الهرمنيوطيقا
«هرمنيوطيقا» من الكلمة اليونانية «هرمنويين hermeneuin» بمعنى «يُفسِّر» أو «يُوضح». والفعل مشتق من كلمة «هرمنيوس» وهي كلمة مجهولة الأصل وإن كان يُقال إنها تعود إلى الإله هرميس رسول الإله زيوس.
وفي اللاهوت المسيحي، تشير الكلمة إلى ذلك الجزء من الدراسات اللاهوتية المَعْنيِّ بتأويل النصوص الدينية بطريقة خيالية ورمزية تبعد عن المعنى الحرفي والسطحي المباشر وتحاول اكتشاف المعاني الحقيقية والخفية للنصوص المقدَّسة (وخاصةً الإنجيل) والقواعد التي تحكم التفرُّد المشروع للنص المقدَّس.
وقد استخدم هايدجر هذا المصطلح ليشير إلى أن دراسته في طبيعة الوجود الإنساني هي دراسة ميتافيزيقية (أي هرمنيوطيقية(.
والكلمة، في الوقت الحاضر، تعني محاولة فهم العالم لا باعتباره نظاماً ميتافيزيقياً وإنما باعتباره موضوع الفكر والعقل الإنساني وباعتباره تجربة معاشة (بالألمانية: ليبنزفلت Lebenswelt، أي عالم الحياة) كما أصبحت مرتبطة بالمعنى العميق (والروحي) للنصوص وتَميُّز الظاهرة الإنسانية عن الظواهر الطبيعية.
وقد قام ديلتاي بنقل المصطلح من اللاهوت إلى الفلسفة ثم إلى العلوم الإنسانية. واستخدمه للإشارة إلى المناهج الخاصة بالبحث في المؤسسات الإنسانية والسلوك الإنساني باعتباره سلوكاً تحدده دوافع إنسانية جوانية يَصعُب شرحها عن طريق مناهج العلوم الطبيعية.
ومن ثم، فإن الهرمنيوطيقا لا تتناول فقط المعطيات الخام للحواس وإنما تحاول فهم معناها الداخلي.
وأصبحت الهرمنيوطيقا بالنسبة لبعض العلماء هي الطريقة الوحيدة الممكنة لقراءة النصوص الدينية والشعرية والتاريخية والفلسفية وأي نص يتحدث عن الإنسان.
والأطروحات الأساسية للهرمنيوطيقا هي (كما لخصها ديلتاي):
1 ـ التفسير العلمي ليس هو الشكل الوحيد للتفسير. فالتفسير العلمي ينظر للإنسان باعتباره كياناً عضوياً تحركه الدوافع الفيزيقية، بينما يُفترَض أن ننظر إليه باعتبار أن له دوافع داخلية وقيماً.
2 ـ إننا نفهم العالم الإنساني من خلال طرح أسئلة عليه. ويتحدد كل سؤال، من ناحية الشكل والمضمون، بمقدار الاهتمام الكامن وراءه.
3 ـ السؤال ذاته يمثل تفسيراً جزئياً للظاهرة موضع السؤال.
ومن هذه الأطروحات، يظهر ما يُسمَّى «الدائرة الهرمنيوطيقية»:
1 ـ لا يمكن أن نفهم أجزاء أية وحدة أو أن نتعامل معها إلا وعندنا إدراك مسبق بالمعنى الكلي، لكننا في الوقت نفسه لا نستطيع معرفة المعنى الكلي إلا من خلال معرفة معاني أجزائه.
2 ـ ويمكن طرح القضية بطريقة أخرى فنقول: إن التفسير لا يمكن أن يكون إلا بعد أن يبدأ التفسير، فالعالم لا يوجد كموضوع لوعينا إلا من خلال اللغة.
ودائرة الهرمنيوطيقا ليست حلقة مفرغة، إذ أن فهمنا يتعمق من خلال عملية حلزونية تبدأ بالإحساس بالمعنى الكلي، ثم ندرس المكونات الجزئية في ضوء المعنى الكلي فيتعمق المعنى الكلي من خلال معرفة معنى الأجزاء، ثم نعود للأجزاء مرة أخرى... وهكذا.
الشرح والتفسير (فرشتيهن(
أصبحت كلمة «يشرح» تعني «يشرح تماماً» أو «يُزيل اللبس تماماً». بل أصبحت لها أبعاد تفكيكية، فهي تعني «تعريف أسباب الظاهرة وردها إلى مبدأ عام واحد أو عدة مبادئ». كما أنها قد تعني «يفضح» أو «ينزع السـر عن».
وهـذه الأبعاد ليست واضحة في اللغة العربية بالقدر الكافي، إلا أنها أكثر وضوحاً في اللغة الإنجليزية.
فكلمة «يشرح» باللغة الإنجليزية هي «إكسبلين explain» من الفعل اللاتيني «إكسبلاناري explanare» بمعنى «يُسطِّح الشيء» أو «يسويّه» أو «يجعله مستوياً» (كلمة «بلين plane» الإنجليزية تعني «السطح المستوي»).
هذا على عكس فعل «إنتربريت interpret» (من الفعل اللاتيني «إنتربريتاري interpretari» وهو يعني «يُفاوض»).
ففعل «إنتربريت» يعني «يُبرز المعنى الكامن ويوضحه» و«يؤول النص» و«يعطي تفسيراً للموضوع» و«يترجم» أو «يقوم بدور المترجم»، ومن الواضح أن كلمة «يشرح» تدور في إطار المرجعية الموضوعية: يُسطِّح وىُسوِّي حتى يستوي مع معيارية برانية، أما كلمة «يُفسِّر»، فهي لا تنفي الأبعاد الذاتية الاجتهادية لعملية الإدراك.
وهذا التداخل بين التفسير (بمعنى الاجتهاد في فهم الظاهرة وجعلها مفهومة إلى حدٍّ ما من خلال التعاطف معها وفهمها أو تفهمها من الداخل) والشرح (بمعنى إدخال الظاهرة في شبكة السببية الصلبة المطلقة والقوانين الطبيعية وكشف العلاقة الموضوعية بين السبب والنتيجة) يعود إلى أن العلوم الطبيعية والرياضة بنماذجها الواحدية الموضوعية المادية تلقي بظـلالها الكثيفة على العلوم الإنسانية.
فالاستنباط (العقلاني) هو منهج العلوم الرياضية، والاستقراء (التجريبي) هو منهج العلوم الطبيعية، وكلاهمـا يحاول أن يصل إلى درجة عاليـة من الدقة والعموميـة في نتائجه.
ومن ثم، يحاول بعض علماء الدراسات الإنسـانية تبني المناهج السـائدة في العلوم الطبيعية والرياضية (العلوم الدقيقة!) ويحاولون تفسير الظواهر الاجتماعية والإنسانية تماماً مثلما تُفسَّر الظواهر الطبيعية بطريقة كمية، فيتبنون نماذج رصد موضوعية واحدية مادية تُسقط الأبعاد الجوانية والخاصة والكيفية للظاهرة الإنسانية وتُهمل الدوافع والوعي والقيمة تماماً، ثم تُرَدُّ الظاهرة في كل تفاصيلها إلى قانون أو مبدأ عام واحد، وتُزال كل المسافات والثغرات والثنائيات والخصوصيات حتى نصل إلى ما يُتصوَّر أنه التفسير الموضوعي الكامل أو شبه الكامل للظاهرة، أي أن دراسة سلوك الإنسان لا يختلف عن دراسة سلوك اليرقات فكلاهما يُدرَس من خلال سلوكه البراني وحركته الخاصة (ومع هذا، ينبغي الإشارة إلى أن العلوم الطبيعية نفسها قد انسلخت عن هذه الرؤية وأصبحت أكثر احتمالية في رؤيتها، كما أنها أخذت بالتدريج تكوِّن لنفسـها عالماً خاصاً بها مؤلفاً من كيانات عقلية ورياضية لا تسـتطيع أن تجد لها وجوداً في عالم الظواهر.
ويبدو أن الفرض العلمي، الذي كان يمثل الخطوة الثانية التي تلي خطوة الملاحظة والتجربة والذي كان يشير إلى مُدرَكات حسية، أصبح في المنهج العلمي المعاصر فرضاً صورياً لا يشير إلى مدركات حسية ويأتي سابقاً على الملاحظة والتجربة.
لكن الفرض العلمي لم يعد تعميقاً لوقائع تجريبية ـ كما كان شائعاً في الماضي ـ وإنما هو نتاج العبقرية العلمية الخلاقة التي تأتي به بأية طريقة أو بأي منهج.
وما يهم في الفرض العلمي مدى مقدرته على أن تجعل هذا العالم مفهوماً ومعقولاً، أي أن الحاجة إلى حقائق صلبة أو سببية صلبة لم تَعُد موجودة).
وفي العالم الغربي، اكتشف كثير من العلماء سذاجة بل تفاهة الرؤية التجريبية والوضعية (الواحدية الموضوعية المادية) التي تصر على الحقائق الصلبة وعلى السببية الصلبة والمطلقة والتي ذهبت إلى أن قوانين التاريخ والمجتمع الإنسانيين تشبه قوانين الطبيعة (بالمعنى الساذج لفكرة القانون العلمي) وحاولت اكتشاف هذه القوانين وصياغتها بطريقة "علمية" دقيقة كمية، وأصر هؤلاء العلماء الذين رفضوا مثل هذه الرؤية الساذجة على ضرورة التمييز بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية وعلى ضرورة رفض فكرة وحدة (أي واحدية) العلوم.
ومن مظاهر هذه الثورة محاولة التمييز بين الشرح من جهة والفهم (بمعنى «التفهم» و«التفسير الاجتهادي») من جهة أخرى.
وقد بدأ استخدام الفعل الألماني «فرشتيهن verstehen» بمعنى «يفهم» أو «يتفهم» مقابل «إركليرين erklaren» بمعنى «يشرح من خلال ملاحظة الحوادث وربطها بالحوادث الأخرى حسب القوانين الطبيعية»، وذلك لوصف عملية فهم السلوك الإنساني المركب من خلال التعاطف وإدراك الدوافع الإنسانية الجوانية (مقابل شرح الأسـباب البرانية).
وقد اسـتخدم هذا المصطلح كلٌّ من فلـهلم ديلتاي وجـورج زيميل وكارل ياسبرز وماكس فيبر وآخرون. وقال ياسبرز: "إن الحياة النفسية [الإنسانية] لا يمكن دراستها من الخارج، كما أن الحقائق الطبيعية لا يمكن دراستها من الداخل. الأولى يمكن فهمها من خلال النفاذ النفسي، أما الثانية فيمكن شرحها من خلال دراسة العلاقة الموضوعية المادية".
وقارن ياسبرز بين دراسة حَجَر يَسقُط من عل (من جهة) ودراسة علاقة تجارب الإنسان في طفولته ببعض الأمراض النفسية في شبابه وشيخوخته (من جهة أخرى)، فالأول لا يمكن أن نراه إلا بشكل براني (في إطار قانون الجاذبية)، أما الثاني فيتطلب عمليات فكرية وعقلية أكثر تركيباً.
ولكن المصطلح ارتبط أساساً باسم ماكس فيبر. فقد بيَّن فيبر الفرق بين الرصد الموضوعي المتلقي المادي وعمليات التفسير الاجتهادية حين قال إن دراسة حظيرة الدجاج أمر جدُّ مختلف عن دراسة المجتمع الإنساني، فعلم اجتماع الدجاج لن يدرس سوى أنماط سلوكية متكررة من الخارج يمكن فهمها في إطار المثير المادي والاستجابة السلوكية.
ونحن لا نعرف شيئاً عن العالم الجواني للدجاج وعواطفه وأفكاره وتأملاته إن كان هناك مثل هذا العالم.
أما في حالة المجتمع الإنساني، فنحن مزودون بقدر كبير من المعرفة عن العالم الجواني للإنسان (نتوصل إليه من خلال معرفتنا لذواتنا ومن خلال ألفتنا للطبيعة البشرية) وعن الدوافع الداخلية المركبة وعالم المعنى الذي ينبع منه السلوك الإنساني.
ولذا، إذا كان من الممكن شرح سلوك الدجاج في إطار شبكة السببية الصلبة المطلقة ومن خلال الملاحظة البرانية المباشرة، فلن يكون هذا كافياً بالنسبة للبشر.
والمحاولة الوضعية السلوكية لوصف عالم الإنسان من خلال سلوكه البراني محكوم عليها بالفشل ومحكوم عليها بأن تظل سطحية تافهة، فهي بإصرارها على ضرورة الشرح البراني الموضوعي ستستبعد قضايا إنسانية أساسية مثل انشغال الإنسان بمصيره وتجربته في الكون وإحساسه بالاغتراب.
ولكن هذا لا يعني أن السلوك الإنساني لا يخضع لأية سببية وإنما يعني أن الرصد البراني لا يكفي، والمطلوب هو عملية تفسير لا تدور في إطار الواحدية الموضوعية المادية وتسعى إلى الفهم العميق من خلال التعاطف المستمر والإدراك المبدع لتركيبية الدوافع الإنسانية وغموضها.
التحول عن التنظير المركب إلى الممارسة الاختزالية
هناك وعي محدد بقضية الفرق بين الطبيعي والإنساني واستقلال الحيز الإنساني عن الحيز الطبيعي في العالم العربي (كما أسلفنا)، ولكننا مع هذا نجد أن النموذج الاختزالي المعلوماتي التراكمي (الواحدي الموضوعي المادي) الذي لا يُفرِّق بين الظاهرة الطبيعية البسيطة والظاهرة الإنسانية المركبة يهيمن على الدراسات والبحوث في جامعاتنا ومراكزنا البحثية بل يكتسحها تماماً.
وأعتقد أن ما يحدث هو أنه رغم وجود الوعي النظري بالاختلاف الجوهري بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية إلا أنه لا يتم تفعيله ولا ينتقل إلى مستوى الممارسة البحثية نفسها.
وأعتقد أن كثيراً من الباحثين يتخلون عن وعيهم هذا ويَسقُطون في الممارسة الاختزالية التي لا تُفرِّق بين الطبيعي البسيط والإنساني المركب.
وعادةً ما يحدث هذا في مرحلة صياغة الفروض. وقد عُرِّف الفَرْض العلمي بأنه منطوق أو مقولة أو تقرير مبدئي لما نعتقد أنه علاقة بين متغيرين أو أكثر، ويعكس الفرض تكهنات الباحث بالنسبة لنتائج البحث المرتقبة.
ويَتبنَّى الباحث الفرض بشكل مؤقت حتى يتحقق صدقُه أو كَذبه عن طريق الملاحظة والتجريب. ويقوم الفرض بتوجيه الباحث إلى المعلومات والبيانات التي يتعين جمعها وهو ما يوفر كثيراً من الوقت والجهـد كان يمكن أن ينفقه في الحصـول على بيانات محـدودة أو عديمة القيمة تتصل بالمشكلة قيد الدراسـة.
فمن الواضح أن مرحلة صياغة الفروض هي من أهم مراحل البحث إن لم تكن أهمها. ولكنها، بدلاً من أن تكون المرحلة التي يبدأ الباحث فيها عملية التفكيك والتركيب بشكل مُتعمِّق وبلورة الإشكالية التي سيتناولها، أصبحت (في كثير من الأحيان) المرحلة التي يَتبنَّى فيها الباحث النماذج الاختزالية الواحدية المادية التي تقتل الواقع الإنساني وتميته وتقضي على أبعاده المركبة وتقذف بالباحث في براثن النماذج المعلوماتية التراكمية والموضوعية المتلقية.
وقد صدرت بعض الدراسات التي تُميِّز بين الظواهر الطبيعية والإنسانية بحماس شديد وبراديكالية صارمة على المسـتوى النظري.
ومع هـذا، حينما وصلت هذه الدراسـات إلى قضـية الفـروض، وصفتها في عبارات مثل:
ـ كلما كانت الفروض واضحة، ساعد ذلك الباحث على دقة تحديد أهداف البحث وحسن اختيار عينة البحث وأسلوبه وأدواته.
ـ يجب أن تُصاغ الفروض في كلمات بسيطة كلما أمكن.
ـ يجب أن تكون الفروض محدَّدة في منظورها لا واسعة عريضة.
ـ يجب أن تكون الفروض متمشية مع معظم الحقائق المعروفة السابقة التي ثبت صدقها أو صحتها.
ولابد أن نقرر أن الأمثلة السابقة حالة متطرفة من الاختزالية ولكنها حالة متطرفة ممثِّلة. وما يهمنا تقريره هنا أن النموذج المهيمن في مرحلة صياغة الفروض هو عادةً نموذج اختزالي يستبعد الإنسان كإنسان ويحدد ويُشيِّئ الظاهرة الإنسانية ليجعلها تشبه الظاهرة الطبيعية في بساطتها وبرانيتها، وهو ما يخلق لدى الباحث وهماً مفاده أن الظاهرة الإنسانية يمكن رصدها بشكل براني، عن طريق مراكمة المعلومات التي تتوافر عنها.
بل يمكننا القول بأن العلوم الإنسانية في بلادنا أصبحت تعيش في ظلال النماذج المستمدة من العلوم الطبيعية باعتبارها نماذج بسيطة وواضحة ودقيقة، وأصبح الطموح الخفي للعلوم الإنسانية أن تصبح في بساطة ووضوح ودقة وموضوعية العلوم الطبيعية مما يعني افتراض أن الإنسان ظاهرة طبيعية وأنه جزء لا يتجزأ منها، مما يعني ضمور بل اختفاء الحيز الإنساني (وعلى العكس من هذا نجد أن افتراض انفصال الإنسان عن الطبيعة هو تأكيد للتركيب على حساب البساطة،وللكيف على حساب الكم، وللعمق على حساب الوضوح والدقة).
ومما ساعد على هذا الاتجاه نحو «تطبيع» الظاهرة الإنسانية (أي النظر إليها كما لو كانت ظاهرة طبيعية) اتساع قاعدة المعلومات وما يُسمَّى «ثورة المعلومات» أو "انفجارها".
فإذا كان على الأستاذ الجامعي (أو المؤلف) أن يقرأ عشرات الكتب والحوليات ويحضر عشرات المؤتمرات ويشرف على عشرات المشاريع البحثية والرسائل الجامعية، فلابد أن يفضل التعامل مع المسلمات البسيطة الواضحة والدقيقة فمعالجتها أمر سهل، وتقبُّلها أمر حتمي، أما مناقشتها واختبارها فأمر يحتاج جهداً مركباً ووقتاً طويلاً.
والخطاب التحليلي لنفس الأستاذ لابد أن يتسم بنفس البساطة والوضوح والدقة، والرسائل التي يناقشها لابد أن تتسم بالخصائص نفسها حتى يتمكن خط التجميع الأكاديمي من أن يستمر في السير وأن تستمر آلة المؤتمرات في الدوران. ولذا فكثيراً ما تُعزَل الفرضية عما حولها حتى يمكن "معالجتها" في رسالة أو كتاب. ويتحول الفكر إلى مجموعة أفكار متراصة، وكأن كل فكرة ليست سوى شيء لا يربطه رابط بالأفكار الأخرى، وكأنها ليست جزءاً من رؤية للكون.
إن النموذج الفعال، الذي يُستخدَم أثناء صياغة الفروض في الرسائل الجامعية وفي عملية التأليف، يعيش في ظلال النماذج المستقاه من العلوم الطبيعية، ولذا نجده لا يُفرِّق في كثير من الأحيان بين مناهج البحث في العلوم الطبيعية وفي العلوم الإنسانية، ولا بين الظواهر الطبيعة والظواهر الإنسانية.
وحيث إن النموذج الفعال مستبطن بشكل غير واع فإنه لا يُعلن عن نفسه بصراحة إلا في حالات نادرة (وعلى كل، من يجرؤ أن يصرح بالقول بأن الإنسان والشيء لا فرق بينهما؟) إلا أنه مع هذا يتبدَّى من خلال مجموعة من الافتراضات والآراء والاختيارات. فيُلاحَظ على سبيل المثال أن ثمة إيماناً في حقل العلوم الإنسانية بأن هناك معنى واحداً نهائياً صائباً ننجح في الاقتراب منه إن تحلينا بالموضوعية والحياد. ويسود الاعتقاد بأن المعرفة سلسلة مترابطة الحلقات كل حلقة تؤدي إلى التي تليها، ولا يمكن تَخطِّي الحلقات المتجاورة لأن سلسلة المعرفة ـ حسب هذا التصوُّر ـ سلسلة تراكمية صلبة (تماماً كما هو الحال في حقل العلوم الطبيعية)، ومفهوم السببية الذي يسود فيها هو بنفس الصلابة.
وتأخذ عملية التأليف من ثم شكل إضافة معلومات الواحدة للأخرى ومراكمتها، ويصبح التأليف هو إجراء تجارب في إطار النظرية العامة السائدة حتى نزداد اقتراباً من الحقيقة الواحدة (التي تعادل القانون الطبيعي أو الرياضي في العلوم الطبيعية).
ويتبدَّى هذا النموذج الفعال في اقتراحات الرسائل الجامعية في حقل العلوم الإنسانية. أذكر في الماضي (أي حتى أواخر الستينيات) حينما كان طالب الماجستير أو الدكتوراه يسجل موضوع بحثه كان يكتفي باختيار عنوان الموضوع (أي الإشكالية التي سيتناولها الباحث) في سطر أو سطرين، ويُترَك بعد ذلك هو وأستاذه، فالمسألة "بحث" والبحث لابد أن يكون منفتحاً، ولابد أن يؤدي إلى تحولات فكرية.
أما الآن مع افتراض إجراء التجربة في إطار النظرية العامة السائدة، ومع افتراض فكرة التراكم المعلوماتي، فإن مشروع الرسالة يصل أحياناً إلى ستين صفحة حيث يذكر الباحث كل ما سيقوله مسـبقاً، وكل المراجـع بل فصول البحث. ولكن إذا كان "الباحث" يعرف ما سيقول، فلماذا يكتب الرسالة إذن؟
يتبع إن شاء الله...