منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 الـنـمــــوذج الـمـركـب

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

الـنـمــــوذج الـمـركـب Empty
مُساهمةموضوع: الـنـمــــوذج الـمـركـب   الـنـمــــوذج الـمـركـب Emptyالثلاثاء 29 أكتوبر 2013, 8:24 pm

النموذج المركب

«النموذج المركب» (ويمكن أن نطلق عليه أيضاً «النموذج المنفتح» أو «النموذج التعددي» أو «النموذج الفضفاض» أو «نموذج التكامل غير العضوي»). وهو النموذج الذي يحوي عناصر متداخلة مركبة (أهمها الفاعل الإنساني ودوافعه) بحيث يعطي الإنسان صورة مركبة عن الواقع ولا يختزل أياً من عناصره أو مستوياته المتعددة أو تناقضاته أو العوامل المادية والروحية، المحدودة واللامحدودة والمعلومة والمجهولة، التي تعتمل فيه. وهو النموذج الذي لا يمكنه أن يطرح نهاية للأشياء بسبب تركيبيته، فهو نموذج تفسيري اجتهادي منفتح وليس نموذجاً موضوعياً متلقياً مادياً.

والنموذج المركب يدور في إطار المرجعية المتجاوزة. وهو يتسم بالتماسك والوحدة ولكن تماسكه ليس عضوياً أو صلباً، وثمة وحدة في الوجود ولكنها وحدة غير عضوية وغير مصمتة لأن مصدر الوحدة ومركز الكون غير المنظور ليس كامناً أو حالاًّ في العالم (فهو الإله الواحد المفارق المنزَّه في النظم التوحيدية وهو الإنسان المتميِّز عـن الطبيعة في النظم الهيومانية الإنسـانية). والمركز مفارق للعالم لا يتجسد فيه رغم تجليه وتبديه من خلاله، ولذا فإن النموذج المركب لا يسقط في الكمونية الواحدية ويظل محتفظاً دائماً بمسافة بين الخالق والمخلوق وبين الإنسان والطبيعة لا يمكن اختزالها ولا إلغاؤها إذ لا يمكن توحيد قطبي الثنائية. ولكن هذه الثنائية الأولية ليست ثنائيةصلبة (ثنائية غير تكاملية) وإنما ثنائية فضفاضة، فثمة تفاعل بين عنصري الثنائية، فالإله خلق العالم ونفخ فيه من روحه ولم يهجره بل دخل في علاقة معه فهو يرعاه. وقد منح الله الإنسان بعض الصفات الربانية التي تميزه عن الطبيعة ثم استخلفه في الأرض. وهو لم يضعه في الأرض ليكون في علاقة صراع مع الطبيعة أو ليوظفها وإنما استخلفه فيها واستأمنه عليها ليستخدمها ويعمرها، وهو يكتسب مركزيته من عملية الاستخلاف هذه. ولذا، فإن العلاقة بين الإنسان والطبيعة أو بين الإنسان والإله ليست علاقة وحدة وإنما علاقة تكامل.

والإنسان الذي يحوي داخله القبس الإلهي (في المنظومة التوحيدية) أو المتميِّز عن الطبيعة (في المنظومة الإنسانية) قد يشارك في بعض سمات النظام الطبيعي وقد تسري القوانين الطبيعية وقوانين الأشياء على بعض جوانب وجوده (فهو يولد ويأكل ويمشي ويضاجع النساء ويمرض ويموت) ولكنه لا يُردّ في كليته إليها. وقد نعرف هذا الجانب أو ذاك من وجوده، ولكن تظل هناك جوانب (ربانية) مجهولة لا يمكن معرفتها أو إخضاعها للقانون المادي العام الواحد. ولذا، يظل هناك قانونان: واحد للإنسان والآخر للأشياء. وتنبع بعض جوانب فكر الإنسان من واقعه (المادي الطبيعي أو الإنساني)، ولكنه لا يمكن أن يُردَّ في كليته إليه لأن بعض هذا الفكر نابع من ذاته (الربانية الإنسانية غير الطبيعية) المتجاوزة لذاته المادية والطبيعية، أي أن الإنسان جزء يتجزأ من الطبيعة متجاوز لها. ولكل هذا، يشكل الإنسان ثغرة في النظام الطبيعي/المادي، فهو كائن قادر على تجاوز الجوانب الطبيعية/المادية في ذاته وقادر على تجاوز الطبيعة/ المادة ذاتها. وهي مسافة لا يمكن أن تُسد تماماً (مثل المسافة التي تفصل الخالق عن المخلوق)، فالجانب الرباني في الإنسان لصيق تماماً بإنسانيته.

ووجود الإنسان كثغرة في النظام الطبيعي هو الذي يؤدي إلى ظهور كل الثنائيات الفضفاضة الأخرى (كل/جزء ـ عام/خـاص ـ ذات/موضـوع ـ سـبب/نتيجة ـ محدود/لا محدود ـ معروف/مجهول ـ ذكر/أنثى ـ سماء/أرض). وكلها ثنائيات لا يمكن القضاء عليها، فهي صدى للثنائية الكبرى الكلية والنهائية (خالق/ مخلوق). ولذا، فإن وجود مسافات داخل النموذج المركب هي من صميم بنيته، ومن ثم فهو غير قابل للانغلاق ولا يمكن إخضاعه للقوانين الواحدية. وكما يتفاعل الإله مع الإنسان تتفاعل وتتكامل الثنائيات كافة لذا فالنماذج المركبة تتسم بالتكامل غير العضوى.

والنماذج المادية تتأرجح بين التماسك العضوي الكامل (الصلابة) والتجانس المطلق (الذي يُفقد الأجزاء شخصيتها واستقلالها وهويتها) والاستمرارية الكاملة من جهة ومن جهـة أخرى عدم التماسك (السيولة) وعدم التجانس (الذي يجعل لها هوية لا يمكن القضاء عليهـا) والانقطاع الكامل. أما نموذج التكامل غير العضـوي، فهو يفترض أن العالم كل متماسك، مُكوَّن من كليات متماسكة، مُكوَّنة بدورها من أجزاء غير مترابطة بشكل صلب وغير متجانسة بشكل كامل، ومع هذا فهي أجزاء متماسكة لكلٍّ شخصيتها ولكنها لا تُفهَم إلا بالعودة إلى الكليات. ولكن الكليات ليست صلبة، ومركزها ومصدر تماسكها يوجد خارجها، ولذا فهي تظل كليات فضفافة تحوي داخلها ثغرات. وهذا يعني أن الأجزاء هامة في أهمية الكل، وأنها لا تُردُّ إلى الكل، فنموذج التكامل غير العضوي يحاول إدراك الخاص دون السقوط في التأيقن، ويدرك العام دون الذوبان في القانـون العام إذ أن لكل ظاهرة منحـناها الخـاص رغم أنها تنضوي تحت نمط عام.

وعدم الالتحام العضوي يسمح بقبول الشخصية المستقلة لكل جزء رغم انتمائه للكل، فالجزء ليس جزءاً عضوياً لا يتجزأ وإنما هو جزء يتجزأ، أي أن انفصال الأجزاء عن الكل ليس انفصالاً كاملاً وإنما هو درجة من الاستقلال النسبي للأجزاء عن الكل وللأجزاء (الواحد عن الآخر). ومع هذا، ثمة افتراض لأسبقية نهائية للكل على الأجزاء (وإلا انتفت فكرة الحقيقة الكلية وفكرة النموذج نفسها). ولذا، لا يذوب الجزء في الكل ولا الكل في الجزء، ولا يذوب العام في الخاص ولا الخاص في العام، والاستمرار والانقطاع لا يُجُبُّ أيٌّ منهما الآخر. ولذا، فبإمكان النموذج أن يتناول الظواهر والعلاقات بكل أشكالها ومستوياتها ويحترم منحناها الخاص ويتناول الكل والجزء والخاص والعام والاستمرارية والانقطاع دون أن يَرُدَّ الواحد إلى الآخر، بل يحاول الوصول إلى النقطة المفصلية حيث يتصل الواحد بالآخر.

والنموذج المركب ينكر وجود قوانين تاريخية عامة وحتمية ويرى أن مقدرتها التفسيرية ضعيفة، ويطرح بدلاً من ذلك فكرة الأنماط التاريخية المتشابهة، وليست بالضرورة المتكررة والمتجانسة تماماً، فالتاريخ لا يتطور بنفس المستوى ولا بنفس المعدل ولا بنفس الطريقة من مجتمع لآخر. بل إنه، داخل المجتمع الواحد يوجد من العناصر الخاصة ما يجعل التأني والدراسة المدققة ضروريين لتَفهُّم مسارات التاريخ المختلفة.

والنماذج المركبة لا تدور في إطار الواحدية السببية التي تدور إما في إطار عنصر روحي واحد أو عنصر مادي واحد والتي تستوعب كل شيء في شبكة السببية الصلبة. وبدلاً من ذلك، يظهر مبدأ التعددية السببية، ويحل مبدأ تعددية المؤثرات محل مبدأ أحادية المؤثرات في فهم الطبيعة والإنسان وتفسيرهما والتنظير لهما. ومن ثم يجري النظر إلى الظاهرة في أبعادها المتكاملة دون الاقتصار على بُعد واحد مادي أو روحي، ثم يتم بعد ذلك تحديد أكثر الأبعاد فعالية وتأثيراً دون التقيد بأية مسلمات مسبقة تقول إن أحد الأبعاد (العنصر الاقتصادي أو العنصر الجنسي أو العنصر الروحي على سبيل المثال) أكثر فعالية وتأثيراً من الأبعاد الأخرى. فكل ظاهرة لها منحـناها الخـاص ولا توجد حتميات سـببية مطلقة ولا يوجد شـيء في نهاية الأمر وفي التحـليل الأخير إلا وجه الله، ضمان حرية الإنسـان ووعيه بحريته. ولذا، لابد أن تُدرَس كل ظاهرة حسب المقاييس المناسبة لها، ويُنحَت نموذج خاص لدراستها، فلا تُطبَّق قوانين الأشياء على الإنسان ولا تُطبَّق قوانين الإنسان على الأشياء. هذا لا يعني بطبيعة الحال إسقاط النماذج التفسيرية المادية الخالصة أو الروحية الخالصة، فالأولى لها دورها في تفسير الوجود الطبيعي وتفسير بعض جوانب الوجود الإنساني، تماماً كما أن الثانية لها دورها في تفسير جوانب أخرى لهذا الوجود الإنساني.

والنموذج المركب يُنكر الواحدية السببية ولكنه لا يسقط في العبثية، حيث لا سببية على الإطلاق، وإنما يدور في إطار السببية المركبة التعددية حيث لا تؤدي (أ) حتماً وبشكل آلي إلى (ب) (ولكنها في معظم الأحوال تؤدي إليها)، فهي بسبب عدم تحكمنا في كل الواقع وبسبب عدم معرفتنا بكل عناصره قد تؤدي إلى (ج) (ولكنها بإذن الله تؤدي إلى ب).

وتحل النماذج المركبة قضية القيمة، فهي تستطيع التعامل مع المثالي والواقعي، ومع الروحي والمادي، فهي ليست نماذج واحدية بسيطة مادية لا تجيد التعامل إلا مع العالم الواقعي المادي، وليست نماذج روحية بسيطة لا تجيد إلا التعامل مع عالم الروح. وتأخذ عملية التفسير (أو الاجتهاد) داخل هذا النموذج شكلاً حلزونياً، فالمُفسِّر المجتهد لن يواجه الواقع بقانون عام أو افتراض عام يُفسِّر به الواقع بأسره، وهو لن يقوم بمراكمة المعلومات عن الواقع بلا تمييز، بل سيصوغ نموذجاً تفسيرياً تصورياً من خلال قراءة التاريح ومعرفة الدوافع الإنسانية وقوانين البنية الموضوعية والمتتاليات التفسيرية السابقة، ثم يُختبَر هذا النموذج بالعودة إلى التفاصيل التاريخية والاجتماعية. ولكن عملية الاختبار هذه ستقوم بتعديل النموذج، ومن ثم فإن عملية التفسير عملية حلزونية لا متناهية.

ومثل هذا النموذج لا يطمح إلى الوصول إلى اليقين الكامل والتفسير النهائي والحلول الشاملة والتحكم الإمبريالي الكامل في الطبيعة، وبالتالي فهو لا يسقط في أسفل درجات العبثية والإذعان التام للطبيعة/المادة (تَمركُز حول الذات يؤدي إلى انتصار الموضوع) كما أنه لا يحلق في أقصى درجات الروحية والتجاوز التام لعالم الطبيعة/المادة، وإنما هو نموذج يطرح إمكانية أن المعرفة ممكنة وأن الحقيقة يمكن الوصول إليها، ولكنها معرفة إنسانية وحقيقة غير مطلقة (لأن المعرفة المطلقة تقع خارج نسق التاريخ الإنساني ـ وعند الإله وحده وهو مفارق للمادة وإن كان يُسبِغ عليها المعنى والاتجاه)، فهو نمـوذج يَقنَع بتناول ما يمكن أن يُعرَف وحسـب دون أن يصـاب باليأس بسبب المجهول وما لا يمكنه معرفته، فالمسافات سمة بنيوية فيه. إن النموذج المركب أقرب إلى الصورة المجازية منه إلى القانون، وهي صورة مجازية لا تتشيأ ولا تُشيئ لأن مركز الكون لا يتجسد فتظل هناك مسافة بين الدال والمدلول.

ومن هذه النقطة يمكن أن نطرح فكرة النظرية الكبرى الحاكمة (بالإنجليزية: جراند ثيري grand theory). ونحن نذهب إلى أن التخلي عن محاولة الوصول إلى نظرية حاكمة كبرى (رؤية للكون وللأمور المعرفية الكلية والنهائية) أمر غير ممكن. فالواقع قد ينقسم إلى مجموعة من القصص الصغرى (على حد قول أنصار ما بعد الحداثة) ولكن هناك داخل كل قصة ـ مهما بلغت من صغر ـ قصة كبرى، وهذا ما نعبِّر عنه بقولنا "إن ثمة نموذجاً ما كامناً وراء كل الظواهر". وهذا أيضاً ما يُقال له «حتمية الميتافيزيقا». وإن لم يطور الإنسان نظرية كبرى، فإنه سيقع فريسة النظرية الكبرى للآخر وضحية لما يُسمَّى «إمبريالية المقولات»، أي أن يستورد الإنسان المقولات التفسيرية الكبرى من الآخر، ويقصر جهده البحثي والمعرفي على مراكمة المعلومات من خلال المقولات الجاهزة التي اسـتوردها. وداخـل إطار النموذج الفضفاض وفكرة الاجتهاد، سنحاول الوصول إلى نظرية شاملة كاملة، ولكننا نعرف أننا لن نصل إلى اليقين المطلق أو التفسير النهائي، فنظريتنا لن تكون نظرية شاملة كاملة (جراند ثيري) وإنما «ريلاتيفلي جراند ثيري relatively grand theory»، أي "نظرية كبرى وشاملة إلى حدٍّ ما" أو داخل حدود ما هو ممكن إنسانياً. ومثل هذه المحاولة لا يمكن أن تتم في إطار كموني مادي واحدي يرى أن كل القوانين كامنة في المادة؛ إطار يُلغي ثنائية الإنسان والطبيعة ويتأرجح بين الموضوعية الكاملة والذاتية الكاملة.

وكما تُصاغ النماذج عادةً، يمكن أيضاً صياغة النماذج المركبة من خلال عملية تفكيك وتركيب:

1 ـ تُفصَل الوقائع والتفاصيل التي تستخدمها النماذج الاختزالية (العلمية أو التآمرية) عن هذه النماذج أو أي نماذج مسبقة بقدر الإمكان.

2 ـ تُوضَع الوقائع والتفاصيل في سياق إنساني (تاريخي واجتماعي) عريض، أي تتم استعادة البُعد التاريخي والمنظور المقارن (وهو الأمر الذي تحرص على استبعاده الكتابات الصهيونية والمعادية لليهود والكتابات العلمية الاختزالية).

3 ـ تُربَط الأجزاء والتفاصيل والحقائق بالكليات التاريخية والاجتماعية داخل أنماط.

4 ـ تُضَم وقائع ومعلومات كان قد تم استبعادها من منظور النماذج الاختزالية القائمة، ويتم توسيع وتعميق الأنماط.

وبذلك يمكن إظهار عجز النموذج الاختزالي عن تفسير كثير من المتغيرات وعناصر الواقع، كما يمكن البرهنة على مقدرة النموذج المركب على إنجاز ما عجز عنه النموذج الاختزالي، إذ تكتسب الوقائع معنى جديداً ويصبح بالإمكان تفسيرها بطريقة أكثر تركيباً وإنسانية.

واستخدام النماذج المركبة له نتائجه العملية والمعرفية والأخلاقية الكثيرة. وقد بيَّنا مواطن القصور الناجمة عن استخدام النماذج الاختزالية في دراسة الجماعات اليهودية.

ويمكننا أن نبيِّن في هذا المدخل النتائج الإيجابية (العلمية والمعرفية والأخلاقية) لاستخدام النماذج المركبة في نفس المجال.

1 ـ النماذج المركبة لا تختزل العدو في صهيونيته أو ماسونيته بل تراه في تركيبيته الإنسانية والعميقة وبمقدرته على الانتصار والانكسار وفي سياقاته المتعددة، ولذا فهي تُسقط عن اليهودي عجائبيته وإعجازه وتفرده (الذي يصر عليه الصهاينة والمعادون لليهود) وتستعيد له إنسانيته وتركيبيته ومن ثم تُعرِّفه في قوته وفي ضعفه الحقيقيين.

2 ـ أسلفنا القول أن النموذج المركب سيساعدنا على التخلص من الربط بين اليهودي وكل الظواهر السلبية في المجتمع، الأمر الذي سيوسع من أفقنا ويجعلنا أكثر قدرة على دراسة هذه السلبيات والبحث عن سببها الحقيقي بدلاً من البحث الاختزالي عن اليهود. وكثير من الوظائف التي ارتبطت في أذهاننا باليهود، وباليهود وحدهم (وبسبب الأدبيات العنصرية الغربية)، يقوم بها غير اليهود في أماكن وفترات مختلفة. كما أن ربط اليهود بالشر يُولِّد في أنفسنا الهلع، ويجعلنا غير قادرين على التمييز بين العناصر المعادية وتلك التي يمكننا التحالف معها.

3 ـ سيساعدنا النموذج المركب على أن ندرك أعضاء الجماعات اليهودية في سياقاتهم المتعددة (الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية)، فهم ليسوا يهوداً والسلام، أي يهوداً بشكل عام، وإنما جماعات يهودية مختلفة؛ لكل منها وضعها ودوافعها وأبعادها، وهو ما يُحسِّن قدرتنا على تفسير كثير من الظواهر اليهودية ومن مقدرتنا التنبؤية ويفيد كثيراً في الممارسة.

4 ـ سيساعدنا النموذج المركب على إدراك الطبيعة العميقة والبنيوية للعلاقة بين الدولة الصهيونية والحضارة الغربية والتشكيل الاستعماري الغربي، ومدى عمق الصراع بيننا وبين العدو الصهيوني ومدى اتساعه.

5 ـ إذا استخدمنا النماذج التفسيرية المركبة، فإننا نكون قد طبَّقنا واحداً من أهم تعاليم الإسلام وهو ضرورة الحفاظ على حقوق الأقليات التي تعيش بيننا (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) إذ ليس من حق أحد إسقاط الحقوق التي أعطاها الله إياهم استناداً إلى رؤية حرفية واختزالية حتمية تهدر حقوقهم حتى قبل أن يُولَدوا وتعتبرهم أشراراً بالوراثة، أي من خلال طبيعتهم المادية لا اختيارهم الأخلاقي. ونظرية الحقوق الدينية مختلفة في هذا المضمار عن نظرية الحقوق المدنية التي ترى أن هذه الحقوق ليست مطلقة، فالأمة مصدر السلطات وهي التي تمنح وتمنع. وفي حالة الدولة النازية، قررت الدولة الألمانية (باعتبارها تجسيداً لإرادة الشعب) أن تدمر كل من يقف في طريق التقدم والتنمية (مثل مُشوَّهي الحرب والعجائز) وكثيراً من أعضاء الأقليات (مثل الغجر واليهود).

6 ـ إذا أدركنا، من خلال النموذج المركب، المغزى الإنساني الكامن في واقعة عنصرية، فإن الحزن من أجل الضحية سيكون حزناً إنسانياً لا يمكن توظيفه في خدمة عقيدة عنصرية استيطانية كما يحدث في الوقت الحاضر. فإذا سقط اليهودي ضحية العنف والعنصرية في مجتمعه الغربي، فإن هذا لا يعني أن اليهودي هو الضحية الأزلية للعنف وإنما ضحية مجتمعه الغربي العنصري، والحل الإنساني الوحيد لهذه المشكلة ليس هو تصدير المشكلة لنا وإنما أن ينضم اليهودي للجماعات التي تدافع عن حقوق الإنسان (من أعضاء الأقليات الأخرى وأعضاء الأغلبية) وأن يناضل من أجل حقوقه داخل مجتمعه. وتصبح القضية هي كيفية الدفاع عن الحقوق السياسية والمدنية والدينية لليهود (وغيرهم من الأقليات) داخل وطنهم، مثل الولايات المتحدة واتحاد دول الكومنولث المستقلة (الاتحاد السوفيتي سابقاً) لا أن نطالب بتهجيرهم (أو خروجهم) كما يفعل العنصريون من الصهاينة والمتآمرون من بلهاء صهيون.

ويجب أن نتذكر أن اليهودي الذي يفر من بغض أعداء اليهود وحربهم ضده هو نفسه اليهودي الذي يصبح مستوطناً صهيونياً يغتصب الأرض العربية ويتحوَّل، بعد قليل، إلى الجندي الصهيوني الذي نراه على شاشات التليفزيون يقتل الأطفال العرب أو يكسر عظامهم. وقد أدرك الصهاينة ذلك تماماً، ولذا فتاريخهم هو تاريخ التحالف مع أعداء اليهود، بل إن الصهيونية وُصفت بأنها تعيش على الكوارث اليهودية. ومن المعروف لدى الدارسين أن الحركة الصهيونية نظمت هجمات، أحياناً مسلحة، على الأفراد والجماعات اليهودية، لترغمهم على الخروج من بلادهم، ليتحوَّلوا إلى مادة استيطانية وقتالية في المستوطَن الصهيوني. وإشاعات الهجمات على اليهود السوفييت وظاهرة نبش قبور اليهود في أوربا هي، في أغلب الظن، من تدبير الحركة الصهيونية. وقد جاء في أحد تواريخ الصهيونية أنه إذا كان تيودور هرتزل هو ماركس الصهيونية، أي مُنظِّرها، فهتلر هو لينين الصهيونية، أي من وضعها موضع التنفيذ، وذلك عن طريق تصعيد اضطهاد اليهود في أوربا، فهاجرت الآلاف إلى فلسطين، الأمر الذي كانت الحركة الصهيونية قد فشلت تماماً في تحقيقه حتى ذلك التاريخ.

ونحن إذا أدركنا كل هذا، يصبح من الواجب علينا أن نبتعد عن الدهاليز الضيقة المظلمة، وأن نتوقف عن البحث الطفولي الساذج عن اليهودي ذي الأنف المُقوَّس والظهر المحدودب (الذي لا يُوجَد إلا في كتب الكاريكاتير وفي النماذج الاختزالية) ظناً منا أننا لو عثرنا عليه وقضينا عليه فإننا سنريح ونستريح. فالصراع مع العدو مركب وطويل، والدولة الصهيونية ليست مؤامرة عالمية بدأت مع بداية الزمان، وإنما هي قاعدة عسكرية واقتصادية وثقافية وسكانية للاستعمار الغربي، والصراع معها إنما هو جزء من المواجهة العامة مع الحضارة الغربية الغازية.

نموذج التكامل الفضفاض غير العضوى (نموذج الانتفاضة)

«نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي» هو نموذج يسمح بوجود ثغرات بين الأسباب والنتائج، وبين الكل والجزء ، وبين الجزء والآخر. فأجزاؤه ليست متلاحمة مع بعضها البعض. وهو نموذج يعرف الثنائيات الفضفاضة والانقطاع ويدور في إطار السببية الفضفاضة، ولذا لا يسقط في الواحدية أو التلاحم العضوي. ورغم استقلال الأجزاء عن الكل وعن بعضها البعض إلا أنها ليست مفتتة ذرياً فهي في علاقة تكاملية بحيث يمكنها أن تنسق فيما بينها وأن تتفاعل. ولذا فهو نموذج يعرف الاتساق والاستمرار والتكامل، ومع هذا يبقى لكل جزء من أجزائه استقلاله وكينونته وشخصيته وهويته. فالأجزاء مترابطة دون أن تكون متلاحمة عضوياً، والكل ينتظم الأجزاء دون أن يبتلعها، ودون أن تذوب هي فيه، ودون أن تُردَّ في كليتها إليه، والسبب له علاقة بالنتيجة ولكنها ليست علاقة مباشرة صلبة.

ونحن نضع نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي مقابل كلٍّ من نموذج التلاحم العضوي ونموذج التفتت الآلي والذري. وتتسم عناصر نموذج التلاحم العضوي بأنها جميعاً متماسكة متلاحمة بحيث لا يستطيع عنصر أن يستقل عن الكل ولا يتمتع بمساحة يتحرك فيها بشيء من الاستقلال (وهذا هو النموذج السائد في الأوساط الثورية في العالم العربي، بل في العالم الحديث بأسره، وهو النموذج المهيمن على الدول المركزية القومية وعلى منظومة الحداثة الغربية). أما نموذج التفتت الآلي أو الذري فتتسم عناصره بأنها مستقلة تماماً بعضها عن البعض، فيعمل كل عنصر بمفرده (وهذا بطبيعة الحال لا يصلح أن يكون نموذجاً ثورياً، ولا حتى نموذجاً لإدارة دفة الحكم. ومع هذا يسيطر على فكر كثير من الأفراد وطريقة إدراكهم مع تفشِّي البرجماتية والوضعية وما بعد الحداثة).

والتراث الإسـلامي العربي تراث قد تَرد فيه النمـاذج العضـوية والآلية (وهي لابد أن ترد داخل أي تشكيل حضاري)، إلا أنها لا تتمتع بأية مركزية فيه إذ يشغل المركز نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي. فلننظر (على سبيل المثال) إلى الحديث الشريف: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى" (متفق عليه). فرغم أن الصورة المجازية الأساسية هنا هي الجسد، إلا أن بنيتها غير عضوية نظراً لاستخدام أداة التشبيه التي تحتفظ بمسافة (أو ثغرة) بين طرفي التشبيه وتقلِّل عضوية المجاز وتمنع تأيقنه. فالمؤمنون في تعاطفهم ليسوا «جسداً» وإنما هم «مثل الجسد» وحسب. فأداة التشبيه تخفف حدة الترابط وتُدخل قدراً من الترابط الفضفاض غير الصلب. ولعل الحديث الشريف الآخر عن نفس الموضوع تظهر فيه فكرة الترابط غير العضوي الفضفاض بشكل واضح: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" [متفق عليه] ثم شبَّك الرسول صلى الله عليه وسلم أصابعه. فالصورة المجازية هنا في مضمونها غير عضوية وتُعبِّر عن تكامل وترابط، ولكنه ترابط البناء غير العضوي الذي تتخلله الثغرات (تماماً مثل أصابع اليد المتشابكة).

ويمكن أن نضرب عشرات الأمثلة الأخرى من القرآن والسنة (والتراث الديني وغير الديني) على فكرة الترابط الفضفاض غير العضوي. فمثلاً مفهوم النفس المطمئنة هو مفهوم فضفاض تماماً، فهي ليست النفس الذرية الآلية ذات البُعد الواحد المغتربة التي تحتفظ بحدودها وانغلاقها، ولا هي النفس الرومانسية ذات البُعد الواحد التي تلتحم عضوياً بالآخر، وإنما هي نفس مركبة الأبعاد تكتسب المقدرة على الإبداع والبقاء (الطمأنينة) من خلال التوكل على الله دون الاتحاد به، ومن خلال التعاون مع الآخرين دون الالتحام الكامل بهم أو الانفصال الكامل عنهم؛ فهي تظل في حالة اتصال وانفصال، تَواصُل واستقلال. وأعتقد أن النموذج الأكبر (نموذج النماذج إن صح التعبير) هو المفهوم الإسلامي لله وعلاقة الإنسان به؛ فالله ليس كمثله شيء ولكنه قريب يجيب دعوة الداعي (دون أن يحل فيه)، وهـو مفارق تماماً للكون (للطبيعة والتاريخ) متسـام عليهما ولكنه لا يتركهـما دون عدل أو رحمة، فهو أقرب إلينا من حبل الوريد (دون أن يجري في عروقنا) وبإمكان الإنسان أن يقترب منه ولكنه لا يمكنه أن يتحد به.

ولذا يظل أشرف المخلوقات في أكثر اللحظات قرباً منه عز وجل "قاب قوسين أو أدنى". فثمة مسافة تفصل بين الإله والإنسان والطبيعة، تماماً مثل تلك التي تفصل بين الإنسان والطبيعة. وهذه المسافة حيز إنساني يتحرك الإنسان فيه بقدر كبير من الحرية، فهي ضمان استقلال الإنسان عن الإرادة الإلهية بحيث يصبح الإنسان حراً مسئولاً من الناحية الأخلاقية، ويصبح له من ثم هوية مركبة محددة، ويصبح التاريخ الإنساني مجال حريته واختباره (ومن هنا مركزية مفهوم «خاتم المرسلين» باعتباره إعلانا من الله عز وجل بأن التاريخ، بعد اكتمال الوحي، هو رقعة الحرية). ولكن المسافة ليست هوة تعني أن الإله قد هجر الإنسان وتركه في عالم الفوضى والصدفة، فالله قد أرسل له وحياً في نص مقدَّس مكتوب، وهو قد كرَّم الإنسان واستخلفه، ولذا فإن الإنسان يحمل رسالة الإله في الأرض ويحمل الشرارة الإلهية داخله.

هذه هي بعض السمات الأساسية لنموذج التكامل الفضفاض غير العضوي. ويمكننا أن نتناول موضوع الانتفاضة ولنبدأ بالأسباب التي أدت إلى اندلاعها.

إن القمع الصهيوني للمواطنين العرب قد تفاوت في حدته من عام لآخر، فحالة القهر حالة بنيوية تسم العلاقة بين المستعمرين والمستعمَرين. كما أن عملية تشويه المجتمع الفلسطيني وتحطيم بنيته التحتية، وربطه بالاقتصاد الإسرائيلي كانت تتسارع، حتى أن الباحث الإسرائيلي ميرون بنفنتسي كان قد أصدر دراسة بيَّن فيها أنه قد تم، على مستوى من المستويات، دمج الضفة الغربية في الاقتصاد الإسرائيلي، وأنه لا يمكن العودة عن هذا الأمر. وكان الاحتلال الصهيوني يحاول رفع المستوى الاقتصادي لسكان فلسطين المحتلة عام 1967 عن طريق تحويل قطاعات منهم إلى عمالة رخيصة تعمل داخل إسرائيل وتخدم الاقتصاد الإسرائيلي وتستفيد منه، حتى يصبح من صالحها الإبقاء على الوضع القائم.

ولكن إلى جانب القهر كانت توجد عملية إغواء، فقد بلغ عدد العرب الذين يعملون وراء الخط الأخضر (وهو الخط الافتراضي الذي يفصل فلسطين المحتلة عام 1948 تلك التي احتلت عام 1967) 120 ألفاً، وقد ارتفع دخل الفلسطينيين العرب بالفعل من 300 دولار عام 1968 إلى 1400 دولار في الضفة وألف دولار في القطاع. ولا يعود ارتفاع مستوى الدخل إلى العمل وراء الخط الأخضر وحسب، وإنما بسبب تحويلات العاملين في البلاد العربية إلى ذويهم. ويُلاحَظ أن ارتفاع الدخل قد تم إنجازه لا من خلال الارتباط بالأرض والعمل فيها، وإنما من خلال النزوح عنها (العمل في إسرائيل أو في البلاد العربية) أي أن ارتفاع الدخل كان يشكل من الناحية البنيوية حركة طاردة من الأرض تهدف إلى دفع السكان لترك وطنهم والهجرة منه والتخلي عن الكفاح المسلح. وكانت الولايات المتحدة تفكر في إقامة بعض المشروعات الاقتصادية في الضفة الغربية تهدف إلى تعميق روح التكيف والمرونة بين العرب وإقبالهم على التمتع بالحياة الدنيا دون التفكير في أية قيم أخلاقية أو قومية ودون التعلق بأية مطلقات أو ثوابت.

لكن لا القهر قادر على أن يؤدي إلى اندلاع الانتفاضة ولا الإغواء قادر على إطفائها. فهذه جميعاً عناصر مساعدة، إذ لابد أن تكون هناك عناصر إيجابية تحرك الفاعل الإنساني العربي، وفي تصوُّرنا أن العنصر الحاسم في هذا المجال هو تماسُك هوية الفلسطينيين وتجذُّرهم في تراثهم الحضاري والديني، فقد كان هذا هو المدد الذي لا ينفد، والذي جعل الفلسطينيين يدركون إمكاناتهم وعوامل الحياة والانطلاق داخلهم، وفي الوقت نفسه يدركون مدى تَخثُّر العدو وعوامل التآكل والموت داخله. لقد أدركوا الأزمة العقائدية التي كان يخوضها التجمُّع الصهيوني نتيجة تصاعد معدلات العلمنة فيه وتوجهه نحو قيم المنفعة واللذة. ولابد أنهم لاحظوا أن المستوطنين الصهاينة في الضفة الغربية غير قادرين على حمل السلاح، ولذا فهم يتحركون دائماً في حماية قوات "الدفاع" الإسرائيلية. ولابد أن أهل الضفة الغربية رأوا المنازل الفارهة التي تُشيَّد لهؤلاء "الرواد" الصهاينة الذين يتمسكون بجهاز التكييف وحمام السباحة أكثر من تَمسُّكهم بأرض الميعاد (أطلق على هذا النوع من الاستيطان "الاستيطان مكيف الهواء"، أما زئيف شيف المعلق العسكري الإسرائيلي فيسميه "الاستيطان دي لوكس").

ولا يوجد أية ضرورة لإطلاق الرصاص على مثل هذا المستوطن المرفه، فالحجارة كفيلة بأن تُعكر صفو حياته الدنيوية وفردوسه الأرضي الحديث الصغير. وبينما كان العدو يَتخثَّر لم تتوقف العمليات الفدائية، التي قد تتفاوت في حدتها، ومدى نجاحها وفشلها إلا أنها نجحت في الإبقاء على روح الجهاد لدى الشعب الفلسطيني، وعلى تماسكه وتمسُّكه بعقيدته، وهذا التماسك هو وحده الذي هيأ الأجيال الفلسطينية الجديدة لإدراك ما حدث داخل المجتمع الصهيوني فازدادت امتلاءً وإبداعاً. وجاءت هزيمة القوات الإسرائيلية في لبنان فحركت إمكانية إلحاق الهزيمة بالعدو من مجال الحلم إلى مجال الواقع. ثم كانت عملية قبية التي قام بها مواطـن عربي من تونـس فكانت بمنزلة الشرارة .

في هذا الإطار بدأ النموذج الانتفاضي، نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي، يظهر بتدريجياً، وبدأ المناضلون في الضفة والقطاع يتبنونه إلى أن أصبح النموذج الأساسي والمهيمن، وأصبحت الانتفاضة حالة ممثِّلة لهذا النموذج. 

ولتوضيح وجهة نظرنا سنقوم بمقارنة نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي بنموذج التلاحم العضوي من منظور إمكانية التشغيل والتطبيق.

1 ـ يمكن القول بأن نموذج التلاحم العضوي ثمرة حقيقية لمنظومة الحداثة الغربية المبنية على القطيعة المعرفية والفعلية مع الماضي، والبدء من الواقع المادي المباشر ومحاولة السيطرة على عناصره. والتغيير يعني رفض الماضي والبدء من نقطة الصفر الافتراضية. أما نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي فهو نموذج يحاول أن ينسلخ عن الحداثة الغربية ليستلهم التراث ويولِّد منه حداثة جديدة ونظماً في الإدارة وتحريك الكتلة البشرية بأسرها.

وهذا أمر متوقع تماماً فالنموذج الانتفاضي نموذج استرجاعي: أن تصبح إسرائيل فلسطين مرة أخرى وأن تُزال آثار العدوان الاستعماري الغربي الصهوني الذي نجح في مواجهتنا بآلاته الحديثة وقصم ظهرنا فلابد إذن من استدراجه إلى أرضنا حيث يمكننا أن نحاوره حسب قواعدنا ونستلهم تراثنا. ولذا فالانتفاضة كانت شكلاً من أشكال «العودة عن الحداثة» demodernization، وبعث أشكال تقليدية من التكامل الاجتماعي والإنتاج (الأسرة كوحدة أساسية ـ الزراعة التقليدية ـ المخبز الريفي ـ العودة لشجرة الزيتون كمصدر للحياة وللرموز) ليزداد التكامل الفضفاض والتراحم في المجتمع. ويُلاحَظ أن القرى التي لم تحقق مستوى عالياً من التحديث هي أكثر القرى صلابة في النضال إذ أن بنيتها التحتية التقليدية تضمن لها مقدرة أعلى على الاستمرار بسبب عدم تبعيتها.

وكلمة «انتفاضة» تبلور النموذج الانتفاضي بشكل يبعث على الدهشة، فهو دال يكاد ينطبق انطباقاً كاملاً على مدلوله ويعبِّر عنه بكل خصوصيته ونتوءاته ومنحنياته، وهو مصطلح يعود للمعجمين اللفظي والحضاري العربي الإسلامي. والكلمة مشتقة من فعل «نفض» مثل «نفض الثوب» يعني «حرَّكه ليزول عنه الغبار أو نحوه». والكلمة على المستوى الدلالي المباشر تشير إلى حركة خلاّقة تولِّد الجديد من القديم (النظافة)، وهي توحي في الوقت نفسه بعدم تجذُّر هذا الذي سيزول ـ الغبار الذي علا الثوب ـ أو الاستعمار الصهيوني الذي حط على أرض فلسطين. ويُقال أيضاً «نفض المكان» أي «نظر جميع ما فيه حتى يعرفه» (وهذه حيلة معروفة لدى شباب الانتفاضة). ويقولون أيضاً «نفض الطريق» أي «طهره من اللصوص». و«النفضة» هي «جماعة يُبعثون في الأرض متجسسين لينظروا هل فيها عدو أو خوف». وتحمل الكلمة أيضـاً معاني الخصـوبة فيُقـال «نفض الكرم» أي «تفتحت عناقيده». ويُقال «نفضت المرأة» أي «كثُر أولادها». والمرأة النفوض هي «المرأة كثيرة الأولاد» (مثل المرأة الفلسطينية)، وهناك تعبيرات مثل «نفض عنه الكسل» و«نفض عنه الهم» وكذلك «انتفض واقفاً». والكلمة، بدلالتها وإيحاءاتها تفترض وجود قوة ما كامنة، كانت ساكنة ثم تحركت، وأن مصادر الحركة ليست من خارج النسق، وإنما من داخله. وهذا البُعد يجعل كلمة «انتفاضة» (لا ثورة) مصطلحاً أكثر دقة في وصف ما يحدث، فالثورة تفيد الانقطاع (الثورة الفرنسية والثورة البلشفية) أما الانتفاضة فتفيد أن الكامن قد أصبح ظاهراً، وأنه وصل ما انقطع ولم يقطع ما اتصل.

ونحن نذهب إلى أن الحجر في حالة الانتفاضة ليس مجرد سلاح استخدمه المنتفضون بكفاءة عالية وإنما هو بلورة كاملة لنموذج التكامل الفضفاض غير العضوي. فاستخدام الحجر كفاءة توصَّل لها الإنسان منذ أن بدأ التاريخ البشري. والحجر موجود بكثرة داخل معجمنا الحضاري، فهو أحد المفردات الأساسية في التراث العربي الإسلامي. فالحصان، على سبيل المثال، يُشبَّه في معلقة امرئ القيس بأنه "جلمود صخر حطه السيل من عل". ونحن نعرف كذلك آية الطير الأبابيل التي رمت الغزاة «بحجارة من سجيل»، وعقوبة الزنى هي "الرجم". ويستعيذ المسلمون بالله من الشيطان" الرجيم"، ويقضون حياتهم يحلمون بإقامة شعائر الحج، ومن أهمها "رجم" إبليس وتحية "الحجر" الأسود (وربما تقبيله). وتقف الكعبة نفسها "حجراً" ضخماً، مكعب الشكل يشير إلى ما لا نهاية، إلى الإمكانيات والوعود والجنة. ويزخر شعر المقاومة الفلسطينية قبل الانتفاضة وبعدها بإشارات لا تُعَد ولا تحصى للأرض والجبال والحجارة.

وثمة سمات مشتركة أخرى بين نموذج الانتفاضة، نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي، والنماذج الإدراكية السائدة في المجتمعات التقليدية. فعلى سبيل المثال لجأت الانتفاضة، التي تحاول أن تحرك الكتلة البشرية بأسرها، إلى البحث عن رقعة الإجماع الشعبي بين الفلسطينيين (الثوابت الإنسانية) مثل التمسك بالأرض والدفاع عن حق تقرير المصير، ولم تشغل بالها بالأطروحات الثورية النقية الدقيقة. وهذا التوجه للثوابت قد لا يكون رشيداً من منظور علمي مادي ولكنه رشيد تماماً من الناحية الإنسانية والتعبوية. والانتفاضة في هذا لا تختلف كثيراً عن المجتمعات التقليدية التي تتسم بقدر عال من التماسك بسبب الإيمان بالثوابت ومن محاولةإدارة الأمور من خلال الإجماع لا الصراع (والإدارة من خلال الإجماع لا من خلال تصعيد المنافسة أسلوب في الإدارة تبنوه في اليابان بنجاح كبير، وبدأوا يكتشفون أهميته وجدواه في الغرب).

ويمكن أن نرى النزعة الانتفاضية نحو الاسـتفادة من خبـرات المجتمع التـقليدي من موقـفها مما يُسمَّى «الموضة». والموضة ـ كما نعلم نحن عرب الخارج ـ اختراع غربي شيطاني، الهدف منه أن نغيِّر ملابسنا وأذواقنا (وهويتنا) مرتين كل عام، وأن نبدد طاقتنا الجسدية والروحية والمالية دائماً، ولكن في زمان الانتفاضة، وفي مكانها، تتغيَّر الأمور وتصبح الموضة ليس السـعي للحصـول على آخر ما اقترحـه القرد الأعظم في باريـس، وإنما أن تلبــس ثياباً من صنع المصانع الفلسطينية، وبالتالي تضرب العدو وتساند الصناعة المحلية، فيزداد المنتفضون عزة واعتداداً بالنفس. كما أن اتباع الموضة الانتفاضية يعني أن الجميع سيرتدي الزي نفسه تقريباً فيصعب على العدو أن يميز بين الفلسطينيين، ومن ثم تصبح عملية المطاردة شبه مستحيلة (وهذا يشبه من بعض الوجوه الثورة الجزائرية حين أصبح كل الذكور يسمون محمداً وكل الإناث فاطمة، بحيث يغرق العدو في البحر الإنساني). بل إن كل متجر ملابس أصبح مكاناً لتغيير الزي، ولذا إذا دلف أحد المنتفضين إلى مثل هذا المتجر فإن صاحبه يتصرف بتلقائية متعمدة، ويساعد المطارد على تغيير ملابسه، ليخرج وينضم للبحر الإنساني، والعدو الأبله يقف ممسكاً برشاشه الرهيب لا يعرف ماذا يفعل.

2 ـ نموذج التلاحم العضوي (وهو نموذج أساسي في الحضارة الغربية) يدور في إطار القانون العام المجرد العالمي. وقد توصلت النظرية الثورية الماركسية في عالمنا العربي إلى أنه لابد من ظهور وعي بروليتاري متبلور. لكن حيث إن الوعي البروليتاري ناجم عن ظروف موضوعية (تركُّز العمال في المدن ـ تفاقم الصراع مع البورجوازية... إلخ) فلابد من الانتظار لحين ظهور هذه الظروف الموضوعية. وهكذا دخلنا دائرة مفرغة، وتضخَّم الحديث عن الثورة وطرق إشعالها، وظل الواقع من حولنا مجدباً عقيماً يشهد بتعاستنا الفكرية وبؤسنا العملي والنظري!

وحينما وظف ثوار فيتنام (الفلاحون) الغابات والجبل في حربهم ضد الغزو الأمريكي الشرس، قال بعض الظرفاء إن على الثوار العرب أن يزرعوا بعض الغابات والجبال حتى يمكنهم أن يبدأو الكفاح الثوريّ، أي أننا فقدنا أنفسنا تماماً في القوانين والنماذج المجردة. ونموذج التكامل الفضفاض غير العضوي لا يفقد نفسه في القانون العام فهو يشبه المجتمعات التقليدية ذات الهوية الواضحة التي لا تفقد ذاتها في حضارة عالمية وهمية وتتعامل مع المتعين بكفاءة، ولذا نظر المنتفضون من حولهم وأدركوا أبعاد واقعهم واهتدوا إلى الحجر: سلاح غير مستورد متوافر في كل مكان لا يمكن نزعه أو مصادرته ويستطيع كل إنسان استخدامه فهو تعبير عن الإجماع الشعبي.

3 ـ نموذج التكـامل الفضفاض غير العضـوي مبني على الـتدوير وإعادة استخدام المواد (بالإنجليزية: ري سايلكلينج recycling)، وهو في هذا يشبه المجتمعات التقليدية، على عكس الحضارة الحديثة المبنية على فكرة التخلص من الفوارغ disposable (وهذا يعود إلى ولاء الحضارة الحديثة لفكرة السرعة وتنظيم الحركة واستهلاك الطاقة). ويتميَّز الحجر بإمكانية استخدامة عدة مرات وربما إلى ما لا نهاية.

وهناك أمثلة عديدة على عمليات التدوير الأخرى، فعلى سبيل المثال، حينما كان بعض الشباب العادي يدخل السجن يتم تحويلهم إلى كوادر انتفاضية واعية وهو ما حوَّل السجون إلى أكاديميات لتخريج الثوار. ويقوم المنتفضون بتنظيم إضرابات داخل السجن تزيد التراحم. وحينما يخرج المسجون فإنه يعود بطلاً في الحي، نموذجاً انتفاضياً جديداً، ينظر له الأطفال والشباب والكهول. وهكذا يتحوَّل غيابه السابق في السجن إلى حضور ثري ينير العقول والقلوب (يُقال إن معظم العناصر القيادية من خريجي هذه الأكاديميات). والمساجين لا يختلفون هنا عن الشـهداء، إذ حـينما يسقط أحد المنتفضين شهيداً فهو يتحول إلى رصيد مضاف، ويؤخذ الجثمان لتقام الصلاة عليه، ويتحوَّل استشهاده بذلك إلى وسيلة من وسائل زيادة التماسك. فالشهيد هنا ليس طاقة مبددة وإنما طاقة جديدة تظل تسري في جسد الجماعة. كما أن الكفاح بالحجر يعني أن بوسع المنتفض أن يستخدم الحجر ويفر في الطرق الضيقة فيضمن لنفسه الاستمرار والبقاء في دورة الكفاح اليومي.

4 ـ نموذج التلاحم العضوي (شأنه شأن نموذج الحداثة المادية الغربية) مبني على النمو المستمر والمتصاعد وتعظيم مراكمة الطاقة واستهلاكها وتبديدها بل أحياناً تبديد المادة نفسها حتى يصل النموذج إلى الذروة، وهي نقطة الاشتعال (نهاية التاريخ). فهذا النموذج يذهب إلى أن تراكم الظروف الموضوعية وتصاعد التناقضات واحتدامها، سيولد حتماً وعياً ثورياً، وهذا سيؤدي بدوره إلى اندلاع الثورة. وعملية التراكم والنمو التي تتم، هي عملية عالمية تحدث في كل المجتمعات حسب النمط نفسه. فنمط التراكم والتناقض واحد، ومن هنا الاهتمام المفرط بالظروف الموضوعية العامة لا بالظروف الفريدة المحلية. والنماذج التراكمية ترى أن التصعيد الثوري لابد أن يأخذ شكل تصعيد رأسي لا أفقي، بمعنى حتمية أن يكون هناك تزايد دائم في احتدام التناقضات، وفي تصاعُد درجة الحرارة حتى تصل إلى درجة الاحتراق. ولذا أصبح الفكر الثوري مشغولاً بـ «تهيئة الظروف الموضوعية لنشوب الثورة» التي لم ينجح أحد في تهيئتها حتى الوقت الحاضر.

أما نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي فيحتاج إلى قَدْر من الطاقة ولكنه لا يتجه نحو تعظيم مراكمتها واستهلاكها، وإنما يركز على استخدامها مع الحفاظ عليها وعلى مصادرها (كما هو الحال في المجتمعات التقليدية). وهو نموذج يفضل التوازن على الصراع. ولذا فهو يجمع بين الطاقة الإنسانية (التقاط الحجر وإلقاؤه) والطاقة الطبيعية (الحجر نفسه).

ولأن النموذج الانتفاضي لا يتجه نحو النمو المستمر فهو لا يحاول أن يصل إلى الذروة، ولذا فهو يتوهج أحياناً ويخبو أحياناً أخرى. ولكنه لا ينطفئ أبداً ولا يشتعل أبداً. ويتضح هذا فيما نسميه التصعيد الأفقي، أي ابتداع أشكال جديدة من النضال هي استمرار للأشكال القائمة وربما تحسين لها ولكنها ليست تصعيداً كمياً لها. والتصعيد الأفقي يأخذ شكل زيادة الخبرة عند الجماعة البشرية الفلسطينية المنتفضة التي تعادل تزايد بطش العدو ومقدرته على محاربة الانتفاضة دون أن يشكل ذلك تزايداً في الحرارة ودون الإخلال بالإستراتيجية العامة للانتفاضة ـ أن تستمر في رفض العدو بشكل نشيط وفي إرسال الرسائل له: إننا كنا وما زلنا وسنكون.

وقد درَّب أهل الضفة والقطاع أنفسهم تماماً حتى أصبح بوسعهم أن ينجزوا في ساعتين أو ثلاث ما لا يستطيع غيرهم إنجازه إلا في يومين أو ثلاثة، وهذا يتطلب تدريب كل أفراد الجماعة على الحركة المنسقة وعلى توزيع الأدوار والوظائف توزيعاً دقيقاً. وقد أدى هذا إلى زيادة مقدرة الفلسطينيين على القيام بهذا العدد الهائل من الإضرابات والاحتجاجات دون أن يحترقوا. وقيادة الانتفاضة بقبولها فكرة السماح بفتح المحلات وغيرها من الخدمات لعدة ساعات تبيَّن أنها مدركة تماماً لضرورة تحريك كل أجزاء الجماعة الإنسانية وبشكل مستمر، ومن ثم لابد أن تلبي حاجاتهم الإنسانية كبشر، لابد أن يأكلوا ويشربوا ويفرحوا ويحزنوا. ولكنهم كبشر أيضاً يحققون إنسانيتهم من خلال انتفاضتهم فلا يسقطون في رتابة الزمان اليومية، ولا في آليته المبتذلة، إذ أنهم بعد عودتهـم من عند البقـال يضعون ما اشتروا من بضائع في زاوية الدار ثم يعانقون النجوم ويرشقون عدوهم بالحجارة. لقد ابتدع الفلسطينيون زماناً فلسطينياً للمكان الفلسطيني ـ هذا إذن هو الإنسان في زمن الانتفاضة، هذا هو الإنسان الذي أفلت من قبضة الزمن الرديء، وقد أنجز ذلك لا بتحطيم الزمان ونفسه (كبروميثيوس أو العنـقاء ـ كما يقول شـعراء الحداثة)، وإنما بتقبُّله كمعطى والعـمل من خلاله، وبزيادة الخبرة اليومية، ومن خلال التكاتف والتعاطف والتراحم. وماذا يستطيع العدو مهما بلغت كفاءته أن يفعل في مجابهة هذا؟ ومن الأمثلة الأخرى على التصعيد الأفقي أن المنتفضين لاحظوا أن جنود العدو كانوا يتعرفون على راشقي الحجارة عن طريق التراب العالق بأيديهم. فقام المنتفضون بتجنيد الأطفال الصغار ليحملوا فوطة مبللة يغسل راشق الحجارة بها يده بعد فراغه من فعله البطولي.

واستخدام الوزنة الحديدية بدلاً من الحجر، هو مثل ثالث على التصعيد الأفقي. والوزنة بالنسبة للحجر كالمدفعية الثقيلة بالنسبة للبندقية، فاستخدامها شكل من أشكال التصعيد ولا


الـنـمــــوذج الـمـركـب 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

الـنـمــــوذج الـمـركـب Empty
مُساهمةموضوع: رد: الـنـمــــوذج الـمـركـب   الـنـمــــوذج الـمـركـب Emptyالثلاثاء 29 أكتوبر 2013, 8:37 pm

واستخدام الوزنة الحديدية بدلاً من الحجر، هو مثل ثالث على التصعيد الأفقي. والوزنة بالنسبة للحجر كالمدفعية الثقيلة بالنسبة للبندقية، فاستخدامها شكل من أشكال التصعيد ولا شك، ولكن مع هذا تظل الوزنة تنويعاً على الحجر. ويبدو أن إخفاء الوزنة أمر أسهل بكثير من إخفاء كمية من الحجارة، كما أنها لا تترك أثراً في يد صاحبها بعد أن يلقيها. إن زيادة الإبداع هنا لا يخل بالبنية العامة ولا يُشكِّل زيادة في الحرارة، كما أنه يفترض إمكانية تجنيد كل عناصر الجماعة. ولنتخيل شعور الطفل الذي يحمل الفوطة المبللة ومدى إحساسه بالكرامة حينما يعود إلى منزله ليحكي لأمه ولأبيه ما فعل فتزداد درجة التماسك والتراحم في الجماعة الفلسطينية.

ثمة مؤشرات أخرى على زيادة كفاءة الجماعة الفلسطينية في الانتفاضة، فعلى سبيل المثال عندما بدأت الانتفاضة كان بعض راشقي الحجارة يلجأون إلى مدارس البنات للهرب من المطاردين الإسرائيليين، فكانت البنات يصرخن بسبب فجائية الموقف، ولكن الجميع تعلَّم كيف يعزف لحن الانتفاضة المستمر. ولذا فحينما كان أحد المنتفضين يدخل مدرسة بنات فإن الجميع كن يتحركن بتلقائية متعمدة ويختفي المنتفض. وقد يظهر المنتفض فجـأة أمام مكـتب إحدى الموظفات وبالتلقائية المتعمدة نفسها تعطيه شهادة حسن سلوك لأخته التي حضر من أجلها، وليغوص العدو في هذا البحر الإنساني، إذ لا توجد آلة واحدة قادرة على مساعدته في اجتيازه.

5 ـ يتطلب نموذج التلاحم العضوي حداً أقصى من التنظيم والترشيد الكامل في إطار القانون العام والتطبيق الصارم له. فيتم التنسيق الكامل بين الأجزاء المختلفة. ولذا لابد أن تكون كل العناصر متجانسة، ولابد أن تذعن للقانون العام والسلطة المركزية وتتسم بالخضوع للأطروحات الثورية العلمية الدقيقة.

أما في حالة نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي، فإن الترشيد الكامل لا يكون ضرورياً، بل قد يكون على العكس ضاراً، إذ أن الترشيد يعني تطبيق قانون واحد على الجميع، أو مجموعة من القواعد المختلفة ينتظمها قانون واحد، وهذا يتعارض مع تنوُّع الأجزاء وتفاوت السرعات. ونموذج التكامل غير العضوي قد لا يعمل بنفس المستوى من الكفاءة ولا على نفس القدر من السرعة التي يعمل بها نموذج التكامل العضوي، ولكنه قادر على أن يعمل بسرعات متفاوتة في الوقت نفسه بسبب عدم وجود تنسيق صارم بين الأجزاء المختلفة (إذ يحتفظ كلٌّ بشخصيته إلى حدٍّ ما). وهو بسبب مساميته وليونته يتمتع بإمكانية الحركة إلى الأمام أو إلى الخلف أو إلى اليمين أو إلى اليسار. بل يمكن أن تتحرك بعض أجزائه إلى الأمام وتتحرك بعض أجزائه الأخرى إلى الخلف، حسب الظروف. ويمكن أن تتحرك بعض أجزائه بينما تتوقـف الأجزاء الأخرى، ولذا فمـقدرته على تعبئة الجماهير، رغم عدم تجانسها، عالية.

وهذا ما فعلته الانتفاضة من خلال تجنيدها الكتلة البشرية (من كل الأعمار والطبقات والانتماءات الإثنية والدينية) في الأراضي المحتلة وتحريكها جميعاً في وقت واحد، في فترات مختلفة، وحسب مقدرة كل قطاع داخل هذه الكتلة على الحركة. ولم تكن الحركة دائمة متجانسة، وإنما كانت متقطعة غير متجانسة.

وقد تركت الانتفاضة بسبب عدم التزامها بقانون مجرد واحد مجالاً واسعاً للإبداع الشخصي وحوَّلت الارتجال إلى شكل مهم من أشكال النضال الإبداعي الذي يمكن استيعابه داخل التخطيط المركزي الفضفاض. والنضال بالحجر لا يتطلب درجة عالية من الترشيد ومن ثم لا توجد ضرورة لدورات توعية أو حلقات تدريب ولا درجات عالية من التثوير والتسييس.

6 ـ نموذج التلاحم العضوي بسبب تماسكه العضوي وصلابته وافتقاده إلى المسامية والفضفاضية قادر على الحركة في ظروف مثالية وحسب، وفي اتجاه واحد وحسب ـ دائماً إلى الأمام. ولكنه بسبب هذا نجده غير قادر على التوقف، وفي الوقت نفسه مهدَّد بالتوقف الكامل إن لم تتوافر له الظروف المثالية، أي ظروف التحكم الكامل والتجانس الكامل والترشيد الكامل.

قد لا يتسم نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي بمقدرته على الحركة السريعة والدائبة والمستمرة ولكنه يعوِّض هذا بمقدرته على التحكم في الإيقاع العام وفي توظيفه بما يتفق مع المنحنى الخاص لواقعه. وقد أدرك المنتفضون طبيعة واقعهم، وهو أنهم يعيشون تحت وطأة نظام عسكري شرس ذي ادعاءات ديموقراطية تتمتع بتأييد الحكومات والصحافة الغربية. ولذا كان المنتفضون يقومون بمضايقة العدو وإلحاق الألم والأذى به. ولكن الحجر ليس قاتلاً، وقد فوَّت هذا على عدوهم فرصة استخدام آلته العسكرية إلا بحذر شديد (وبخاصة في وجود وسائل الإعلام). ولذا يمكن القول بأن النموذج الانتفاضي يقف بين النموذج الفيتنامي (القتال المسلح) والنموذج الغاندي (العصيان المدني السلمي)، ومع هذا بوسع النموذج الانتفاضي أن يتحرك في نطاقهما إن لزم الأمر.

كما يتسم نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي بمقدرته الفائقة على التحرك والاستمرار تحت معظم الظروف، وعلى الاستمرار بعد الانقطاع، وهذا ما حققته الانتفاضة، فهي أطول حركة عصيان مدني نشيط في التاريخ. لقد استمرت الانتفاضة وأنهكت العدو تماماً، حتى أن التفكير الإستراتيجي الإسـرائيلي توصَّل إلى اقتناع مفاده أنه لن يمكن القـضاء على الانتفاضة إلا عـن طريق الالتفاف حولها، ومن هنا مدريد ثم أوسلو.

وقد صرَّح اللواء حسن البدري مؤرخ الجيش المصري، وأحد أهم مفكريه الإستراتيجيين، أن الجيش النظامي الذي يستمر في قمع العصيان المدني لمدة أكثر من عام يفقد مقدرته على القتال وينعدم فيه «الضبط والربط» وأن هذا ما حدث في فلسطين المحتلة. كما أضاف قائلاً إن حركة العصيان المدني التي تستمر لمدة أكثر من ست سنوات يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، لأنها تكون قد شيدت كل المؤسسات البديلة لإدارة المجتمع، أي أن الانتفاضة بهذا المعنى كانت انتصاراً لفكرة المجتمع الأهلي مقابل الدولة المركزية. واندلاع الانتفاضة الثانية دليل آخر على مقدرة النموذج الانتفاضي على الاستمرار بعد التوقف وعلى التأجج بعد الراحة.

7 ـ يتسم نموذج التكامل العضوي بالثنائية الصلبة، فالمركز قوي أما الأطراف فضعيفة، ولذا فالتنظيم يتسم بالهرمية الصلبة؛ نخبـة طليعية مسلحة بالنظرية الثورية تتمتع بوعي ثوري عال، وجماهير تابعـة ينظمها الحزب الثوري (طليعة الطبقة العاملة!) ويقودها إلى أرض الميعاد. ولذا لا يمكن تخيُّل الثورة بدون النظرية الثورية أو الحزب الثوري: ثمة حاجة إلى مركز قوي وفعال، لا يستطيع النموذج التحرك بدونه. ولكن، إن أصاب المركز خلل، تبعثرت الأطراف تماماً وانتقل من الثنائية الصلبة إلى السيولة الشاملة وتحوَّل الهرم المدبب إلى شيء مسطح لا مركز له ولا قـوام. أما في حـالة نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي، فإن المركز لا يكون بالضرورة أقوى من الأطراف، ولذا يكون التنظيم شبه هرمي، قمته ليست مدببة ولا حادة، والقيادة لا تمسك كل الأمور بيدها ولا تسبق الجماهير وإنما تسير في وسطها جنباً إلى جنب، كما هو الحال في المجتمعات التقليدية التي لا تعطي أهمية مطلقة للنخبة أو الدولة إذ تتم الإدارة من خلال عدد هائل من المؤسسات الأهلية والوسيطة (الأسرة، ـ علاقات القرابة ـ الأوقاف... إلخ)، ومن خلال النصح والإرشاد وقدر من الإجماع. وإن حدث شيء للمركز فلن يؤثر كثيراً في الأطـراف إذ لا يخـتلف المركز عن الأطـراف كثيراً. والأطراف، شأنها شأن كل الأجزاء، لها شخصيتها المستقلة، أما وتيرة حركتها فينظمها المركز ولكنها مستقلة عنه ولها تموجاتها المختلفة ومنحنياتها الخاصة.

هذا التماسك بين أفراد الجماعة يمكِّنها من الاستمرار في الأداء دون توجيه يومي من القيادة ودون رقابة حزبية صارمة (دون انضباط حزبي كما يُقـال في الخطاب الثوري) وهذه هي طريقة التنظـيم في الانتفاضة، فالنضـال بالحجر لا يتطلـب عملية تنظيم مركزية أو قيادة قوية، فرغم وجود القيادة المركزية إلا أن الأطراف ظلت قوية. فحينما يتم القبض على أحد القادة فإن الجماعة تبذل قصارى جهدها لإثبات أنه ليس القائد الفعلي وذلك عن طريق الاستمرار في النضال وتصعيده. ومن هنا يصبح القبض على القائد عنصراً يزيد التلاحم والتماسك والتراحم بدلاً من أن يكون عنصر تآكُل وتراجُع. بل إنه في كثير من الأحيان، ونتيجة تحسُّن الأداء، كان العدو يستنتج أنه لم يتم إلقاء القبض على القائد الحقيقي ويعود للبحث عنه.

ومن المفارقات، أن تماسك الجماعة وفعالية كل أفرادها جعلها أكثر قدرة على اختيار العناصر القيادية الأكثر كفاءة، لأنه إذا كان الجميع يعرف الجميع وإذا كان الطفل والشاب والعجوز يتكاتفون، فمن خلال الممارسة اليومية تسهُل معرفة العناصر الأكثر حركية وانتفاضاً فتصعد لمرتبة القيادة. فالتماسك هنا لم يجعل القيادة مهمة، ولكنه ضمن في الوقت نفسه وصول العناصر البشرية الأكثر إبداعاً وانتفاضاً إلى مركز القيادة!

وقد اهتم المنتفضون، انطلاقاً من نزعتهم التراثية، أيما اهتمام بالأغاني الشعبية والتراث الشعبي في نضالهم واحتجاجهم، ولكن إبداعهم التراثي وصل إلى ذروته وعبَّر النموذج الانتفاضي، نموذج التكامل الفضفاض، عن نفسه خير تعبير فيما سميته «حيلة البطيخة». فمن المعروف أن قوات الاحتلال الصهيوني كانت تُحرِّم على الفلسطينيين أن يرفعوا العلم الفلسطيني وتُجرِّم هذا الفعل. ولذا بدلاً من المواجهة المباشرة كان الفلسطينيون، عند مرور القوات الصهيونية، يقومون بقطع بطيخة إلى نصفين ثم يرفعون أحد النصفين، وكل لبيب بالإشارة يفهم. فألوان البطيخـة المقطـوعة حـمراء وقشرتها خضـراء وبيضاء وبذورها سوداء، وهي ألوان العلم الفلسطيني. ولعل عملية قطع البطيخة نفسها تذكر الجندي الصهيوني بأشياء أخرى يخافها. إن قطع البطيخة المتعـينة أكثر عـمقاً في مدلوله من مجرد رفع العلم المجرد. وهو سلاح مبتكر تماماً يوجد عند الفكهاني في أي وقت، وليس بإمكان العدو مصادرته وإن فعل يصبح أضحوكة أمام العالم. وهو سلاح اقتصادي تماماً يمكن تدويره (بالإنجليزية: ريسياكلنج recycling)! يستطيع المجاهد أن يأكله بعد أن يناضل به. ويستطيع الجميع استخدام سلاح البطيخة من سن السابعة إلى سن السابعة والسبعين. وهو أيضاً سلاح يستفز العدو دون أن يعطيه فرصة للبطـش. وهو في نهاية الأمـر تعبير عن الهوية: حلبة الصراع الحقيقية. والبطيخ سلاح شعبي مائة في المائة، ولا أعتقد أن من يأكل الهامبورجر كثيراً ويسمع الديسكو طويلاً قادر على أن يستخدم البطيخة كعلم فلسطين، والأغنية كنظرية ثورية، والحجر كسلاح.

هذا هو «نحو» الانتفاضة، وهذه هي «قواعدها»، وما أشكال الإبداع الانتفاضية الأخرى إلا تنويعات أو جُمَل تم توليدها على هذا النحو. فسلاح إشعال النار في الغابات يتسم (تماماً كالحجر) بأن لا يحتاج لسلاح مستورد، ولا لمستوى تنظيمي عال ويحقق درجة عالية من إمكانية البقاء. ويمكن تحسين هذا السلاح من داخل النسق التقليدي إذ يقوم المنتفضون بسرقة حمام من مزارع الإسرائيليين ثم يزودونه بفيلينة تشعل الحرائق ويطلقونه ليعود ـ كما تملي عليه غريزته ـ إلى منطقة سكناه، وفي الطريق يشعل الحرائق! ولعل حادثة الحافلة التي بثت الرعب في نفوس المستوطنين شكل آخر من النضال الانتفاضي الذي يعبر عن نموذج التكامل الفضفاض، إذ قام أحد المنتفضين وبيديه العاريتين بدفع سـائق الحافلة فسـقط الجميع في الوادي وتناثرت أشـلاء العدو، فهي فعل تم بمبادرة شخصية وجهد إبداعي فردي، ولذا لم تتمكن الاستخبارات من ضربه، وهو مع هذا جزء ينسجم تماماً مع الكل (الانتفاضة) ويخدم أهدافه!

وقد تركت الانتفاضة أعمق الأثر في أطراف الصراع، أما بالنسبة للفلسطينيين والعرب فقد نزعت الانتفاضة عنصر الخوف من القلوب وأثبتت أن بالإمكان إلحاق الهزيمة بالعدو الذي كان يظن أنه لا يُقهَر، هذا لو نفضنا عن أنفسنا التبعية الإدراكية وتعاملنا مع واقعنا من خلال النماذج الخاصة بنا، بل إن بوسعنا ـ لو شئنا ـ أن نولِّد من الانتفاضة ـ باعتبارها نموذجاً معرفياً ـ نماذج تنموية جديدة مختلفة عن النماذج (العضوية التراكمية) السائدة، فالانتفاضة اكتشفت شيئاً ما داخل الإنسان العربي وحرَّكته، وهو الأمر الذي لم تنجزه أية حركة فكرية أو سياسية أخرى من قبل.

أما على الصعيد الدولي فقد أسقطت الانتفاضة قناع إسرائيل الديموقراطي وأصبح من العسير الحديث عن التراث اليهودي ـ المسيحي والتقاليد الليبرالية وما شابه من ديباجات طريفة أحرزت شيوعاً في العالم الغربي بين البسطاء ورجال الصحافة والإعلام.

أما بالنسبة للصهاينة فعُمْق أثر الانتفاضة في التجمع الصهيوني يفوق الوصف. فالانتفاضة عمَّقت جوانب أزمة المجتمع الصهيوني سواء في المجالين الاقتصادي أو السياسي. وتعميق الأزمة الاقتصادية والسياسية يترجم نفسه إلى مزيد من الاعتماد على الولايات المتحدة وتآكل السيادة الاقتصادية والسياسية، ومن ثم ازدادت طفيلية التجمُّع الصهيوني وازداد التفسخ الاجتماعي فيه.

ولكن الأهم من هذا، أن الانتفاضة زعزعت دور إسرائيل كوسيط، فالدولة الصهيونية كانت تطرح نفسها على أنها استثمار ليس ذا عائد اقتصادي كبير ولكنه ذو عائد إستراتيجي مرتفع (فهي حاملة طائرات أمريكية زهيدة التكاليف)، ولكن الانتفاضة بيَّنت بما لا يقبل الشك أن الدولة الصهيونية مكلفة من النواحي الإعلامية والاقتصادية والسياسية، وأنها قد يمكنها القيام بعمليات إجهاضية سريعة (دور الفتوة) أو أن تضرب في العمق العربي، ولكنها غير قادرة على الاحتفاظ بالأمن والسلام الأمريكي فهي إن كانت غير قادرة على الاحتفاظ بالأمن والسلام الأمريكي ضد الشباب من حملة الحجارة، فكيف يمكنها أن تحافظ على السلام الأمريكي من باكستان إلى المغرب، كما كانت تزعم. ومع استمرار الانتفاضة وعجز المؤسسة الصهيونية عن إطفاء نورها ونيرانها، ومع تزايد تماسك المجاهدين الفلسطينيين اكتشف الصهاينة أن دورهم التقليدي كشرطي للمنطقة لم يعد ممكناً، وأن محاولة ضرب الانتفاضة من خارجها لن تفلح، ومن هنا بدأت إسرائيل تطرح نفسها على أنها عدو الأصولية الإسلامية ليمكنها دخول تحالف مع الحكومات العربية ضد الروح الجهادية، ومن هنا توقيع اتفاقيات السلام والإلحاح على ضرورة رفع المقاطعة العربية حتى تلعب إسرائيل دوراً اقتصادياً يحل محل دورها العسكري القديم أو يكمله، بهذه الطريقة تحل الدولة الصهيونية أزمتها تجاه الدول الغربية الراعية لها وتكون قد توصَّلت إلى طريقة لضرب الانتفاضة من الداخل.

ولكن أهم آثار الانتفاضة بغض النظر عن نتائجها العملية والمباشرة أنها أصابت الحلم الصهيوني في مقتل، فالمستوطن الصهيوني الذي كان يستند وجوده وإحساسه بالأمن الداخلي إلى وهم الإيمان بأن العرب ـ في نهاية المطاف ـ سيخضعون ويقبلون الأمر الواقع، قد رأى المقهورين، وهم يهبون ـ فجأة من وجهة نظره ـ ويلقون الأحجار عليه في انتفاضة اشترك فيها الجميع حرفياً. ولذا بدلاً من الأحلام الوردية المتمركزة حول البيت الفاخر الذي توجد على أطرافه العمالة العربية الرخيصة، توجد كوابيس مظلمة يقف في وسطها طفل ممسك بحجر، ومن ثم بدأ المُستوطن الصهيوني يتساءل ـ ولأول مرة ـ لا عن الخلل الذي يمكن إصلاحه، وإنما عن شرعية وجوده نفسها، وبهذا تكون الانتفاضة قد استعادت للصراع العربي الإسرائيلي أبعاده الحقيقية، ورغم كل المحاولات الحالية الرامية لتحويل قضية الصراع العربي الإسرائيلي إلى قضية إجرائية متصلة بالممرات وفرق المطافئ وبضعة كيلو مترات، فإن اندلاع الانتفاضة يؤكد أن القضية أكثر شمولاً وعمقاً، وأن جهادنا ليس من أجل هذا الشيء أو ذلك، وإنما من أجل هوية هذه المنطقة ومن أجل قيمها ومستقبلها.

إن الانتفاضة ليست حركة عصيان مدني لتحرير فلسطين أو الشعب العربي وإنما هي نموذج متكامل ورؤية للكون يمكن استخدامها في إدارة المجتمع العربي بطريقة تفجِّر الإمكانات الثورية والإبداعية لدى الجماهير. وهذا ما فشلت فيه كل من الحركات الثورية العربية وأعضاء النخب الحاكمة. فإنجاز الانتفاضة إنجاز لنا جميعاً نحن أبناء الشعب العربي والشعوب الإسلامية، وهو طريقة للجهاد ذات فعالية عالية. ولعل عودة الانتفاضة ونشاطها بعد سكوتها، يعني أن نموذج الجهاد لا يموت، فهي قد تهدأ قليلاً لتراقب ما يحدث، لتعود حية شامخة، كالنجم الساطع في سمائنا التي لا يتلألأ فيها كثير من النجوم.


الـنـمــــوذج الـمـركـب 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

الـنـمــــوذج الـمـركـب Empty
مُساهمةموضوع: رد: الـنـمــــوذج الـمـركـب   الـنـمــــوذج الـمـركـب Emptyالثلاثاء 29 أكتوبر 2013, 8:45 pm

المؤشر بين النماذج الاختزالية والمركبة

كلمة «المؤشِّر» من فعل «أشَّر»، وهو من الألفاظ العربية المحدثة، وتقابلها في اللغة الإنجليزية كلمة «إنديكيتور indicator». والمؤشِّر هو عادةً جسم متحرك (إبرة أو عقرب) يتحرك على سطح به مقياس. وتدل حركة المؤشِّر على التحولات التي تطرأ على شيء آخر، فالإبرة التي تُوجَد في عداد السرعة في السيارة تدل على السرعة، أما الإبرة التي تُوجَد في جهاز قياس الضغط، فتدل على الضغط، وتدل عقارب الساعة على الزمن. ويُلاحَظ أنه تُوجَد هنا علاقة بين شيئين: جسم مادي يشاهده المرء بشكل مباشر، وشيء آخر غير منظور يجرى قياسه مثل السرعة والزمن وضغط الدم في الإنسان أو الضغط الجوي.

وتُستخدَم كلمة «مؤشِّر» في العلوم الإنسانية لنفس الهدف. فالمؤشِّر عنصر ما في الواقع تمكن ملاحظته بسهولة، والتحولات التي تطرأ عليه تدل على التحولات التي تطرأ على مفهوم مجرد. وبسبب هذه العلاقة يمكن جمع المعلومات والبيانات عن المفاهيم المجردة (الطبقة ـ المكانة ـ الأسرة) من خلال المؤشِّر بحيث يتعمق إدراكنا لكل هذه المناهج وبنيتها، كما يمكن رصد التحولات التي تطرأ عليها.

ويتراءى للبعض أن علاقة المؤشِّر بالواقع مباشرة تماماً تشبه علاقة العقل بالواقع أو علاقته بالمعلومات، وذلك في الرؤى الموضوعية المتلقية المادية (صفحة بيضاء تنطبع عليها معطيات الواقع الحسية دون تَدخُّل الرؤى والرموز والذكريات والإرادة والمقدرة والمصالح على خداع الذات وتجاوزها)، كما تشبه علاقة المثير بالاستجابة في النماذج السلوكية إذ لا توجد مسافة تفصل بين الواحد والآخر. ولكن المؤشِّر لا يتحرك في فراغ أو على صفحة بيضاء، فهو مرتبط دائماً بالنموذج الإدراكي أو التفسيري الذي يحكم رؤية من يستخدم المؤشِّر، وقد يكون المؤشِّر تعبيراً عن نموذج مركب (ولنسمه «المؤشِّر المركب»)، ولذا فإن علاقته بالواقع ستكون مركبة لأنه يشـير إلى الواقع في مسـتوياته المختلفة الظـاهره والباطنة والبرانية والجـوانية وأبعاده المتنوعة دون اختصار أو اختزال. وهو سيدور في إطار رؤية تفسيرية اجتهادية تدرك تماماً أن معرفة بعض جوانب الواقع ممكنة، أما معرفة كل جوانب الواقع فأمر إمبريالي مستحيل.

وقد يدور المؤشِّر في إطار نموذج اختزالي (ولنسمه «المؤشِّر الاختزالي») فتصبح مهمته اختزال الواقع. فالمؤشِّر الاختزالي ـ شأنه شأن النماذج الاختزالية ـ يتعامل مع الواقع (متضمناً الإنسان) باعتباره ظاهرة بسيطة واضحة، خاضعة للسببية الصلبة المباشرة الكاملة؛ الظاهر هو الباطن، والسطح لا يختلف عن الأعماق، والظاهر يكشف ما في الباطن بسهولة ويُسر، والسطح يشف عما تحته بدون عناء. والدوافع الإنسانية بسيطة واضحة يمكن رصدها، ولذا فإن الإنسان يسلك حسب نمط متكرر مسبق، ولذا يَسهُل التنبؤ بما سيفعل كما يتصور السلوكيون (وهم حالة متطرفة من أصحاب المؤشِّرات الاختزالية الكمية [المادية]).

ويظن صاحب المؤشِّر الاختزالي أن مؤشِّره أو مؤشِّراته يقينية نهائية صلبة وما عليه إلا أن يتسلح بها وينظر للواقع بشكل موضوعي محايد (متجاهلاً السياقات المركبة المتداخلة والأبعاد التاريخية والتركيبات النفسية والرموز متعددة الأوجه). وهو عادةً ما يحوِّل الكيف إلى كمّ، بل إنه يدرك الكيف باعتباره كماً (فعلم اجتماع عشة الدجاج لا يختلف بالنسبة له عن علم اجتماع المنزل الإنساني) ثم يعبئ جداوله التي لا تنتهي بالبيانات وهو فطن دائماً إلى أنه أحاط بكل جوانب الواقع وشرحه تماماً بشكل موضوعي باهر.

وصاحب المؤشِّرات الاختزالية جاهز دائماً بآلياته الرصدية وجداوله البحثية واستبياناته، ولكنه جاهز بالدرجة الأولى بأطروحته الاختزالية التي تُفسِّر كل شيء ويُردُّ إليها كل شيء. فالأمور إن هي إلا: عناصر اقتصادية ـ صراع من أجل البقاء ـ دوافع جنسية ـ شهوة للسلطة ـ مؤامرة بلشفية ـ مؤامرة يهودية ـ مؤامرة إسلامية متطرفة. ويتم الرصد في إطار هذه الأطروحة وتُستخدَم المؤشِّرات للتوثيق الذي لا ينتهي. وبذلك يصبح المؤشِّر ليس طريقة لاكتشاف الواقع وإنما لتسطيحه وتبسيطه وتسويته.

ينظر صاحب المؤشِّرات الاختزالية حوله جاهزاً بأطروحاته البسيطة، ويتحول كل ما حوله إلى مؤشِّرات تثبت ما يؤمن به دون أي قلق أو اجتهاد أو إشكاليات. وبدلاً من اكتشاف الواقع وإعادة اكتشافه، يقوم هو بعملية رصد موضوعي متلقٍ وتوثيق سطحي. فإن اشترك يهودي أمريكي في مظاهرة من أجل إسرائيل، فإن الأمور منتهية والدلالة واضحة، فالظاهر والباطن واحد، والمثير والاستجابة متصلان. فاشتراك هذا اليهودي في مثل هذه المظاهرة دليل صلب لا يُدحَض على أنه صهيوني متعاطف مع إسرائيل.

وإن ضُبطت مجموعة من المجرمين من أعضاء الجماعات اليهودية، فإن المسألة أيضاً منتهية، فهذا مؤشِّر صلب على أن اليهود أشرار ينشرون الفساد في الأرض. وإن قررت الولايات المتحدة نقل سفارتها إلى القدس، فإن المسألة واضحة وسهلة وتنهض دليلاً على سطوة اللوبي الصهيوني. وإن صرح أحدهم أن أبواب الهجرة من الاتحاد السوفيتي ستُفتَح أمام اليهود فهذه ولا شك جريمة العصر إذ من المتوقع أن تهاجر الملايين، لأن الأطروحة السائدة أن اليهود يهاجرون إلى إسرائيل كلما سنحت لهم الفرصة!.

وما يغيب في هذه الاستجابات هو الإحساس بتركيبية الواقع وأن الظاهر ليس هو الباطن. ومن ثم، فإن الأطروحات البسيطة لا تكفي، والمؤشِّرات الواضحة البسيطة لابد أن تثير في أنفسنا الشك. فالإنسان ظاهرة مركبة إلى أقصى حد، ظاهرة تحوي داخلها عناصر لا يمكن بأية حال ردها إلى النظام الطبيعي (الوعي ـ الحس الخلقي ـ الحس الجمالي ـ المقدرة على مراقبة الذات وتغييرها ـ المقدرة على فعل الخير وعلى فعل الشر بشكل واع ونتيجة اختيار حر ـ المقدرة على استخدام الرموز في العمليات الإدراكية). وهذه العناصر تتجلى في أشكال ملموسة مختلفة، ولكن إدخالها في شبكة السببية الصلبة والتوصل إلى مؤشِّرات مادية عليها أمر عسير في معظم الأحيان ومستحيل في بعضها، ولعل هذا هو سبب صعوبة التنبؤ بسلوك الإنسان. ولكن يظل من الضروري، مع هذا، استخدام المؤشِّرات والتعميم منها، فبدونها لا يمكن رصد الواقع ولا يمكن رؤية الأنماط الكامنة وراء سيل المعطيات والمعلومات ولا يمكن أن يقوم علم.

 ولكن لابد أن تحاول المؤشِّرات أن تفلت من قبضة النماذج الاختزالية التي تُجمِّد الواقع وتُسطِّحه، وأن ندرك عدة قضايا أساسية عند استخدام المؤشِّرات.

1 ـ لعل من الواجب أن ندرك قصور المنطلقات المعرفية للنماذج الموضوعية المتلقية المادية التي تظن أن الإنسان إن هو إلا ظاهرة طبيعية، ويجب تَبنِّي منطلقات الرؤية التفسيرية الاجتهادية التي تنطلق من ثنائية الإنسان والطبيعة والتي تؤكد أن الإنسان ليس إنساناً طبيعياً وإنما إنسان غير طبيعي، رباني، إنساني. هذا الاختلاف بين الإنسان والطبيعة (المادة) يُعبِّر عن نفسه في الاختلاف بين المؤشِّر في العلوم الطبيعية والمؤشِّر في العلوم الإنسانية. ولنأخذ على سبيل المثال مستوى التعميم الذي يمكن أن يطمح إليه الباحث. إن أي علم لابد أن يستند إلى قدر من التعميم، وإلا لما أصبح علماً.

ولكن التعميم في العلوم الطبيعية يصل إلى مستويات أعلى بكثير من المستويات التي تصل إليها العلوم الإنسانية، إذ أن عنصري الزمان والمكان بالنسبة للعلوم الطبيعية ليسا في أهميتهما بالنسبة للعلوم الإنسانية. ولذا، فإننا نجد أن التعميم في العلوم الإنسانية يكون بمثابة إطار عام يتم من خلاله تصنيف مجموعة من الظواهر، وتظل كل ظاهرة محتفظة بخصوصيتها واستقلاليتها عن الإطار الكلي. ومن هنا، فإننا نجد أن التعميم في العلوم الإنسانية يظل لصيقاً إلى حدٍّ ما بالمادة المستخدمة في الوصول إلى التعميم. ولذا، فإنه يُقبَل في العلوم الإنسانية بقدر من التناقض بين النظرية والظواهر المختلفة لا يُسمَح به في العلوم الطبيعية.

كما يُلاحَظ أن التعميمات في العلوم الإنسانية كثيراً ما يتم تعديلها من خلال عملية التطبيق، ذلك لأن العلاقة بين المؤشِّر (العام) والظاهرة (الخاص) في العلوم الإنسانية علاقة حلزونية تبادلية. فنحن يمكن أن نصل إلى تعميم مفاده أن الجماعات الوظيفية اليهودية، بعد ظهور الدولة القومية، تتحول عادةً إلى طبقات متوسطة. ويمكن تعريف الطبقة المتوسطة من خلال الدخل والمكانة وأسلوب الحياة، ويمكن استخدام هذا كمؤشِّر عام. ولكن، عند التطبيق، لابد أن نَلزَم الحذر، فأعضاء الجماعات اليهودية من أعضاء الطبقة المتوسطة في الولايات المتحدة ليس لهم أية خصوصية، وإن كان ثمة خصوصية فليس لها أهمية تفسيرية كبيرة.

أما في جنوب أفريقيا، في إطار المجتمع الاستيطاني، فإنها تصبح طبقة متوسطة استيطانية، الأمر الذي يمنحها خصوصية لها قيمة محورية في عملية التفسير، فعلاقة الطبقة المتوسطة في جنوب أفريقيا بالطبقة العاملة السوداء تختلف تماماً عن علاقة الطبقة الوسطى في بلد مثل فرنسا مع الطبقة العاملة فيها. أما في أمريكا اللاتينية، فإن قولنا إن أعضاء الجماعات اليهودية انخرطوا في صفوف الطبقة المتوسطة هو من قبيل التجاوز. فهم طبقة متوسطة من ناحية الدخل والمقاييس الخارجية والمهنية، ولكنهم مع هذا احتفظوا ببعض ملامح الجماعة الوظيفية المالية. ومن بين هذه الملامح العلاقة مع النخبة الحاكمة، إذ أن أعضاء الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية كانوا غير مُمثَّلين (حتى عهد قريب) في النخبة الحاكمة بسـبب التكـوين الحضاري الخاص للمجتـمعات اللاتينيـة. فرغم أنها مجتمعات استيطانية، إلا أنها لم تصل إلى درجة عالية من العلمنة والانفتاح كما حدث على سبيل المثال في الولايات المتحدة.

2 ـ يجب أن ندرك أن مضمون المؤشِّر في العلوم الإنسانية ليس مباشراً، فظاهر الإنسان يختلف عن باطنه، إذ لابد أن يَكد الباحث لتحديد المعنى الحقيقي للمؤشِّر، ولذا يمكن أن تكون بعض المؤشِّرات متشابهة بشكل سطحي، ولكننا بعد شيء من التعمق فيها سنكتشف أنها تشير إلى مدلولات مختلفة بل متناقضة. والعكس صحيح، إذ يمكن لمؤشِّرات أن تبدو متناقضة ولكن بعد شيء من التعمق يتضح أنها تشير إلى مدلول واحد.

ولنضرب بعض الأمثلة على ما نقول: إن هجرة اليهود من بلادهم إلى إسرائيل هو مؤشِّر على أن ثمة عناصر طرد في بلادهم الأصلية وعناصر جذب في إسرائيل وتدل على فشلهم في الاندماج في مجتمعاتهم. وبناءً على هذا التعميم المعقول، بل البديهي، يمكن القول بأن هجرة يهود جورجيا هي تعبير عن نفس الاتجاه. ولكننا لو تعمقنا قليلاً لوجدنا أن هجرة يهود جورجيا تعبير عن اندماجهم في مجتمعهم، فجماهير جورجيا السوفيتية (قبل سقوط الاتحاد السوفيتي) كانت تناصب الدولة السوفيتية العداء، وأعضاء الجماعات اليهودية كانوا جزءاً لا يتجزأ من هذه الجماهير ومن مجتمعهم الجورجي.

وبالتالي، فإن الخروج من جورجيا والذهاب إلى إسرائيل (عدو الاتحاد السوفيتي اللدود) ليس خروجاً يهودياً بل هو خروج جورجي وتعبير عن حركيات المجتمع الجورجي وعن رفض الهيمنة السوفيتية. وإذا نظرنا إلى يهود بني إسرائيل في الهند فسنجد أنهم يعيشون في عزلة (وهذا يؤخذ كمؤشِّر على عدم اندماجهم). ولكننا سنكتشف أن المجتمع الهندي مبني على نظام الطائفة المغلقة، وأن من ينتمي إلى هذا المجتمع عليه أن يُنظِّم نفسه على هيئة طائفة مغلقة، وهذا ما فعلته الجماعات اليهودية في الهند، فعزلتها هي تعبير عن اندماجها.

3 ـ يجب أن ندرك أن مضمون المؤشِّر في العلوم الإنسانية مرتبط إلى حدٍّ كبير بالمعنى الداخلي الذي ينسبه الفاعل إليه ومرتبط بالدلالة الرمزية للمُعطَى المادي (وهو أمر غير متوافر وغير وارد في العلوم الطبيعية). ولنأخذ هجرة اليهود السوفييت من الاتحاد السوفيتي كمثل. إذا لم نعرف دوافع المهاجرين للهجرة وظروف هجرتهم، فلن نتمكن من فهم اتجاه حركتهم.

فإذا افترضنا ـ كما يفعل الصهاينة ـ أن الدافع للهجرة هو العودة إلى أرض الميعاد، فإن اتجاه اليهود السـوفييت إلى الولايات المتحـدة يبدو كما لو كان غباءً منهم. ولكننا إذا عرفـنا أن دوافعهم هي الحراك الاجتماعي، لأصبحت الهجرة إلى الولايات المتحدة أمراً منطقياً جداً. ويؤدي تنوع المعنى الداخلي إلى تنوع الدلالات لنفس المؤشِّر المادي، ولذا فإن ثمة مؤشِّراً مادياً واحداً قد يشير إلى أكثر من مدلول أو إلى المدلول وعكسه. وقد درس الزعيم الصهيوني بن جوريون دوافع يهود الولايات المتحدة وتركيبتهم الأيديولوجية والنفسية، وخلص من هذا إلى أن صهيونية كثير من يهود أمريكا التي تتبدَّى في دفع التبرعات لإسرائيل والتظاهر من أجلها ليست تعبيراً عن رغبتهم في العودة إلى أرض الميعاد أو تمسُّكهم بهويتهم وإنما هي محاولة لتغطية اندماجهم في المجتمع الأمريكي وإرضاءً لضمائرهم اليهودية المتعبة.

فكأن المؤشِّر هنا (ادعاء الصهيونية) يشير إلى عكس مضمونه الصهيوني التقليدي (تماسك الهوية اليهودية). ولذا، رغم أن كثيراً من يهود أمريكا متعصبون ويعلنون صهيونيتهم بشراسة غير عادية، إلا أن المُلاحَظ أنهم لا يذهبون إلى انتخابات المؤتمر الصهيوني ويكتفون بدفع اشتراكات العضوية. ويُلاحَظ أن صهيونية يهود أمريكا تعني أنهم يهود/أمريكيون (على غرار إيطاليون/أمريكيون) أي أن إسرائيل مسقط رأسهم. ولكن مسقط الرأس هو المكان الذي يهاجر منه الإنسان لا إليه. ومرة أخرى نلاحظ أن المضمون الحقيقي لصهيونية يهود أمريكا ليس صهيونياً.

وهناك، كذلك، متحف الهولوكوست في الولايات المتحدة الذي افترض بعضهم أنه مؤشِّر على النفوذ الصهيوني. ولكن، بعد دراسة الأمر، ظهر أن يهود أمريكا قد أسسوا هذا المتحف دفاعاً عن هويتهم اليهودية الأمريكية وتأكيداً على أن أمريكا (وليس إسرائيل) هي وطنهم، وأنها ليست المنفى الذي يتحدث عنه الصهاينة. ولذا، لم يسعد صهاينة إسرائيل كثيراً بهذا المتحف إذ جعل مركز يهود أمريكا في أمريكا نفسها.

ولنأخذ ظاهرة حب اليهود وكرههم. فإذا عرفنا مثلاً أن حب بلفور لليهود كان يُعبِّر عن رغبته في التخلص منهم، فإننا سنكتشف أن حب بلفور لهم لا يختلف كثيراً عن كره هتلر لهم. إن المعنى الداخلي للمؤشِّر مرتبط تماماً برؤية الفاعل إلى الكون، فكأن المضمون المحدَّد والمتعيِّن للمؤشِّر يتحدَّد إلى حدٍّ كبير في إطار رؤية الفاعل. وثمة نقطة هامة أخرى مرتبطة تماماً بقضية المعنى الداخلي وهي أن رؤية الفاعل، ظاهرة كانت أم كامنة، مختلفة عن أمنياته وعن أقواله. فقد تتطابق الأمنيات والأقوال مع الرؤية إلى الكون، وقد تتناقض جزئياً أو كلياً معها. والمتتالية المحتملة والمشروع والبرنامج كثيراً ما تختلف عن المتتالية المتحققة وعن النتائج الفعلية، ويجب ألا يخلط الباحث الواحد بالآخر، فيأخذ البرنامج السياسي باعتباره مؤشِّراً صلباً على ما سيحدث.

4 ـ يرتبط بالعنصر السابق قضية استطلاعات الرأي التي يُنظر إليها باعتبار أنها مؤشِّرات صلبة على الاتجاهات السياسية في مجتمع ما. فتُوجَّه أسئلة واضحة يمكن الإجابة عنها بنعم أو لا، ثم تُصب المعلومات في جداول ويُقسَّم أصحاب الإجابات إلى صقور وحمائم مثلاً. والتقسيمات الثنائية تكون عادةً مغرية ولكن اختزالية، إذ لا يُعقل أن يكون الواقع بمثل هذه البساطة. فإن سُئِّل إسرائيلي هل أنت مع السلام؟ ستكون إجابته ولا شك "نعم أنا مع السلام"، إذ من النادر أن يوجد إنسان قادر على أن يقول أنا ضد السلام ومع سفك الدماء. فالسؤال الساذج يؤدي إلى إجابة ساذجة.

ولكن الثنائيات المتعارضة لا يمكنها أن تصل إلى تركيبية الواقع وتموجاته. وثمة أسئلة يمكن الإجابة عنها بـ «نعم» على مستوى و«لا» على مستوى آخر، و«نعم ولا» في آن واحد على مستوى ثالث. وهناك أيضاً الدوافع المركبة (بعضها خفي وبعضها على مستوى اللاوعي). فقد بيَّنت إحدى إحصاءات الرأي في الاتحاد السوفيتي أن 17% من يهود الاتحاد السوفيتي يتحدثون اليديشية. ولكنهم، بعد مراجعة الأرقام، وجدوا أن جزءاً كبيراً منهم قد صرح بأن اليديشية لغته كجزء من تأكيد هويته وكجزء من الاحتجاج على الدولة السوفيتية، وأن هؤلاء في واقع الأمر لا يتحدثون اليديشية، والأهم من هذا أنهم لا يرسلون أولادهم لتعلُّم اليديشية، وبالتالي فاستطلاع رأي هؤلاء لا يجدي كثيراً إذ أن ولاءهم العقائدي وأحلامهم المثالية هي التي تحدد إجابتهم وليس واقعهم الفعلي.

وفي أحد استطلاعات الرأي في إسرائيل، قالت أغلبية المشتركين إنهم من مؤيدي مؤتمر السلام، فقام أحد الصحفيين باستطلاع رأي آخر ليتأكد أن المشاركين يعنون ما يقولون ليكتشف أن 80% لا يعرفون مؤتمر السلام هذا ولا أهدافه. وكمحاولة للتوصل إلى إطار أكثر تركيباً، اقترحت في إحدى دراساتي، بدلاً من الصقور والحمائم، أن يكون هناك صقور وحمائم ودجاج (يفر) ونعام (يتجاهل الواقع)، واقترحت المزيد من " الطيور الإدراكية".

5 ـ يجب أن ندرك أن المؤشِّر في العلوم الإنسانية يشير إلى عالم الإنسان المركب الذي يوجد فيه ما هو جوهري وما هو هامشي، وأن المؤشِّر على الجوانب الجوهرية للظاهرة أكثر أهمية من المؤشِّر على الجوانب الهامشية. فيمكن أن يورد الإنسان مؤشِّرات صلبة ولكن ليست لها مقدرة تفسيرية عالية أو مركزية. ولذا، إن بيَّن أحد أن كل نساء ولاية إلينوي ممن تجـاوزن سن الأربعين يؤيدن الدولة الصهيونية، فلابد أن يكون ذلك الأمر مهماً ولكنه أقل أهمية عن معـرفة أن مستشاري الأمن القـومي في الولايات المتحـدة (من يهـود وغـير يهود) مؤيدون لإسرائيل.

6 ـ كما ينبغي، بقدر الإمكان، الاحتفاظ بالبُعد المعرفي النهائي للمؤشِّر إذ سيساعدنا هذا على التمييز بين المهم والأقل أهمية، وبين الهامشي والجوهري والنماذجي، وبين الجزء والكل، وبين الأمنية والحقيقة، وبين المضمون المتعيِّن للمؤشِّر وأي مضمـون عشـوائي. فالمؤشِّر بدون بُعد معرفي (وفي إطار محـايد) قد يصـلح لأن يكون مؤشِّراً على أي شيء.

ويجب أن ندرك أن المؤشِّر، مهما بلغ من شفافية أو سطحية أو وضوح، له بُعده المعرفي. وحين يأخذ دارس ما اشتراك أمريكي يهودي في مظاهرة تأييد لإسرائيل دليلاً واضحاً على صهيونية هذا اليهودي، فلابد أنه يؤمن، في واقع الأمر بشكل ما، أن كل يهوديٍّ صهيونيٌّ بشكل فعلي أو محتمل، أي أنه يؤمن ببساطة الدوافع الإنسانية وأحاديتها وجمود الطبيعة البشرية. أو كما يقولون بالإنجليزية " وانس أي جو ألويز أي جو Once a Jew, always a Jew من وُلد يهودياً يظل كذلك مدى حياته ". وكلمة «يهودي» هنا تشير إلى مجموعة من الصفات التي يُفترَض فيها أنها يهودية. وهذه رؤية سطحية يائسة.

7 ـ وفي تحليل المضمون تؤخذ الكلمات والجمل كمؤشِّرات على أفكار أو مواقف من استخدمها أو نطق بها. ويمكن أن تدور الكلمات والجمل في إطار النماذج الاختزالية فيتم تصنيفها بشكل سطحي مباشر، وكأنها انعكاس بسيط لواقع المتحدث، وكأن الكلمات أدوات شفافة تُوصِّل ما يريد الإنسان التعبير عنه بشكل مباشر. وتبدأ عملية الإحصاء والرسوم البيانية التي لا تلامس إلا السطح. ولتجاوز هذا لابد أن يُدرك الباحث أن علاقة الدال بالمدلول ليست بسيطة أو سهلة أو مباشرة وإنما بالغة التركيب. فالمدلول يتغيَّر حسب تغيُّر السياق. ولذا نجد أن الدال الواحد مثل «قومية» له مدلول داخل التشكيل الحضاري العربي مختلف عن مدلوله داخل التشكيل الحضاري الياباني. كما أن اللغة المجازية لها أبعاد مختلفة عن اللغة المباشرة. وعلاقة الكلمات بعضها ببعض قد تكون أكثر أهمية من معنى الكلمة في نفسها وما بين السطور قد يُحدِّد معنى الكلمات التي فوقها.

8 ـ وقد يكون من المفيد أن نتوقف هنا لنشير إلى ظاهرة لاحظناها في العالم العربي وهي أن كثيراً من الباحثين ممن هُزموا من الداخل بدأوا يوظفون المؤشِّرات في دعم الهزيمة. وهذه ظاهرة بدأت مع العصر الحديث في العالم العربي. فبعد وصول القوات الغازية الغربية في أوائل القرن التاسع عشر، اهتزت ثقة الإنسان العربي في نفسه، وخصوصاً أنه لم يكن يعرف شيئاً عن الحضارة الغازية (فكرها ـ آلياتها ـ قوانينها ـ نقاط تصورها)، لم يكن يعرف مثلاً أي شيء عن تاريخ النهب الإمبريالي والتراكم الإمبريالي، فتصور واهماً أن الإنسان الغربي قد توصَّل إلى ما توصَّل إليه من نظام ورخاء من خلال إعمال عقله وبذل جهده وعمله لا من خلال استخدام عضلاته وتكنولوجيا الفتك المتقدمة وعمليات النهب المنظمة.

وحينما ذهب الطهطاوي إلى باريس لم ير سوى الحرية والثقافة، ولم ير الجوانب المظلمة لهذه الحضارة رغم أنه ذهب إلى هناك عام 1830، وهو نفس العام الذي كانت فيه المدافع الفرنسية تَدُك الجزائر الآمنة. وقد يكون من المهم مقارنة استجابة الطهطاوي باستجابة ذلك الشيخ الجزائري الذي قيل له إن عساكر الفرنسيين قد جاءوا لينشروا الحضارة والمحبة في ربوع الجزائر، فأجاب إجابة مقتضبة جداً: لم أحضروا كل هذه المدافع وكل هذه البارود إذن؟ وهـذا هو السـؤال الذي لم يسأله الطهطاوي ولم يسـأله كثير من الباحـثين ممن وقـعــوا تحت وطأة الهزيمة واسـتبطنوها تماماً. وبدلاً من اكتشاف الواقع الغربي بجوانبه المنيرة والمظلمة، جعلوا شغلهم الشاغل النقل عن الغرب كجزء من محاولة اللحاق به. وبالتدريج، وتحت شعار الموضوعية والواقعية، بدأوا يتجردون من مثالياتهم وتراثهم وإبداعهم وأصبح همهم تَقبُّل الوضع القائم وموازين القوى وأصبح الآخر هو المثل الأعلى. وقد أنتج هذا مجموعة من المؤشِّرات الموضوعية هي في الواقع تعبير عن الهزيمة.

وقد حدث شيء مماثل بالنسبة لإسرائيل، فنحن في رصدنا لها لا نركز إلا على مواطن قوتها وتَقدُّمها وتَفوُّقها، وهذه هي الموضوعية والواقعية، أما إذا اكتشفنا نقط ضعف العدو وقصوره وتآكله، فإن هذا يُصنَّف باعتباره خداعاً للذات. إن الذات المهزومة تخضع تماماً للآخر ولا يمكنها أن تتصور أن من الممكن أن تتفاعل داخله عوامل الحياة والانتصار والموت والانكسار. وتدريجياً، يدمن الإنسان الهزيمة إدماناً كاملاً حتى تصبح رؤية للكون لا يستطيع المرء أن يحتفظ بتوازنه بدونها. ومع أطروحة الهزيمة الاختزالية، تحوَّل كثير من الباحثين إلى جند مجندة تخدم العدو بنزاهة موضوعية دون أن تدري، فهي ترصد مواطن قوته، وتُصدِّق كل ما يقوله وتتصرف في إطاره بأمانة مضحكة دون تمحيص، وكيف يتأتى لهم غير ذلك وهم المهزومون من الداخل؟

ويمكن تجاوز النموذج الاختزالي، كما يمكن تحسين أداء المؤشِّر كأداة لمعرفة الواقع بدلاً من أن تُحوِّله إلى أداة تُخفيه تماماً عن عيوننا، وذلك عن طريق إدراك تركيبية الواقع. ويترجم هذا الموقف نفسه إلى تنويع السياقات التي يتم إدراك المؤشِّر في إطارها بحيث يتحول المؤشِّر الصلب من مجرد آلة صلبة لتسطيح الواقع إلى أداة مرنة تكتشف نتوءه ومنحناه الخاص. وهذا لا يتأتى للباحث إلا إذا قام بعملية تثقيف ذاتية فيما يتصل بالسياقات المختلفة المحتملة للمؤشِّر، فإدراكه لهذه السياقات سيُمكِّنه من وضع المؤشِّر داخل نمط عام، كما أنه سيدرك معناه الداخلي والإشكاليات المختلفة المرتبطة به. ولنضرب مثلاً باللوبي الصهيوني الذي تُجمع معظم الكتابات العربية أنه القوة الحقيقية وراء تحركات الولايات المتحدة والعالم الغربي ضدنا. وقد كُتبت كثير من الدراسات انطلاقاً من هذه الأطروحـة البسـيطة وقامت بتوثيقها بعناية بالغـة دون اختبارها أو وضعها هي نفسها موضع الاختبار. 

وبإمكان الباحث أن يفعل ما يلي حتى يمكنه وضع هذه الأطروحة الصلبة البسيطة موضع التساؤل:

1 ـ دراسة جماعات الضغط الأخرى (الشواذ جنسياً ـ المدافعين عن حق المواطن الأمريكي في امتلاك السلاح) لنقارن قوتها بقوة اللوبي الصهيوني، ولنرى هل قوة اللوبي الصهيوني أمر فريد، أم أنها إحدى سمات الديموقراطية الأمريكية (ديموقراطية جماعات الضغط)؟

2 ـ يمكن دراسة الموقف الأمريكي (والغربي بشكل عام) من الصهيونية وإسرائيل قبل ظهور اللوبي الصهيوني وبعد ظهوره ومقارنتها.

3 ـ دراسة تزايد الدعم الأمريكي للصهيونية وإسرائيل وعلاقته باللوبي الصهيوني. وهل هناك علاقة طردية بين هذا التزايد وتزايد قوة اللوبي الصهيوني والحركة الصهيونية أم أن الدعم يتزايد بغض النظر عن قوة أو ضعف اللوبي؟

4 ـ دراسة الدعم الأمريكي لبلد مثل تركيا أو شيلي ليس لهما لوبي وهل الدعم الأمريكي لإسرائيل مختلف عن دعمها لهاتين البلدين؟

5 ـ دراسة الدعم البريطاني لإسرائيل وهل يوجد لوبي صهيوني قوي في إنجلترا أم أن الدعم البريطاني مرتبط بالمصالح الإستراتيجية لبريطانيا؟

6 ـ هل صدرت قرارات أمريكية لدعم إسرائيل بدون ضغط من اللوبي الصهيوني أم أن القرارات لا تصدر إلا من خلال الضغط الذي يمارسه؟

7 ـ دراسـة طريقة صـنع القرار في الولايات المتحـدة ومدى تأثرها بجماعات الضـغط في الأمـور الإستراتيجية الجوهرية.

8 ـ دراسة التوجه الإستراتيجي العام للسياسة الأمريكية وهل تم تحديد هذا التوجه من خلال الضغط الصهيوني أم أن هذه سياسة عليا لم يساهم الصهاينة في صياغتها؟

9 ـ دراسة لحظات التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل (عدوان 1956 وحادثة بولارد) وهل نجح اللوبي الصهيوني في تغيير السياسة؟

10 ـ مقارنة لحظات التوتر بين الولايات المتحدة وإسرائيل ولحظات التوتر بين السلطات البريطانية في فلسطين والمستوطنين الصهاينة (ولحظات التوتر بين فرنسا والمستوطنين الفرنسيين في الجزائر).

11 ـ دراسة تاريخية للعناصر التي أدَّت إلى صدور وعد بلفور (أهم إنجاز صهيوني على الإطلاق) وهل لعب اللوبي الصهيوني أي دور في ذلك وماذا كان حجم الدور؟

12 ـ إجراء عمليات عقلية تصورية عن مسار السياسة الأمريكية لو غاب اللوبي الصهيوني وغابت إسرائيل. هل سياسة الولايات المتحدة تجاه القومية العربية (على سبيل المثال) كانت ستتغيَّر لو أن يهود العالم وإسرائيل اختفوا من على وجه الأرض أم أن ملامحها الأساسية ستظل كما هي؟


الـنـمــــوذج الـمـركـب 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
الـنـمــــوذج الـمـركـب
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـثـقــافـــــــــة والإعـــــــــلام :: مـوسـوعة الـيـهـــود-
انتقل الى: