الفصل الثامن عشر: دستور 16 يناير 1956 وانتخاب جمال عبدالناصر رئيساً للجمهورية
أولاً: دستور 16 يناير 1956
وضعت حكومة الثورة دستوراً جديداً أعلنه الرئيس جمال عبدالناصر يوم 16 يناير في مؤتمر شعبي كبير في ميدان الجمهورية "عابدين سابقاً". و16 يناير 1956 هو نهاية فترة الانتقال التي حددت بثلاث سنوات بدأت في 17 يناير 1953. ودستور 1956 ليس مقتبساً من دستور 1923، ولا من المشروع الذي وضعته لجنة الدستور.
وله ديباجة بليغة "مقدمة" دلت على تجديد في وضع الدستور، وتوضيح لأهداف الثورة، فدستور عام 1923 كان منحة من الملك، أما دستور عام 1956 فهو تعبير عن إرادة الشعب، وتعريف بالخطوط الرئيسية للدستور، وتسجيل لأهداف الوطن العليا، تقول الديباجة:
"نحن الشعب المصري ـ الذي انتزع حقه في الحرية والحياة، بعد معركة متصلة ضد السيطرة المعتدية من الخارج والسيطرة المستغلة من الداخل.
"نحن الشعب المصري ـ الذي تولى أمره بنفسه، وأمسك زمام شأنه بيده، غداة النصر العظيم الذي حققه بثورة 23 يوليه 1952 وتوج به كفاحه على مدى التاريخ.
"نحن الشعب المصري ـ الذي استلهم العظة من ماضيه، واستمد العزم من حاضره، فرسم معالم الطريق إلى مستقبل، متحرر من الخوف، متحرر من الحاجة، متحرر من الذل، يبني فيه بعمله الإيجابي، وبكل طاقته وإمكانياته،مجتمعاً تسوده الرفاهية ويتم له في ظلاله: القضاء على الاستعمار وأعوانه، القضاء على الإقطاع، القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم، إقامة جيش وطني قوي، إقامة عدالة اجتماعية، إقامة حياة ديموقراطية سليمة.
"نحن الشعب المصري ـ الذي يؤمن بأن: لكل فرد حقاً في يومه، ولكل فرد حقاً في غده، ولكل فرد حقاً في عقيدته، ولكل فرد حقاً في فكرته، حقوقاً لا سلطان عليها أبداً لغير العقل والضمير.
"نحن الشعب المصري ـ الذي يقدس الكرامة والمساواة باعتبارها جذوراً أصيلة للحرية والسلام.
"نحن الشعب المصري ـ الذي يشعر بوجوده متفاعلاً في الكيان العربي الكبير، ويقدر مسؤولياته والتزاماته حيال النضال العربي المشترك، لعزة الأمة العربية ومجدها.
"نحن الشعب المصري ـ الذي يعرف مكانه على ملتقى القارات والبحار من هذا العالم، ويقدر تبعات رسالته التاريخية في بناء الحضارة، ويؤمن بالإنسانية كلها، ويوقن أن الرخاء لا يتجزأ، وأن السلام لا يتجزأ.
"نحن الشعب المصري ـ بحق هذا كله ومن أجل هذا كله .. ومن أجل هذا كله .. نرسي هذا القواعد والأسس دستوراً. ينظم جهادنا ويصونه، ونعلن اليوم هذا الدستور، تنبثق أحكامه من صميم كفاحنا، ومن خلاصة تجاربنا، ومن المعاني المقدسة التي هتفت بها جموعنا، ومن القيم الخالدة التي سقط دفاعاً عنها شهدائنا، ومن أحلام المعارك التي خاضها آباؤنا وأجدادنا جيلاً بعد جيل.. من حلاوة النصر، ومن مرارة الهزيمة.
"نحن الشعب المصري ـ وبعون الله وتوفيقه وهداه، نملي هذا الدستور ونقرره ونعلنه، بمشيئتنا وإرادتنا وعزمنا الأكيد ونكفل له القوة والمهابة والاحترام".
والدستور من 196 مادة وتتلخص قواعده يما يلي:
1. قرر في أولى مواده أن مصر دولة عربية مستقلة ذات سيادة، وهي جمهورية ديموقراطية، والشعب المصري جزء من الأمة العربية (مادة 1). فوضع بهذه القاعدة أساس القومية العربية، وهو أول دستور مصري يقرر أن الشعب المصري جزء من الأمة العربية.
2. قرر الدستور في هذا المادة النظام الجمهوري، واختار النظام الجمهوري الرياسي الذي يكون فيه رئيس الدولة في الوقت ذاته رئيس الوزارة، فاقتبس نظام الجمهورية الرياسية من دستور الولايات المتحدة الأمريكية مع توسع في اختصاصات الرئيس، وآثر هذا النظام على الجمهورية البرلمانية التي توزع فيها السلطة بين رئيس الدولة ورئيس الوزارة، وفي مقابل انحصار السلطة في شخص رئيس الجمهورية جعل اختياره بواسطة الشعب في استفتاء عام يشترك فيه الناخبون جميعاً، ويشترط في رئيس الجمهورية أن يكون مصرياً من أبوين وجدين مصريين، ولا تقل سنه عن خمسة وثلاثين سنة ميلادية. وألا يكون منتمياً إلى الأسرة التي كانت تتولى الملك في مصر، ويرشح مجلس الأمة رئيس الجمهورية. ويعرض الترشيح على المواطنين لاستفتائهم فيه.
3. يعين رئيس الجمهورية الوزراء ويعفيهم من مناصبهم، ويجتمع مع الوزراء في هيئة مجلس وزراء لتبادل الرأي في الشؤون العامة للحكومة وتصريف شؤونها، أي أنه يرأس مجلس الوزراء.
4. للحقوق الاجتماعية والاقتصادية مكان الصدارة في الدستور بالنسبة للحقوق السياسية والشخصية، فقد جعل التضامن الاجتماعي أساساً للمجتمع المصري، وجعل الأسرة أساساً للمجتمع وقوامها، الدين والأخلاق والوطنية.
ونص على أن الجولة اكفل الحرية الطمأنينة وتكافؤ الفرص لجميع المصريين. وأن الاقتصاد القومي ينظم وفقاً لخطط مرسومة تراعى فيها مبادئ العدالة الاجتماعية وتهدف إلى تنمية الإنتاج ورفع مستوى المعيشة، ونص على أن النشاط الاقتصادي الخاص حر على أن لا يضر بمصلحة المجتمع أو يخل بأمن الناس أو يعتدي إلى حريتهم أو كرامتهم، ويستخدم رأس المال في خدمة الاقتصاد القومي ولا يجوز أن يتعارض في طرق استخدامه مع الخير العام للشعب.
ويكفل القانون التوافق بين النشاط الاقتصادي العام والنشاط الاقتصادي الخاص مصونة، وينظم القانون أداء وظيفتها الاجتماعية، ولا تنزع الملكية إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل، ونص على أن القانون يعين الحد الأقصى للملكية الزراعية بما لا يسمح بقيام الإقطاع.
ولا يجوز لغير المصريين تملك الأراضي الزراعية، وينظم القانون العلاقة بين ملاك العقارات ومستأجريها، وتشجع الدولة دعم الأسرة وحماية الأمومة والطفولة، وتيسر للمرأة التوفيق بين عملها في المجتمع وواجباتها في الأسرة، وتحمي النشء من الاستغلال وتقيه الإهمال الأدبي والجسماني والروحي، ونص على أن للمصريين الحق في المعونة في حالة الشيخوخة وفي المرض أو العجز عن العمل.
وتكفل الدولة خدمات التأمين الاجتماعية والمعونة الاجتماعية والصحة العامة.
وجعل الدستور العدالة الاجتماعية أساس الضرائب والتكاليف العامة، وللمصريين حق العمل. وتعني الدولة بتوفيره، وينظم القانون العلاقات بين العمال وأصحاب الأعمال على أسس اقتصادية مع مراعاة قواعد العدالة الاجتماعية.
5. قرر الحريات الشخصية والسياسية.
6. الانتخاب حق للمصريين على الوجه المبين في القانون ومساهمتهم في الحياة العامة واجب وطني عليهم، ومن هنا أوجب قانون الانتخاب "قانون تنظيم مباشرة الحقوق السياسية" على كل ناخب مقيد اسمه بجداول الانتخاب أن يدلي بصوته سواء في الانتخاب أو في الاستفتاء، ومن يتخلف لغير عذر عن الإدلاء بصوته سيعاقب بغرامة لا تتجاوز مائة قرش.
وخوّل قانون الانتخاب للمرأة الاشتراك في عضوية مجلس الأمة، فاكتسبت المرأة لأول مرة في مصر حق الانتخاب، وحق عضوية مجلس الأمة.
7. جعل السلطة التشريعية في يد مجلس واحد هو مجلس الأمة، وجعل لرئيس الجمهورية سلطة حل هذا المجلس، وحدد سن النائب بثلاثين سنة ميلادية على الأقل. ومدة المجلس خمس سنوات. ولا يجوز لأي عضو من أعضاء مجلس الأمة أن يعين في مجلس إدارة شركة في أثناء مدة عضويته.
1. ينشأ مجلس يسمى مجلس الدفاع الوطني ويتولى رئيس الجمهورية رياسته ويختص هذا المجلس بالنظر في الشؤون الخاصة بوسائل تأمين البلاد وسلامتها، والقوات المسلحة في الجمهورية المصرية ملك للشعب ومهمتها حماية سيادة البلاد وسلامة أراضيها وأمنها، والدولة وحدها هي التي تنشئ القوات المسلحة وتنظم تدريب الشباب تدريباً عسكرياً كما تنظم الحرس الوطني وتنظم التعبئة العامة.
2. القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأي سلطة التدخل في القضايا أو في شؤون العدالة، وتصدر الأحكام وتنفذ باسم الأمة، والقضاة غير قابلين للعزل، وينظم القانون ترتيب المحاكم العسكرية وبيان اختصاصاتها.
3. يؤلف المواطنون "اتحاداً قومياً" للعمل على تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها الثورة، ولحث الجهود لبناء الأمة بناءً سليماً من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويتولى الاتحاد القومي الترشيح لعضوية مجلس الأمة.
4. ونص الدستور على إجراء الاستفتاء عليه، وعلى رئاسة الجمهورية يوم السبت 23 يونيه 1956 وأن يُعمل به من تاريخ إعلان موافقة الشعب عليه في الاستفتاء.
ثانياً: الاستفتاء على الدستور وعلى رئاسة الجمهورية
جرت عملية الاستفتاء العام في الموعد المحدد، يوم السبت 23 يونيه عام 1956، واشترك فيها الناخبون المقيدة أسماؤهم في جداول الانتخاب في سائر أنحاء الجمهورية.
وقد أسفر الاستفتاء عن شبه إجماع من الشعب على الدستور وانتخاب جمال عبدالناصر رئيساً للجمهورية.
كان عدد الناخبين المقيدة أسماؤهم في جداول الانتخاب 5,697,467 ناخباً حضر منهم 5,508,314 ناخباً اشتركوا في الاستفتاءين.
وبلغ عدد الموافقين على الدستور 5,488,225 ناخباً، وعدد غير الموافقين عليه 10,046، فتكون نسبة الموافقين إلى غير الموافقين 97,6 في المائة.
وبلغ عدد الموافقين إلى انتخاب جمال عبدالناصر رئيساً للجمهورية 5,494,555 ناخباً، وغير الموافقين 2,267، فتكون نسبة المنتخبين له إلى غير الموافقين على انتخابه 99,9 في المائة، ويكون الدستور قد وافق عليه الشعب في الاستفتاء العام وانتخاب الشعب لجمال عبدالناصر رئيساً للجمهورية قد تم بما يشبه الإجماع.
تلك أول مرة في تاريخ مصر استفتى فيها الشعب على الدستور، وأول مرة انتخب الشعب في استفتاء عام رئيساً لجمهورية مصر، وأول مرة اشتركت فيها المرأة في الاستفتاء والانتخاب.
وكان جمال عبدالناصر هو المرشح الوحيد.
ولم يسمح لغيره بالترشيح وكان طبيعياً أن يحصل على النجاح في الاستفتاء الشعبي، عقب مواقفه الوطنية في باندونج، ضد الأحلاف العسكرية، وتأكيد الاستقلال الوطني، وكسر احتكار السلاح، وبدء جلاء آخر جندي أجنبي عن أرض الوطن.
ثالثاً: وزارة جديدة
قدم الوزراء استقالتهم عقب ظهور نتائج الانتخابات في الاستفتاء العام. وفي 29 يونيه 1956 ألفت وزارة جديدة للجمهورية دخل فيها سيد مرعي وزير دولة لشؤون الإصلاح الزراعي، ومصطفى خليل وزيراً للمواصلات، وعزيز صدقي وزيراً للصناعة، واشترك في الوزارة الجديدة جميع الوزراء في الوزارة السابقة، عدا جمال سالم وحسن إبراهيم وأنور السادات وخيرت سعيد. وعين عبداللطيف البغدادي وزير الشؤون البلدية والقروية وزير دولة لشؤون التخطيط.
وكان خروج جمال سالم ليتولى تنظيم الإدارة الحكومية واختصار إجراءات الروتين. وحسن إبراهيم ليشترك في المشروعات الإنتاجية. وأنور السادات ليتفرغ لشؤون المؤتمر الإسلامي. وقد أنشئت في الوزارة الجديدة ثلاث وزارات جديدة وهي: وزارة التخطيط، ووزارة الصناعة ووزارة الإصلاح الزراعي.
رابعاً: انتهاء مجلس قيادة الثورة
وصل قائد الضباط الأحرار المنتخب إلى منصب رئيس الجمهورية ووصلت مجموعة الضباط الأحرار، إلى قمة انتصاراتها. ولكنها لم تصل كما بدأت، تنظيماً للضباط الأحرار، وإنما وصلت بعد فترة انتقال انتهى معها تشكيل مجلس قيادة الثورة، ولم يعد له كيان رسمي، كما سبق أن انتهى تنظيم الضباط الأحرار وتوقف عمله، واستبدل بتنظيمات شخصية هامشية، تركزت أخيراً في يد قيادة الجيش الجديدة المؤلفة من القائد الأعلى جمال عبدالناصر والقائد العام عبدالحكيم عامر ومدير مكتب القائد العام شمس بدران.
كان موقف أعضاء المجلس بعد انتهاء المرحلة الانتقالية ـ 23 يوليه 1956 ـ متبايناً .. صلاح سالم كانت قد قبلت استقالته في أغسطس 1955. أما شقيقه جمال سالم فقد كان قد بدأ يتخذ موقفاً معارضاً لانفراد جمال عبد الناصر المتزايد بالسلطة قبل حل المجلس، بعد أن كان في البداية من أشد المهاجمين لمحمد نجيب المبايعين لجمال عبدالناصر، الأمر الذي جعله في 2 نوفمبر 1955 نائباً لرئيس الوزراء، ونائباً لرئيس الجمهورية في غيبته بالخارج.
كان قد حدث تجمع داخل مجلس قيادة الثورة عام 1955 من ضباط الطيران الثلاثة .. جمال سالم وعبداللطيف البغدادي وحسن إبراهيم وانضم إليهم صلاح سالم .. وقرروا حسب رواية حسن إبراهيم ألا يشتركوا في الحكم بعد انتهاء فترة الانتقال، وألا يستقيلوا قبلها أيضاً.
كانوا يستهدفون بفكرة استقالتهم الجماعية تنبيه الجماهير لانفراد جمال عبدالناصر بالسلطة مما يمثل في نظرهم بعثاً لحكم الفرد. ولكن التدبير لم ينفذ لاستقالة صلاح سالم المبكرة ولاعتقاد البغدادي أنه قادر خلال وجوده رئيساً لمجلس الأمة ـ حسب ما تم اتفاقهم عليه ـ على خلق روح وحياة ديموقراطية.
الغريب أن هذا الاتفاق تم بين أطراف متناقضين، حسن إبراهيم كان قد اشتكى لجمال عبدالناصر من أسلوب العمل داخل مجلس قيادة الثورة، وشاركه الرأي عبداللطيف البغدادي لأن المناقشات كانت تدور تحت ضغط التوتر من عصبية جمال سالم المبالغ فيها، وسخرية صلاح سالم المبالغ فيها كذلك.
كانت عصبية جمال سالم وسخرية صلاح سالم لا تسمحان بالمناقشة العميقة، وتدفعان إلى الجمود، ويقول حسن إبراهيم أنه لا يستبعد وجود صلات جانبية بين عبدالناصر وجمال سالم وصلاح سالم لأنهم كانوا يحضرون اجتماعات المجلس كتلة واحدة.
ولكن سرعان ما استنفذ كل من الشقيقين دوره وكانا أول الخارجين من المجلس. ولكن الواقع أن جمال عبدالناصر كان أكثرهم تقدماً في طريق الوعي والتطور، وأشدهم حرصاً على تطبيق العدالة الاجتماعية، إلى جانب تماسك شخصيته القيادية وثباتها. كان مختلفاً على سبيل المثال عن جمال سالم أحد الخارجين على المجلس في أفكاره التي أدلى بها إلى جان لاكوتير ممثل وكالة الأنباء الفرنسية ونشرتها جريدة المصري يوم 24 يناير 1956.
قال جمال سالم "هناك عائلات من كبار الملاك تتعاون معنا مثل عائلة البدراوي"
وعندما سأله لاكوتير: هل أنت اشتراكي؟
أجاب "هذا ليس بصحيح .. لست اشتراكياً ـ وليس هذا لأني أكره انتهاج سياسة التأميم في مصر، بل لأني أؤمن بأن اقتصاديات هذا البلد لن تتقدم إلا بالمنافسة الحرة" وفسر أفكاره بقوله: "لم نصل إلى المرحلة الاشتراكية لأننا لم نصل إلى الاحتكار إلا في الزراعة أما صناعتنا فما زالت طفلا يحتاج إلى رؤوس الأموال الخاصة".
وهكذا طويت صفحة مجلس قيادة الثورة، وطويت معها فرصة المناقشة المحدودة في مركز إصدار القرار وانتهت بنهايته إمكانية مراجعة الموقف من وجهات نظر مختلفة، وتحول الأمر من سلطة المجلس إلى سلطة الفرد.
ربما كانت الآراء تختلف يميناً ويساراً، وربما كانت الأفكار تتنافر حول القضايا المعروضة، ولكن الأمر في نهايته كان يقتضي من القائد أما تطويع زملائه لآرائه وأفكاره، والصبر على مناقشاتهم حتى تتوفر لهم في النهاية وحدة فكرية في القضايا الاستراتيجية الكبيرة وإما التخلص منهم لينفرد برأيه سواء أكان أكثر صواباً أم أكثر اندفاعاً.
والواقع أن جمال عبدالناصر طوال فترة وجود مجلس قيادة الثورة كان حريصا على أن تأخذ المناقشات غايتها وأن تمتد وتطول حتى يصفي كل المواقف والآراء المعارضة له بالحجة والإقناع، الأمر الذي جعل معظم قرارات المجلس تصدر بالإجماع كما يؤكد زكريا محيي الدين إذا باستثناء بعض القرارات التي صدرت في عهد ولاية محمد نجيب لرئاسة الجمهورية ووجود يوسف صديق وخالد محيي الدين في المجلس.
صدرت مراسيم أول وزارة شكلها جمال عبدالناصر باعتباره رئيساً شرعياً للجمهورية يوم 26 يونيه باعتبارها القرار الجمهوري رقم 1، وخرج منها جمال سالم نائب رئيس الوزراء، وخرج منها أيضاً حسن إبراهيم وزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية، ودخلها عبد الحكيم عامر وزيراً للحربية، ونقص عدد العسكريين فيها من ستة إلى خمسة كلهم من أعضاء المجلس، ويلاحظ انهم أخذوا أسبقية خاصة على الوزراء المدنيين السابقين لهم في التعيين، مما يعد نوعاً من تثبيت وضع خاص لهم بعد حل مجلس القيادة.
كان أول الوزراء في القرار الجمهوري عبداللطيف البغدادي يليه زكريا محي الدين ثم حسين الشافعي فعبد الحكيم عامر وكمال الدين حسين.
تحول الوضع الرسمي لأعضاء مجلس قيادة الثورة، إلى أقدم وزراء في المجلس.
وانتهت العوامل التي كان يمكن أن تصور حركة 23 يوليه باعتبارها انقلاباً عسكرياً، كما صورت يوم وقوعها، ويوم أصدر الدكتور راشد البدراوي كتابه المعروف "حقيقة الانقلاب الأخير في مصر"، فالانقلاب حدث عارض لا يغير نظام الحكم وإنما يستبدل شخصية الحكام ولا يقوم على مساندة شعبية، وإنما يعتمد على سطوة القوة العسكرية.
أما حركة 23 يوليه فقد بدأت ولها كل مظاهر الانقلاب إلا أنها في مسارها أخذت طابع الثورة.
ومنذ البداية لم تكن انقلاب جنرالات يمالئ نظام الحكم القائم ويحافظ على استمراره، وإنما كانت انقلاب صغار الضباط الذين وقفوا منذ البداية ضد النظام ومع التغيير.
صحيح أنها لا تحمل أسلوب ثورة 14 يوليه 1789 "الثورة الفرنسية"، ولا ثورة 7 نوفمبر 1917 في روسيا "الثورة الاشتراكية العظمى"؛ لأنها لم تقم بجماهير الشعب، رغم حصولها على تأييده منذ اللحظة الأولى نتيجة لفساد الحكم الملكي السابق.
سنوات الصدام مع القوى السياسية المختلفة "الوفد والشيوعيين والإخوان المسلمين والعناصر المعارضة في صفوف الجيش" دفعها إلى اتخاذ إجراءات إدارية أعطتها طابعاً عسكرياً قاسياً، إلى جانب أنها اقتصرت في حركتها منذ اللحظة الأولى على حركة القوات المسلحة وتجنبت التفاعل مع الجماهير الشعبية في حذر.
وكانت أزمة مارس 1954 التي أطاحت بمحمد نجيب رئيساً لمجلس قيادة الثورة، وحاصرته رئيساً شكلياً للجمهورية لمدة شهور، خرج بعدها في 17 نوفمبر أثناء الصدام مع الإخوان المسلمين ومحاكمتهم، بعد محاولة اغتيال جمال عبدالناصر في أكتوبر 1954.. أزمة ذات وجهين.
خرجت جماهير الشعب في فبراير تؤيد محمد نجيب بعد استقالته، وتجبر مجلس قيادة الثورة على إعادته، وقبل أن تمضي عدة أسابيع كانت هيئة التحرير وبعض الضباط الموالين للمجلس قد استطاعوا تحريك جانب آخر من الجماهير، بمساعدة صاوي أحمد صاوي سكرتير اتحاد عمل النقل حتى وصل الأمر إلى حد التظاهر والإضراب؛ الأمر الذي سهل لهم انتزاع نجيب من موقعه، والرجوع عن قرارات 5 مارس أي 25 مارس المعروفة.
هذا الحدث في ذاته، وعلى الرغم من دور الجماهير في دعم وجود المجلس واستمراره، ترك تأثيراً مباشراً في جمال عبدالناصر إذ أشعره بأنه يمكن التلاعب بالجماهير وأنها أمام القوات المسلحة يصبح دورها محدوداً.
وقد قال جمال عبدالناصر لعدد كبير من أصدقائه ومنهم خالد محيي الدين إن الخروج من أزمة مارس لم يكلفهم سوى عدة آلاف من الجنيهات دُفعت للمتظاهرين والمضربين.
وقال لأكرم الحوراني في مناقشة "لا تحدثني عن الشعب فإني أعرف كيف تتحرك الجماهير!
ولكن الثورة مع ذلك كانت تكسب تأييد الجماهير بلا ضغط يوماً بعد يوم من خطواتها الوطنية، حتى ارتبطت مع الشعب تماماً في مواجهة العدوان الثلاثي 1956، وأصبحت تستحق أن يطلق عليها اسم "الثورة" لأنها تحولت إلى قيادة حقيقية قادرة على تحريك الجماهير، معبرة عن إرادتهم، مناضلة عن أهدافهم.
وهكذا تحول الانقلاب إلى ثورة، ودخل 23 يوليه في تاريخ ثورات التحرر الوطني.
وتأكدت زعامة جمال عبدالناصر وأصبح يتلقى مئات الرسائل في اليوم الواحد، انحسرت محاولات الانقلاب عليه، وتراجعت في مواجهة التأييد الشعبي الهائل.
ولم تضبط إلا محاولة قام بها القائممقام عاطف نصار الملحق العسكري بالهند، متعاوناً مع خمسة مدنيين منهم محمد صلاح الدين وزير الخارجية وعبدالفتاح حسن وزير الدولة في وزارة الوفد وستة من ضباط الجيش بالإسكندرية، وقدمت للمحكمة العسكرية العليا يوم 20 أكتوبر 1957 وصدر فيها حكم بالأشغال الشاقة المؤبدة على عاطف نصار، ومحمد صلاح الدين 15 سنة وعبدالفتاح حسن 12 سنة وعلى الباقين بأحكام مختلفة وبراءة اثنين.
وضُبطت مؤامرة أخرى تولتها إدارة المخابرات البريطانية، واشترك فيها ضابط سابق، هو "حسين خيري"، اتصل بأحد ضباط مخابرات الطيران "عصام خليل"، وموله بمبالغ بلغت جملتها 165 ألف جنيه من أجل إعادة الملكية لمصر.
وقد نُظرت القضية أمام المحكمة العسكرية العليا، وأصدرت الحكم يوم 28 أبريل 1958 على مرتضى المراغي وزير الداخلية السابق في وزارة نجيب الهلالي وحسين خيري بالأشغال الشاقة المؤبدة، ومحمود ناموق 15 سنة، وكانت الأحكام غيابية لوجوده خارج القطر.
وقد قبض بعد ذلك بشهور على محمود ناموق في بغداد عقب ثورة 14 يوليه 1958 في العراق.
ثم هدأ الموقف في صفوف الجيش، ولم تعد المحاولات الانقلابية، ترتبط بعدد واسع من الضباط، لم تعد في صورتها التي كانت بها قبل تصفية محمد نجيب وثبوت سلطة عبدالحكيم عامر، الذي كان مفروضاً أن يحاسب عسكرياً على موقف القوات المسلحة في يوم عدوان 1956 التي ثبت يقيناً أنها لم تؤد دورها كما يجب مع تقدير وجودها في عملية إعادة التسليح والتدريب والتنظيم والعقيدة القتالية.
يقول عبد اللطيف البغدادي وحسن إبراهيم إنه تقرر في ذلك الوقت عزل قائد القوات الجوية محمد صدقي محمود، ويقول زكريا محيي الدين إنه كان هناك قرار بعزل قادة القوات البرية والحرية والجوية، ولكن عبد الحكيم عامر تشبث بهم ورفض إخراجهم.
يتبع إن شاء الله...