الجزء الثاني: النماذج كأداة تحليلية
الباب الأول: النماذج: سماتها وطريقة صياغتها
النموذج:
التعريف من خلال دراسة مجموعة من المصطلحات المتقاربة ذات الحقل الدلالى المشترك أو المتداخل.
كلمة «نموذج» كلمة معرَّبة، كما جاء في معاجم اللغة، من كلمة «نموذه» الفارسية، وجمعها «نموذجات» و«نماذج». ونموذج البناء نسخة مُبسَّطة مجردة من بناء، ومن ثم فهو يحتوي العناصر الأساسية للبناء ولكنه يختلف عن الأصل. وقد استُعيرت هذه الكلمة في اللغة العربية وتُستخدَم للإشارة إلى «النموذج» بوصفه أداة تحليلية ونسقاً كامناً يدرك الناس من خلاله واقعهم ويتعاملون معه ويصوغونه.
والنموذج بنية فكرية تصورية يُجرِّدها العقل الإنساني من كم هائل من العلاقات والتفاصيل فيختار بعضها ثم يُرتبها ترتيباً خاصاً، أو يُنسقها تنسيقاً خاصاً، بحيث تصبح مترابطة بعضها ببعض ترابطاً يتميَّز بالاعتماد المتبادل وتشكل وحدة متماسكة يُقال لها أحياناً «عضوية». وطريقة التنسيق والترتيب هي التي تعطي النموذج هويته المحددة، وفرديته وتفرُّده. ويتصور صاحب النموذج أن العلاقة بين عناصره تُماثل العلاقة الموجودة بين عناصر الواقع. ولذا، فهو يرى أنه يشكل الإطار الكلي الذي يُفسِّر تفاصيل الواقع وعلاقاته. وقد يتصوَّر البعض أن النموذج يُشاكل الواقع ولكنه في حقيقة الأمر لا يتطابق معه، فهناك فرق بين النموذج من ناحية والمعلومات والحقائق من ناحية أخرى (وكلمتا «نموذج» و«نسق» مترادفتان تقريباً في هذه الموسوعة، وإن كانت كلمة «نموذج» تنطوي على قدر أعلى من الوعي(.
وهناك عدة كلمات ومصطلحات في اللغات الغربية واللغة العربية متقاربة في معناها العام، قد تختلف في مدلولاتها الضيقة ولكنها تغطي رقعة مشتركة في حقل دلالي واسع متداخل:
1ـ اللغات الغربية:
باترن pattern ـ ستركتشر structure ـ تايب type ـ موديل model ـ سيستم system ـ كونستراكتيف تايب constructive type ـ أيديال تايب ideal type ـ باراديم paradigm ـ كونفيجوريشن configuration ـ ثيوري theory ـ هايبوثيسيس hypothesis ـ ثيسيس thesis ـ سينثيسيس synthesis ـ جنرال لو general law ـ فريم وورك framework ـ بيرسبكتيف perspective.
2 ـ اللغة العربية:
نموذج ـ نمط ـ نسق ـ هيكل ـ نظرية ـ فرض أو فرضية ـ منطق ـ منظور ـ رؤية ـ جوهر ـ أصول ـ منطلقات ـ مرجعية ـ إطار مرجعي.
ولا شك في أن هناك مصطلحات أخرى في اللغات الغربية وفي اللغة العربية تتعامل مع نفس هذه الرقعة المشتركة.
والسمة الأساسية المشتركة في كل هذه المصطلحات والكلمات ما يلي:
1 ـ أنها ذاتية وموضوعية في آن واحد:
أ ) الذاتية:
* ثمرة عملية تجريدية عقلية، وليس لها وجود مادي.
* غير متوحدة بظاهرة بعينها فهي تصورية.
* ليست شيئاً بعينه وإنما مجموعة علاقات أو عناصر مجردة.
* تشير إلى كلٍّ مجرد متماسك يتجاوز الأجزاء الفردية المحسوسة المتناثرة.
* تفترض قدراً من الانفصال عن الواقع الخام أو التجريبي.
ب) الموضوعية:
* تزعم كل المصطلحات أن لها علاقة بالواقع، وأنها نابعة منه (يُلاحَظ أن كلمة «واقع» هنا لا تعني بالضرورة الواقع المادي الطبيعي وحسب، فهي تشير أيضاً إلى الواقع الإنساني والاجتماعي والأخلاقي، أي «الواقع» الذي يتضمن كلاًّ من عالم المادة وعالم الرؤى).
* تفترض هذه المصطلحات أن الواقع ليس عشوائياً وأنه يتسم بقدر من الاتساق الكامن.
* يمكن القول بأن كل المصطلحات تتعامل مع النقطة التي تلتقي فيها الذات بالموضوع وتتفاعل معه.
2 ـ عنصر الزمان إما مختف من المصطلحات تماماً أو ضعيف بدرجات متفاوتة.
3 ـ لا يمكن أن يقوم الإنسان بإدراك واقعه وتنظيم ما يحيط به من ظواهر وتفاصيل إلا من خلالها، فاستخدامها حتمي.
4 ـ يُفرِّق الإنسان من خلال هذه المصطلحات بين ما هو ثابت وما هو عرضي، وبين ما هو جوهري وما هو هامشي، وبين ما هو أساسي وما هو ثانوي، وبين ما هو كلي وما هو جزئي، كما تُبيِّن العلاقات بينهما.
وسنستخدم كلمة «نموذج» للإشارة إلى هذه الرقعة المشتركة نظراً لشيوع الكلمة في الأوساط العلمية ونظراً لعدم ارتباطها بأي تعريف دقيق، أي أن صلتها بالرقعة المشتركة قوية وتَصلُح أن تكون دالاً عليها، وذلك دون أن ننسى المصطلحات الأخرى حتى نظل واعين بأن نقطتنا المرجعية هي الحقل الدلالي المشترك وليس هذا الدال أو ذاك. وعلينا أن نتبنى الكلمة وأن ننسى قدر طاقتنا المعجم الغربي حتى لا نستورد ما فيه من اضطراب وخلل وإبهام، ويكفينا ما لدينا من اضطراب وخلل وإبهام (ولا بأس من استخدام الكلمات الأخرى للإشارة إلى مدلولات أخرى).
وسنحاول تعريف النموذج كأداة تحليلية من خلال الإشارة إلى بعض سماته الأساسية:
1 ـ النموذج والتجريد:
النموذج ليس هو الحقيقة أو الواقع، وهو لا يوجد جاهزاً في الواقع، وهو ليس وجوداً عيانياً ولكنه ثمرة الملكات الفكرية (المنطقية والتخيلية) للعقل. وهو ثمرة عملية اجتهادية تجريدية مُتعمِّقة، فهو صورة عقلية ونسق فكري ونمط تَصوُّري وبنية عقلية مجردة وتمثيل رمزي للحقيقة حتى يتسنى للعقل الإنساني الوصول إلى جوانب منها (باعتبار أن المسافة لا يمكن تجاوزها تماماً، كما لا يمكن ملء كل الفراغات ولا الوصول إلى الواقع في ذاته). فالنموذج يتسم عادةً بقدر من البساطة والتجريد والوحدة والاتساق الداخلي، وهو ما يعني اختلافه عن الواقع. والهدف من التجريد هو تحرير النموذج بشكل معقول من تفرُّد الظاهرة (تأيقنها) ومن عنصري الزمان والمكان، ولذا فالنموذج له زمانه الخاص وفضاؤه الخاص ويتسم بقدر من الانغلاق والتَحدُّد وبقدر من الثبات. وكون النموذج نتاج عملية تجريدية عقلية لا يُنقص من قدره، فكل الفكر الإنساني يحوي قسطاً من التجريد، وبدون التجريد يصبح النموذج صورة فوتوغرافية غير قادرة على التفسير أو التنبؤ، ويصبح الفكر الإنساني انعكاساً أبله لكل تفاصيل الواقع المتناثرة المتعاقبة.
وبسبب تجريديته، يفتقر النموذج إلى البعد الزماني، وهو ما قد يُنقص من قيمته كأداة تحليلية، ولذا فإننا نحاول تطوير النموذج كأداة تحليلية ونتحدث لا عن «النموذج» وحسب وإنما عن «المتتالية النماذجية» أيضاً.
2 ـ النموذج والمعلومات:
النموذج كما قلنا بنية تصورية، منفصل إلى حدٍّ ما عن الزمان والمكان، واستخدامه حتمي وأساسي في مواجهة الواقع والمعلومات، فلو واجهنا الواقع والمعلومات بدونه لما فهمنا شيئاً. ولكن، هل هذا يعني إهمال المعلومات والواقع تماماً؟ الرد على هذا سيكون بطبيعة الحال بالنفي، فالمطلوب هو ألا يتحوَّل الإنسان إلى صفحة بيضاء تسجل كل شيء ببلاهة موضوعية متلقية، ولكن هذا لا يعني أن يصبح الإنسان مثل بعض الآلهة الآسيوية التي تحلم بالعالم، بحيث يصبح العالم مجرد حلم ووهم. فصياغة النموذج تبدأ في الواقع ومن خلال الاحتكاك به، ومن خلال هذا الاحتكاك والتفاعل الخلاَّق يبدأ الدارس في صياغة نموذجه. وكلما اتسعت رقعة التفاصيل المطروحة ازداد النموذج تركيبية وتفسيرية. ويمكن القول بأن الصياغة الأولية للنموذج ليست هي نهاية المطاف بل هي بداية البحث، إذ يبدأ الباحث من خلال النموذج في تنظيم المعلومات وتحديد أهميتها بحيث تتحول من مجرد معلومات متناثرة إلى أنماط متماسكة ذات معنى. فالمعلومات، إذن، أساسية في المراحل الأولية للدراسة.
بل إنها أساسـية أيضاً خلال كل مراحلها. إذ لا يستطيع الباحث أن يختبر نموذجه دون العودة للمعلومات والواقـع. كما أن المعلومات ستساعد الباحث على اكتشاف علاقة الكل بالأجزاء ومدى ترابطهما وابتعادهما. فنحن يمكننا الحديث عن «الرأسمالية» بشكل عام «نماذجي»، ولكن هذا ليست له فائدة كبيرة فمن خلال الدراسة التفصيلية سندرك الفرق بين الرأسمالية الإنجليزية والرأسمالية في الهند وبين الرأسمالية الإنجليزية في عصر المركنتالية والرأسمالية الإنجليزية في النظام العالمي الجديد. ويمكن القول بأن النموذج المركب لا يستند إلى المعلومات وحسب، بل إنه قد يولِّدها لا بمعنى أنه يخترعها (فهذا أمر مستحيل بطبيعة الحال) وإنما بمعنى أنه يبرز أهمية تفاصيل كان يُظَن أنها لا أهمية لها.
3 ـ النموذج والواقع:
ينفصل النموذج عن الواقع المباشر ويتجاوزه. ولكنه، مع هذا، يتضمن مجموعة من العناصر تُشاكل العلاقة بينها (في تصوُّر صاحب النموذج) العلاقة الموجودة بين عناصر الواقع. وبذا، يصبح النموذج قادراً على تفسير العلاقة بين الظواهر، وعلى شرح علاقاتها الداخلية، وتفسير أثرها المتبادل، وعلى الفصل والربط بين الظواهر على أساس قد يكون جديداً تماماً بحيث يبين أوجه التشابه بين بعضها رغم الاختلاف الظاهري ويبين أن ما هو مشترك بينها أكثر أهمية مما هو مختلف. والعكس صحيح أيضاً، إذ يبين الاختلاف بين بعض الظواهر الأخرى رغم التشابه الظاهري الواضح بينها.
والنموذج، كما هو واضح، لا يسقط في الانفصال الكامل عن الواقع (حيث تصبح المسافة هوّة) أو في التطابق الكامل معه والتأيقن (حيث تُلغَى المسافة تماماً) أو في الحرفية (بمعنى أنه يمكن اجتياز المسافة تماماً). فلو تشابهت جميع الظواهر التي تنضوي تحت النموذج تشابهاً كاملاً لفقد النموذج فائدته وجدواه لأنه يُفتَرض فيه أنه يحاول أن يصنف ظواهر مختلفة تتضح وحدتها من خلال تنوعها. ولو اختلفت كل الظواهر التي تنضوي تحت نموذج ما بشكل كامل لفقد النموذج فائدته وجدواه أيضاً لأنه سيقوم بربط ظواهر لا يصح الربط بينها وباكتشاف الوحدة حيث لا وحدة. فالنموذج يتناول الظواهر التي يوجد حد أدنى مشترك أو معقول بينها، وهو ما يبرر وضعها داخل إطار تصنيفي واحد رغم اختلافها.
والنموذج عادةً لا يتحقق إلا في لحظات نماذجية نادرة، إذ أن الواقع عادةً أكثر تركيباً وتشابكاً وأقل تبلوراً من التركيبة الذهنية التي يتكون منها النموذج، كما أن الإنسان الفرد، مهما بلغ من تسطح عادةً ما يكون ـ والحمد لله ـ أكثر تركيباً وعمقاً من النموذج المعرفي الذي يؤمن به. ولذا، فإن من النادر أن يُردَّ إنسان أو مجتمعٌ إنسانيًّ في كليته إلى النموذج المعرفي والحضاري الذي يدفعه ويحركه. فلا شك في أن الإنسان يتحرك داخل حدود مادية وإدراكية، ولكنه يظل، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، عنصراً حراً مستقلاً مسئولاً أخلاقياً عما يفعله. ونحن في رؤيتنا هذه نختلف عن الباحثين الذين يستخدمون النموذج في إطار الرؤية المادية الحتمية، فهم يردُّون الفاعل الإنساني في كليته إلى النموذج المادي (السياسي والاقتصادي والاجتماعي) الذي يحركه. كما أننا نختلف عن الباحثين المثاليين الهيجليين الذين يردّون الفاعل الإنساني في كليته إلى النموذج المثالي الذي يحركه. وكلا الفريقين يُنكر على الإنسان حريته ومسئوليته الأخلاقية، ولا يرى سوى حتميات، مادية أو مثالية، اختزالية معادية للإنسان.
ونحن نستخدم النماذج المختلفة (الإنسان العادي ـ الثورة الصناعية) ونحن نعرف أنها مجرد بنَى ذهنية تصورية ولا نتوقع قط أن نقابل هذا الإنسان العادي في الواقع، فنحن ندرك أن فلاناً من الناس إنسان عادي بمعنى أنه تَحقُّق جزئي لنموذج الإنسان العادي ولكنه لا يتطابق معه تمام التطابق (إلا في بعض الحالات النادرة التي عادةً ما تثير الدهشة بسبب ندرتها). ونحن نتحدث عن «الثورة الصناعية» ونعرف تمام المعرفة أنها ليست «ثورة» على الإطلاق، وأنها لم تقع في يوم من الأيام أو في مكان من الأمكنة. إذ أننا بفطرتنا الإنسانية ندرك أن النموذج المجرد ليس هو الواقع المادي أو الإنساني المُركَّب.
ولنأخذ عصابات المافيا على سبيل المثال. جعل عضو المافيا هدفه في الحياة (النموذج الحاكم الذي يحركه) سلب الآخرين حياتهم وممتلكاتهم وأعراضهم، فهو ذئب بشري كامل، ترجمة حقيقية لإنسان هوبز وداروين ونيتشه. ومع هذا، نجد أن عضو المافيا هذا يُبقي على علاقات التراحم مع أعضاء أسرته وعصابته وقد يُضحي بحياته من أجلهم. فالنموذج الأصغر الهامشي التراحمي الذي يتعامل المجرم من خلاله مع حياته الخاصة يتعايش مع النموذج الأكبر الرئيسي الحاكم المادي الإجرامي. وسواء أكان المجرم يدرك هذا التناقض أم لا، فهذا أمر ثانوي لا يهمنا، إذ أن ما يهمنا هو هذا التعايش في حياته اليومية. وأعضاء الجماعات الوظيفية يعيشون في مثل هذه الثنائية الصلبة التي تقترب من الثنوية، فهم متراحمون فيما بينهم، محايدون تعاقديون مع أعضاء مجتمع الأغلبية.
والمجتمعات الاشـتراكية كانت أكثر تنوعاً وحيوية وإنسانية من الرؤية الاشتراكية المادية. فالإنسان السوفيتي الفرد، رغم إخضاعه بشكل شرس لعمليات الترشيد المادية الاشتراكية، لم يكن قط ذلك الإنسان الاشتراكي الأممي الذي كانت تتحدث عنه كتب الدعاية السوفيتية. والإنسان الأمريكي الفرد، رغم خضوعه للعمليات القمعية التدجينية التي تقوم بها الإعلانات التي تهاجم أولاده ومنزله ليل نهار ولعمليات غسيل المخ التي يقوم بها الإعلام الأمريكي بطريقة مصقولة ذكية لا يعرف التاريخ لها مثيلاً، احتفظ بقدر من الإنسانية والتركيب يجعله مختلفاً عن إنسان الحلم الأمريكي والإعلانات المتكررة والأكاذيب السياسية اليومية.
وهذا التناقض يوجد أحياناً داخل الأنساق الفلسفية نفسها. والإنسان الفرد ـ كما أسلفنا ـ أكثر تركيباً من الأنساق ومن النماذج التي يؤمن بها ويروج لها. ولهذا السبب، فكثيراً ما يفزع مفكر ما من وحشية نموذجه فيضيف من الأقـوال ما يخفف من حدتها ويسـتعيد بعـض التركيبية ويضفي عليه غلالة إنسانية لا تغير عادةً من البنية الوحشية للنسق. والفكر الرومانسي، على سبيل المثال، كان محاولة لتهذيب النموذج العلماني الآلي (الميت) لإدخال بعض العناصر العضوية (الحية) التي تستعيد للإنسان استقلاليته عن الطبيعة. ومع هذا، سقط الفكر الرومانسي العضوي في الواحدية المادية. ولكل هذا، نجد أن النماذج الفلسفية لا تُفصح عن نفسها بشكل خالص أو متبلور في الواقع الاجتماعي والتاريخي الإنساني، وتظل هناك مسافة تفصل النموذج (المجرد) عن الواقع (المركب).
وهذا لا يعني أن نقرر أن النماذج (لهذا السبب) لا فائدة تُرجى منها. فهي أدوات تحليلية مفيدة طالما أدركنا بُعدها الاجتهادي، وأنها أداة تفسيرية ليس إلا، وليس لها وجود مادي موضوعي، أي إذا نحن لم نشيئها ولم نتصور أن النموذج هو الواقع. فنحن لو رفضنا النموذج كأداة تحليلية، نكون بذلك قد رفضنا محاولة الوصول إلى قدر معقول من المعرفة عن الحقيقة الكلية وسقطنا في التشظي وفي التعامل مع الجزئيات المنفصلة عن الكليات وتصوَّرنا أننا نفهمها، مع أن كل ما يحدث هو أننا نقوم بعملية وصف يُقال لها «موضوعية»، وهي في واقع الأمر عملية تسجيل عشوائية ليس لها عقل أو حتى قَدَم.
4 ـ محدودية النموذج وتحيزه:
النموذج بنية تصورية عقلية مجردة، ولذا فهو لا يمكن أن يغطي كل أجزاء الواقع مهما بلغت شموليته. وإنْ تطابق النموذج مع الواقع، أصبح هو نفسه واقعاً وفقد نماذجيته ونمطيته، وهذا يعني حتمية المسافة أو وجود مسافة بين الدال والمدلول، والسبب والنتيجة، والمدرك والمدرَك، والذات والموضوع، والفكرة والمادة. هذه المسافة تعني حتمية محدودية النموذج وقصوره، أي أنه سيظل أقل ثراءً وتركيباً من الواقع ولكنه سيظل أيضاً أكثر تركيزاً وبلورة منه. وهذا يعني أن التعامل مع الواقع من خلال نماذج يعني حتمية الانتقاء والاختيار، والإبقاء والإبعاد، أي حتمية تَحيُّز صاحب النموذج أو من يستخدمه. ولذا، فإن الموضوعية المطلقة (الخالية من أي تحيزات أو كليات أو مطلقات) أمر مستحيل من الناحية المعرفية.
ولكن تَحيُّز النموذج لا يعني العبثية والعدمية والذاتية، فالنموذج التفسيري الذي يعلن عن نفسه صراحةً يحمي المتلقي من وهم الموضوعية المطلقة إذ أن المتلقي سيدرك أن النموذج ليس هو الواقع المادي، وأن عقلاً إنسانياً قام بصياغته وبالتالي فهو يحوي حتماً عنصراً ذاتياً، وأن ثمة مسافة تفصل بين النموذج والواقع، ولذا سيأخذ المتلقي حذره وسيعرف أن ما يتلقاه ليس علماً محايداً وإنما هو علم يحمل تحيزات صاحبه، فهو نتاج رؤية بشر.
ولكن، رغم تحيزات النموذج، فإن هذا لا ينفي أن المتلقي قد يتلقى قدراً من العلم ومن المعرفة والخبرة يؤهله للتعامل مع الواقع وفهمه وتفسيره والتنبؤ به دون أن يتحكم فيه بالضرورة. وحتى إن تَحكَّم في بعض جوانبه، فإن هذا لا يعني بالضرورة السيطرة الإمبريالية الكاملة عليه، أي أن المتلقي سيُحقق قدراً من الحرية ولكنه سيقبل أيضاً بقدر من الضرورة. كما أن بوسع المتلقي أن يختبر المقدرة التفسيرية للنموذج ضمن عملية تتم خارج ذاتية صاحب النموذج.
5 ـ حتمية استخدام النماذج:
الإدراك ـ كما أسلفنا ـ ليس مجرد عملية تسجيل لكل المعطيات الحسية التي ترد للعقل ومراكمة لها، والعقل نفسه ليـس أداة كفئاً لتحقيق ذلك، لأنه أداة محدودة مبدعة فعالة ولأن الواقع مركب فإن عملية الإدراك تصبح عملية انتقاء وصياغة، وهو ما يعني استحالة الوصول إلى المعرفة الموضوعية المطلقة أو معرفة الأسباب في علاقتها بالنتائج بشكل صارم. وهذا يعني، في واقع الأمر، حتمية استخدام النماذج إن أراد الإنسان تجاوز الرصد التوثيقي المباشر الأبله المستحيل، وإن أراد تجاوز وجوده المادي المباشر حيث يتماس الجهاز العصبي بالواقع المادي بشكل مباشر (وكأن كل المعرفة هـي مثل معـرفة الطفـل الذي لا يُدرك النار إلا باحتراق أصابعـه، وكأننا كلنا مثل كـلب بافلوف الشـهير).
ونحن نذهب إلى أننا لا نستطيع كتابة أي شيء (إلا قائمة المشتريات من البقال) بدون نموذج. فنحن لا يمكننا إدراك الواقع الخـام مبـاشرةً إذ لابد أن نتعامل معه من خلال خريطة إدراكية تُبقي وتَستبعد. فالنموذج، بهذا المعنى، مرتبط تمام الارتباط بأبسـط العمليـات الإدراكية بل بالحالة الإنسـانية نفسها وبطبيعة الإنسان؛ لا ككائن مادي طبيعي، شيء بين الأشياء، وإنما ككائن بشري أو رباني لا يخضع لمنطق الذرات والأرقام. إنه مرتبط بخروج الإنسان من حالة الطبيعة البسيطة الجنينية (حيث لا تُوجَد مسافة بين المدرك والمدرَك وبين المثير والاستجابة) إلى حالة الحضارة المركبة. إن استخدام النماذج أمر حتمي للإدراك الإنساني ولإجراء أي بحث. فلو جابه الإنسان الواقع، ولو جابه الباحث موضوع بحثه بصفحة عقله المادية البيضاء، لأصابه الشلل، ولوجد نفسه مذعناً إما لنماذج الآخرين دون وعي، أو لبعض جوانب الظاهرة موضوع الإدراك والبحث، بحيث يرصدها بشكل ذري مفتت غير متماسك. وإذا كان الأمر كذلك فمن المستحسن أن ننطلق من إدراك هذه الحتمية وأن نواجه الواقع بتساؤلاتنا وإشكالياتنا ونماذجنا التحليلية، مدركين ذلك تمام الإدراك، الأمر الذي سيُحسِّن أداءنا النظري والتطبيقي.
وهذه الموسوعة هي بمعنى من المعاني دراسة لحالة معيَّنة (اليهود واليهودية والصهيونية) من خلال استخدام مجموعة من النماذج المستقلة المتشابكة.
يتبع إن شاء الله...