الباب الثانى: أنواع النماذج
أنواع النماذج: مقدمة
ليست كل النماذج نوعاً واحداً. ويمكننا تصنيف النماذج على عدة أسس:
1 ـ يمكن تصنيف النماذج على أساس مدى الكمون أو الظهور (الوعي أو عدم الوعي):
- أهم أنواع النماذج الواعية هو ما نسميه «النموذج التحليلي».
ويتسم هذا النموذج بأن من يستخدمه واع به تمام الوعي إذ يقوم الباحث بصياغة النموذج بشكل واع لرصد وتحليل الظواهر.
ومثل هذا النموذج عادةً ما يتسم بقدر عال من التكامل والاتساق المنطقي الداخلي.
وعادةً ما يحاول الباحث صاحب النموذج أن يوضح للمتلقي مسـلماته الكلية الكامنة.
لكن وعي صاحـب النموذج التحليلي بنموذجه لا يعني أنه قد نفض تحيزاته عن نفسه تماماً، فهو ولا شك يخضع لنفوذ النموذج الإدراكي الذي ورثه عن مجتمعه وبيئته.
ويمكن أحياناً أن يكون النموذج التحليلي هو نفسه النموذج الإدراكي.
- مقابل النموذج التحليلي الواعي (والمتتاليات المثالية المُفترَضة)، نضع «النموذج الإدراكي الكامن» غير الواعي، أي النموذج الذي يُوجِّه سلوك الناس دون أن يعوا وجوده فهو يُشكِّل رؤيتهم للكون، ويُشبه قواعد اللغة الأم بالنسبة للمتحدث بها. فنحن حين نتحدث العربية لا نفكر في المبتدأ والخبر ولا في أي من القواعد التي نستخدمها إذ أننا استبطناها تماماً.
والنماذج الإدراكية (غير الواعية) عادةً ما تكون غير متجانسة ولا تتسم بالنقاء أو الاتساق، بل كثيراً ما تحوي أفكاراً متناقضة مع المنطق الأساسي للنموذج (ولذا نُفضِّل تسمية هذه النماذج بـ «المنظومة»(.
2 ـ ويمكن تصنيف النماذج على أساس مدى يقينيتها واستقرارها واحتماليتها:
- والنماذج المستقرة هي تلك التي تم تجريبها واكتسبت قدراً معقولاً من اليقينية، فهي «نماذج تفسيرية مستقرة».
- أما النماذج الاحتمالية، فهي لا تزال فرضية منفتحة تحاول أن ترصد ما هو كامن لترى هل سينتقل من عالم الإمكان إلى عالم التحقق أم لا، كما أنها محاولة لرصد ما هو مجهول لنرى هل هو موجود بالفعل أم هو مجرد وهم، فهي «نماذج تفسيرية احتمالية».
3 ـ ويمكن تصنيف النموذج من واقع عملية التفكيك والتركيب ونوعيتها:
- فالتجريد يمكن أن يكون تفكيكاً بدون تركيب وثمرة هذه العملية هي «النموذج التفكيكي».
- ويمكن أن يكون تفكيكاً ثم تركيباً على أسس جديدة. في هذه الحالة، يمكن القول بأن النموذج «نموذج تأسيسي» لأنه لم يكتف بتحليل الواقع أو النص من خلال المسلمات القائمة وإنما أعاد التفسير من خلال مسلمات ورؤية جديدة.
4 ـ يمكن تصنيف النماذج على أساس انفتاحها وانغلاقها:
- فإن كان النموذج يحتوي على عناصر معروفة مضبوطة بحيث تكون النتائج كامنة تماماً في المقدمات، فهو «نموذج مغلق» أو «نموذج تكامل عضوي».
- أما إذا كان النموذج يعترف بالمجهول ويحتوي على عناصر من المعروف والمستقر وعناصر احتمالية وعنده مقدرة على اكتشـاف الجـديد وغير المـادي فهو «نمـوذج مفتوح» أو «نموذج فضفاض» أو «نموذج تكامل غير عضوي».
5 ـ ويمكن تصنيف النماذج من منظور تركيبيتها واختزاليتها:
- فإن كان النموذج بسيطاً، ينطوي على عنصر واحد أو عنصرين، فإنه سيختزل الواقع بأسره إلى هذا العنصر أو هذين العنصرين، والنموذج هو «نموذج اختزالي».
- أما إذا كان النموذج مركباً ينطوي على عدة عناصر ومنفتحاً على العناصر التي قد تجدُّ وعلى ما هو مادي وغير مادي فهو إذن «نموذج مركب».
6 ـ ويمكن تصنيف النموذج على أساس درجة ارتباطه بالزمان والمكان أو تَجرُّده منها:
- فإن كان عنصر الزمان والمكان واضحاً فيه، فهو «نموذج تعاقبي». ويرتبط بالنموذج التعاقبي مفهوم المتتالية النماذجية، وهي حلقات تَحقُّق النموذج في الزمان والمكان.
- أما إذا بهت عنصر الزمان واختفى فهو «نموذج تزامني» أو «نموذج بنيوي» يركز على البنية وحدها دون التعاقب التاريخي.
- ويمكن أن تستمر درجة التجريد إلى أن نصل إلى «النموذج الأوَّلي» (بالإنجليزية: آرك تايب archetype)، وهو نموذج يتكرر عَبْر كل الأزمنة والأمكنة في اللاوعي الجمعي عند البشر، مثل اليهودي التائه أو فاوستوس أو السندباد البحري أو النبي الذي لا كرامة له في وطنه أو الشاطر حسن، وهو نموذج ساكن يتعامل مع الثوابت متحرراً تماماً من الأزمنة والأمكنة.
- ويمكن أن يصل التجريد درجة عالية تصل بنا إلى النماذج الرياضية أو اللغوية التي تحاول دراسة الواقع الإنساني من منظور العلاقات الرياضية أو القواعد اللغوية وهذه هي «النماذج البنيوية».
7 ـ ويمكن تصنيف النماذج على أساس الهدف الذي يرمي صاحب النموذج إلى تحقيقه:
- فإذا كان صاحب النموذج يتعامل مع الواقع (وخصوصاً الطبيعي/المادي) باعتباره مجموعة علاقات بسيطة يمكن رصدها بدقة، كما هي، فهو «نموذج موضوعي» (وعادةً «مادي»).
- أما إذا كان صاحب النموذج يتعامل مع الواقع (وخصوصاً الإنساني) باعتباره مجموعة علاقات بين عناصر بعضها معروف وبعضها مجهول وأن هذه العلاقات مركبة إلى أقصى درجة، ومن ثم فشرحها شرحاً كاملاً وردها إلى قوانين عامة مجردة أمر مستحيل ومن ثم لا مناص من أن يقنع الإنسان بعملية التفسير، فهو «نموذج تفسيري».
8 ـ يمكن تقسيم النماذج على أساس مفهوم العقل وعلاقته بالواقع وطبيعة الإدراك:
- فإن كان النموذج ينطوي على تَصوُّر للعقل باعتباره سلبياً متلقياً، فهو «نموذج متلقي».
- وإذا كان النموذج ينطوي على مفهوم للعقل باعتباره مبدعاً في أية عملية إدراكية، فهو «نمـوذج اجتهادي».
9 ـ ويمكن تصنيف النماذج على أساس فكرة التراكم والتوليد:
- فإن كان النموذج موضوعياً، كان اكتسـاب المعرفة عملـية تراكم (على صفحة العقل) وكان النموذج «نموذجاً تراكمياً».
- وإن كان النموذج تفسيرياً، فإن اكتساب المعرفة لا يكون عملية تراكم وإنما هي أيضاً عملية إبداع وتوليد (من داخل العقل)، وكان النموذج «نموذجاً توليدياً».
10 ـ ويمكن تصنيف النماذج على أساس مدى واقعيتها ومثاليتها:
- فإن أخذنا مفهوم «مثالي» بمعنى «مُتخيَّل» أو «غير متحقق بعد» أو «ما ينبغي أن يكون»، فإننا نضع «النموذج المتحقق الفعلي» مقابل «النموذج المثالي» أي الذي لم يتحقق بعد، ويكون النموذج حينذاك منتمياً إلى عالم الآمال والتوقعات والبرامج الثورية.
فالاشتراكية في الاتحاد السوفيتي كانت حلماً وصورة مُتخيَّلة إذ تصوَّر الناس أنهم لو فعلوا كذا وكذا لحققوا العدالة في المجتمع والسعادة للأفراد.
ونحن نذهب إلى أن النموذج يتحقق من خلال متتالية متعددة الحلقات، وما حدث في المجتمع الاشتراكي أنه حينما تتابعت حلقاته ظهر أن النتيجة النهائية (المتتالية التي تحققت بالفعل) عكس ما كان مُتوقَّعاً (المتتالية المفترضة أو المثالية)، وأن الأحلام لم تكن سوى كوابيس.
- ولكن كلمة «مثالي» تعني أيضاً أنه يدور في إطار المرجعية المتجاوزة للمادة.
و«النموذج المثالي» بهذا المعنى هو النموذج الذي يحوي عناصر لا تنتمي للواقع المادي وتتجاوزه. ويمكن أن نضعه مقابل «النموذج الواقعي أو المادي» الذي يدور في إطار الطبيعة/المادة.
11 ـ ويمكن تصنيف النماذج على أساس الصورة المجازية الأساسية الكامنة فيها:
فنقسمها (على سبيل المثال) إلى «نماذج عضوية» وأخرى «آلية» أو «جيولوجية تراكمية».
12ـ ويمكن تصنيف النماذج على أساس مضمونها المباشر:
- فيمكن أن يكون المضمون هو السياسة فنقول «نموذج سياسي» أو «نموذج اقتصادي» وهكذا.
- من أهم أنواع النماذج «النموذج الحضاري» وهو النموذج الذي نتصور أنه النموذج الحاكم في حضارة ما.
ودراسة هذا النوع من النماذج محفوف بالمخاطر لأن الأبعاد والاتجاهات الحضارية التي يتم التعميم بناءً عليها، عناصر غير محسوسة أو ملموسة، توجد كامنة في الواقع، داخل آلاف التفاصيل التي لا يمكن فصلها الواحدة عن الأخرى، وهي ليست تفاصيل عادية وإنما مرتبطة بالمعنى الرمزي الذي يُسقطه الفاعل الإنساني عليها.
ولذا فالتعميم، بناءً على مثل هذه الأبعاد والاتجاهات، أكثر خلافية وأقل يقينية من التعميم بناءً على العناصر الاقتصادية والسياسية. ولذا فحينما نتحدث عن النموذج الحضاري الغربي الحديث، فنحن نفعل ذلك بكثير من الحيطة والحذر.
- نحن نذهب إلى أن نموذج التأرجح بين الواحدية الذاتية (التمركز حول الذات) والواحدية الموضوعية (التمركز حول الموضوع) وبين الصلابة والسيولة هو نموذج عام له مقدرة تفسيرية عالية.
- ومن أهم النماذج التي ظهرت مؤخراً نموذج الما بعد (كما في مصطلح «ما بعد الحداثة»(.
ورغم أننا قمنا بفصل هذه النماذج بعضها عن بعض، فإن هذا ضرورة تحليلية وحسب، فكل النماذج رغم اختلاف مضامينها وبنيتها مترابطة.
فالنموذج، مهما بلغ من سطحية ومباشرة، يحوي بُعداً معرفياً نهائياً.
وأي نموذج تفسيري، تحليلي أو إدراكي، يتسم بصفات مختلفة حيث إن نموذجاً ما يمكن أن يكون نموذجاً تفسيرياً اجتهادياً توليدياً مركباً ويكون الآخر نموذجاً موضوعياً متلقياً تراكمياً اختزالياً، وهكذا.
وعادةً ما تتسم النماذج المادية الموضوعية بالتراكمية والاختزالية والانغلاق، فهي تطمح إلى أن تَردَّ الواقع بأسره إلى مستوى واحد تدركه الحواس، أما ما لا تُدركه الحواس فلا وجود له.
كما أنها تحاول أن تفسر الواقع تفسيراً شاملاً يحيط بكل جوانبه وأن تصل إلى مستوى عال من اليقينية.
هذا على عكس النماذج التي تصدر عن رؤية مادية وغير مادية في آن واحد، فهي نماذج تفسيرية اجتهادية تتسم بالتوليدية والتركيبية والانفتاح، تطمح للوصول إلى مستوى معقول من التفسيرية ولا تطمح إلى الوصول إلى تفسيرات جامعة مانعة، ولذا فهي تقنع بقدر معقول من اليقينية دون محاولة للوصول إلى اليقينية التامة.
وقد استخدمنا كلمة «نموذج» في هذه الموسوعة للإشارة لكل هذه المدلولات. وحاولنا توضيح المعنى المقصود إما صراحةً أو من خلال السياق.
النموذج التصنيفى
«صَنَّف الأشـياء» عبارة معناها: جعل الأشـياء أصنافاً وميَّز بعضها عن بعض. ومن ذلك تصنيف الكتب وتصنيف العلوم. التصنيف، إذن، هو أن تجعل الأشياء أصنافاً وأضرباً على أساس يَسهُل معه تمييز بعضها عن بعـض، أو أن تُرتَب المعاني بحـسب العلاقات التي تربط بعضها بالبعض الآخر كعلاقة الجنس بالنوع أو الكل بالجزء.
والنظام التصنيفي نظام هرمي بالضرورة يفترض وجود مركز وهامش، وقمة وقاع، ومهم وغير مهم. وهناك أسس تصنيفية عديدة، كل تصنيف له منطقه الخاص.
فيمكن أن يتم التصنيف على أساس الانتماء الديني أو على أساس الانتماء العرْقي، كما يمكن التصنيف على أساس تاريخي أو على أساس بنيوي، المهم أن يتم التصنيف من خلال نموذج تفسيري يمكنه أن يبيِّن ما هو مهم ومركزي في ظاهرة ما.
فالرصد الموضوعي الأفقي التراكمي يأتي بالمعلومات والمعطيات المختلفة ولكنه لا يمكنه ترتيبها أو تصنيفها إلا بشكل سطحي أو عشوائي، كأن يصنفها على أساس ألفبائي أو على أساس أي عنصر ثانوي يرد فيها.
فيُقال إن قصة " ذات الرداء الأحمر " هي قصة عن الذئاب أو عن الغابة أو عن النبات أو عن اللون الأحمر وليس عن الانتقال من البراءة إلى الخبرة أو المواجهة بين الإنسان والطبيعة... إلخ.
كما أن الرصد الموضوعي قد يكون عاماً جداً فيُقال " تعاملت هذه الدراسة مع اليهود " دون تخصيص أو تحديد.
وهذه الموسوعة تطرح نموذجاً تفسيرياً جديداً، ومن ثم فإن منطقها التصنيفي مختلف عن الدراسات الأخرى. على سبيل المثال، نحن نرى أن الصهيونية حركة ليست ذات جذور يهودية وإنما حركة ذات جذور غربية استعمارية تهدف إلى تخليص أوربا من اليهود عن طريق توطينهم في فلسطين، ومن ثم فنحن نرى أنها لا تُوضَع (أو تُصنَّف) كمقابل ظاهرة العداء لليهود وإنما هي امتداد لها.
وقد طُرحت الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة بعد صياغتها على أيدي بعض المفكرين غير اليهود على الجماهير اليهودية، وفي بعض الأحيان فُرضت على هذه الجماهير فرضاً.
ومن هنا، يصبح عداء بلفور لليهود أمراً بالغ الأهمية، وتصبح شخصية مثل ألفريد نوسيج، الذي شارك في تأسيس الحركة الصهيونية مع هرتزل (لتخليص أوربا من اليهود) ثم امتد به العمر ليُقدِّم للجستابو مخططاً لإبادة يهود أوربا، ليس مجرد شخصية هامشية تشكل انحرافاً عن مسار الصهيونية وإنما يجب تصنيفه باعتباره شخصية نماذجية دالة، ومن هنا أهمية معاهدة الهعفراه بين النازيين والصهاينة.
وقد طرحنا أيضاً نموذج الجماعة الوظيفية كنموذج تفسيري أساسي، وبناءً عليه أصبحت تجربة يهود بولندا في ظل الإقطاع الاستيطاني ونظام الأرندا في أوكرانيا وعلاقتهم بطبقة النبلاء البولنديين (شلاختا) ذات أهمية محورية.
فمن خلال نموذجنا التفسيري أصبحت هذه الوقائع التي تُهمَّش في كتب التاريخ الصهيونية ذات دلالة نماذجية عميقة، وتم تصنيفها على هذا الأساس.
التعاقب والتزامن (نموذج تاريخى وبنيوى أو يدور حول موضوعات)
«تعاقَب الشيئان» عبارة معناها «خَلَف أحدهما الآخر»، و«تعاقَب القوم في الشيء أو الأمر» معناها «تناوبوه»، ومن ذلك كلمة «تعاقُب».
أما «التزامن»، في علم الطبيعة، فهو ما يتفق مع غيره في الزمن. ومن ثم، يجيء «التعاقُب» في مقابل «التزامن».
والوجود الإنساني يكون داخل كل من التعاقُب والتزامن، فالأيام تجري الواحدة تلو الأخرى، ومراحل حياة الإنسان تتعاقب وكذا الفصول. والتجربة الأساسية في حياة الإنسان (التاريخ والزمن) هي أيضاً تجربة تعاقُب، فتدول الدول وتحل محلها أخرى.
ولكن، إلى جانب التعاقُب، توجد تجربة التزامن. فإذا كان الزمان متغيِّراً، فإن المكان يتسم بقدر أكبر من الثبات، بل إن الزمان المُتعاقب نفسه يأخذ شكل أنماط متكررة تتسم بنفس السمات ومن ثم بقدر من الثبات. وهكذا يعيش الإنسان في تَعاقُب وتَزامُن يتغير ويتطور دون أن يعني تغيُّره وتطوُّره تحوُّله الكامل.
والتضاد بين التعاقب والتزامُن مقولة أساسية في الفلسفة البنائية التي تُعرِّف البنية بأنها مجموعة العلاقات بين العناصر المختلفة للظاهرة والتي تعطي لهذه الظاهرة هويتها وتضفي عليها خصوصيتها. ومن يؤمن بالتَعاقُب وحسب يرى أن العالم لا ثبات فيه وأن كل الأمور زمنية نسبية (وهذا هو جوهر التفكير التاريخاني [بالإنجليزية: هيستوريسيست historicist])، أما من يؤمن بالتزامُن فهو يؤمن بالثبات والجمود وكأن الشيء الوحيد الحقيقي هو المُثُل الأفلاطونية وأن الواقع إن هو إلا انعكاس خافت لها، ومن ثم يكون البحث عن الثابت دون المتحول.
والفكر الكـموني الواحـدي المـادي يتأرجح بين التعاقُب والتزامُن (تماماً مثلما يتأرجح بين الذات والموضوع من جهة، واليقين الكامل والنسبية الكاملة من جهة أخرى).
وهو انعكاس للإشكالية الأساسية في النظم الكمونية بين النزعة نحو تأليه الكون وإنكاره. فالنزعة نحو تأليه الكون تأخذ شكل تَبنِّي نماذج تفسيرية لا تعرف سوى التَعاقُب (نماذج تاريخية)، أما النزعة نحو إنكاره فتتبني نماذج تفسيرية لا تعرف سوى التزامُن والثبات (نماذج بنيوية).
ويُلاحَظ الانتقال من النماذج التفسيرية التاريخية إلى النماذج التفسيرية البنيوية في الحضارة الغربية، فقد كانت النماذج التفسيرية التاريخية تسود فيها في عصر المادية البطولي والتحديث مع الإيمان بفكرة التقدم وبمقدرة الإنسان على أن يسيطر على الزمان والمكان من خلال مسار التاريخ. ومع أن النزعة الإمبريالية الغربية تنزع نحو إنكار تواريخ الآخرين (كما يفعل الصهاينة مع الفلسطينيين)، إلا أنها نزعة تستند أيضاً إلى رؤية تاريخية محددة للذات باعتبارها ثمرة تطور تاريخي حتمي وضعها في قمة سلم التقدم والتطور وأسبغ عليها حقوقاً مطلقة لهذا السبب.
ولكن، مع فقدان الإنسان الغربي ثقته في نفسه ومع تراجُع الإمبريالية، بدأ الإنسان الغربي يفقد ثقته في التاريخ كمجال لتَحقُّق ذاته التاريخية، وبدأ الانتقال إلى نماذج بنيوية (الانتقال من هيجل وماركس إلى كيركجارد ونيتشه وأخيراً دريدا)، وبدأ الاهتمام بالأسطورة التي عرَّفها ليفي شتراوس بأنها آلات لخنق الزمان إلى أن نصل إلى أسطورة نهاية التاريخ.
والنموذج الذي نتبناه في هذه الموسوعة لا هو بالمتعاقب ولا هو بالمتزامن وإنما يحاول الجمع بينهما. فنحن نؤمن بوجود إنسانية مشتركة توجد داخل النظام الطبيعي، جانب منها خاضع لقوانين المادة والحركة والتعاقب (النزعة الجنينية)، وهي في الوقت نفسـه متميِّزة عن النظـام الطبيعي المادي إذ يوجـد فيها أيضاً القبـس الإلهي (النزعة الربانية).
ولذا، فهي جزء من الطبيعة/المادة خاضعة لقوانين الحركة والتغير (التعاقب) التي لا تتم بشكل عشوائي وإنما حسب سنن وتأخذ شكل أنماط ثابتة (التعاقب).
وهذه الإنسانية تدور داخل أنماط إنسانية عامة مشتركة (التزامن) ولكنها لا تتحقق دائماً (كلها وبنفس الصورة)، كما أنها تتحقق داخل الزمان (التعاقب) ويمكنها أن تحقق قدراً من الاستقلال والثبات (التزامن)، (الثبات الكامل لله وحده وهو يوجد خارج النظام الطبيعي تماماً).
وبهذا المعنى، فإننا نرى أن ثمة تداخلاً بين المتعاقب والمتزامن، ولذا فإن البنَى التاريخية بنَى متغيرة متعاقبة ولكنها تتبع نمـطاً معيَّناً (ليس مطـلقاً ثابتاً ومقرراً بصورة مسـبقة)، وهذا يعني أن ثمة مجالاً دائماً للحرية والفوضى، والانتصار والانكسار؛ أن ثمة إمكانية دائمة للمأساة والملهاة.
ونحن في هذه الموسوعة نستخدم نماذج تحليلية تاريخية (مبنية على التعاقب) ونماذج تحليلية بنيوية (مبنية على التزامن).
النموذج الآلى والنموذج العضوى
نحن نذهب إلى أن ثمة نموذجين أساسيين في الحضارة الغربية، نموذج آلي ونموذج عضوي، وقد سُميا كذلك لأن كل واحد منهما يحوي صورة مجازية مختلفة: الصورة المجازية الآلية (العالم آلة) أو الصورة المجازية العضوية (العالم كائن حي) يُعبِّران عن الطبيعة/المادة.
الصورة المجازية الأولى تُصوِّر العالم على هيئة آلة حركتها آلية والمبدأ الواحد فيها براني، ولذا فهي تتحرك مدفوعة من الخارج. أما الثانية فتُصوِّر العالم على هيئة كائن حي حركته حركة عضوية والمبدأ الواحد فيها جواني، ولذا فهي تتحرك مدفوعة من خلال نموها الداخلي وكلا النموذجين يستبعد الحيز الإنساني ويستوعبه.
ويُلاحَظ أنه في عصر ما بعد الحداثة بدأت كل من الصور المجازية العضوية والآلية في الاختفاء أو التحرك نحو الهامش ليحل محلها صور تُعبِّر عن التفتت أو عن سطح مصقول بلا أعماق.
ونحن نستخدم في هذه الموسوعة نموذج التكامل غير العضوي أو النموذج الفضفاض.
نموذج التركيب الجيولوجى التراكمى
«التركيب الجيولوجي التراكمي» عبارة نستخدمها لنشير إلى أحد النماذج التفسيرية الذي يحاول أن يصف عمق عدم التجانس الذي تتسم به العقيدة/العقائد اليهودية، والهوية/الهويات اليهودية، وإلى أن نقط الاختلاف بين هذه العقائد والهويات أهم من نقط التشابه بينها، ويمكن لنسق ما أن يتسم بعدم التجانس وعدم الترابط (كما هو الحال في نموذج التكامل غير العضوي).
ولكن التنوع يظل داخل إطار من الوحدة، فالنموذج لابد أن يكون له مركز وركيزة نهائية وحدود وسمات بنيوية تفصله عن غيره من الأنساق، وقد يتشابك النموذج مع غيره من النماذج ويتداخل. ولكن مهما بلغت درجة التنوع في النموذج ودرجة تشابكه مع النماذج الأخرى، فلابد أن يتصف بعدة سمات أساسية وجوهرية (ركيزة أساسية) تشكل هويته وتَصلُح أساساً لتفسيره وتصنيفه وعزله عن غيره من النماذج.
ولكن التركيب الجيولوجي التراكمي يتسم بأنه يتكون من طبقات جامدة مستقلة تراكمت الواحدة فوق الأخرى ولم تُلغ أية طبقة جديدة ما قبلها.
وقد تتشابه هذه الطبقات وقد تختلف وقد تتفق أو تتناقض، غير أن السمة الأساسية لها هي أنها تتجاور وتتزامن وتتواجد مع بعضها ولكنها لا تتمازج ولا تتفاعل ولا تُلغي الواحدة الأخرى.
ويمكن تشبيه التركيب الجيولوجي التراكمي بالجبل الذي قد تكون داخله طبقة جيولوجية من الحجر الجيري وأخرى من الحجر الرملي وثالثة من الفوسفات ورابعة من الذهب، لكل طبقة طبيعتها المستقلة وبنيتها المادية وتاريخها الذي يزداد طولاً وقصراً حسب الطبقة، ولا ينتظم كل الطبقات سوى وحدة شكلية خارجية، أي وجودها كجزء من هذا الجبل.
وبالطبع، يمكن الاستمرار في التشبيه لنقول إن بعض هذه الطبقات توجد في الجبل عن طريق الصدفة، وأنها ممتدة في باطن الأرض قبل الجبل مستمرة بعده في الوادي المجاور، وأن وجودها في الجبل حدث مصادفة.
وإذا كانت الصورتان المجازيتان الآلية والعضوية صورتين مجازيتين واحديتين تؤكدان أشكالاً مختلفة من الوحدة والتماسك، فإن استعارة التركيب الجيولوجي التراكمي تشير إلى عدم التماسك وعدم وجود وحدة من أي نوع، فكل طبقة جيولوجية هي بنية مسـتقلة.
والنمـوذج الجـيولوجي لا يتسم بالتعددية كما قد يبدو لأول وهلة، فالتعددية تفترض قدراً من الوحدة المبدئية، حيث لا تنوع دون قدر من الوحدة ولا بنية إن غابت المعايير المركزية والسمات الأساسية، والتركيب الجيولوجي يفتقر إلى مثل هذه الوحدة.
وتوجد داخل العقيدة اليهودية طبقات مختلفة متصارعة أهمها الطبقة التوحيدية والطبقة الحلولية الكمونية. وتاريخ اليهودية هو تاريخ الصراع بين هاتين الطبقتين والذي انتهى بانتصار الحلولية الكمونية وهيمنتها.
أما داخل الهويات اليهودية، كتركيب جيولوجي، فإن تَحوُّل أعضاء الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية هو أهم الطبقات أو مكونات الهويات اليهودية المختلفة.
ومن المعروف أن أعضاء الجماعات الوظيفية يؤمنون برؤية حلولية كمونية للكون، ومن ثم تلتقي الطبقات الحلولية والوظيفية (وكلاهما يؤدي إلى العلمانية الشاملة).
النموذج الموضوعى المادى (المتلقى)
«النموذج الموضوعي المادي (المتلقي)» هو النموذج الذي ينطلق من الرؤية الموضوعية المادية المتلقية (انظر: «مشكلة الموضوعية الذاتية»).
ونحن نذهب إلى أن النماذج الموضوعية المادية لها فعاليتها في مجالها (عالم الظواهر الطبيعية) ولكنها تفقد فاعليتها وتصبح أداة اختزال حين تُطبَّق على الظواهر الإنسانية، فهي حينذاك تختزل الإنساني إلى الطبيعي. ولذا لابد من استخدام نماذج تفسيرية اجتهادية.
والنماذج الموضوعية المادية يمكن أن تكون اجتهادية مبدعة ولكن يمكن أن تكون متلقية، وهذا ما يحدث عادةً حين تُستخدَم في رصد الإنساني.
ونحن نضع «النموذج التفسيري (الاجتهادي)» مقابل «النموذج الموضوعي المادي (المتلقي)»، ومنطلقاتهما المعرفية مختلفة تماماً، بحيث يمكن تقسيم كل النماذج إلى موضوعية متلقية (تتسم بالتراكم والانغلاق والاختزال) وتفسيرية اجتهادية (تتسم بالتوليدية والانفتاح والتركيب).
النموذج التفسيرى (الاجتهادى)
يمكن القول بأن منطلقات النموذج التفسيري (الاجتهادي) هي عكس منطلقات النموذج الموضوعي المادي (المتلقي).
ولذا قد يصلح النموذج الموضوعي المادي في تفسير بعض جوانب الواقع الطبيعي، ولكنه يخفق تماماً حينما يحاول تطبيقه على ظاهرة الإنسان.
إذ يقوم النموذج الموضوعي المادي باستبعاد الإنسان كعنصر فاعل مركب كما يقوم أحياناً بتبسيط الطبيعة نفسها ثم إعطائها الهيمنة على الإنسان، أما النموذج التفسيري فهو ينظر إلى الطبيعة باعتبارها كياناً مركباً تنبض بالحياة وتمور بالأسرار وتتسم باللاتحدد، ولكنها، مع هذا، تتبع سنناً ولها هدف وغاية. وكل شيء في الطبيعة له مكانته ووظيفته وقيمته في ذاته، فالعالم كل متكامل (ومن المنظور التوحيدي، كل شيء في الكون قد ناله نصيب من التكريم لأنه من خلق الله وبديع صنعه).
وهـذا يعني أن الإنسان ليـس موجوداً في الكون بمفـرده، فالكائنات الأخرى لها مكانها، والإنسان لم يُمنَح هذه الأرض ليهزمها ويوظفها ويسخرها لنفعه وحده دون حـدود، فلابد له من الحفاظ عليها (لأنه ـ حسب الرؤية التوحيدية ـ قد استخلفه فيها من هو أعظم منه، فكرَّمه ووضع حدوداً عليه).
إن العالَم المبارك المدهش الذي نعيش فيه عالَم مركب ثري، مليء بالمسافات والثغرات والثنائيات الفضفاضة والأسرار (التي لا يُسبَر لها غور).
هذا العالَم يحوي داخله ما هو معروف ومحسوس وما هو مجهول وغير محسوس، وما هو حلم وما هو غيب (والغيب هنا هو غير المادي الذي لا يُقاس ولا يمكن إدخاله بقضه وقضيضه في شبكة السببية الصلبة) وهو ليس بسطح أملس يمكن رده إلى مبدأ واحد كامن فيه (كما يرى دعاة الكمونية الواحدية المادية من العقلانيين الموضوعيين الماديين).
ولكن أهم منطلقات النموذج التفسيري (الاجتهادي) هو إدراك أن ثمة حيزاً إنسانياً يتحرك فيه الإنسان ويمارس فيه إنسانيته، ومن ثم يصبح مختلفاً عن الكائنات الطبيعية، فهو كائن مركب وعنصر حر مسئول، يتجاوز حتميات النظام الطبيعي/المادي ولا يمكن أن يُردُّ في كليته إليه ولا يمكنه أن يمتزج بالظواهر الطبيعية ويذوب فيها، فهو جزء يتجزأ من الواقع المحيط به لا يُستوعَب قط فيما حوله.
هذا يعني أن ثمة ثنائية أساسية تُترجم نفسها إلى انفصال بين الإنسان المركب والواقع الطبيعي المادي، فالإنسان لا يتصل مباشرةً (من خلال جهازه العصبي) بالطبيعة لأن عقله متناه لا يمكنه أن يعكس الواقع كله، ولكنه لهذا السبب مبدع حتى في أبسط عمليات الإدراك فهو يدرك الواقع من خلال رموزه وذكرياته ونماذجه، وهو إنسان مركب لا يمكن معرفة دوافعه فهي مركبة إذ تحركه دوافعه المادية الأرضية كما تحركه أفكاره وأحلامه وذكرياته، والمعنى الذي يتسع للأشياء والرموز التي يستخدمها للتعامل معه، كما تحركه منظومته القيمية والجمالية التي قد تهديه سواء السبيل وقد تضلله، ولذا فهو قادر على النبل الخساسة، وعلى الخير والشر.
كل هذا يعني ما يلي:
1 ـ لا يمكن دراسة الواقع الإنساني المركب من خلال النماذج السلوكية الواحدية البسيطة التي ترى الإنسان كائناً يتحرك في بيئة مادية يُرْصد بشكل آلي.
2 ـ لا يمكن دراسة الإنسان من خلال نموذج الرصد الموضوعي المادي الذي لا يكترث بالمعنى والرموز والدوافع والحرية.
3 ـ لا يمكن دراسة هذا الإنسان من خلال نموذج واحدي يدور في إطار السببية الواحدية والعمومية، إذ يتطلب الأمر دراسته من خلال عدة مستويات ودرجات مختلفة من السببية والتعميم والتخصص.
4 ـ لا يمكن تَصوُّر إمكان الإحاطة بكل جوانب هذا الإنسان أو إمكان الوصول إلى درجات عالية من اليقين، إذ تظل هناك أجزاء مستقلة عن الكل، ومنحنيات خاصة مستقلة عن الاتجاه العام وزوايا لا تستطيع العقلانية المادية المستنيرة أن تصل إليها.
5 ـ والمعرفة ليست مجرد تراكم وإنما هي أيضاً محاولات اجتهادية مستمرة، فإلى جانب التراكم يوجد الاكتشاف المستمر. فالعملية المعرفية عملية لا نهاية لها، ولذا لا نهاية للتاريخ.
6 ـ الهدف الكلي والنهائي من وجود الإنسان في الأرض ليس التحكم في العالم وحوسلته وإنما هو التمتع بالأرض والاستفادة منها داخل حدود دون تبديدها.
إن الإنسان كائن مركب يعيش في عالم براني مركب وعالم جواني مليء بالأسرار، ولذا فإن محاولة "شرح الإنسان" شرحاً كاملاً وتفسيره تفسيراً كاملاً وإدخاله شبكة السببية الصلبة والمطلقة هو ضرب من ضروب الخيلاء، ومحاولة التوصل إلى قوانين صارمة أو تفسيرات كلية نهائية وصيغ جبرية بسيطة تفسر كل شيء محاولة ساذجة بلهاء، كما أن محاولة الوصول إلى المعرفة الكاملة محاولة فاوستية شيطانية محكوم عليها بالفشل، ولهذا فنحن نطرح مفهوم الاجتهاد كإطار معرفي كلي ونهائي.
والاجتهاد يعني أن يحاول الدارس المجتهد الوصول إلى قدر من المعرفة عن الظاهرة موضع الدراسة يجعلها معقولة إلى حدٍّ ما وربما إلى حدٍّ كبير، وليس بالضرورة معقولة ومفهومة تماماً، أي أنه من الممكن شرح بعض جوانب الظاهرة (لا الظاهرة كلها)، ورد بعض جوانبها (لا الظاهرة بأسرها) إلى القوانين العامة، كما يمكن رصد جزء من الواقع لا الواقع كله.
والاجتهاد يعني رفض الموقف الإمبريالي من الواقع الذي يود الإمساك به كله ويحاول أن يدفع به في شبكة السببية الصلبة والمطلقة والقانون العام.
وهذا لا يعني بالضرورة سقوطاً في العدمية الكاملة أو النسبية المطلقة، فالاجتهاد يمكن أن يدور في إطار الإيمان بوجود مطلقات وثوابت ويمكن للباحث أن يتعامل مع الأمور الكلية والنهائية والمطلقة دون أن يكون خطابه نهائياً ومطلقاً.
ويمكن أن يصل البـاحث إلى قدر من اليقين ولكنه يقين ليـس بكامل.
وثمة تَواصُل ولكنه ليس باتصال والتحام عضويين، ومن ثم فإن المعرفة التي يتوصل إليها معرفة نسبية ولكنها ليست نسبية بشكل مطلق وإنما تظل نسبية بصورة نسبية (فالكمال لله وحده، وفوق كل ذي علم عليم، وهو وحده الذي يعلم ما في الصدور، مركز العالم، المفارق له، وغير الكامن في إنسان أو شيء). وهذا ما يمكن أن نسميه «العقلانية أو الموضوعية الاجتهادية» (في مقابل «العقلانية المادية والموضوعية المتلقية المادية»).
والنموذج التفسيري (الاجتهادي) هو الأداة التحليلية المُثلى التي يمكن من خلالها تجاوز إشكالية الذات والموضوع، فالنموذج أداة تحليلية يصوغها العقل من خلال عملية تجريد (استبقاء واستبعاد) لعناصر الواقع، فهو ثمرة لتفاعل الذات مع الموضوع، وهو صياغة ذهنية (ذاتية) لمجموعة من المعطيات والعلاقات المادية (الموضوعية). وكما قال الإمام أبو حنيفة "خذ رأيي واطلب دليلي".
والنموذج التفسيري (الاجتهادي) يختلف عن نموذج الرصد الموضوعي المادي (المتلقي)، فهو ليس أداة رصد سلبية موضوعية تتلقى المعلومات جاهزة صلبة نهائية من الواقع وتؤرشفها وتحاول إدخال كل الظواهر في إطار شبكة السببية الصلبة أو في إطار قوانين عامة تنطبق على كل الحالات في كل الأزمنة والأمكنة، وإنما هو عملية تركيب واكتشاف للمعطيات المتاحة وترتيبها ومحاولة اكتشاف أنماط متكررة ومحاولة الربط بينها مع إدراك كامل للفرق بين الإنسان والطبيعة/المادة والفرق بين المناهج التي يمكن استخدامها لدراسة الظاهرتين الإنسانية والطبيعية.
كما أن النموذج التفسيري (الاجتهادي) يحاول تفسير بعض جوانب الظاهرة ويقَنَع بها دون محاولة تفسير الظاهرة ككل، فهو يستطيع أن يتعايش مع المجهول.
وفي إطار النموذج التفسيري (الاجتهادي)، يصبح أساس اختيار الحقائق، لا الحقائق نفسها، هو ما يشكل مدى صدقها من زيفها. فالصدق والكذب ليسا كامنين في الحقائق الموضوعية نفسها وإنما في كيفية تناولها وفي القرار الخاص بما يُضَم وما يُستبعَد منها.
ولذا، لا يصبح السؤال: ما الحقائق؟ ولكن: ما أهم الحقائق أو ما الحقائق الدالة؟ ويصبح ترتيب الحقائق هرمياً حسب أهميتها أكثر أهمية من مجرد تسجيلها أفقياً بشكل متجاور، ويصبح تعريف ما هو مركزي وهامشي أهم من مجرد مراكمة المعلومات.
وتصبح العلاقات بين المعطيات أكثر أهمية من المعطيات نفسها. وعلى كلٍّ، هذا هو جوهر الإبداع: اكتشاف علاقات جديدة في الواقع وتحديد ما هو مركزي وهامشي وتفكيك الواقع وإعادة تركيبه في ضوء هذا الاكتشاف
وبعد أن يُصاغ النموذج التفسيري (الاجتهادي)، لا يمكن أن نقول إن هذا نموذج خاطئ أو مصيب بطريقة أحادية فجة، وإنما نطلب إخضاعه لعملية اختبار (فهو مجرد اجتهاد)، وحينما يُخضَع للاختبار، فلابد أنه سيفسر بعض المعطيات في الواقع ولكنه سيعجز عن تفسير البعض الآخر.
وفي هذه الحالة، لا يُوصَف النموذج بعدم الموضوعية، فالنموذج لا يُحكَم عليه بمقدار موضوعيته وذاتيته (فهو ابتداءً مزيج من الموضوعية والذاتية لأنه تركيب) وإنما يُحكَم عليه في إطار مقدرته التفسيرية والتنبؤية، وفي إطار تركيبيته.
فالنموذج الذي يفسر أكبر قدر ممكن من التفاصيل والعلاقات ويربط بينها ويتنبأ بعدد كبير من الظواهر هو النموذج الأكثر تفسيرية (الذي يُقال له موضوعي)، وهو نموذج المجتهد الذي أصاب (فله أجران)، أما النموذج الذي يفسر عدداً أقل من التفاصيل والعلاقات والذي يتسم بأن مقدرته التنبؤية ضعيفة فهو النموذج الأقل تفسيرية (والذي يُقال له ذاتي) نموذج من اجتهد ولم يفلح تماماً (فله أجر واحد).
وبالتالي، لا يصبح المعيار هنا كم المعلومات الذي تمت مراكمته وإنما جدواها في التفسير: وبذا يحل النموذج التفسيري مشكلة استقطاب الذات والموضوع.
فالنموذج الذي تبنته حركات التمركز حول الأنثى قادر على تفسير بعض جوانب وجود المرأة وبعض مشاكلها، ولكنه عاجز عن تفسير المرأة في كليتها كأم وزوجة وأخت. وهذه الجوانب الكلية المركبة تحتاج إلى نموذج أكثر تركيبية.
وبعد اختبار النموذج، يمكن إعادة صياغته حتى يمكنه استيعاب المعطيات الجديدة التي فشل في تفسيرها، أي أن النموذج التفسيري (الاجتهادي) ليس صيغة نهائية تنجح أو تفشل (ولذا فنحن ندعو إلى إعادة صياغة النماذج التفسيرية الغربية بعد سقوط المنظومة الاشتراكية وبعد أزمة الرأسمالية).
ويُلاحَظ أن النموذج التفسيري (الاجتهادي) ليس نموذجاً استبعادياً، فالعناصر التي يظهر أنها أقل تفسيرية لا تُرفَض ولا تُستبعَد وإنما تفقد مركزيتها وتُنقل إلى الهامش، وهي قد تنتقل إلى المركز مرة أخرى فيما بعد، وقد توضَع في المركز داخل متتالية احتمالية يتم من خلالها رصد عناصر المستقبل الكامن في الحاضر.
والنموذج التفسيري (الاجتهادي) لا يدَّعي أن الراصد آلة فوتوغرافية تسجل موضوعياً ما حولها بدون اختيار وبدون قيم مسبقة وإنما هو يُسمِّي الأمور بأسمائها ويحدِّد للقارئ التحيزات والمكونات الذاتية الكامنة في المعرفة الموضوعية حتى يتحرز القارئ ولا يتصور أن ما يُقدِّم له هو الموضوع والواقع بل مجرد محاولة اجتهادية للوصول لهما (والله، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، أعلم). إن الذات الراصدة تعلن عن حدودها وتعلن أنها ستتوصل إلى جانب وحسب من الموضوع، لا الموضوع كله، ومن خلال اعترافها هذا فإنها تُحقق قدراً أكبر من الموضوعية.
وقد استخدمنا في هذه الموسوعة نماذج تفسيرية لا تدَّعي لنفسها الموضوعية الكاملة ولا المقدرة التفسيرية الشاملة الكاسحة، وهي ليست سوى محاولة اجتهادية لتفسير أكبر قدر من جوانب الظواهر اليهودية والصهيونية موضع الدراسة حسب ما هو متوافر من المعطيات والمعلومات حتى هذه اللحظة.
وقد طرحنا ثلاثة نماذج تفسيرية مختلفة ومتداخلة:
الحلولية الكمونية ـ العلمانية ـ الجماعة الوظيفية ونموذج التركيب الجيولوجي التراكمي.
فإن تناولنا قضية مثل قضية الرأسماليين من أعضاء الجماعات اليهودية الذين تسميهم الأدبيات الشائعة «رأسماليون يهود»، فنحن لا نرفض ما هو متوافر من معلومات وإنما نقبله (إن لم يكن مُختَلقاً) ثم نوسع سياق الظاهرة لتسمح بإضافة معلومات أخرى استبعدتها هذه الأدبيات وبذلك يمكننا اختبار نموذجنا التفسيري والبرهنة على مقدرته التفسيرية التي تفوق المقدرة التفسيرية للنماذج السائدة التي نراها أكثر ضيقاً واختزالاً، أي أقل تفسيرية.
يتبع إن شاء الله...