الفصل السابع عشر:
جلاء الإنجليز
منذ أن احتلت بريطانيا أرض مصر، عام 1882، ما فتئت الدعوة إلى الجلاء والجهاد والقوى الوطنية تحاول الخلاص وتحرير البلاد من نير الاحتلال الأجنبي.
وكانت أول مفاوضة في سبيل الجلاء 1885، وتظاهرت بريطانيا بالرغبة في تحقيقه، وشغلت الرأي العام في مصر والخارج بهذه المفاوضات، والمسماة مفاوضات درومندولف DRUMOND WOLLF والتي استمرت سنتين من 1885 إلى 1887، وانتهت بالإخفاق وكان مصيرها الفشل.
وبقاء الاحتلال قائماً.
فلما بُعثت الحركة الوطنية، على يد مصطفى كامل، كان شعارها الجلاء، الذي ظل شعار الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل، وقد سمي من أجل ذلك حزب الجلاء، واستمر الشعب ماضياً في جهاده، في عهد محمد فريد.
ولما نشبت الحرب العالمية الأولى عام 1914، أعلنت بريطانيا حمايتها، على مصر، في ديسمبر 1914، وفي أعقاب تلك الحرب، كانت ثورة سنة 1919، وجرت أول مفاوضة بين مصر وبريطانيا عام 1920، وهي المعروفة بمفاوضات سعد ـ ملنر، وقدم اللورد ملنر LORD MILNER مشروع معاهدة، بين مصر وبريطانيا، كان فرض الحماية واضحاً في نصوصه.
وظلت المقاومة، في أعقاب الثورة، سجالاً، بين الشعب والاستعمار البريطاني؛ مما اضطر الإنجليز إلى إلغاء الحماية، وإصدار تصريح 28 فبراير عام 1922، بإنهاء الحماية، والاعتراف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة.
ولم يتضمن هذا التصريح جلاء الاحتلال، فاستمر كفاح الشعب في سبيل الجلاء.
ونجح الاحتلال والسراي، في تعويق الجلاء، بمفاوضات متكررة، بين الجانبين المصري والبريطاني.
وفي 26 أغسطس 1936، وقع الجانبان "معاهدة الصداقة والتحالف، بين مصر وبريطانيا" نصت شروطها، على: أن تنتقل القوات العسكرية البريطانية، من الأماكن، التي كانت تحتلها، إلى منطقة تشمل، مع مناطق تدريب الجنود الإنجليز، منطقة قناة السويس كلها، من ميناء بور سعيد شمالاً إلى ميناء "الأدبية" جنوباً، بخليج السويس، وشبه جزيرة سيناء جميعها، والجزء الجنوبي والشرقي من مديرية الشرقية، وتصل إلى حدود القاهرة، ثم إلى حدود مديرية الجيزة حسبما جاء في الفقرة 2 من ملحق المادة 8 من تلك المعاهدة.
ومما تجدر ملاحظته أن بريطانيا لم تحترم حدود تلك المعاهدة، فإن المعاهدة لم تخولها حق زيادة عدد جنودها، في منطقة القناة، على عشرة آلاف، من القوات البرية.
وأربعمائة من الطيارين، مع الموظفين اللازمين لأعمالهم الفنية والإدارية، "فقرة 1 من ملحق المادة الثانية"، ولكن بريطانيا تجاوزت هذا العدد إلى أضعافه المضاعفة، فزادت قواتها إلى ثمانين ألف مقاتل.
ومن ثم واصل الشعب كفاحه، الذي اشتد في أعقاب الحرب العالمية الثانية، التي انتهت عام 1945.
وشاركت الحكومة الشعب رسمياً في المطالبة بالجلاء، واستؤنفت المظاهرات الشعبية الضخمة عامي 1945 و 1946، منادية بالجلاء، وسالت فيها الدماء، من جديد.
وتحت ضغط الكفاح الشعبي المتزايد، جلا الإنجليز عن قلعة القاهرة، في 4 يوليه 1946، وسلموها إلى الجيش المصري، وأُنزل العلم البريطاني، الذي كان يرفرف عليها، طوال أربعة وستين عاماً، ثم جلوا أيضاً، عام 1947، عن المواقع التي كانوا يحتلونها في القاهرة، والإسكندرية، وضواحيهما، وانتقلوا إلى منطقة قناة السويس، وقاعدتها.
وتحت ضغط الرأي العام، أعلنت الحكومة المصرية، في أكتوبر 1951، إلغاء معاهدة عام 1936.
وكان هذا الإلغاء إيذاناً باستئناف الكفاح المسلح، بين الفدائيين المصريين، والجيش البريطاني.
وكان كفاحاً مريراً، بذل فيه الفدائيون، وجموع المواطنين، التضحيات الكثيرة.
فلما قامت ثورة 23 يوليه 1952، كان من أهم نتائجها انضمام الجيش إلى الشعب، في معركة التحرير والجلاء، فاشتد ساعد مصر، بانضمام قواتها المسلحة، إلى قوى الشعب المكافح.
ورأى الإنجليز أن، في انضمام هاتين القوتين العظميتين، واتحادهما في ظل الثورة، ما يجعل بقاء الاحتلال، في أية بقعة من أرض الوطن، أمراً مستحيلاً، ولا مناص من الجلاء عن منطقة القناة.
في عام 1953 رسمت حكومة الثورة خطوط الكفاح، وأمدته بالعون والتنظيم.
وعقد، في مقر مجلس الوزراء في 27 أبريل 1953، أول اجتماع لمباحثات الجلاء، مع الجانب البريطاني، الذي أبدى، في أول الأمر، مراوغة وإصراراً على البقاء، فتوقفت المباحثات في مايو 1953.
ولجأ الجانب البريطاني إلى التهديد والوعيد، ونصحت بريطانيا رعاياها بالرحيل، عن البلاد، في شهر مايو 1953، وتوتر الوضع في يوليه 1953، إذ أنذر الجنرال فستنج، قائد القوات البريطانية، الحكومة المصرية بأنه إذا لم يعد أحد رجال الطيران المختفي، ويسمى "رجدن"، في موعد أقصاه الساعة التاسعة، من صباح الاثنين 13 يوليه، فستتخذ إجراءات شديدة، من شأنها إحداث حالة ذعر خطيرة، قد يصيب المدنيين المصريين في الإسماعيلية.
وأحدث الإنذار، ورفضه، ضجة في مصر، والخارج. وتحرش الإنجليز السكان، في مدينة الإسماعيلية. وازداد الوضع توتراً، بين البلدين.
وأعلن سلوين لويد SELWYN LIOYD ، وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية، في مجلس العموم، نبأ هذا الإنذار، ورفض الحكومة المصرية له.
واشتدت الإجراءات، التي اتخذها الإنجليز، في مدينة الإسماعيلية، من تفتيش الداخلين والخارجين منها، بطريقة استفزازية.
واحتل الإنجليز بعض نقاط، في مداخل الإسماعيلية، وفتشوا المواطنين القادمين بطريق السيارات، والسكة الحديدية.
وسبق هذه الإجراءات تحرشات، من الجنود البريطانيين، بقصد زلزلة ثقة الناس في الثورة، وإظهار عجزها عن معالجة قضية الجلاء.
ثم ظهر الطيار المختفي، في باريس، ثم في لندن، واتضح أن اختفاءه كان لأسباب خلقية!
في أغسطس 1953، زار جمال عبدالناصر نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية"، مدينة بور سعيد "، ودعا الشعب، من جديد، إلى التضحية والكفاح.
وقال مخاطباً المواطنين: "إن مصر متكاتفة معكم لإجلاء قوات الغاصب، حتى يغادر بلادنا، آخر جندي أجنبي.
لا بد من تحرير مصر، ولا بد من جلاء قوات الاحتلال".
ونظمت الثورة المقاومة المسلحة في القناة، فازدادت حوادثها ضد الإنجليز.
وفي نوفمبر 1953، قدمت السفارة البريطانية إلى مصر احتجاجاً على زيادة عدد الحوادث في المنطقة.
واطمأنت بريطانيا، وقتئذ، إلى مؤازرة أمريكا لها، في سياستها نحو مصر، فأمعنت في الإصرار على العدوان.
واجتمع مؤتمر لأقطاب الغرب، في "برمودة" في ديسمبر 1953، حضره ونستون تشرشل WINSTON CHURCHILL ، رئيس وزراء بريطانيا، يرافقه أنتوني إيدين ANTHONY EDNE ، وزير الخارجية الإنجليزية، وجوزيف لانييل، رئيس وزارة فرنسا، بالرئيس الأمريكي ايزنهاور "EISENHOWER، وجون فوستر دالاس JOHN FOSTER DULLES ، وزير الخارجية الأمريكية. وبحث المؤتمر تنسيق جهود الدول الثلاث، وتسوية مشاكلها الاستعمارية، وكان الظن أن تثار مسألة الجلاء عن مصر في هذا المؤتمر، ولكن أحداً من ممثلي الدول المجتمعة لم يتمسك بحل هذه المسألة، لصالح مصر، كوسيلة لحفظ السلام، في الشرق الأوسط. واتضح أن أمريكا لا تبغي إغضاب بريطانيا، من أجل مصر، واتضح أيضاً ما للصهيونية من نفوذ في أمريكا يجعلها لا تتمسك بالجلاء؛ لأنه لا يُرضي إسرائيل، التي كانت تعارض دائماً جلاء الإنجليز، عن منطقة القناة، وتعد وجودهم بها سنداً لها، فازدادت بريطانيا إصراراً على موقفها.
وفي أواخر ديسمبر 1953، حدثت حركة واسعة داخل معسكرات القناة.
وفي يناير 1954 تعددت الحوادث ضد الجنود الإنجليز، وصرح المستر سلوين لويد، الوزير البريطاني، في مجلس العموم، أنه من المستحيل الوصول إلى اتفاق، مع مصر، ما دامت هذه الحوادث مستمرة.
وفي أوائل، فبراير، صرح في مجلس العموم، باختفاء جنود بريطانيين في القناة.
وفي مارس 1954 تجددت حوادث القناة، وقدم السفير البريطاني احتجاجاً على مصرع ضابط بريطاني، وإصابة ضابط آخر في القناة.
وأعلن وكيل وزارة الخارجية البريطانية، في مجلس العموم، في مايو 1954، أنه وقع 52 حادث اعتداء، على الرعايا البريطانيين، في منطقة القناة، في غضون الأسابيع الستة الماضية.
وفي يونيه 1954، صرح سلوين لويد، في مجلس العموم، أن مستقبل المفاوضات، بين مصر وبريطانيا، يتوقف على مدى تعاون مصر، في الكشف عن المسؤولين، في الحوادث، التي وقعت في منطقة قناة السويس.
كذلك، صرحت الدوائر الرسمية الأمريكية أنها تؤيد موقف بريطانيا، من مصر، وقال جون فوستر دالاس، وزير الخارجية الأمريكية إنه لا يستطيع انتهاج سياسة مستقلة، عن بريطانيا وفرنسا، في الشرق الأوسط.
كان الإنجليز، طيلة المدة، التي استغرقتها المباحثات، أي من أبريل 1953، إلى أكتوبر 1954، يتطلعون إلى انقلاب داخلي، في مصر، أو انقسام، يضعف جبهة المقاومة ويفتح، أمام الإنجليز، أبواب التدخل، أو المماطلة والتسويف، فلم يحدث شيء من ذلك، بل بقيت الجبهة الداخلية متماسكة، مما فوّت على الإنجليز فرصة التدخل، أو الإصرار على بقاء الاحتلال.
وفي ذلك يقول جمال عبد الناصر: "وقعت المعركة فعلاً على أرض منطقة القناة.
وبالأيدي المتحدة القوية، وبالدم الزكي الذي سال في منطقة القناة، وقعنا اتفاقية الجلاء وانتصرنا في حرب الاستقلال".
استئناف المباحثات
استؤنفت المباحثات، في يوليه 1954.
وكان يمثله الجانب المصري جمال عبد الناصر، وعبدالحكيم عامر، وعبداللطيف البغدادي، وصلاح سالم، ومحمود فوزي.
ومثل الجانب البريطاني السير رالف ستيفنسون RALPH STEVENSON السفير البريطاني في مصر، وميجر بنسون BENSON القائد العام للقوات البريطانية، في منطقة القناة، والمستر رالف موري، الوزير المفوض في السفارة البريطانية، ثم المستر أنتوني هيد، وزير حربية بريطانيا المساعد لشؤون الشرق الأوسط، لإنقاذ المباحثات، وإزالة العقبات التي تعترضها.
اتفاقية الجلاء الأولى
وانتهى الطرفان إلى عقد الاتفاقية الأولى التي تضمنت المبادئ الرئيسية للاتفاق النهائي المقترح إعداده لتنظيم الجلاء، وقد وقعها الطرفان بالأحرف الأولى، في 27 يوليه 1954، بقاعة الاجتماعات بدار مجلس الوزراء، وقعها عن الجانب المصري، الرئيس جمال عبدالناصر، وعن الجانب البريطاني المستر أنتوني هيد وزير الحربية البريطانية.
الاتفاق النهائي على الجلاء
وفي 19 أكتوبر 1954، عقد الاتفاق النهائي التفصيلي المتضمن تنظيم عملية الجلاء، وخلاصة أحكامه:
أولاً: تقرر جلاء القوات البريطانية جلاء تاماً عن الأراضي المصرية خلال فترة عشرين شهراً من تاريخ التوقيع على هذا الاتفاق.
ثانياً: انقضاء معاهدة التحالف الموقع عليها في لندن في 26 أغسطس عام 1936، وكذلك المحضر المتفق عليه والمذكرات المتبادلة والاتفاق الخاص بالإعفاءات والميزات التي كانت تتمتع بها القوات البريطانية في مصر وجميع ما تفرع عنها من اتفاقات أخرى.
ثالثاً: تبقى أجزاء من القاعدة التي كانت للإنجليز في قناة السويس في حالة صالحة للاستعمال، معدة للاستخدام، وفي حالة وقوع هجوم مسلح من دولة من الخارج على أي بلد يكون طرفاً في معاهدة الدفاع المشترك بين دول الجامعة العربية أو على تركيا، تقدم مصر لبريطانيا من التسهيلات ما قد يكون لازماً لتهيئة القاعدة للحرب وإدارتها، وتتضمن هذه التسهيلات استخدام الموانئ المصرية في حدود ما تقتضيه الضرورة القصوى للأغراض سالفة الذكر، وفي حالة حدوث تهديد بهجوم مسلح من دولة من الخارج على أي بلد يكون طرفاً في معاهدة الدفاع المشترك بين دول الجامعة العربية أو تركيا، يجري التشاور فوراً بين مصر وبريطانيا.
رابعاً: تقرر الحكومتان المتعاقدتان أن قناة السويس البحرية التي هي جزء لا يتجزأ من مصر ـ طريق مائي له أهميته الدولية من النواحي الاقتصادية والتجارية والاستراتيجية، وتعربان عن تصميمهما على احترام الاتفاقية التي تكفل حرية الملاحة في القناة الموقع عليها في الأستانة في 29 أكتوبر عام 1888.
خامساً: لا يمس هذا الاتفاق سبع سنوات من تاريخ توقيعه، وتتشاور الحكومتان خلال الاثنى عشر شهراً الأخيرة من تلك المدة لتقرير ما قد يلزم من تدابير عند انتهاء الاتفاق، وعلى بريطانيا أن تنقل أو تتصرف فيما قد يتبقى لها وقتئذ من ممتلكات في القاعدة ما لم تتفق الحكومتان على مد هذا الاتفاق.
وقد تم التوقيع على هذا الاتفاق في البهو الفرعوني بمبنى البرلمان يوم 19 أكتوبر عام 1954، وقعه عن مصر جمال عبدالناصر رئيس الوزارة وعبد الحكيم عامر وعبداللطيف البغدادي وصلاح سالم ومحمود فوزي.
ووقعه عن الحكومة البريطانية انتوني ناتنج ANTHONY NUTTING وزير الدولة بوزارة الخارجية البريطانية، ورالف ستيفنسون السفير البريطاني، وميجر جنرال بنسون BENSON كبير المفاوضين العسكريين البريطانيين.
وكانت الوزارة البريطانية وقتئذ برئاسة ونستون تشرشل الذي كان يعارض دائماً في الجلاء ولكنه اضطر تحت ضغط الظروف والتطور أن يذعن لإرادة الشعب المصري، وكان أنطوني إيدن وزيراً للخارجية، وقد قال في صدد الاتفاق على الجلاء: "إن الجلاء عن قاعدة قناة السويس أفضل بكثير من الإبقاء على ثمانين ألف جندي محاصرين من شعب معاد لهم".
كسبت مصر بموجب هذا الاتفاق جلاء الإنجليز عن قاعدة قناة السويس، وهذه القاعدة كانت أكبر قاعدة حربية لبريطانيا في الشرق الأوسط، وتمتد بطول القناة من بور سعيد شمالاً إلى ميناء "الأدبية" على خليج السويس جنوباً "اُنظر الخريطة السابقة"، وكان الإنجليز قد أقاموا على طول القناة سلسلة من الاستحكامات والمطارات والمنشآت العسكرية، واتخذوا مقراً رئيسياً لهذه القاعدة في "فايد" وجعلوا من أبي سلطان مستودعاً خزنوا فيه كميات ضخمة من الذخائر والمفرقعات، وأقاموا بأبي صوير المطار العسكري المشهور، وأقاموا المعسكرات في التل الكبير.
وقد تسلمت مصر بموجب اتفاق الجلاء منشآت تقدر قيمتها بنحو ستين مليون جنيه، منها 23 منشأة و10 مطارات كاملة، منها مطار أبي صوير، ومطار الديفرسوار الواقع في الركن الشمالي الغربي للبحيرة المرة الكبرى بجوار القناة، وكان يعد أكبر المطارات الحربية في الشرق الأوسط، وبيت البحرية ببور سعيد، وميناء الأدبية بخليج السويس، ومعسكرات الإسماعيلية وما جاورها، ومعسكرات التل الكبير، ومعسكر الشلوفة، وثكنات ومبان ومصانع ومخازن وورش ومحطات توليد الكهرباء ووابورات للمياه وسكك حديدية وقاطرات وكباري، وأرصفة الموانئ، وخط أنابيب البترول بين السويس والقاهرة وتقدر قيمته بمليونين ونصف مليون جنيه.
بيان جمال عبدالناصر للأمة
في 23 يوليه 1954، أذاع جمال عبدالناصر على المواطنين البيان الآتي معلناً فيه بشرى الجلاء.
قال: أيها المواطنون:
"إننا نعيش الآن لحظة مجيدة في تاريخ وطننا.
إننا نقف الآن على عتبة مرحلة حاسمة من مراحل كفاح شعبنا، وقد وضع الهدف الأكبر من أهداف الثورة منذ هذه اللحظة موضع التنفيذ الفعلي، فقد وقعنا الآن بالأحرف الأولى اتفاقاً ينهي الاحتلال وينظم عملية جلاء القوات البريطانية عن أرض مصر الخالدة، وبذلك تخلص أرض الوطن لأبنائه شريفة عزيزة منيعة، بعد أن قاست اثنين وسبعين عاماً مريرة حزينة".
"أيها المواطنون: إنني أسرح بخواطري في هذه اللحظة المجيدة عبر أسوار الحياة إلى الذين جاهدوا من أجل هذا اليوم ولم يمتد العمر بهم ليعيشوه، أسرح بخواطري إلى الرحبات المقدسة التي تعيش فيها أرواحهم الخالدة ونشعر أنهم يتابعون كل ما فعلنا نحن كل ما فعلوا وحملنا الأمانة بعدهم ورفعنا المشاعل على الطريق.
"إنني أتجه إليهم بقلب شعب وأتجه إليهم بوفاء جيل.. إليهم جميعاً.. الزعماء الذين كافحوا: أحمد عرابي، ومصطفى كامل، ومحمد فريد، وسعد زغلول، والشباب الذين باعوا أرواحهم للفداء على كل بقعة من ثرى الوطن.
"أتجه إليهم بقلب شعب وبوفاء جيل وأقول لهم: سوف نمضي على الطريق، لن نضعف ولن نتخاذل، ولن ننسى الأمانة التي حملناها ولا الواجب الوطني الذي عاهدنا الله أن نقوم به.
"أيها المواطنون:
كأن القدر أعد هذا اليوم للمجد، إنه في نهاية هذا الشهر -يوليه- يوافق الأيام التي بدأ فيها الاحتلال منذ اثنتين وسبعين سنة، إنه في نهاية هذا الشهر -يوليه- يوافق الأيام التي قامت فيها الثورة منذ عامين، إنه في نهاية هذا الشهر بل وفي نفس اليوم منه بالذات يوافق اليوم الذي خرج فيه فاروق مخلوعاً عن عرش مصر يحمل معه حطام الذل والإقطاع والفساد.
"أيها المواطنون:
إن اليوم أيضاً يحمل بشائر المجد للمستقبل، فبعد مدة العشرين شهراً المحددة لإتمام الجلاء عن مصر، ستكون فترة الانتقال في جنوب الوادي قد انتهت، ويكون الجلاء قد تم أيضاً عن السودان الحبيب، وبذلك يصبح وادي النيل كله وليس على ضفافه إلا أبناء النيل الأحرار.
"أيها المواطنون:
فلنصل شكراً لله، ولنتوجه إليه في جلاله القدسي نسأله أن يسدد خطانا وأن يرعى ثورتنا وأن يبارك لنا في يومنا وفي غدنا، والله ولي التوفيق".
بيان جمال عبدالناصر يوم 19 أكتوبر 1954
وفي 19 أكتوبر عام 1954 يوم توقيع الاتفاق النهائي على الجلاء أذاع جمال عبدالناصر البيان التالي:
أيها المواطنون:
لعل أجدادنا يتطلعون إلينا من المثوى الأبدي الذي تسكنه أرواحهم في هذا اليوم برضى وفخر.
"ولعل أحفادنا الذين ما زالوا في مجاهل المستقبل سوف يعودون بعد مئات السنين إلى ذكرى هذا اليوم باعتزاز وتقدير.
"لعل هؤلاء وهؤلاء الأجيال التي مضت والأجيال التي سوف تجيء تلتقي نظراتهم عند هذا اليوم يباركون الجهد الذي قام به جيلنا استكمالاً لكفاح من ذهبوا وتمهيداً لكفاح القادمين.
" لقد شاءت إرادة الله أن تستقر على أكتافنا أمانة الماضي والمستقبل.
"وكانت رعايته لنا عوناً على الحاضر.
"لقد حاولنا أن نرتفع إلى مستوى ماضينا العظيم واستطعنا أن ندرك أن هذا الماضي لا قيمة له إذا كانت أمجاده تاريخاً يروي يشد خيالنا إليه، وتقصر أعمالنا عن الوصول إلى مستواه، فإنه لا فائدة في هذه الأمجاد الماضية إذا لم تكن معانيها خصائص كامنة في نفوس شعبنا، تطبع كفاحه عبر الزمن وتلازم جهاده جيلاً بعد جيل.
"هذا هو إيماني بالماضي، وهو في نفس الوقت إيماني بالمستقبل.
أيها المواطنون:
إن يومنا الحاضر يوم عظيم، يرتفع إلى مستوى الماضي العريق ويعطي بشائر الأمل في مستقبل لا تحده آفاق.
"أيها المواطنون:
إن مرحلة من كفاحنا قد انتهت، ومرحلة جديدة على وشك أن تبدأ.
"هاتوا أيديكم وخذوا أيدينا، وتعالوا نبني وطننا من جديد بالحب والتسامح والفهم المتبادل.
"اللهم أعطنا المعرفة الحقة كي لا يستخفنا النصر وتدور رءوسنا غروراً مع نشوته.
"اللهم أعطنا الأمل الذي يجعلنا نحلم بما سوف نحققه في الغد أكثر مما يجعلنا نفاخر بما حققناه في الأمس واليوم.
"اللهم أعطنا الثقة بأنفسنا لنرى أننا على بداية الطريق وأن الشوط أمامنا شاق طويل.
"اللهم أعطنا الشجاعة لنستطيع أن نتحمل المسؤوليات التي لابد أن نتحملها فلا نستهين بها ولا نهرب منها.
"اللهم أعطنا القدرة على أن نواجه أنفسنا ـ ونتقبل أن يواجهنا الآخرون بالحق والعدل.
"اللهم أعطنا القوة لندرك أن الخائفين لا يصنعون الحرية، والضعفاء لا يخلقون الكرامة، والمترددين لن تقوى أيديهم المرتعشة على التعمير والبناء.
أيها المواطنون:
الله عوننا. وهو ولي التوفيق.
هذا ومن الخطأ القول أن الجلاء كان متفقاً عليه ومنصوصاً عنه في معاهدة 26 أغسطس عام 1936 وأنه كان محدداً له عشرون عاماً تبدأ من عام 1936، أي تنتهي عام 1956، وهذا خطأ متعمد، فإن كل ما نصت عليه المعاهدة عن مدة العشرين سنة هو ما ورد في المادة الثامنة منها من أنه إذا اختلف الطرفان المتعاقدان عند نهاية مدة العشرين عاماً "التالية لتنفيذ المعاهدة" على مسألة ما إذا كان وجود القوات البريطانية لم يعد ضرورياً لأن الجيش المصري أصبح في حالة يستطيع معها أن يكفل بمفرده حرية الملاحة في القناة.
تنفيذ الجلاء
جلا الإنجليز عن المواقع التي كانوا يحتلونها في المواعيد المحددة في اتفاقية الجلاء وفي بعض الحالات تم جلاؤهم قبل الموعد المحدد.
ورفع جمال عبدالناصر العلم المصري على معسكر الشلوفة في 22 مارس 1955.
وبعد انتهاء عام على الاتفاقية جلا نحو 49 ألف جندي بريطاني عن منطقة القناة في أكتوبر عام 1955، ثم جلا الباقون في الشهور اللاحقة.
وجلا الإنجليز عن آخر معقل يحتلونه في بورسعيد وهو مبنى البحرية، وتسلمه الجيش المصري في ساعة مبكرة من صباح 13يونيه 1956.
وقد تم جلاء آخر فوج من القوات البريطانية عن أرض مصر يوم 13 يونيه 1956، وغادرت آخر قوة بريطانية المياه المصرية في بورسعيد على ظهر الباخرة إيفان جيب EVAN GIBB، في الساعة 12 والدقيقة 40 من صبيحة يوم 13 يونيه 1956.
وفي 18 يونيه 1956 رفع جمال عبدالناصر العلم المصري على مبنى البحرية في بورسعيد، وهو آخر مبنى جلت عنه القوات البريطانية في القناة.
وأصبح يوم 18 يونيه يمثل عيداً قومياً هو عيد الجلاء.