور الصور المحايدة البريئة. فصديقنا الوظيفي، إن أراد أن يزجي أوقات فراغه، فإنه سيشاهد فيلماً أمريكياً يقوم بعلمنة وجدانه ورغباته، فالموقف الأساسي في معظم هذه الأفلام هو بطل لا يدين بأية مرجعيات أخلاقية، يقع في حب فتاة جميلة هي البطلة (ولعل كلمة «حب» هنا كلمة متخلفة قليلاً، فهو في الواقع "يشتهيها" وحسب وعلى استعداد لأن "يتعايش" معها). 

وتظهر بعض الصعوبات التي يتجاوزها البطل الدارويني، ويفوز بما يشتهي وينغمس في الإشباع الفوري. ولا يختلف هذا عن الكارتون المسمَّى «توم وجيري»، الذي يصوغ وجدان أطفالنا كل صباح، حيث يقوم الفأر اللذيذ الماكر باستخدام كل الحيل (التي لا يمكن الحكم عليها أخلاقياً، فهي لذيذة وذكية وناجحة) للقضاء على خصمه القط الغبي ثقيل الظل. 

ولنلاحظ أن القيم المستخدمة هنا قيم نسبية نفسية وظيفية برجماتية، لا علاقة لها بالخير أو الشر، قيم تشير إلى نفسها وحسب، ولا تُفرِّق بين الظاهر والباطن، كما أن الصراع بين الاثنين لاينتهى، يبدأ ببداية الفيلم ولا ينتهى بنهايته، فالعالم، حسب رؤية هذا الكارتون الكامنة، إن هو إلا غابة داروينية مليئة بالذئاب التى تلبس ثياب القط والفأر: توم وجيرى.

 (أثبتت إحدى الدراسات أن أفلام توم وجيري هي أكبر آلية نقل فكرة حسم المشاكل عن طريق العنف للأطفال).

وأعتقد أن من أهم آليات العلمنة البنيوية الكامنة في العالم هي هوليود، وخصوصاً أفلامها غير الفاضحة، مثل أفلام رعاة البقر المسماة «الويسترن western»وأفلام الحرب، فالرؤية العلمانية الشاملة كامنة فيها، بشكل يصعب على الإنسان اكتشافه. وأفلام الويسترن بالذات تنقل لنا رؤية علمانية إمبريالية عنصرية بشعة متحيزة ضدنا. 

فبطل الفيلم هو الرائد (بالإنجليزية: بايونير pioneer)،الرجل الأبيض الذي يذهب إلى البرية (أرض بلا شعب) ليفتحها ويستقر فيها ولا يحمل سوى مسدسه. وكلنا يعرف المنظر الشهير، حين يقف اثنان من رعاة البقر في لحظة المواجهة التي يفوز فيها من يصل إلى مسدسه "أسرع" من الآخر. 

إن هذا المنظر الذى انطبع فى مخيلتنا منذ نعومة أظافرنا، يعلمنا كل أسس الداروينية الاجتماعية: 

أن الصراع من أجل البقاء هو سنة الحياة وأنه لا يكتب البقاء إلا للأصلح، أى الأقوى أو الأسرع أو الأكثر دهاء ومكرا، وهى مجموعة من الصفات التى لا علاقة لها بأية منظومة قيمية، دينية كانت أم أخلاقية أم إنسانية. وحينما يظهر الهنود الأشرار، هؤلاء «الإرهابيون » أصحاب الأرض الأصليين الذين لا يتركونه وشأنه كى يرعى أبقاره ويبنى مزرعته، أى مستوطنته، على أرضهم وأرض أجدادهم، يحصدهم الكاوبوي برصاصه حصداً "دفاعاً" عن الفتاة البيضاء البريئة وعن حقوقه المطلقه. 

نستمتع بكل هذا دون أن ندرك أن الكاوبوي هو في واقع الأمر الرائد الصهيوني (الحالوتس)، وأنه الإنسان الأبيض الإمبريالي الذي نهب ديارنا وثرواتنا وأذلنا، وأن الهنود هم نحن، العرب والفلسطينيون، وأن البرية، هي، فى واقع الأمر، العالم الثالث بأسره، أرض بلا شعب، أو شعب ينظر له الإنسان الغربي من خلال رؤيته العلمانية الإمبريالية الشاملة باعتباره مادة استعمالية يمكنه أن يحوسلها لصالحه. وهكذا نستوعب الرؤية العلمانية الإمبريالية الشاملة، بلا وعى ولا إدراك من جانبنا، فقد جاءت لنا مغلفة تغليفا أنيقا، جزءًا عضويًا كامنًا فى بنيه فيلم لذيل مسل.

وما قولكم في هذه النجمة السينمائية المغمورة (أو الساطعة) التي تحدثنا عن ذكريات طفولتها وفلسفتها في الحياة وعدد المرات التي تزوجت فيها وخبراتها المتنوعة مع أزواجها، ثم تتناقل الصحف هذه الأخبار وكأنها الحكمة كل الحكمة! أليس هذا أيضاً علمنة للوجدان والأحلام إذ تحوَّلت النجمة إلى مصدر للقيمة وأصبح أسلوب حياتها هو القدوة التي تُحتذى، وأصبحت أقوالها المرجعية النهائية؟ والمسـكينة لا عـلاقة لها بأية مرجعية، ولا أية قيمة ولا أية مطلقية، إذ أن رؤيتها للعالم محصورة بحدود جسدها الذي قد يكون رائعاً، ولكنه ولا شك محدود ونسبي. 

كما أن خبراتها مع أزواجها (رغم أنها قد تكون مثيرة) لا تصلح أساساً لرؤية معرفية أخلاقية (إلا إذا كانت رؤية علمانية عدمية ترى أن كل الأمور نسبية). ومع هذا، تُصر الصحف على أن «فلانة» المغنية لا تختلف في أحكامها وحكمتها عن أحكام وحكمة أحكم الحكماء وأعمق الفلاسفة. 

وإذا أخذنا الحكمة من أفواه نجمات السينما والراقصات وملكات الجاذبية الجنسية، فستكون حكمة لها طابعها الخاص الذي لا يمكن أن يُوصف بالروحانية أو الأخلاقية أو ما شابه من أوصاف تقليدية عتيقة! وقد يكون وصف أقوال هذه النجمة بأنها منافية للأخلاق أو للذوق العام وصفاً دقيقاً، ولكنه مع هذا لا يُبيِّن الدور الذي تلعبه النجمة وأفكارها في إعادة صياغة رؤية الإنسان لنفسه وتَصوُّره لذاته وللكون.

وما يهمنا في كل هذا أن بعض المنتجات الحضارية التي قد تبدو بريئة تماماً تؤثر في وجداننا وتُعيد صيانة رؤيتنا لأنفسنا وللعالم، إذ أن أولئك الذين يشاهد أطفالهم توم وجيري، ويرتدون التِّيشيرت، ويشاهدون الأفلام الأمريكية (إباحية كانت أم غير إباحية)، ويسمعون أخبار وفضائح النجوم ويتلقفونها، ويشاهدون كماً هائلاً من الإعلانات التي تغويهم بمزيد من الاستهلاك، ويهرعون بسياراتهم من عملهم لمحلات الطعام الجاهز وأماكن الشراء الشاسعة يجدون أنفسهم يسلكون سلوكاً ذا توجُّه علماني شامل ويستبطنون عن غير وعي مجموعة من الأحلام والأوهام والرغبات هي في جوهرها علمانية شاملة دون أية دعاية صريحة أو واضحة. وربما كان بعضهم لا يزال يقيم الصلاة في مواقيتها ويؤدي الزكاة.

ونظراً لعدم إدراك البعض لأشكال العلمنة البنيوية الكامنة هذه، فإنه لا يرصدها. ولذا، يُخفق هذا البعض في تحديد مسـتويات العلمنة الحقيقية. وعلى هذا، فقد يُصنَّف بلد باعتباره إسلامياً (مثلاً) لأن دستور هذا البلد هو الشريعة الإسلامية مع أن معدلات العلمنة فيه قد تكون أعلى من بلد دستوره ليس بالضرورة إسلامياً ولكن معظم سكانه لا يزالون بمنأى عن آليات العلمنة البنيوية الكامنة التي أشرنا إليها.

وتجدر ملاحظة أن العلمنة البنيوية الكامنة قد تؤدي إلى توليد متتاليات جديدة للعلمنة تختلف عن المتتالية الغربية (التي تبدأ بعلمنة القطاع الاقتصادي والسياسي وتنتهي بعلمنة الوجدان والسلوك) فعادةً ما تتم علمنة الوجدان أولاً (ثورة التوقعات المتزايدة) وعلمنة بعض جوانب السلوك (زي معيَّن ـ أشكال جديدة من المتعة) ربما بدرجة عالية قريبة من العالم الغربي، ومع هذا يظل القطاع الاقتصادي والقطاع السياسي يدوران في أطر أكثر تقليدية وأقل علمنة وحداثة. ويُلاحَظ هذا في تركيب الأسرة في العالم الثالث حيث نجد أن كل جيل من أجيال هذه الأسرة، بل أحياناً كل عضو، قد تمت علمنته بمعدلات مختلفة.

المطلق العلمانى الشامل

كل نسق معرفي يدور حول مطلق بمعنى «ركيزة نهائية» أو «أساس نهائي». ويمكن تعريف المطلق بأنه المركز الذي يتجاوز كل الأجزاء ولا يتجاوزه شيء، وبأنه ما يؤدي وجوده إلى تماسك أجزاء النسق، فهو مصدر الوحدة والتناسق، وهو الركيزة النهائية للنسق أو الصورة المجازية والمبدأ الواحد والمرجعية النهائية والميتافيزيقا المسبقة. والمطلق في المنظومات الكمونية هو مركز الكون الكامن فيه. وأي نسق فلسفي لابد أن يكون له مركز يشكل مطلقه ويقبله أتباع هذا النسق دون تساؤل بشأنه ودون نقاش.

والأنساق الفكرية العلمانية (وهي أنساق كمونية) قد تنكر أية نقطة مرجعية متجاوزة لهذه الدنيا، إلا أنها تستند إلى ركيزة أساسية ومرجعية نهائية كامنة في المادة (الطبيعة أو الإنسان أو التاريخ)، ولذا فهي مرجعية نهائية مادية، مركز مطلق أو مركز يشكل مصدر التماسك في الكون والمجتمـع ويـزوده بالهـدف والغاية ويشـكل أسـاس وحـدته ويتجاوز كل الأجزاء (من الناحية التفسيرية) وإن كان لا يتجاوزها أنطولوجياً بسبب كمونه فيها. هذا المطلق في أقصى درجات تعميمه هو المبدأ الواحد. وقد يأخذ أشكالاً كثيرة، ولكنه في التحلـيل النهائي هو الطبيـعة، التي نشـير إليهـا عادةً بـ «الطبيعة/المادة».

وهذا المطلق العلماني الأساسي الكامن هو وحده المطلق النهائي، هو وحده الثابت وما عداه متغيِّر، مجرد تنويعات عليه. فيقول المرء: "قانون الطبيعة أو قانون الحركة هو كذا" أو يقول: "إننا توصلنا إلى كذا وهو ما يتفق مع القوانين الطبيعية/المادية" ـ ومن هنا الحديث عن «الإنسان الطبيعي»، أي «الإنسان الطبيعي المادي» الذي يعيش حسب قوانين الطبيعة/المادة ويستمد منها وحدها المعرفة والقيم الأخلاقية والجمالية. 

وقد عبَّر هذا المطلق النهائي (هذه المرجعية النهائية المادية الكامنة) عن نفسه في بداية الأمر بشكل واضح مباشر، فكان هوبز يشير إلى الدولة/التنين، وإلى الأخلاقيات الذئبية للإنسان باعتبارها تعبيراً عن الطبيعة/المادة، كما تحدث لوك عن عقل الإنسان والصفحة البيضاء التي لا تختلف عن الطبيعة/المادة في أي شيء، وقام كثير من فلاسفة الاستنارة بمحاولة رؤية الإنسان باعتباره آلة وحسب، وقد بسَّط بنتام المنظومة الأخلاقية وجعلها تدور حول المنفعة واللذة بشكل آلي. 

ويمكن أن نضم إلى هؤلاء دعاة النظرية العرْقية الغربية التي زودت الإمبريالية الغربية بإطار نظري لإبادة الملايين، إذ ترى هذه النظرية أن ما يميِّز البشر ومرجعيتهم النهائية (المادية الكامنة) هو انتماؤهم العرْقي (الطبيعي/المادي) ومن ثم يمكن تفسير تفاوتهم بالعودة إلى القوانين البيولوجية (الطبيعية/المادية).

ويُسمِّي الماركسيون هؤلاء الفلاسفة بالماديين الآليين أو الماديين السُذج أو السوقيين، وهم بالفعل أصحاب رؤية مادية واحدية للإنسان، يتحدثون عن الدوافع الإنسـانية وعن الطبيعة البـشرية بشـكل تافه سـاذج أحادي البُعد. وقد أدَّى ذلك إلى رد فعل في الفكر الغربي وظهرت محاولة لاستعادة مفهوم أكثر تركيبية للإنسان ولعقله ولعلاقته بالطبيعة والمجتمع.

فظهرت مطلقات ومرجعيات نهائية مادية كامنة أكثر تركيبية وإن لم تكن أقل كمونية مثل: اليد الخفية عند آدم سميث ـ المنفعة عند بنتام ـ وسائل الإنتاج عند ماركس ـ الجنس عند فرويد ـ إرادة القوة عند نيتشه ـ قانون البقاء عند داروين ـ الطفرة الحيوية عند برجسون ـ الروح المطلقة عند هيجل التي تتوحد بالطبيعة في نهاية التاريخ ـ روح التاريخ ـ روح الحضارة ـ روح العصر ـ عبقرية المكان ـ التقدم اللانهائي ـ عبء الرجل الأبيض باعتباره عبئاً حضارياً... إلخ. 

ولكن، رغم التركيبية الظاهرة لهذه المفاهيم، فإنها مجرد تنويع مركب على نفس مفهوم الطبيعة/المادة، فالمنفعة والجنس والطبقة لابد أن تُفسَّر، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، تفسيراً مادياً.

والمطلق العلماني النهائي والمرجعية النهائية المادية كما أسلفنا هو الطبيعة/المادة، ولكن ثمة تطابقاً شبه كامل بين الصورة الكامنة وراء الطبيعة/المادة باعتبارها مفهوماً فلسفياً وصورة السوق/المصنع:

1 ـ السوق/المصنع شامل لا انقطاع فيه ولا فراغات، فهو يمتد ليشمل الوطن بأسره وها هو قد امتد ليشمل العالم.

2 ـ السوق/المصنع شيء منتظم متسق مع نفسه، خاضع لقوانين ثابتة منتظمة مطردة واضحة بسيطة رياضية حتمية وآلية.

3 ـ السوق/المصنع لا يكترث بالفرد ولا بالإنسان، ولا بالخصوصيات ولا بالغائيات أو القـيم الإنسـانية، فهـو يتجاوز الإنسان ولا يتجاوزه الإنسان.

4 ـ السوق/المصنع يتحرك بشكل تلقائي آلي حسب قوانين العرض والطلب الآلية الرياضية الصارمة الكامنة في السوق ذاته.

5 ـ السوق/المصنع يحوي داخله قوانينه وكل ما نحتاجه لفهمه، وهو واجب الوجود في النظم الرأسمالية والنظم الاشتراكية على حد سواء.

ولا ندري هل تبنَّى المفكرون العلمانيون الشاملون آليات السوق/المصنع كمقولات لإدراك الطبيعة كنظام واحدي آلي شامل وكمرجعية نهائية مادية، أم تمت دراسة الطبيعة/المادة واستُخدمت مقولاتها لتأسيس السوق/المصنع وتنظيمه على هديها. وعلى كلٍّ، فإن هذا أمر ثانوي إذ يظل هناك هذا التطابق المدهش بين الطبيعة/المادة والسوق/المصنع، والإنسان الاقتصادي هو الإنسان الطبيعي حينما يذهب إلى السوق والمصنع فيذعن لقوانينه التي لا تختلف عن قوانين الطبيعة/المادة.

ولا يختلف وصف دعاة الداروينية الاجتماعية للسوق عن وصفهم للطبيعة/المادة، فالواحد يكاد يكون هو الآخر، والصراع من أجل البقاء والبقاء للأصلح هي قيم نهائية مادية تهيمن على السوق هيمنتها على الطبيعة/المادة. وعملية التطور هي عملية مندفعة من داخل المادة تماماً مثل آليات السوق. وحينما تتم عملية الترشيد والحـوسلة (التي تفرض الواحدية على المجـتمع)، فهي تتم في إطـار مفهوم الطبيعة/المادة والسوق/المصنع.

والسلعة من المطلقات العلمانية والمرجعيات النهائية المادية الأخرى، وكذلك رأس المال (مراكمة المال باعتبارها المعيار المادي النهائي الذي لا يمكن تجاوزه). وفي المنظومة القومية العضوية، يصبح الشعب العضوي هو هذا المطلق. أما في المنظومة الإمبريالية فالمطلق هو الحضارة الغربية وعبء الرجل الأبيض (أو شيء من هذا القبيل). ويمكن القول بأن مفهوم التقدم (المادي) هو واحد من أهم المطلقات العلمانية. والمطلق العلماني كامن ولكنه ليس ساكناً، ولذا فهو يتغيَّر ويتلون حسب المرحلة التاريخية.

ومنذ منتصف الستينيات أُضيف عنصر ثالث وهو مؤسسات اللذة بحيث أصبحت دورة الإنسان ثلاثية: الإنتاج في المصنع، الاستهلاك في السوق، اللذة في الملهى الليلي (أو أي معادل موضوعي) ولكن هذه الإضافة لم تغيِّر من البنية الأساسية الواحدية الشاملة.

وقد تبدَّى المطلق العلماني على المستويين التاريخي والسياسي في شكل مؤسسة الدولة المطلقة التي أصبحت أهم آلية من آليات العلمنة داخل أوربا في المراحل الأولى، ثم قامت جيوشها الإمبريالية بإشاعة النموذج العلماني في بقية العالم منذ نهاية القرن التاسع عشر.

ويرى بشير نافع أن الدولة هي أكثر المؤسسات التي صنعتها يد الإنسـان قرباً من حـالة الطبيـعة (من الناحية البنيوية الفلسفية بطبيعة الحال)، فالدولة تتبع قانوناً شاملاً ومستمراً يشمل الوطن بأسره. وهو قانون ثابت مطرد حتمي آلي، كامن في الدولة. وهي لا تكترث بالفرد أو بالإنسان، فهو مجرد وسيلة لتحقيق غاياتها ومصلحتها. والدولة "واجبة الوجود" في النظم الحديثة، وبهذا المعنى تُعدُّ الدولة التحقق الكامل والأمثل للمطلق العلماني (ومع هذا نلاحظ أن السوق والمصنع واللذة تنازعانها المطلقية والمرجعية النهائية).

ونحن نذهب إلى أن الإنسان الحديث تم تدجينه وتحويله إلى سبمان متكيف مع المجردات المطلقة اللاإنسانية (مصلحة الدولة ـ قانون الحركة... إلخ) من خلال شعارات مثل "العودة للطبيعة". فمثل هذا الشعار هو في واقع الأمر دعوة للإنسان لأن يعود لحركة المادة ويقبلها ويذعن لها، متجاوزاً بذلك وجوده المتعيِّن وحسه الخُلقي وخصوصيته وفرديته وفطرته الإنسانية، أي أن عملية تنميط الإنسان وبرمجته وتَشيُّئه تتم من خلال تدريب وجدانه على قبول الطبيعة/المادة، هذا الكيان غير الإنساني المتجاوز للإنسان، باعتبارها المرجعية النهائية.

وقد بدأت المتتالية العلمانية بأن جعلت الإنسان هو المطلق العلماني ومركز الكون والمرجعية النهائية المادية (التمركز حول الذات). ومع تَصاعُد معدلات الترشيد والحوسلة، بدأ الإنسان يتراجع كنقطة مرجعية، وظهرت مطلقات مادية علمانية غير إنسانية، مثل الدولة المطلقة (التمركز حول الموضوع). 

تشكل هي نفسها المرجعية النهائية المادية. وكان كل هذا يعني أن الكون يظل في حالة تماسك وذا بنية واضحة يمكن للعقل تفسيرها، ولذا تظل هنـاك ميتافيزيقا ومرجعية نهائية ويظل هناك ثنائية صلبة وازدواجية. وتتصاعد معـدلات العلمنة، وينتشر المركز في كل عناصر النموذج ويتجسـد من خـلالها جميعاً بلا تمييز ولا تفريق، فيتم التساوي فيما بينها وتسويتها. 

وفي هذه الحالة، يختفي المركز ويتلاشى وتختفي المرجعيات النهائية المادية إلى أن يصبح المطلق هـو الإجراءات. فيظـهر ما يُسمَّى «أخلاقيـات الصيرورة»، أي أن يتم الاتفاق بين الجميع على أن المركز والمرجعية النهائية وما لا يقبل النقاش هو الإجراءات وحسب، قوانين اللعبة، أما نوعية اللعبة والهدف منها فهي أمور يمكن مناقشتها والتفاوض بشأنها، وهذه هي مرحلة الواحدية السائلة.

والحضارة العلمانية الغربية، بهذا المعنى، حضارة فريدة تماماً. فلأول مرة في تاريخ الإنسان يُلغَى الهدف والغاية ويتحرر المطلق منهما (فيصبح لوجوس بلا تيلوس وميتافيزيقا بدون أخلاقيات). وهذا هو الإدراك الأساسي الكامن وراء عالم ما بعد الحداثة، فهو عالم صُفِّي وطُهِّر تماماً من المطلقات والمرجعية النهائية، فلا مركز ولا هامش، وإنما عالم أفقي متساو مسطح لا يوجد فيه وضع خاص أو مُتميِّز لأي شيء وضمن ذلك الإنسان، ولذا فهو عالم خالٍ من المعنى، لا يمكن للدال أن يرتبط فيه بالمدلول لأنه عالم لا يحتوي على أي مطلق يربط بين التفاصيل كلها؛ عالم نسبي تماماً ولكنه مع هذا يخلع المطلقية على النسبية. 

فالمرجعية النهائية هي إنكار المرجعية، والمطلق الثابت الوحيد هو النسبي المتغيِّر، وهذا ما يُعبِّر عنه الفكر المادي بالقول "لا ثبات إلا لقوانين التغير". ومع هذا تظل هناك الداروينية وفكرة البقاء للأقوى باعتبارها المرجعية الوحيدة الثابتة في عالم الواحدية السائلة وما بعد الحداثة والنظام العالمي الجديد.

اللحظة العلمانية الشاملة النماذجية

أشرنا من قبل إلى اللحظة النماذجية كمفهوم تحليلي. ونحن نشير إلى اللحظة العلمانية الشاملة النماذجية باعتبارها «لحظة الصفر العلمانية»، أي لحظة هيمنة نموذج الواحدية المادية هيمنة كاملة لأن أسطورة الأصل العلمانية الشاملة تذهب إلى أن العالم ظهر بالصدفة المحضة من مادة أولية سائلة غير مُشكَّلة ومن خلال تفاعل كيمائي بسيط أنتج خلية واحدة لزجة تطورت بالصدفة حسب قانون صارم، ثم نمت وتطورت إلى أن أصبحت الإنسان الطبيعي (المادي ذا العقل الذي يشبه الصفحة البيضاء الشمعية والذي لا يتمتع بأي انفصال عن الطبيعة. 

فهو بغير هوية محددة ولا يمكنه تَجاوُز ذاته الطبيعية أو الطبيعة/المادة، وهو يعيش خاضعاً تماماً لقوانين الضرورة والصيرورة لا يملك فكاكاً منها، أي أن كل لحظات وجوده هي سيولة دائمة، فهي لحظة جنينية كاملة.

ولكن نقطة الصفر لا تنصرف إلى الأصل وحسب، وإنما تنصرف إلى النهاية، فنهاية النموذج العلماني تفترض أن الإنسان سيكون متحكماً تماماً في واقعه متمركزاً تماماً حول ذاته، فهو كالإله يتجاوز الخير والشر والبكاء والضحك، ومن ثم يصل إلى نقطة نهاية التاريخ وقمة التقدم والفردوس الأرضي. ولكن هذه اللحظة، رغم صلابتها، هي أيضاً لحظة جنينية يفقد فيها الإنسان مركزيته وحدوده وهويته واستقلاله عن الطبيعة ويصبح جزءاً لا يتجزأ من الكل: الدولة ـ المجتمع ـ الطبيعة ـ الطبقة العاملة. 

وتسود الواحدية المادية، فيصبح الكون واحدياً مادياً تماماً، متساوية أجزاؤه. ولحظة البداية، شأنها شأن لحظة النهاية، هي أيضاً لحظة ترانسفير حيث يمكن لأي شيء أن يحل محل أي شيء آخر، ويصبح قابلاً للاستعمال والتنقل والنقل والترحيل. وهي لحظة تَشُّيؤ وتَسلُّع وتَوثُّن، إذ تسري على الإنسان نفس القوانين التي تسري على الأشياء وتصبح الطبيعة/المادة هي مرجعيته النهائية المادية فيصبح كائناً طبيعياً وشيئاً يشبه الآلة.

واللحظة النماذجية يمكن أن تكون لحظة فكرية، أي أن تتحقق في نسق فلسفي يصل صاحبه إلى ما يتصوره جوهر الأمور والواحدية المادية التي تسود العالم، فلا تغشى عيونه غشاوة، ويمكن أن تكون لحظة فعلية، أي أن تتحقق في الواقع نفسه، حين يحاول شخص أو نظام اجتماعي أن يحقق النموذج بحذافيره ويفرضه فرضاً على الواقع (كما حدث في ألمانيا النازية وروسيا الستالينية).

ولعل من أهم الفلاسفة العلمانيين الشاملين، من منظور اللحظة النماذجية الفكرية، الفيلسوف توماس هوبز الذي تشكل كتاباته لحظة تَعيُّن للنموذج العلماني الشامل ولواحديته المادية الصارمة ولمرجعيته المادية الصراعية الوحشية ولإنكاره حرية الإنسان وإرادته ومقدرته على التجاوز. وقد تبعه إسبينوزا بخطابه الهندسي المادي الصارم حيث تختفي أية غائية أو تَجاوُز ويغيب الإنسان تماماً في المجردات اللاإنسانية. 

وقد أثار هذا الوضوح والتبلور في النماذج قلق كثير من الفلاسفة العلمانيين، فقاموا بمحاولات يائسة لإضافة محسنات فلسفية وثنائيات ظاهرية واهية. ولعل الجدل الهيجلي هو أهم محاولة في هذا المضمار، إذ يصر على جدلية الواقع وعلى التجاوز المستمر للمعطيات الحسية للواقع، ولكنه مع هذا ينحدر إلى نقطة الصفر العلمانية مرة أخرى مع التحام الذات بالموضوع، ومع نهاية التاريخ حين يتحقق العقل الكلي والمطلق في التاريخ والطبيعة، وهي النقطة التي ينتهي فيها التجاوز.

وفي الفلسفات الماركسية، تطل نقطة الصفر العلمانية في عبارة " في التحليل الأخير وفي نهاية الأمر". فأمام التنوع اللامتناهي للعالم، أدرك أصحاب النموذج العلماني الشامل أن هناك عالماً من الأفكار والأحلام والاختيار الحر والقيم وكان عليهم رده إلى الطبيعة/المادة حتى تسود الواحدية. ولذا سمِّي عالم الأفكار والقيم بـ «البناء الفوقي»، ووُصف بأنه ليس له وجود حقيقي، فهو مجرد ظاهرة تابعة (بالإنجليزية: إبي فينومنون epiphenomenon)، وتعبير باهت عن البناء التحتي ليس إلا، ويصبح الجهد المعرفي هو فك شفرة البناء الفوقي من خلال البناء التحتي. 

ويمكن تفسير سلوك الإنسان بهذه الطريقة، من خلال فهم حركة المادة، فهي المرجعية النهائية، فيُفسَّر سلوك الإنسان من خلال العناصر الاقتصادية أو من خلال الجنس أو من خلال ما يُسمَّى «إرادة القوة»، فكل شيء "في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير إن هو إلا مادة" يُردُّ إلى المطلق العلماني النهائي (الطبيعة/المادة) فيُردُّ الباطن (الروحـي الفوقي) إلى الظـاهر (المادي التحتي) وتُردُّ الهوية (الخاصة) إلى القانون العام، ويحل ما هو غير إنساني محل ما هو إنساني (ترانسفير). 

ويتضح لنا أن العقل (في التحليل الأخير) ليس إلا مادة تتراكم عليها الأحاسيس، وأن الإنسان (في نهاية المطاف) ليس سوى جزء من الطبيعة، وأن عقله (في نهاية الأمر) ليس غير صفحة مادية بيضاء تتراكم عليها الأحاسـيس المادية التي تسـجلها الأعصاب، فتصبح كل الأمور متساوية نسبية خاضعة للقياس، ويتم كشف كل شيء (أي تفكيكه). 

ومن ثم، يتحقق النموذج تماماً في اللحظة النماذجية وتطل الميتافيزيقا العلمانية الشاملة بوجهها العدمي القبيح حيث يُقوَّض الإنسان تماماً ويُردُّ إلى ما هو دون الإنسان. وما كان كامناً في النموذج يصبح واضحاً. ويظـهر أن الفكـر العلماني الشـامل ليس فكراً تفكيكياً بطبيعته وحسب وإنما هو فكر تقويضي كذلك (وفكر إبادي).

ونقطة الصفر العلمانية يمكن أن تأخذ شكلاً شاملاً، وهو ما يتضح في الخطاب ما بعد الحداثي، وتُستخدَم كلمة «أبوريا aporia» للإشارة إلى نقطة الصفر العلمانية، وهي كلمة يونانية تعني «الهوة التي ليس لها قرار»، حيث يصبح العالم هوة من الثقوب السوداء تبتلع كل شيء، فتسقط المطلقات العلمانية وغير العلمانية كافة، وتسقط المطلقات الدينية والمادية على حد سواء، حتى نصل إلى عالم سائل لا نسق فيه ولا مرجعيات ولا تَجاوُز.

ويمكن القول بأن ما بعد الحداثة هي تحقُّق للعوامل التفكيكية داخل المنظومة التحديثية وأنها تحقُّق للنسبية الكامنة في النموذج التحديثي بحيث تصبح نسبية كاملة وصيرورة تامة وسيولة شاملة. وإذا كانت المنظومة التحديثية قد أدَّت إلى تفكيك الإنسان وإحساسه باللامعيارية (الأنومي)، وإذا كانت الحداثة هي احتجاج الإنسان على ما يحدث له، فإن ما بعد الحداثة هي تطبيع كامل لهذه اللامعيارية وتعبير عن تقبُّل الإنسان لحالة التشيُّؤ الناجمة عن التحديث.

وحتى نزيد المقدرة التحليلية لمفهوم نقطة الصفر العلمانية سنشير إلى ثلاث لحظات علمانية شاملة نماذجية مختلفة أقل عمومية من لحظة الصفر العلمانية هي ما يلي:

أ ) اللحظة السنغافورية ويظهر فيها الإنسان الاقتصادي.
ب) اللحظة التايلاندية ويظهر فيها الإنسان الجسماني.
جـ) اللحظة النازية (والصهيونية) ويظهر فيها الإنسان الطبيعي/المادي أو الإنسان كمادة محضة.
والإنسان في هذه الحالات جميعاً، إنسان طبيعي وظيفي، يُعرَّف في إطار وظائفه البيولوجية والاجتماعية.

أ ) اللحظة السنغافورية: 

نسبة إلى سنغافورة، وهي بلد صغير في آسيا يتسم بأنه بلا تاريخ ولا ذاكرة تاريخية ولا تقاليد حضارية أو منظومات قيمية راسخة، ولذا يمكن ببساطة تجاهلها كلها أو تهميشها حتى يتحول الإنسان إلى وحدة اقتصادية ذات بُعد مادي واحد قادرة على الإنتاج والاستهلاك والبيع والشراء، وتصبح البلد كلها مجموعة من المحلات والسوبر ماركتات والفنادق والمصانع، وينظر الناس إلى أنفسهم لا كبشر وإنما كوحدات إنتاجية استهلاكية. وقد أصبحت سنغافورة حلم كثير من أعضاء النخب الحاكمة في العالم الثالث التي تفهم التنمية في إطار اقتصادي محض. 

والرؤية السنغافورية هي الرؤية المهيمنة على المنظمات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدولي التي تعطي القروض في هذا الإطار الاقتصادي السنغافوري المحض. وقد اقترح أحد كبار الخبراء في البنك الدولي ذات مرة أن تتخلص الدول الغربية من نفاياتها النووية والعوادم الكيميائية وغيرها من العوادم بإلقائها في البلاد الأفريقية نظير إعطائها بعض المعونات الاقتصادية، وهذه رؤية سنغافورية كاملة ترى البلاد لا باعتبارها فنادق وأسواقاً ومصانع وإنما باعتبارها مقلب نفايات.

والسنغافورية لحظة أمسكت بتلابيب مجتمع بأسره، ولكن اللحظة السنغافورية الواحدية يمكن أن تظهر على هيئة أفراد. ففي الاتحاد السوفيتي ظهرت فكرة أبطال الإنتاج، وهم بشر (مثل ستهانوف) كانوا يكرسون حياتهم كلها لعملية الإنتاج بشكل يفوق حدود طاقة البشر (وقد انتهت حياة ستهانوف بأن أصيب بالعديد من الأمراض، كما ظهر أن كثيراً من بطولاته كانت مجرد أكاذيب إعلانية). 

كما أن كثيراً من نظريات الإدارة في الولايات المتحدة ذات طابع سنغافوري واحدي كامل، فهي نظريات تدعو إلى إخضاع جميع حركات العامل وسكناته للدراسة حتى يمـكن توظيـفها تماماً في خدمـة الإنتاج لكي يصـبح الجميع أبطال إنتاج. وتقوم الإعلانات التليفزيونية بتحويل الجميع أيضاً إلى أبطال استهلاك. والدعوة إلى السوق الشرق أوسطية في عالمنا العربي الإسلامي هي دعوة لتحويل الإنسان العربي الإسلامي إلى إنسان سنغافوري بحيث تتحول كل بلادنا إلى بوتيكات وسوبرماركتات.

ب) اللحظة التايلاندية:

نسبة إلى تايلاند، وهي بلد آسيوي أصبح قطاع البغاء فيه من أهم مصادر الدخل القومي وتكوَّن فيه لوبي قوي من ملوك البغاء والمخدرات حتى أصبح من المستحيل الآن تَخيُّل تايلاند بدون هذا القطاع البالغ الأهمية. واللحظة التايلاندية تعبير عن الإنسان الجسماني حيث يتحول الإنسان تماماً إلى أداة للمتعة (في عصر ما بعد الحداثة والاستهلاكية العالمية). وإذا كانت الدعوة إلى تحويل كل البلاد إلى تايلاند مسألة صعبة، إذ يفزع الناس من نزع القداسة تماماً عنهم، إلا أن الحديث عن السياحة وتطوير القطاع السياحي يخبئ عادةً نزعة تايلاندية عميقة يتحاشى الجميع مواجهتها.

جـ) اللحظة النازية (والصهيونية):

وهي أهم اللحظات النماذجية وأكثرها مادية، لأنها تعبير مباشر عن الإنسان الطبيعي/المادي، الإنسان كمادة محضة وكقوة إمبريالية مادية كاسحة. فالمجتمع النازي كان يعتبر الإنسان كائناً طبيعياً مرجعيته النهائية هي الطبيعة/المادة ومرجعيته الأخلاقية المادية هي إرادة القوة، ولهذا نظر إلى البشر جميعاً باعتبارهم مادة استعمالية يمكن توظيفها ويقوم الأقوى والأصلح (من الناحية الطبيعية/المادية) بهذه العملية لصالحه. ومن هنا، تم تقسيم البشر، من منظور مادي رشيد، إلى أشخاص نافعين وأشخاص غير نافعين، وتَقرَّر إبادة بعض غير النافعين منهم ممن لا يمكن إصلاحهم وتحويلهم إلى عناصر منتجة، وذلك بعد دراسة علمية تمت من منظور مادي علمي رشيد.

ويمكن القول بأن معسكر الاعتقال هو مجتمع واحدي مادي نماذجي تم التحكم في كل شيء داخله، وضمن ذلك البشر، وطُبِّقت عليهم نماذج رياضية صارمة ذات طابع هوبزي وإسبينوزي تم تطهيرها تماماً من ظلال الإله، فلا رحمة فيها ولا تراحم، ولا مجال فيها لأية غائيات أو مرجعيات إنسانية لأن المرجعية الوحيدة هي المنفعة المادية وإرادة القوة. ولذا أُعطي كل إنسان رقماً حتى يمكن إدارة المعسكر بكفاءة شديدة، وتحوَّل الإنسان إلى مادة استعمالية تُولَّد منها الطاقة (عمالة رخيصة) أو سلع (تحويل العظام إلى سماد، والشحوم الإنسانية إلى صابون، والشعر البشري إلى فُرَش... إلخ). وعلى هذا النحو، تم تعظيم الفائدة وتقليل العادم.

وبالمثل، لا تُعتبَر اللحظة الصهيونية انحرافاً عن الفكر العلماني الشامل الإمبريالي، بل تمثل تبلوراً حاداً له. فانطلاقاً من الطبيعة/المادة باعتبارها المرجعية النهائية المادية ومن إرادة القوة وأخلاق الغاب (باعتبارها المرجعية الأخلاقية المادية) نظرت الصهيونية إلى فلسطين باعتبارها أرضاً بلا شعب (أي أنها استبعدت العنصر الإنساني منها) وحوَّلت كل شيء إلى مادة: فأصبحت فلسطين أرضاً تُستغَل، وأصبح الفلسـطينيون أنفسـهم مادة بشـرية تُنقل وتُباد وتُستغَل، وأصبح اليهود أيضاً مادة بشرية يتم تخليص أوربا منها عن طريق نقلها. ولحظة تَبلور النموذج العلماني هي عادةً ـ كما أسلفنا ـ لحظة ترانسفير، حيث يصبح كل شيء قابلاً للاستعمال والنقل.
يتبع إن شاء الله...


الباب السادس: مصطلحات جديدة لبلورة النموذج الكامن 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49013
العمر : 72

الباب السادس: مصطلحات جديدة لبلورة النموذج الكامن Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب السادس: مصطلحات جديدة لبلورة النموذج الكامن   الباب السادس: مصطلحات جديدة لبلورة النموذج الكامن Emptyالسبت 02 نوفمبر 2013, 11:28 pm

واللحظات النماذجية الثلاث (السنغافورية والتايلاندية والنازية) ليست منفصلة تماماً:

فهي جميعاً لا تعترف إلا بالطبيعة/المادة والواحدية المادية وتحول الإنسـان إلى مـادة نافعة وتنزع عنه القداسـة وتعريه من إنسانيته (بالإنجليزية: دي نيود de nude)، وهو ما نسميه «الإباحية المعرفية» حيث لا حرمات ولا مطلقات، وحيث يُترَك الإنسان عارياً تماماً أمام مؤسسة قوية تدور في إطـار المرجعية المادية الكامـنة والنفعية الداروينية التي تقوم بحوسلته وتوظيفه. 

فإذا كان العالم مادة، وإذا كانت كل الأمور متساوية، والإنسان مادة لا قداسة لها ليس إلا، ولا توجد سوى مرجعيات أخلاقية مادية، فإن النشاط الجنسي -على سبيل المثال- مجرد نشاط مادي، شأنه شأن النشاط الاقتصادي، ومن ثم يمكن النظر للطاقة الجنسية للإنسان باعتبارها طاقة طبيعية/مادية يمكن توظيفها داخل إطار السـوق والمصـنع، أي أن تصبح الطاقة الجنسـية مادة إنتاجية استهلاكية. 

ومن ثم، يمكن أن تظهر تجارة/صناعة البغاء، وتصبح البغيّ من أدوات الإنتاج، وهي في الماخور (في تايلاند أو في أي مكان) لا تختلف كثيراً عن أبطال الإنتاج في المصانع السـوفيتية أو الأمـريكية ولا عـن اليهـودي أو السـلافي أو المعـوقين في معسكرات الاعتقال، إذ يتحول الجميع إلى مادة استعمالية وطاقة محض. 

فالإنسان في اللحظة السنغافورية يتحول إلى طاقـة إنتاجية وإلى قدرة شـرائية تصب في عملية الإنتاج والاستهلاك القومي. 

بينما يتحول، في اللحظة التايلاندية إلى طاقة جنسية تقدم خدماتها للمستهلكين من السياح، فتحسِّن الدخل القومي وتعدِّل ميزان المدفوعات لحساب الوطن. 

وفي اللحظة النازية والصهيونية، يتحوَّل الإنسان غير النافع (اليهودي كمادة بشرية فائضة) إلى مادة استعمالية تزداد إنتاجيتها في معسكرات الاعتقال والسخرة أو في الدولة الصهيونية أو يتم التخلص منها في معسكرات الإبادة حسب مقتضيات الأمور (الأمر الذي يفيد الاقتصاد الوطني كثيراً).

ونحن نعرف تماماً، من خلال معرفتنا بالترشيد الإجرائي أو الأداتي، وأخلاق الصيرورة، أن طبيعة العمل والهدف منه ليست لهما أية أهمية، فالمهم هو كيفية إدارته (الأداء والإجراءات) وكيفية توظيف الطاقة البشرية بأقل التكاليف لتحقيق أعلى عائد. 

ويبدو أن المجتمع الأمريكي الرشيد يشارك في هذه الرؤية، أو على الأقل قطاعات مهمة فيه، فحينما قُبض على السيدة سيدني بيدل باروز Sydney Biddle Barows (وهي سيدة من أسرة باروز الأرستقراطية العريقة، التي أتى مؤسسها على سفينة الماي فلاور، أول سفينة نقلت المهاجرين الإنجليز إلى الولايات المتحدة)، وحينما وُجِّهت إليها تهمة إدارة حلقة دعارة في نيويورك، انطلقت من رؤية واحدية مادية صارمة ترفض أي تجاوز أو ثنائيات أو غيبيات وبيَّنت بما لا يقبل الشك أن الدعارة عمل استثماري، بيزنس business (وهذا لا يختلف عن خط دفاع أيخمان عن نفسه، وهو أنه موظف حكومي ينفذ ما يَصدُر له من أوامر). 

وبعد فترة قصيرة من التردد، نفض الناس عنهم أية مرجعيات ميتافيزيقية متخلفة وتقبلوا الرؤية الواحدية المادية واستطاعوا أن ينظروا إلى سيدة الماي فلاور بشكل موضوعي، وتحولت قصتها من قصة صاحبة ماخور، إلى قصة صاحبة عمل ناجح. 

وهو ما دفعها إلى نشر سيرتها الذاتية تحت عنوان قصة حياة الماي فلاور مدام، أو حياة سيدني بيدل باروز السرية. 

وأصبح هذا الكتاب من أهم الكتب المُتداوَلة وحققت المؤلفة أرباحاً خيالية منه (كما هو الحال دائماً مع مثل هذه الكتب في عصر الفضائح والترشيد الإجرائي). 

وبعد ذلك بعامين، صدر كتاب لنفس السيدة، وكان أكثر إجرائية، فقد كان يُسمَّى آداب الماي فـلاور: قواعد السلوك للراشدين المثقفين Mayflower Manners: Etiquette for Consenting Adults. 

وعبارة " كونسنتج أدلتس " التي ترد في العنوان هي عبـارة قانونية تشـير إلى أي شـخصين بالغين يمارسان الجنس معاً برضائهما، ولذا فعملهما شأن خاص بهما. 

وفي هـذا الكتاب قامت المـدام الواحدية المادية الصارمة بتعليم النسـاء كيفية التصرف بلباقة في الفراش، باعتبار أنها راكمت الكثير من المعرفة في مجال تَخصُّصها. 

وبعد ذلك بعام واحد، قامت نفس السيدة الرائدة في مجالها الموضوعية في أدائها بتدريس مقرر في إحدى المدارس الحرة عن هذا الموضوع. 

ولا ندري هل ستنتقل إلى المعاهد العليا وأكاديميات البحوث المتخصصة أم لا؟ وهل ستؤسـس تخصصاً أكاديمياً جديداً؟ 

وعلى كلٍّ تقوم إحدى مؤسسات الرفاه الخيرية (المجانية) في أستراليا، وهي إحدى المؤسسات المدنية التطوعية غير الحكومية داخل المجتمع، بترتيب دورات تدريبية للبغايا حتى يمكنهن تحسين أدائهن في ساعات العمل الشاقة والمضنية. 

وحينما سُئل أحد مسئولي الدورة عن الحكمة من وراء ذلك، أجاب بحياد شديد رشيد بأن التخصص هو إحدى سمات العصر وأن كثيراً من عاملات الجنس لا يعرفن قواعد الصحة التي يجب مراعاتها ومناهـج الأداء المختلفـة وحقوقـهن وواجباتهن (وهذا هو قمة الترشيد الأداتي).

ويُلاحَظ علمنة المصطلحات المستخدمة في وصف عملية تَحوُّل الإنسان المتكامل المركب إلى إنسان طبيعي وظيفي ـ اقتصادي سنغافوري ـ جسماني تايلاندي ـ إمبريالي نازي أو صهيوني. 

وهذا أمر مُتوَّقع تماماً متسـق مع نفـسه، فاللحـظة العلمانية الشـاملة النماذجية هي لحظة تَشيُّؤ كامل وواحدية مادية، ولذا فإن ما يَصلُح لوصف الأشياء، يَصلُح لوصف الإنسـان، واللغة المحايدة تجعلنا ننسـى إنسـانية الإنسـان. 

فلم يكـن النازيون يتحدثون مطلـقاً عن "الإبادة" وإنما عن "الحـل النهـائي"، ولم تكن "أفران الغـاز" سـوى "أدشاش" تُستخدَم من أجل الصحة العامة. 

ولا يتحدث الصهاينة عن فلسطين وإنما عن الأرض التي جاءوا "لزراعتها" (لا لاغتصابها). 

ولا يتحدث أحد أثناء اللحظة السنغافورية عن توظيف الإنسان وتَسلُّعه وإنما عن "تحسين مستوى المعيشة وزيادة الإنتاج، وتوفير الرفاهية والرخاء لأكبر عدد ممكن"، دون أية إشارة للأبعاد الكلية والنهائية. 

وتحييد المصطلحات في حالة اللحظة التايلاندية يستحق قدراً من التوقف، فإذا كان تحييد المصطلح في حالة اللحظة النازية مأساوياً، فهو هنا ولا شك كوميدي. 

إذ يتحول البغاء إلى أهم القطاعات الاقتصادية (كما هو الحال في بعض الدول الآسيوية)، ومن ثم، تصبح البغيّ (التي يُقال لها في اللغة التقليدية «بروستيتيوت prostitute») في بداية الأمر مجرد عاملة جنس (بالإنجليزية: سكس وركر Sex worker)، عضو في البروليتاريا الكادحة تقوم بنشاط اقتصادي منتج، ثم تتحول بالتدريج إلى بطلة قومية، وبعد قليل، قد يصبح من واجب الجميع أن يؤدوا واجبهم القومي بتجريد كامل وحياد شديد. (والعياذ بالله).

ولكن ليس بإمكان أحد أن يتحلى بمثل هذه الشجاعة وهذا الحياد (إلا فيما ندر) فالبشر -والحمد لله- لا يمكنهم نزع القداسة عن ذواتهم تماماً وببساطة.


الباب السادس: مصطلحات جديدة لبلورة النموذج الكامن 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
الباب السادس: مصطلحات جديدة لبلورة النموذج الكامن
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الباب الخامس: مصطلحات تشـير إلى تفكيك الإنسان وتقويضه
» الباب السادس عشر: الأسرة
» الباب السادس: الحوريون والفلستيون
» الباب السادس: اليهودية الأرثوذكسية
» الباب السادس والسبعون في النوادر

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـثـقــــافـــــــــــة والإعـــــــــــلام :: موســـــوعة اليهــــــود-
انتقل الى: