اللحظة النماذجية
يأخذ النموذج عادةً شكل متتالية متعددة الحلقات تتحقق تدريجياً عبر الزمان. ويصل النموذج إلى أقصى درجات تحققه في آخر السلسلة، والنموذج في العادة لا يتحقق أبداً إذ أن الواقع يكون عادةً أكثر تركيباً وتشابكاً وعمقاً وأقل تبلوراً من المتتالية النماذجـية التي تُوجِّه فرداً أو مجـتمعاً ومن التركـيبة الذهنية التي يتكون منها النموذج.
ومع هذا، فإن هناك لحظات نادرة قد يفصح فيها النموذج عن مرجعيته النهائية إفصاحاً كاملاً في كتابات الفيلسوف صاحب النموذج أو في ممارسات من يحاولون وضع هذا النموذج موضع التنفيذ أو بعد اكتمال حلقات المتتالية التي تُعبِّر عن تَجلِّي النموذج في التاريخ.
هذه اللحظة النماذجية النادرة (والنهائية) هي ما نسميه "لحظة تَعيُّن النموذج وتبلوره".
وهذه اللحظة ـ رغم ندرتها ـ تُعبِّر عن جوهر النموذج أكثر من اللحظات الأخرى. وقد تحدث هذه اللحظة فجأة قبل اكتمال المتتالية، وقد لا تحدث هذه اللحظة أبداً.
ولكن افتراضها، مع هذا، أمر مهم من الناحية التحليلية، إذ أنه سيمكِّن الباحث من تَخيُّل ما هو قائم وما يمكن أن يكون إن تحققت الظروف المثالية (التي قد لا تتحقق أبداً)، وهي عملية تخيلية توضح للباحث جوهر النموذج ومنطقه وتساعده على رصد الواقع بطريقة ذكية، كما تساعده على ترتيب تفاصيله في إطار ما هو مهم وما هو أقل أهمية، وفي تَجاوُز الموضوعية المتلقية.
وعادةً ما يحاول حملة نموذج ما أن يُهِّمشوا اللحظة النماذجية الكاشفة الدالة باعتبارها مجرد انحراف عن الجوهر (كما تفعل الحضارة الغربية مع اللحظة النازية).
ويمكن للدارس من خلال عملية التفكيك وإعادة التركيب المتأنية أن يكشف طبيعة النموذج، ومن ثم علاقته الوثيقة (بل العضوية) باللحظة النماذجية. ودراسة اللحظة النماذجية ـ من هذا المنظور ـ لا تختلف كثيراً عن دراسة الحالة، ولكنها حالة نماذجية.
وإذا كانت دراسة الحالة العادية، هي دراسة لحالة ممثِّلة متكررة، فإن دراسة الحالة أو اللحظة النماذجية هي أيضاً دراسة لحالة ممثِّلة، وإن كانت فريدة، وهي ممثِّلة لا بالرغم من تفرُّدها، وإنما بسببها.
وهذا لا يختلف كثيراً عن دراستنا لشخصيات نماذجية، ترمز لعصر أو لفكرة. ففاوستوس رمز عصر النهضة والحلم الإنساني الهيوماني بابتلاع العالم وكل المعرفة (ورمز الخوف من هذا الطموح في آن واحد)، وفرانكنشتاين رمز الخوف الإنساني من العقل المادي والتكنولوجيا.
أما الكاوبوي فهو رمز الإنسان الذي يخرج إلى الواقع الإنساني فلا يُفرِّق بين الإنساني والطبيعي ويحسم كل مشاكله بفوهة البندقية، فيصيد البقر ويصرع الهنود بنفس البساطة والحس العملي الذي يتجاوز سائر المنظومات الأخلاقية!
وهتلر نفسه أصبح رمزاً للعقل الإمبريالي المادي، والسوبرمان (superman) النيتشوي الذي يتألَّه ويمنح الحياة ويقرر الموت ويقرر ما هو الخير وما هو الشر.
أما أيخمان فقد أصبح رمزاً للجلاد البيروقراطي، السبمان (subman) ما دون الإنسان، الذي ينفذ ما يَصدُر له من أوامر دون أي تساؤل.
وقد استخدمنا مفهوم اللحظة النماذجية في هذه الموسوعة، وبخاصة في دراستنا للنازية.
البنيـــة
«البنية» شبكة العلاقات القائمة في الواقع التي قد يعقلها الإنسان ويجردها بعد ملاحظته للواقع في كل علاقاته المتشابكة، ويرى أنها تربط بين عناصر الكـل الواقعـي أو تجْمع أجزاءه، وأنها القانون الذي يضبط هذه العلاقات ولكنه قد لا يدركها على الإطلاق. ومن ثم فالبنية، كما تتبدَّى في عقل الإنسان، ليست ذاتية ولا موضوعية تماماً. هذا لا يعني أن البنية مجرد "إدراك" لشبكة العلاقات ونموذج عقلي يجرده الإنسان، وإنما هي كل من "الإدراك" (الذاتي) و"الشبكة" (الموضوعية)، أي أن البنية، إلى جانب وجودها الذاتي في العقل، لها وجود موضوعي في الواقع، قد يدرك الإنسان معظم أو بعض جوانبه، وقد لا يدرك أياً منها.
وقد يكون من المفيد التمييز بين «البنية السطحية» و«البنية العميقة»، فالبنية السطحية هي هيكل الشيء ووحدته المادية الظاهرة، أما البنية العميقة فهي كامنة في صميم الشيء وهي التي تمنح الظاهرة هويتها وتُضفي عليها خصوصيتها.
وعادةً ما يعي كثير من الدارسين البنية السطحية المادية المباشرة، فإدراكها أمر متيّسر ويتم بالحواس الخمسة، أما إدراك البنية الكامنة فهو أمر أكثر صعوبة، يتطلب استخدام الحواس وإعمال العقل والخيال والحدس.
وكثيراً ما يعيش البشر داخل بنى اجتماعية وتاريخية واقتصادية يستبطنونها فتؤثر في سلوكهم وتشكِّل رؤيتهم للكون وتُحدِّد خطابهم الحضاري دون وعي منهم، ومن ثم، فإن ثمة فارقاً بين «البنية» من جهة، و«النية» و«النموذج» الذي يحرك المرء ويحدد سلوكه من جهة، فقد تَخلُص النية ولكنـها تتعارض مع قوانين البنـية، ولذا قد يجد المرء نفسـه يسلك سلوكاً يختلف تماماً عما نواه.
وحينما نقول في هذه الموسوعة "إن هذا الشيء لصيق ببنية المجتمع" فإننا نعني أنه جزء جوهري وليس عرضياً منه، حتى لو لم يدرك أعضاء المجتمع هذه الحقيقة، وترد عبارات مثل «معاداة اليهود البنيوية»، بمعنى أن بنية العلاقات في المجتمع، كما تشكلت، تؤدي إلى العداء لليهود، بغض النظر عن نوايا أعضاء المجتمع والقائمين عليه والنماذج المعرفية التي يحملونها.
كما أن عبارة «اليهودية كتركيب جيولوجي تراكمي» تعني أن «بنية اليهودية» ليست كلاً عضوياً متكاملاً متجانساً، وإنما مجموعة من الطبقات الجيولوجية المتراكمة المتجاورة غير المتفاعلة، وأن هذا التركيب لا علاقة له بإرادة اليهود أو نيتهم أو ادعاءاتهم أو الديباجات التي يستخدمونها.
وعبارة «إحلالية المجتمع الصهيوني» تعني أنه تجمُّع إحلالي بحكم تكوينه وبنيته، وأنه كي تكون إسرائيل فلابد أن يُنفى كل الفلسطينيين أو على الأقل عدد كبير منهم. وثمة فارق بين بنية الشيء وتاريخه ووظيفته.
فتاريخ الشيء هو سببه (أصوله ـ عوامل تكوينه ـ مضمونه) أما وظيفته فهي النتيجة (دوره في المجتمع ـ احتكاكه بعناصر الواقع)، أما البنية فهي تركيب الشـيء في لحظـة محدَّدة، والفـارق بين «النمـوذج» و«البنية» قد يكون طفيفاً أحياناً، وقد يتطابق الاثنان تمام التطابق، ولكنهما قد يفترقان تماماً بل يتصارعان.
ويمكن أن نضرب مثلاً على الانفصال الكامل بين النموذج والبنية:
إن سألنا ربة البيت: ماذا تعملين يا سيدتي؟ سيكون ردها "لا شيء"، فهذا هو النموذج الذي تؤمن به ويحركها، ولكنها مع نهاية اليوم ستكون منهكة تماماً من أثر ما قامت به من "أعمال".
وإن دققنا قليلاً لاكتشفنا أن النموذج الذي تدرك هذه المرأة الواقع من خلاله قد عرَّف العمل بأنه ما يتم أداؤه في رقعة الحياة العامة شريطة أن يتقاضى عنه الإنسان أجراً، أما ما يتم في رقعة الحياة الخاصة وما لا يتقاضى عنه أجراً فهو ليس عملاً، رغم أن ربة البيت هذه قضت سحابة يومها تعمل (تنشئة الأطفال ـ الطبخ ـ تنظيف المنزل... إلخ)، أي أن بنية واقعها متناقضة تماماً مع نموذجها المعرفي والإدراكي.
وحينما توصلت الحضارة الغربية إلى الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة فهي قد توصلت إلى نموذج معرفي لا علاقة له ببنية الواقع في فلسطين (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض).
ويتبدَّى هذا في وعد بلفور الذي أشار إلى شعب فلسطين باعتباره «الجماعات غير اليهودية»، وما حدث في فلسطين منذ ذلك التاريخ هو إعادة صياغة العلاقات القائمة في الواقع (بنيته) حتى يتفق النموذج المعرفي مع البنية.
وهو ما حدث إلى حدٍّ ما مع ظهور كتلة بشرية استيطانية احتلت فلسطين وطردت كثيراً من سكانها، ولكن التطابق ليس كاملاً، ومن يقاوم الاستعمار الاستيطاني الصهيوني يقول في واقع الأمر إن بنية العنف والظلم التي تشكلت في الواقع ليست نهائية، فنحن نحمل نموذجاً معرفياً أكثر إنسانية وأكثر عدلاً من النموذج السائد في الوقت الحاضر.
ونحن نهدف إلى تغيير بنية العلاقات في الواقع، فنقيم العدل في الأرض ونحقق السلام الشامل الدائم المبني على العدل.
ونحن نستخدم أحياناً كلمة «نسق» و«منظومة» لنؤكد انفصال «النمـوذج» عن الذات تماماً كما نفعل مع «البنـية» ولعل الفارق بين هذه المفردات أن كلمتي «نسق» و«منظومة» تتعاملان بالدرجة الأولى مع عالم الفكر المترابط متمثلاً في العلاقات السائدة في المجتمع.
أما البنية فتتعامل بالدرجة الأولى مع العلاقات السائدة في المجتمع إما باعـتبارها تعبيراً عـن نموذج معـرفي أو باعتبارها كياناً موضوعياً يعبِّر عن نموذج ما لم ندرك طبيعته بعد. فالبنية تؤكد عنصر انفـصال «النمـوذج» تماماً عن الذات، دون التركيبية.
كما أننا نتحدث أحياناً عن «بنية الفكر» أو «بنية النموذج»، ونحن في هذه الحالة لا نتحدث عن علاقات في الواقع وإنما عن طريقة ترابط الأفكار داخل نموذج ما، وما هو جوهري منها وما هو عرضي (بغض النظر عن رؤية حامل النموذج).
فبعض المؤمنين بالأيديولوجية النازية كانوا يؤمنون بأن جوهر النازية هو رسالتها الحضارية لتوحيد العالم وسيادة الجنس الآري باعتباره أمراً يخدم صالح البشرية جمعاء، أما ما تم من عنصرية وإبادية فهي أمور عرضية، أو أمور استبعدها النموذج تماماً.
والصهاينة كانوا يتحدثون عن عودة اليهود إلى وطنهم القومي، وهذا هو جوهر الفكر الصهيوني والنموذج المعرفي الصهيوني.
أما طَرْد الفلسطينيين والمذابح التي ارتكبت ضدهم فقد تم التزامه الصمت تجاهها باعتبارها غير موجودة أساساً أو أمراً تافهاً عرضياً مع أن طرد العرب هو جزء جوهري من النموذج، لا يمكن أن يتحقق دونه.
النموذج والأقوال (والنوايا):
النموذج أداة تحليلية يتمكن الدارس من خلالها من الاقتراب من جوهر الظاهرة بحيث يمكنه أن يعرف ما هو جوهري فيها وما هو فرعي، وما هو نماذجي وما هو عرضي.
ونحن نطلق على ما هو عرضي اصطلاح «قول» أو «أقوال» بمعنى أنها مجرد كلمات زخرفية لا تُعبِّر عن حقيقة النموذج.
ولكن ثمة مشكلة عميقة تواجهنا أثناء التحليل النماذجي لظاهرة ما أو لنص ما، وهو وجود عناصر نرى أنها لا تتفق مع جوهر هذا النص أو الظاهرة مع أنها "موجودة" بالفعل.
ولنضرب مثلاً بالإمبريالية والصهيونية: الصهيونية والإمبريالية حركتان سياسيتان تهدفان إلى اغتصاب أرض الآخر وإلى إبادته أو طرده أو تسخيره.
ومع هذا كان الإنسان الغربي يتحدث عن العبء الحضاري الواقع على كاهله (بالإنجليزية: وايت مانز بردين white man's burden) أو رسالته الحضارية (بالفرنسية: مسيون سيفيلاتريس mission civilatrice)، وعن رغبته العارمة في أن يُحضر النور إلى الشرق ليبدد الظلمات. وكان الصهاينة كثيراً ما يثرثرون عن: التعاون مع إخوتهم العرب وضرورة مساعدة الشرق على النهوض، وتحقيق الحلم الصهيوني دون إلحاق أي أذى بالعرب.
بل كانوا يزعمون أن بالإمكان إقناع العرب بالطرق الديموقراطية بمشروعية الحلم الصهيوني، ولا تزال الدعاية الصهيونية مستمرة في هذه الثرثرة وفي تلك المزاعم.
ومع خطاب ألقاه رئيس للولايات المتحدة أثناء حرب الخليج، تَحوَّل الاستعمار العالمي (القديم) الذي ينهب العالم بطريقة منهجية منظمة إلى نظام عالمي جديد يحاول إقامة العدل.
فعلى أي أساس يمكننا أن نقرر أن العنف والاستغلال والبطش هي السـمات النماذجية الإمبريالية والصهيونية، وأن ما قد تدعيانه من تسامح، بل ما قد تقومان به من أفعال خيِّرة لا يشكل الجوهر، فهو مجرد "قول" أو "أقوال"؟
أعتقد أن بالإمكان إزالة اللبس عن طريق خطوتين:
1 ـ من الداخل:
بالعودة إلى طبيعة النموذج ومرجعيته النهائية (الكامنة الحاكمة) ومنطقه الداخلي الحاكم، فنُصنِّف ما لا يتفق مع النموذج ولا يتفق مع مرجعيته النهائية الحاكمة باعتباره مجرد أقوال زخرفية وديباجات ليس لها أية دلالة أو مقدرة تفسيرية، أو باعتبار أن دلالتها ضعيفة ومقدرتها التفسيرية جزئية، بمعنى أنها قد تفسر عدداً من العناصر ولكنها ستترك العدد الأكبر دون تفسير، أما ما يتفق مع المرجعية الحاكمة والمنطق الداخلي فهو صاحب الدلالة والمقدرة التفسيرية والمركزية.
2 ـ من الخارج:
بالعودة إلى تجليات النموذج وتَحقُّقه الفعلي في بنية العلاقات وعلاقات القوة، إذ أن هذا سيساعدنا على التمييز بين ما هو أصلي وجوهري وما هو فرعي وعرضي وزخرفي.
إن طبقنا هذا على الإمبريالية العالمية، وجدنا أن منطق داروين يُعلي من شأن القوة ويتقبلها معيارية نهائية، ولذا ليس من السهل تصوُّر أن النظام الاستعماري القديم سيغير طبيعته بتغيير اسمه إلى «النظام العالمي الجديد».
كما أن تاريخ النظام الاستعماري القديم وممارسات النظام العالمي الجديد وبنيته تبيِّن حقيقة الاستمرارية بين هذين النظامين.
ويمكن أن نقول الشيء نفسه عن الصهيونية بالنظر للمنطق الداخلي للأيديولوجية الصهيونية، فالصهيونية التي تدَّعي أنها حركة تحرير الشعب اليهودي تعني في واقع الأمر نقل عدد من يهود العالم إلى فلسطين ليستأنفوا تاريخهم الذي توقف مع هدم الهيكل منذ ألفي عام (حسب الإذعان الصهيوني).
لكن هذه المجموعة ستشغل ولا شك حيزاً مكانياً لتستأنف فيه تاريخها الذي توقف، وهو حيز يشغله آخرون، وهذا ما يعني أن المنطق الداخلي هو ضرورة طرد هؤلاء الآخرين، كما أن الممارسة الصهيونية منذ عام 1882 حتى الوقت الحاضر تدل على أن مسألة النهوض بالعرب ومساعدتهم هي مجرد أقوال وزخارف، فالجميع يعرف ملامح البنية التي تشكلت في الواقع: بنية القمع الصهيوني والمقاومة العربية، وحلقة العنف التي لم تنته.