لطائف من خواطر الشيخ محمد متولي الشعراوي (17)
1- ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ... ) الإسراء 1.
كلما زادت قوة أداة الوصول قَلَّ زمن الوصول هذا موجز نظرية الحركة، وإذا كان الذي أسرى بالرسول هو الله سبحانه وهو قوة القوى، فلا يمكن أن تقاس قوته بالنسبة لقوة أخرى، أو أن يقاس الأمر ببُعد أو قُرْب المكان أو كيفية الزمان الذي تعرفه.
ولقد ضربنا مثلاً لهذا -ولله المثل الأعلى- برجل يصعد بابنه الرضيع قمة جبل " إفرست " فلا يقال: وهل يصعد الرضيع قمة الجبل؟ فالصعود منسوب هنا للرجل، ولقدرة الرجل وقوته، لا إلى الطفل. وهكذا -ولله المثل الأعلى- فالزمن والقدرة على الإسراء منسوبان لله سبحانه، لا إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه الآية يدخل سبحانه وتعالى المسجد الأقصى في مقدسات الإسلام.
2- ( وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً ) الإسراء 4- 5.
لنا أن نسأل: وهل لم يفسد بنو إسرائيل في الأرض إلا مرتين؟.
لا، لقد أفسدوا أكثر من ذلك بكثير.
تحدّث العلماء كثيراً عن هاتين المرتين، وفي أيّ فترات التاريخ حدثتا، والمتأمل لسورة الإسراء يجدها قد ربطتهم بالإسلام، فالمراد إذاً بالمرتين أحداثٌ حدثتْ منهم في حضْن الإسلام.
وقوله{ عِبَاداً لنا } لا تطلق إلا على المؤمنين، ( أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ... ) أي: قوة ومنَعة، وهذه كانت حال المؤمنين في المدينة، بعد أن أصبحت لهم دولة يواجهون بها أهل الباطل.
فالفساد الأول الذي حدث من يهود بني النضير وبني قَيْنقاع وبني قريظة الذين خانوا العهد مع رسول الله، بعد أن كانوا يستفتحون به على الذين كفروا...
وقوله ( فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ.. ) جاسُوا من جاسَ أي: بحث واستقصى المكان، وطلب مَنْ فيه، أي " تمشيط المكان " وتم إجلاء اليهود من المدينة إلى أَذْرُعَات بالشام، ثم انقطعت الصلة بين المسلمين واليهود فترة من الزمن.
3- ( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً ) الإسراء 6.
فكأن الكرَّة لبني إسرائيل لا ترد إلا إذا كان القوم المؤمنون على غير مطلوب الإيمان.
فإذا ما تساءل بعض المؤمنين: ولماذا تجعل يا الله الكّرَّة لبني إسرائيل؟.
تكون الإجابة: لأنكم أيها الناس قد تخلفتم عن مطلوب العبودية الخالصة لله، وعن مفهوم "عباد الله"
( وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ... ) فعلاً أمدّهم الله بالمال حتى أصبحوا أصحاب رأس المال في العالم كله، وأمدّهم بالبنين الذين يُعلِّمونهم على أعلى المستويات، وفي كل المجالات.
ولكن هذا كله لا يعطيهم القدرة على أن تكون لهم كَرَّة على المسلمين، فهم في ذاتهم ضعفاء رغم ما في أيديهم من المال والبنين، ولا بُدًّ لهم لكي تقوم لهم قائمة من مساندة أنصارهم وأتباعهم من الدول الأخرى، وهذا واضح لا يحتاج إلى بيان منذ الخطوات الأولى لقيام دولتهم ووطنهم القومي المزعوم في فلسطين، وهذا معنى قوله تعالى: { وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } فالنفير مَنْ يستنفره الإنسان لينصره، والمراد هنا الدول الكبرى التي ساندت اليهود وصادمت المسلمين.
ومازالت الكَرَّة لهم علينا، وسوف تظل إلى أنْ نعود كما كُنَّا، عباداً لله مُسْتقيمين على منهجه، مُحكِّمين لكتابه، وهذا وَعْد سيتحقّق إنْ شاء الله.
4- ( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) الإسراء 7.
كلمة الآخرة تدلُّ على أنها المرة التي لن تتكرر، ولكن يكون لليهود غَلَبة بعدها
وذلك عندما نصبح عباداً لله حقاً عندئذ سَيَكِلُ الله لنا تنفيذ وعده على اليهود وهل يستطيع المسلمون أن ينقضُّوا على اليهود وهم في شتيت الأرض؟ لا بُدَّ أن الحق سبحانه أوحى إليهم بفكرة التجمُّع في وطن قومي.
{ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ } ويكون الانتصار وأشرف ما في الإنسان هو الوجه، وفوق ذلك: { وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ... } المتأمل في هذه العبارة يجد أن دخولَ المسلمين للمسجد الأقصى أول مرة كان في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يكن الأقصى وقتها في أيدي اليهود، بل كان في أيدي الرومان المسيحيين.
فدخوله الأول لم يكُنْ إساءةً لليهود، وإنما كان إساءة للمسيحيين، لكن هذه المرة سيكون دخول الأقصى، وهو في حوزة اليهود، وسيكون من ضمن الإساءة لوجوههم أن ندخل عليهم المسجد الأقصى، ونُطهِّره من رِجْسهم.
إذن: فخروجنا الآن من المسجد الأقصى تصديق لِنُبوءَة القرآن، لذلك بعض العارفين حينما جاء أحدهم خبر دخول اليهود بيت المقدس سجد لله.
فقلنا: " أتسجد لله على دخول اليهود بيت المقدس " فقال: نعم.. صدق ربنا...
قد حمد ذلك العارف بالله ربنا لأن قضايا القرآن تتأكد بالكونيات.
{ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } أي: يُهلكوا ويُدمِّروا، ويُخرِّبوا ما أقامه اليهود وما بنَوْهُ وشيَّدوه من مظاهر الحضارة التي نشاهدها الآن عندهم، ولابد أن تمرّ مدة ليعلوا في البينان.
5- ( وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا ) الإسراء 16.
بعض الناس يفهمون هذه الآية الكريمة على غير وجهها؛ فهم يفهمون الفسق على أنه نتيجة لأمر من الله سبحانه وتعالى، والحقيقة أنهم إنما قد خالفوا أمر الله؛ لأن الحق سبحانه يقول: { وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } البينة 5.
أي: أن الحق سبحانه أمر المترفين أن يتبعوا منهج الله، لكنهم خالفوا المنهج الإلهي مختارين؛ ففسقوا عن أمر ربهم.
وعلى هذا يكون المراد من الآية: أمرنا مترفيها بطاعتنا وبمنهجنا، ولكنهم خالفوا وعَصَوْا وفسقوا؛ لذلك حَقَّ عليهم العذاب.
6- ( وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ) الإسراء 80.
ومعنى مدخل الصدق ومخرجَ الصدق: أنك لا تدخل أو تخرج بدون هدف، فإنْ خرجتَ من مكان فليكُن مخرجك مخرج صدق، يعني: مطابقاً لواقع مهمتك، وإنْ دخلتَ مكاناً فليكُنْ دخولك مدخل صدق. أي: لهدف محدد تريد تحقيقه.
فإن دخلتَ محلاً مثلاً فادخل لهدف، كشراء سلعة مثلاً، فهذا دخول صِدْق...
إذن: يكون دخولك لله وخروجك لله، وهكذا خرج رسول الله من مكة ودخل المدينة، فكان خروجه لله ودخوله لله، فخرج مُخْرجَ صِدْق، ودخل مُدخَل صدق، لأنه صلى الله عليه وسلم ما خرج من مكة إلا لما آذاه قومه واضطهدوه وحاربوا دعوته حتى لم تعُدْ التربة في مكة صالحة لنمو الدعوة، وما دخل المدينة إلا لما رأى النُّصْرة والمؤازرة من أهلها.
فالصدق أنْ يطابق الواقع والسلوك ما في نفسك، فلا يكُنْ لك قصور في نفسك، ولك حركة مخالفة لهذا القصد.
7- ( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ) الإسراء ٨٢.
لما كان هناك فترة من الرسل جاء القرآن شفاء من الدّاءات ثم تأتي الرّحمات وأيضاً عندما تحدث غفلة فنحن بحاجة لصيدلية القرآن أولا للشفاء ثم تأتي الرّحمات.
8- ( وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً ) الإسراء 104.
بعد أن أسكنهم الله الأرض ولم يحددها، فهم مبعثرون في كل مكان كقوله أيضاً: { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً.. }، أهاج ذلك قلوب أتباعهم من جنود الباطل، فأوحَوْا إليهم بفكرة الوطن القومي، وزيَّنُوا لهم أولى خطوات نهايتهم، فكان أن اختاروا لهم فلسطين ليتخذوا منها وطناً يتجمعون فيه من شتى البلاد.
وقد يرى البعض أن في قيام دولة إسرائيل وتجمّع اليهود بها نكاية في الإسلام والمسلمين، ولكن الحقيقة غير هذا، فالحق سبحانه وتعالى حين يريد أن نضربهم الضربة الإيمانية من جنود موصوفين بأنهم: { عِبَاداً لَّنَآ.. } الإسراء 5.
يلفتنا إلى أن هذه الضربة لا تكون وهم مُفرّقون مُبعْثرون في كل أنحاء العالم، فلن نحارب في العالم كله، ولن نرسل عليهم كتيبة إلى كل بلد لهم فيها حارة أو حي، فكيف لنا أن نتتبعهم وهم مبعثرون، في كل بلد شِرْذمة منهم؟
إذن: ففكرة التجمُّع والوطن القومي التي نادى بها بلفور وأيَّدتْها الدول الكبرى المساندة لليهود والمعادية للإسلام، هذه الفكرة في الحقيقة تمثل خدمة لقضية الإسلام، وتُسهِّل علينا تتبعهم وتُمكّننا من القضاء عليهم.
9- ( الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ) الكهف 46.
كلمة { زِينَةُ } أي: ليست من ضروريات الحياة، فهو مجرد شكل وزخرف؛ لأن المؤمن الراضي بما قُسِمَ له يعيش حياته سعيداً بدون مال وبدون أولاد؛ لأن الإنسان قد يشقَى بماله، أو يشقى بولده، لدرجة أنه يتمنى لو مات قبل أن يُرزقَ هذا المال أو هذا الولد.
فلو أيقن النّاس أن الإيجاد من الله نعمة، وأن السَّلب من الله أيضاً نعمة لاستراح الجميع،
والسؤال الذي يتبادر إلى الذِّهْن الآن: إذا لم يكُنْ المال والبنون يمثلان ضرورة من ضروريات الحياة، فما الضروريات في الحياة إذن؟
الضروريات في الحياة هي كُلُّ ما يجعل الدنيا مزرعة للآخرة، ووسيلة لحياة باقية دائمة، لا تنتهي أنت من النعيم فتتركه، ولا ينتهي النعيم منك فيتركك، إنه نعيم الجنة.
فالضروريات إذن هي الدّين ومنهج الله والقِيَم التي تُنظم حركة الحياة وفق ما أراد الله.
وقيل: الباقيات الصالحات: هي الأعمال الصالحة التي كانت منك خالصةً لوجهه الكريم.
10- ( ... فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) الكهف 110.
فالوسيلة إلى لقاء الله بالعمل الصالح، وفي تفسير قوله: { وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً }.
قيل: إنّ الجنة أحد، فلا تشرك بعبادة الله شيئاً ولو كان هذا الشيء هو الجنة،
فعليك أنْ تسموَ بغاياتك، لا إلى الجنة بل إلى لقاء ربها وخالقها والمنعِم بها عليك.
فلا تنشغل بالنعمة عن المنعم.
فالمؤمن يرجو لقاء ربّه، يريده لذاته ليس طمعاً بعطاءاته.
وفي الحديث القدسي: ( أولم أخلق جنة وناراً أما كنت أهلاً أن أُعبَد ).
وقيل عن رابعة العدوية أنها قالت: اللهم إن كنت تعلم أني أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني منها وإن كنت تعلم أني أعبدك خوفاً من نارك فادخلني فيها أنا أعبدك لأنك تستحق أن تُعبَد.